إعجاز القرآن و البلاغة النبوية

اشارة

نام كتاب: إعجاز القرآن و البلاغة النبوية

نويسنده: مصطفى صادق الرافعى

موضوع: اعجاز ادبى

تاريخ وفات مؤلف: 1937 م

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: دارالكتب العلمية

مكان چاپ: بيروت

سال چاپ: 1421 / 2000

نوبت چاپ: اوّل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

تنبيه

عزيزي القارئ:إن ما ستطالعه في هذا الكتاب من مباحث و قواعد شرعية.كلّه مستمد من كتب أهل العلم الأثبات.و ربما خالفهم غيرهم من أهل العلم.و لا غضاضة في ذلك.فالاختلاف في الفروع هو شأن أهل العلم.

فلي أن أتبع من أثق به من أهل العلم،و لك أن تتبع من تثق به.المهم أن لا أسفه لك رأيا و أن لا تسفه لي رأيا.شريطة أن نرجح بالبرهان.و نقول بالدليل،كما قال عز و جل: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (البقرة:111).

و نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا و يرزقنا اتباعه.و يرينا الباطل باطلا و يرزقنا اجتنابه.

ربع هذا البحث للأعمال الخيرية الرجاء لمن له تعليق على البحث من القراء الكرام أن يبعثه على البريد الألكتروني على العنوان:

Kareemaghar @ hotmail.com المؤلف

ص: 6

تقريظ

بسم اللّه الرحمن الرحيم

تحيّة و ذكرى عطرة بمناسبة قراءتي للكتاب المبارك،و السّفر العظيم الذي ألفه الاستاذ/كريم بن نجيب الأغر و الذي كان بعنوان:اعجاز القرآن فيما تخفيه الأرحام و هو من أنفع ما كتب في بابه.

أيّها الباحث عن خلق البشر أيّها الناظر في سرّ القدر

أيّها السّائل عن نشأته كيف كانت ليس يذري ما الخبر

قد أتاك اليوم سفر كامل جمع النورين:شمسا و قمر

صاغ معنى الخلق للإنسان في دقّة تجلوه صفوا و كدر

فصّل الأمر و جلّى غيبه و كساه هذيه حتّى سفر

بيّن الإعجاز حتى صاغه من هدى الوحيين حقا و استقر

فاتخذه للمعاني سلّما و لفهم الوخي سمعا و بصر

و تدبّر ما به من حكم و تأمّل ما حواه من درر

و انظر الإعجاز في تكوينا و مبادئ الخلق انثى و ذكر

تجد الأسطر منه أنجما تصعق الباغي و تهدي من نظر

كلّ لفظ منه يجري كوثرا ينبت الإيمان:ينعا و ثمر

و يشعّ النّور من كلّ فم نطقته و هو نور مستطر

كتبته بمدى الدّهر يد لا تمسّ الشّيء إلا و ازدهر

ترجم السّنّة علما و هدى و كتاب اللّه آيا و سور

فهو مفتاح لها في بابه و هو في ذاك الكلام المعتبر

أشرقت أحرفه في صبحه فهي لا تنطق إلاّ بالعبر

فخرت بين ذويها أنها لكريم بن نجيب بن الأغر

أبو حزم عبد الرحمن بن محمد بن أسعد الحكمي الفيفيّ

ص: 7

شخصية بارزة في علم الأجنّة تدلي بشهادتها

«لقد عملت لثلاث سنوات خلت مع هيئة علم الأجنة التابعة لجامعة الملك عبد العزيز في جدّة،السعودية،كنت أساعدهم فيها على تفسير البيانات العديدة التي وردت في القرآن و السّنّة،المرتبطة بالتوالد الإنسانيّ و التطور ما قبل الولادة.

بداية،أدهشتني دقة النصوص التي دوّنت في القرن السابع الميلادي،و ذلك قبل تأسيس علم الأجنّة،و ذلك بالرغم من علمي المسبق بالتاريخ المشرق لعلماء المسلمين في القرن العاشر الميلادي،و مساهمات بعضهم في علم الطب،و لم أكن أعلم شيئا عن الحقائق و المعتقدات الدينية الواردة في القرآن و السنة.

و أعتقد أنه من المهم للطلبة المسلمين و لغيرهم فهم معاني النصوص القرآنية المتعلقة بعلم النمو الإنساني،و ذلك في ضوء العلم الحديث».

تورنتو،كندا،أيلول،1983 م.كيث.ل.مور (1).

ص: 8


1- الدكتور كيث.ل.مور هو بروفسور فخري في علم التشريح و علم الخلايا الحية،كلية الطب بجامعة تورنتو،تورنتو،كندا.و بروفسور في علم التشريح الإنساني و علم الخلايا،قسم التشريح،كلية الطب، جامعة مانتوبا،و نباغ،مانتوبا،كندا.

مقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على من بعثه اللّه رحمة للخلق أجمعين.

و بعد:

فإني بفضل اللّه استودعت خلاصة جهدي في هذا الكتاب،و بذلت فيه غاية و سعي،حيث بحثت فيه عن إشارات لحقائق علمية في القرآن الكريم،و السنّة النبوية المطهرة،و قصدت في ذلك أن القرآن وحي من عند اللّه،أنزله على قلب نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم، و لم يتقوّله من عنده،و لم يخترعه من ذاته،و أن أعلن للملإ أن الإسلام و العلم أخوان توأمان لا يفترقان؛فحيث وجد الإسلام وجد العلم،و مهما تطور العلم و ترقّى فإنه كاشف دوما عن حقيقة القرآن،و مؤكّد أنه منزل من عند اللّه تعالى.و القرآن يحثّ كلّ طالب حقيقة أن يقرأه،و يتعمّق في معانيه و أبعاده،ليتوصل بذلك إلى إدراك إعجازه،و الإيمان بأنه ليس من وضع البشر،لأن ما يضعه البشر يختلف اختلافا بيّنا عمّا يكون من عند اللّه.

يقول اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].

كما يوجّه القرآن الناس ليفتحوا عقولهم و قلوبهم كي يصلوا إلى الهدى و ينظروا إليه نظرة تدبر موضوعية،فيكون دالا لهم على حقائق علمية كبرى.

يقول اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد:24].

و القرآن هو معجزة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الخالدة،علما أن اللّه تعالى قد أيّد رسله بمعجزات تناسب ما برع فيه أهل عصرهم؛فمن معجزات موسى عليه السّلام إبطال سحر أهل زمانه،حيث عجزوا عن الإتيان ببعض ما أتى به من الحق،فآمن السحرة و خرّوا ساجدين؛و ذلك لأنهم فرّقوا بين الحق و الباطل،و بين العلم و الشعوذة.

يقول اللّه تعالى: وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ(113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(114) قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ

ص: 9

نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115) قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ(117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ(119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ(120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)[الأعراف:113-122].

أما عيسى عليه السّلام فقد بعثه اللّه في زمن اشتهر فيه الطب،و تفاخر الناس به، فأكرمه اللّه تعالى بمعجزة من جنس ما تفاخروا به؛فأحيا من مات بإذن اللّه،و حرّك ما صوّر بإذن اللّه،و فعل ما دون ذلك مما يعجز عنه الطب في جميع الأزمنة لا في زمانه فحسب.

يقول اللّه تعالى: إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة:110].

فلم يؤمن برسالته إلا من فتح اللّه قلبه فعلم الحق،و أبصر الحقيقة.

و أما محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،الرسول الذي وصفه اللّه تعالى بالأمّي في قوله عزّ و جلّ:

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ [الأعراف:157]،فقد بعثه اللّه تعالى كذلك في قوم أميّين لا يقرءون و لا يكتبون و لا يحسبون كما تعلمنا الآية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]،و أيّده بمعجزات حسّيّة متعددة في عصره مثل:معجزة انشقاق القمر،و معجزة نبع الماء من بين أصابعه بعد أن وضع يده في الإناء،و تكلّم الشاة التي سمّتها امرأة يهودية، و زيادة الطعام ببركته،و حنين الجذع إليه الذي يمسك به حين يخطب،و إبراء المرضى بلمسه...فآمن في عصره من آمن،ثم أبقى له تعالى معجزة مستمرة إلى قيام الساعة،أ لا و هي القرآن الكريم كتاب اللّه المعجز الذي:«...لا يشبع منه العلماء...و لا تنقضي عجائبه»[أخرجه الترمذي ح 76] (1)،و الذي أعجز الثقلين عنة.

ص: 10


1- الرجاء من القرّاء الكرام مراجعة«قسم تخريج الأحاديث»للاطلاع على مدى صحة سند الأحاديث التي أوردناها في هذا البحث،و على«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»حتى يتبين للقارئ حكم الحديث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة.

الإتيان و لو بسورة من مثله،و مع كونه معجزا في بلاغته،فإنه حجة دامغة على أهل العلم التجريبي الذين وقفوا مشدوهين أمام الحقائق الباهرة التي دلّ عليها.

و معلوم أن القرآن قد حثّ على التعلم،فكانت أول كلمة نزلت من القرآن الكريم: اِقْرَأْ ،قال تعالى: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)[العلق:1-5].

و من هنا نفهم أهميّة البحث،فالبحث وسيلة لاكتشاف الحقائق،و طريق للتمرس في العلوم عموما،و بواسطته يرتقي الإنسان من الجهل إلى النور بإذن اللّه عزّ و جلّ.

و خير هذه العلوم هي التي تؤدي إلى التفكّر في آيات اللّه تعالى،فسبب خلق الإنسان هو التّعرّف على صفات اللّه تعالى،من عظمة و حكمة...كما جاء في الآية الكريمة: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

و العلوم التي تؤدي إلى هذا الطريق هي خير العلوم على الإطلاق،لأنها تخدم هذا الهدف السامي الذي وجد من أجله الإنسان؛فإحدى الطرق التي تؤدي إلى العبودية الكاملة لله تعالى هي التفكر في آيات اللّه عزّ و جلّ كما تشير إليه الآية الكريمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].

و إني أدعو كل مثقّف لينظر نظرة موضوعية إلى ما أشارت إليه النصوص من القرآن و السنة من حقائق علمية كبرى،فتكون لهم سبيل هداية،و منار علم في آن واحد.

كذلك فإني أحثّهم على إكمال الطريق في مجال البحث في النصوص المقدّسة لأن دلالاتها ستنكشف شيئا فشيئا و سيرتقي فهمها مع مرور الوقت فالله تعالى قال:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].

و هذا الكتاب يتحدّث عن مسألة خلق سيدنا آدم عليه السّلام،و يظهر كيف أن المعطيات العلمية تتوافق مع المعطيات الدينية في هذا الشأن،و لا تعارضها،و يضع للقارئ تصوّرا جديدا لعملية تخلق سيدنا آدم عليه السّلام.

ص: 11

كذلك فهو يتناول موضوع تخلق الجنين بدءا من تخلق الحيوان المنوي و البويضة،و التقاءهما،و تطوّر هذه البويضة،كما أنه يصف سائر المراحل التي تمرّ بها البويضة المخصّبة،و المراحل التي يمر بها جسد الجنين في رحم المرأة الحامل، و يتحدّث بالتفصيل عن الأعراض التي تظهر عليه من الخارج و الداخل،و يصف لنا كيفية خروج الجنين من الجسد المستضيف:(الرّحم)،و يتحدّث عن مدّة المكوث في الرّحم،مع وصف دقيق له.

كذلك يتناول الكتاب موضوع الرضاعة بدءا من تخلق العناصر الأساسية للبن، و عملية خروجها من الثدي،و امتصاصها من الرضيع،و أثرها المورفولوجي في جسده،مع التركيز على إبراز الأحكام التي تؤدي إلى تحريم الطفل لأمه أو لأخته بالرضاعة.

و هناك بحث مهم في علم الوراثة يتحدّث عن الوحدة الأساسية الموجودة في جسم الإنسان التي تتسبّب في تخلق خلايا الجنين بإذن اللّه تعالى،و إعطائه الصفات التي سيكون عليها،و الأمراض التي قد تظهر على هذا الجنين:أ لا و هي الحمض النووي الرئيسي.كذلك هناك وصف لآثار الفساد الاجتماعي على صحة الأفراد من الناحية الوراثية.

السبب الباعث:

إن ما دفعني لتأليف هذا الكتاب هو اطلاعي اليسير على بعض الكتب الطبّية المتعلقة بتخلّق الجنين،حيث دعتني الحقائق العلمية الباهرة إلى متابعة التفكر و التأمل في مراحل تطور خلق الإنسان من بدايتها،ثمّ اطّلعت بعد ذلك على ما في القرآن الكريم و السّنة النبوية من إشارات حول هذا الموضوع،فتبين لي تطابق مذهل بين النصوص الشرعية،و الحقائق الطبية الحديثة.

عندها بدأت أبحث بجدّ و تعمّق في هذا المجال،و أدقّق في المطابقة،فازداد يقيني بالقرآن و السنة،فحمدت اللّه سبحانه و تعالى على تفضله على الخلق،بمنّة الدلالة على الحق،بكتاب مقروء،مطابق للكتاب الكوني المشهود.

فبدأت بكتابة مقال مقتضب،أروم فيه إثبات هذا الإعجاز،إلا أني لم أتمكن من إقناع من أحببت له التوفيق للهداية،و كان ذلك تقديرا من العزيز العليم،مما حدا بي إلى التوسع بدقة في هذا البحث ليكون بذلك أكثر وقعا في نفوس الناس.

ص: 12

فعكفت زمانا أطّلع على الكتب العلمية الطبية،و الكتب الدينية في هذا الموضوع،و قد تأملت كثيرا مما حوت هذه الكتب إلا أن نقاطا عدة استوقفتني في أثناء ذلك،و بقيت فترة غير وجيزة أتبيّنها من أهل الاختصاص في ذلك.

و قد كانت أوّل مطالعة لي في موضوع تخلّق الجنين كتاب(ولد طفل (A CHILD IS BORN و كان هذا في بريطانيا سنة 1992 م،ثم انتقلت بعدها إلى الكويت،فكتبت مقالا في هذا المجال-لم ينشر-سنة 1994 م،زرت بعدها هيئة الإعجاز العلمي للقرآن و السنة في مكة المكرمة و في جدّة،حيث التقيت فيها بالدكتور عبد الجواد الصاوي(الباحث الطبي بهيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة).فأهداني كتاب«علم الأجنة في ضوء القرآن و السنة»،فكان هذا الكتاب بمثابة الضوء الساطع في بحثي،فانكشفت لي به بعض الأمور الغامضة التي سبق أن توقفت عندها.

و بدأت بعدها بالتوسع و الكتابة و ذلك عند ما كنت في السعودية سنة 1996- 1997 م.

ثمّ في لبنان سنة 1998 م حيث قابلت بعض علماء الطب و الفقه؛و ذلك من أجل مناقشة بعض النقاط العالقة في ذهني للاطمئنان إلى أن المعلومات التي تضمّنها الكتاب علمية موضوعية،لا يعتريها شك،من الناحيتين:العلمية و الفقهية،حيث اتّضح لي ما أشكل،و تبين لي-من خلال المناقشة-بعض الإعجازات العلمية التي أحسب أن لا سابقة لها.

فجاء كتابي هذا مرتكزا على ثلاثة مقاصد:

أولا:مقابلة نصوص القرآن و السنة فيما بينها،و ذلك لاستنباط الكثير من الحقائق العلمية.

ثانيا:وضع منهجية علمية في طريقة البحث،و ذلك لإثبات إرادة الإعجاز في النص أو عدمه.

ثالثا:قصد إبراز موضوعات جديدة لم تناقش من قبل.

و قد أخذ البحث وقتا طويلا لكي يثمر عن نتائج جيّدة،لأني لم أكن على علم واسع في مجال علم تخلق الجنين،كذلك في العلوم الشرعية:من تفسير و حديث و فقه،فعكفت على التمرس فيها.

و العامل الآخر الذي أطال البحث هو البحث في الكم الهائل من الكتب الكونية

ص: 13

و الشرعية عن دلالات تربطها بعضها ببعض،و ملاحقة العلماء،و حثّهم على التفكّر في هذا المجال،و إثراء البحث من مخزونهم الفكري.

أضف إلى ذلك أنه يجب أن نتوخى الحذر في انتقاء معاني الكلمات،فموضع الزلل خطير في هذا المجال،فقد يأخذ بنا إلى تفسير الآيات القرآنية بتكلف و تحميلها ما لا تحتمل،و بما أن الموضوع خطير لأن إيمان المرء قد يترسّخ أو يتزعزع من جراء التفسير الذي يجده أمامه،فوجب التركيز الشديد و إمعان النظر في المعاني المتشابهة المتشابكة التي يتوجّب فكّها كثيرا من النظر و الرجوع إلى ذوي فنون متعدّدة من حديث،و أصول فقه،و لغة،و طب...حتى نتحرّى عن الحقيقة المجرّدة.

و الذي تطلّب جهدا كبيرا مني هو أني قد اعتنيت كثيرا بانتقاء الصور التي قد تعبّر عن الفكرة المقصود إيضاحها تعبيرا دقيقا،و إبرازها إبرازا أوضح من إبراز غيرها لها،حتى يقف القارئ الكريم على جلية الأمر فكرة و صورة.

خطة البحث:

و أما خطة البحث فهي كالآتي:

ارتكزت في البحث على القرآن الكريم،و كتب تفسير القرآن،و علوم القرآن، و كتب الأحاديث،و شروحاتها،و كتب مصطلح الحديث،و كتب الفقه،و أصوله، و المعاجم اللغوية،و الكتب العلمية،بغية أن أصل إلى نتيجة واضحة دقيقة في البحث.

و قد رتّبت عرض النصوص الشرعية خلال البحث حسبما يمليه السياق الزمني بمعنى أنّي رتّبت عرض هذه النصوص أو أجزاءها في البحث وفقا للجدول الزمني لتخلّق أعضاء الجنين،حتى يسهل على القارئ تتبّع الأحداث.و قد اعتنيت ابتداء بشرح معاني الكلمات الأساسية التي لها علاقة بالإعجاز،كما تناولتها المعاجم اللغوية المعتمدة؛كي يسهل على القارئ فهم معنى الآية القرآنية أو الحديث الشريف،و من ثمّ أتيت على ذكر التفاصيل العلمية و طابقت مفهوم الحديث على الحقيقة العلمية،و علّقت في كثير من الأحيان على نواحي الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،و لم أغفل خلال البحث ذكر ما ورد في كتب تفسير القرآن الكريم،و شرح الأحاديث الشريفة لتبيان الأبعاد التي ترمي إليها الآيات الكريمة،و الأحاديث الشريفة، فمؤلّفو هذه الكتب هم من العلماء الأثبات،الذين حصّلوا العلم الواسع في كلّ

ص: 14

العلوم الشرعية،و قد خاضوا في التفاصيل،و يعلمون جيدا جوانب النصوص الشرعية و أبعادها،و تأويلها.

و قد أخّرت بعض المباحث عن مكانها الزمني في قليل من الأحيان،حيث إن فهمها يتطلّب فهم ما يأتي بعدها من حقائق علمية.

و أما بالنسبة للموضوعات التي تناولتها:

1-ابتدأت بشرح نظري لمسألة خلق سيدنا آدم عليه السّلام إذ أنّ النشأة ابتدأت منه.

2-أتيت بعد ذلك على شرح تخلّق الجنين بالتفصيل حيث إن الجنين تولّد من آدم و حواء عليهما السلام.

3-وضعت بعده قسم الرضاعة بعد قسم تخلق الجنين،لأن الرضاعة هي بمثابة رعاية الخلق الذي نتج.

4-أعقبت ما سبق بمبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»حيث إن ظاهرتي تخلق الجنين،و الرضاعة ترتكزان عليه.

5-اختتمت الكتاب بمبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»و قسم«تخريج الأحاديث وصلتها بالإعجاز»و قد وضعتهما في النهاية حتى لا يشعر القارئ غير المتخصّص بالملل،و هما بحثان مهمان لضبط الإعجاز العلمي،و معرفة الصحيح منه من الموهوم.

هذا و قد اعتنيت في بحثي هذا بما يلي:

1-جمع ما توصّل إليه العلماء المسلمون من إعجازات علمية متفرّقة في كتبهم ضمن مجموعة متجانسة مترابطة،متحقّق من صحّتها.

2-تصحيح بعض الأخطاء و المفاهيم المجانبة للصواب لدى بعض مفسّري القرآن الكريم،و الباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،في مجال تخلّق الجنين و الرضاعة،و علم الوراثة المنتشرة في المجتمع،و التي لا بد أن نصحّحها لكي يتقدّم و يرتقي العلم في هذا المجال.

3-التكلم عن جوانب إعجازية غير معلومة لبعض الآيات الكريمة، و الأحاديث الشريفة التي سبق أن اكتشف بعض جوانبها الإعجازية الأخرى،و التي ظلّت إلى يومنا هذا غير واضحة،و غير معروفة من قبل كثير من الباحثين و أفراد المجتمع الإسلامي و غير الإسلامي.

ص: 15

4-اكتشاف أحاديث و مفاهيم و إعجازات جديدة في كل من المجالات المذكورة آنفا،لكي يتجدّد نبع الآيات على مدى العصور،و لكي يتيقّن القرّاء الكرام أن هذا الدين لن يموت أبدا مهما تطوّر العلم،فالعلم الكوني و الدين الإسلامي ينبعان من مشكاة واحدة،و لذلك لا بد أن يلتقيا على مدى الدهور.

شكر و تقدير:

في عملي المتواضع هذا،الذي أرجو أن ينال القبول من اللّه عزّ و جلّ،ثم من خلقه،أحمد اللّه تعالى و أشكره بادئ ذي بدء على ما منّ به عليّ من علم في هذا المجال،فلو لا فضله عليّ و على خلقه لما تكامل هذا البحث،و من ثمّ أتقدم بالشكر إلى كل من الأحبة الذين أبدوا ملحوظاتهم على البحث،أو أسهموا معي بشكل أو آخر في إثراء البحث علميا حتى خرج بحثي على صورته هذه،فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:

«من صنع إليه معروف،فقال لفاعله:جزاك اللّه خيرا،فقد أبلغ في الثناء»[أخرجه الترمذي ح 93].

و أخصّ بالشكر كلا من:

الشيخ الدكتور باسم عيتاني على مراجعته الفقهية.

و الدكتورة:فدى قطّان،و الدكتور:محمد جناح الحسن على مراجعتهما الطبّية.

و الشيخ:محمد علي المصري على تخريجه معظم الأحاديث.

و الدكتور:بديع السيد اللحام على تنقيحه الأحاديث و تحريرها.

و الشيخ:عبد الرحمن بن محمد الحكمي الفيفي على مراجعته لدلالات و معاني النصوص الشرعية.

و صلى اللّه على سيد المرسلين و الحمد للّه رب العالمين بيروت،لبنان،في 8 أغسطس 2004 م،الموافق:22 جمادى الآخرة، 1425 ه.

ص: 16

موجز في تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة

اشارة

من المهم أن نعرّف الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة بطريقة موجزة؛لكي يتسنّى للقارئ فهم الآلية التي عملنا من خلالها،و تقييم الإعجاز العلمي على أسس سليمة،و من أراد التفصيل فيمكنه قراءة مبحث«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها».

تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة:

الإعجاز لغة هو إثبات العجز،و هو الفوت و السبق.

و الإعجاز هو الإعلام بعجز البشر عن معرفة حقائق مشار إليها.

و الإعجاز العلمي هو إشارة إلى حقائق علمية يعجز الناس في حينها عن معرفتها.

و في مصطلحنا،الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو:

مطابقة معان كثيرة و متوافرة،صريحة في دلالاتها،من الكتاب و السنة،لحقائق علمية،غير معلومة زمن التنزيل،و لا تدرك إلا بالتجربة أو وسائل مادية،لتثبت صدق الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من عند اللّه عزّ و جلّ.

و تفسير التعريف هو كما يلي:

-قولنا:(مطابقة):

التطابق في الإعجاز العلمي يكون بعرض صفات الحقيقة العلمية الثابتة على دلالة النص الشرعي القطعي،فإن وافقت صفات الحقيقة العلمية دلالة النص الشرعي طابقته.

-قولنا:(معان كثيرة و متوافرة):

كلمة«معان»جمع معنى،و المعنى-في هذا المقام-هو المفهوم من لفظ مستعمل،ورد في نصوص القرآن الكريم و الحديث الشريف،و عليه أن يطابق حقيقة علمية،و هذه المعاني عليها أن تكون كثيرة و متوافرة،حتى لا يحكم عليها بعض القرّاء بأنها أتت على سبيل الصدفة.

ص: 17

-قولنا:(معان...صريحة في دلالاتها):

المعنى-كما أسلفنا-هو المفهوم من لفظ مستعمل يأتي في جملة مركبة، و يعود لجذر محدد.

و قد يكون لهذا الجذر كثير من التفريعات،و بالتالي معان مختلفة في أحيان كثيرة.

و يجب عندها إيجاد ضابط للانتقاء من هذه المعاني:أ لا و هو معنى جذر الكلمة المعتبرة.

و المعتبر في معاني الفروع أن تكون لها صفة مشتركة على الأقل مع معنى جذر الكلمة الأم.

كذلك فمن الأهمية بمكان انسجام جميع معاني اللفظ الذي يشير إليه الباحث في مجال الإعجاز العلمي مع سياق النص الشرعي،و ثوابت الشريعة الإسلامية، و كذلك مع مفهوم العلم الكوني اليقيني.

و أما المصادر التي سنستقي منها التفسير للألفاظ التي وردت في نصوص الكتاب و السنة،فنلخصها كما يلي:

القرآن الكريم،و المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و المأثور عن الصحابة،و معاجم اللغة العربية،و المجاز.

-قولنا:(من الكتاب و السنّة):

و هي النصوص الشرعية التي تشير إلى الحقائق العلمية،و التي سوف نطابق عليها السنن الكونية و المقصود بها:

*القرآن الكريم:و هو كلام اللّه المعجز،المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،المكتوب في المصاحف،المنقول بالتواتر،المتعبّد بتلاوته.

*و السنّة:و هي ما صدر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية.

و أمّا الأسانيد التي رويت بها الأحاديث النبوية(أي:طريقة روايتها)فإنها تنقسم إلى:مقبولة،و مردودة.

فالمقبول هو ما ترجّح به صدق المخبر به.

و المردود:هو ما لم يترجّح به صدق المخبر به،و حكمه:أنه لا يحتج به و لا يعمل به إلا بشروط.

ص: 18

-قولنا:(لحقائق علمية):

معناه:أن تكون الظواهر العلمية التي يشير إليها الإعجاز العلمي،مطّردة، عامّة،معلومة،محددة،و حقيقية.

-قولنا:(غير معلومة):

معناه:أن يكون التحدّث عن حقيقة علمية غير معلومة،أو غيبيّة.

-قولنا:(زمن التنزيل):

معناه:أن تكون تلك الحقائق العلمية غير معلومة في عهد الرسالة،و أن تكون مجهولة قبله،و أن تكتشف بعد عهد التنزيل،حتى يتبيّن للناس أن ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن بمستطاع البشر معرفته لو لا معطيات العلم.

-قولنا:(و لا تدرك إلا بالتجربة أو وسائل مادية):

معناه:أن الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو كشف للحقائق العلمية الغيبية بدون وسائط،و التي ليس بمقدور البشر أن يأتوا بمثلها إلا بوسائل ماديّة.

-قولنا:(لتثبت صدق الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من عند اللّه عزّ و جلّ):

الغرض من الإعجاز العلمي هو أن يبرهن أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مرسل من عند اللّه عزّ و جلّ،و ليظهر و يثبت صدق مدده من عند اللّه تعالى.

ص: 19

حكم التعارض بين التفسير العلمي و تفسير السّلف

قد ينشأ في بعض الأحيان اختلاف بين تفسير السلف لبعض الآيات و بين التفسير العلمي الذي أوردناه،أو أورده بعض العلماء في كتبهم المختلفة.

و قد يكون مرد هذا الاختلاف لعدة أمور،أهمها:أن وسائل البحث في أيامنا تختلف تماما عن أيامهم(و بالتالي فقد نصل إلى نتائج مختلفة عن نتائجهم)،و أن الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم معانيها واسعة متعددة كما يشير إليه الحديث الشريف:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13](و بالتالي فقد نستدل بمعان مختلفة عن المعاني التي استدلوا بها).

و قد شرحت ظاهرة تعددية الدلالات بالتفصيل في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»،تحت باب«معان...صريحة في دلالاتها»،فانظره هناك.

و لكن ما أضيفه هنا أن بعض المعاني،و بالتالي بعض المفاهيم،التي يشير إليها المفسّر قد تكون أصوب و أقوى بحجّتها من غيرها استئناسا بالحديث:«القرآن ذلول ذو وجوه،فاحملوه على أحسن وجوهه»[أخرجه الدارقطني ح 101]،و الأجدر أن نعتمدها (1).

و قد يرتبك القارئ في أي من الأقوال عليه أن يأخذ بها في حال الاختلاف:

أقول السلف،أم قول العلماء المتأخرين؟.

فمن جهة قال بعض:«قول الصحابة حجّة،و لا يجب أن نعارضهم»،و من جهة أخرى قال بعض:«و لكن العلم يقول كذا و كذا».

فإن حصل هذا الخلاف فعلينا عندئذ أن نتحرّى أمرين مهمين قبل أن نخوض في حديث ترجيحي قد يكون الخوض فيه غير مجد:

أولا:أن يكون الاختلاف في النصوص الشرعية للعلم قول فيها:أي:آيات (أو أحاديث)تتحدث عن ظواهر كونية.

ص: 20


1- قال الماوردي:«و قوله:فاحملوه على أحسن وجوهه يحتمل معنيين:أحدهما الحمل على أحسن معانيه، و الثاني أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص»،الإتقان للسيوطي،(ج /2ص 554).

ثانيا:أن نفرّق بين النظرية العلمية و الحقيقة العلمية المسلّم بها.

فإن لم يكن الخلاف في آيات تتحدث عن ظواهر كونية،فليس علينا أن نتقدم على الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم بدون دليل كما رأى بعض الفقهاء الأصوليين.

و إن كان الاختلاف في تفسير آيات كونية قائم بين نظرية كونية و قول السلف، فنتوقّف عندئذ ريثما تنجلي الحقيقة العلمية،لأن النظرية العلمية ليست مستقرة،و قد تكون خاطئة،و بالتالي نكون قد تعدّينا على قول السلف(في حال ظهور خطأ النظرية العلمية فيما بعد)بغير علم.

أما إن نشأ اختلاف بيّن في تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن ظواهر كونية بين علماء يعتمدون في تفسيرهم على حقائق علمية ثابتة و بين السلف،فنواجه عندئذ أحد الأمور الثلاثة:

1-إما أن كلا من الفريقين لديه تفسير مقبول،مع استحسان قول أحد الفريقين عملا بقاعدة النصوص الظنية عند الأصوليين و استئناسا بحديث فيه ضعف:

«القرآن ذلول ذو وجوه،فاحملوه على أحسن وجوهه»[أخرجه الدارقطني ح 101].

2-و إما أن يكون أحد الفريقين مخطئا.

3-و إما أن يكون كلا الفريقين مخطئا.

و الضابط في هذا المجال القواعد التي شرحناها في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»من قواعد بلاغية،و معان مصيبة،و أسانيد صحيحة...

فإن كان تفسير الفريقين لا يلتزم بالضوابط المتّبعة،أعدنا البحث على ضوئها في تفسير النص الشرعي الكوني،فإن ظهر أن تفسير أحد الفريقين خرج عن الصواب،أخذنا بقول الفريق المصيب،و إن كان تفسير كل من الفريقين يحتمل الضوابط،رجّحنا الأوجه من التفسيرين.

و الأدوات التي سوف تساعدنا على الترجيح هي كالآتي:

1-السياق:قد يكون أحد الفريقين فسّر النص الشرعي تفسيرا لم يراع فيه ما قبله أو ما بعده،و بالتالي فإن قوله يضعّف.قال البغوي و الكواشي و غيرهما:

«التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها و بعدها،تحتمله الآية،غير مخالف

ص: 21

للكتاب و السنة من طريق الاستنباط،غير محظور على العلماء بالتفسير» (1).فإذا كان كذلك حال التأويل،فإن التفسير أولى أن يراعى فيه ما ذكروه.

2-العلم:لقد أعطى الإسلام مكانة كبيرة للعلم،كما جاء في الآيتين: وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ [العنكبوت:43]،و هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، لذلك فأيّ من التفسيرين احتمل الحقائق العلمية أكثر،بمعنى أن أيّا منهما تلاءمت فيه صفات الموصوف(من حقائق كونية)مع المضمون الشرعي فذلك الذي نستحسنه.

3-العقل:لقد أثنى اللّه تعالى على عباده الذين يتأملون الحياة بغية التبصّر و التعبّد في كثير من الآيات،منها: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر:9]،و اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ [آل عمران:191]،و وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ [العنكبوت:43]،و بالتالي فإن الإسلام عظّم دور العقل،و خوّله أن يستحسن في سائر أمور الحياة،و من هذه الأمور:الأمور العلمية(كما في آية سورة آل عمران)، و الأمور الفقهية.فإن كان تفسير الآية المعتبرة يعارض العقل و لا يستسيغه ضعّفناه.

و مثال ذلك:قول بعض المفسرين من المتقدمين إن معنى ن [القلم:1]:الحوت الذي تقف الأرض عليه،و هذا مرفوض في أيّامنا،و لا يقبله العقل(حتى و لو افترضنا أنه منسجم مع السياق-و هو بعيد عن ذلك-)،و إنما أخذه المفسّر عن إسرائيليات-أي:ما روي عن أهل الكتاب-.

4-قرينة خارجية:قد يكون هناك في كثير من الأحيان شواهد أخرى من قرآن كريم و حديث شريف تساعد على إلقاء الضوء على الآية المختلف في تفسيرها،و قد يساعد هذا على ترجيح أحد الأقوال التي وردت في صددها.

قد يعترض بعض القرّاء قائلين:إن الكلام السابق مرفوض ابتداء،لأننا لا نسلّم و لا نقبل أن يخطّئ العلماء المتأخرون بعض الصحابة-رضوان اللّه تعالى عليهم-في تفسير بعض الآيات الكونية،فالصحابة هم خير القرون،و هم أعلم منّا في الدلالات اللغوية،و هم أعلم منّا في القرآن الكريم و الحديث الشريف لما شاهدوه من قرائن،و هم أقرب إلى نبع الحقيقة(أي:الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم)،و لقد بيّن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم القرآن وفقا لما جاء في الآية: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]فهل يعقل مخالفتهم؟.).

ص: 22


1- الإتقان للسيوطي،(ج /2ص 555).

فالجواب نعم،هم خير القرون أدبا و ورعا و إيمانا،و لكن قد لا تتكشف لهم بعض المعاني لآيات كونية،بالرغم من أنهم أفصح منّا لغة،و أقرب لمصدر بيان القرآن،و قد يخطئون للأسباب التالية:

1-أن الشرع سكت عن تبيان بعض الآيات الكونية،وفقا للآية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]ليظهرها في المستقبل من خلال كتابه الكريم،فيتبيّن للناس أن رسالة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم حق.و هذا المستقبل غير محصور بجيل من الأجيال،أو بوقت من الأوقات،لأن لفظ الآية جاء مطلقا،و هذا يدل على أن هذا المستقبل يمتد إلى يوم القيامة.فإذا كان كذلك،و أظهر اللّه تعالى الحقائق الكونية للأجيال القادمة،فهذا يعني أنها خفيت على المتقدمين،و إلا لأظهروها مخافة الإثم.

2-من شروط المفسّر في علوم القرآن:أن يكون له علم بالعلوم المتعلقة بالآية المفسّرة،و إلا لأصبح تفسيره أقرب إلى الرأي.جاء في كتاب الإتقان:

«و منهم من قال:يجوز تفسيره[أي تفسير القرآن الكريم]لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسّر إليها...قال ابن أبي الدنيا:و علوم القرآن و ما يستنبط منه،بحر لا ساحل له،قال:فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر،لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها، فمن فسّر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه،و إذا فسّر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه...و قال ابن النقيب:جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:(أحدها)التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير...».و بما أن موضوع الآية المعتبرة في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة يتناول حادثة كونية،فعلى المفسّر أن يلمّ بالعلم الكوني المرتبط بها،و إلا لزاد احتمال الخطأ.و كما نعلم فإن وسائل البحث في أيّامنا تختلف عن أيام الصحابة- رضوان اللّه تعالى عليهم-و هي أدق،و بالتالي فإن كلامهم غير ملزم.

3-أجمع العلماء أن السلف غير معصومين،و أن العصمة للأنبياء صلوات اللّه تعالى و سلامه عليهم فقط،و بالتالي فهناك احتمال أن يخطئ السلف،و قد أكّد السلف و أئمّتهم هذه الحقيقة.في هذا ننقل بعض الأقوال:قال الإمام مالك:كلّ منّا يؤخذ من كلامه و يرد إلا صاحب هذا القبر[أي النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم] (1).4.

ص: 23


1- شرح كتاب التوحيد،ص 234.

و جاء في«تحفة المريد،شرح جوهرة التوحيد»:«و العصمة-لغة-:مطلق الحفظ،و اصطلاحا:حفظ اللّه للمكلف من الذنب مع استحالة وقوعه،و لا يجوز لنا سؤال العصمة بهذا المعنى،كأن يقال:اللّهمّ إنّا نسألك العصمة...» (1).

4-لقد اختلف العلماء في قول الصحابي و فقهه:هل هو حجة ملزمة؟فإذا كان مذهب الصحابي في الفقه عامّة فيه خلاف،فكيف نحتج أن كلامه حجّة في بحث كوني ليس له إلمام به؟.قال الإمام الغزالي:«الأصل الثاني من الأصول الموهومة:قول الصحابي.و قد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا،و قوم إلى أنه حجة إن خالف القياس،و قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر و عمر خاصة لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقتدوا باللذين من بعدي»،و قوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا.و الكل باطل عندنا،فإن من يجوز عليه الغلط و السهو،و لم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله،فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟،و كيف تدّعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟،و كيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟،و كيف يختلف المعصومان؟،كيف و قد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة فلم ينكر أبو بكر و عمر على من خالفهما بالاجتهاد» (2).

و في النهاية من المهم جدّا أن ننوه أنّنا لا ندعي فهما للقرآن أكثر من فهم خير القرون،قرن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و لكننا نقول:إن الكشوف العلمية التي انكشفت في هذا القرن أمدّتنا بفهم يقيني مدعوم بالدليل،بخلاف الفهم الفطري الذي ساد في القرون الأولى؛فكلام الخالق سبحانه و تعالى عن أسرار خلقه في الآفاق و فى الأنفس غيب قبل أن يرينا اللّه حقائق تلك الأسرار بواسطة التقدم العلمي،و لا طريق لمعرفة كيفياتها و تفاصيلها قبل رؤيتها،و ذلك لأن العقول البشرية محدودة الإدراك و الزمان و المكان.

و لقد اختلف السلف و الخلف،رضوان اللّه عليهم،في شرح بعض آيات القرآن الكريم و الحديث الشريف التي تتحدث عن العلوم الكونية،فأصابوا في بعض الأحيان،و أخطئوا في البعض الآخر،و ذلك لأن الخطأ في التفسير قد نشأ من جراء اعتماد المفسرين على العلوم التي توفرت في بيئتهم و في عصرهم،فحاولوا تفسير آيات تشير إلى حقائق كونية جد غريبة بالنسبة لعصرهم،بما كانوا عليه من أفهام،1.

ص: 24


1- تحفة المريد،شرح جوهرة التوحيد،للبيجوري،ص 149.
2- المستصفى في علم الأصول للغزالي،ص 168،و انظر أيضا ص 151 و ص 171.

و من خلال معارف بدائية و غير صحيحة تيسّرت لديهم،و أما الإصابة في التفسير، فتعود لاعتماد هؤلاء على دلالات الألفاظ المعلومة لدى العرب المتمكنين في اللغة العربية آنذاك كما تؤكده الآية: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:3].و قد وفّق هؤلاء كثيرا في شرحهم لمعنى الآيات القرآنية رغم احتجاب حقائقها الكونية،متحدين ما توصّل إليه باقي الشعوب من علم كوني،مع أن المفسّر الذي يصف الحقائق الكونية و هي محجوبة عن الرؤيا في عصره،على ضوء ما سمع من الوحي،يختلف عن المفسر الذي كشفت أمامه الحقائق الكونية و تفاصيلها، فجمع بين ما سمع من الوحي و بين ما شاهد في الواقع،فإذا ما حان وقت كشف الحقيقة الكونية،ظهر التوافق الجلي بين تفسيرهم و بين حقائق العلم الكوني، و ظهرت الأمور على حقيقتها،و ازداد الإعجاز تجليا و ظهورا.

و لذلك فنحن نعتبر كلام الصحابة في تفسير الآيات الكونية معلما للوصول إلى الحقيقة العلمية على سبيل الاستئناس لا الجزم.

و لنعط مثالا رائعا على تحدي العلماء المسلمين المفسّرين للقرآن الكريم، و الأحاديث الشريفة للعلماء الكونيين في عصرهم،بما فهموا من الأحاديث الشريفة خلاف ما أعلنه العلماء الكونيون آنذاك:فقد ردّ الإمام ابن القيّم و الإمام ابن حجر و غيرهما أقوال علماء التشريح في عصورهم،فقال ابن حجر:«و زعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده،و أنه إنما يتكون من دم الحيض.و أحاديث الباب تبطل ذلك» (1).

و كتب اللّه التوفيق للمفسّرين فيما شرحوه من آيات و أحاديث متعلقة بأسرار الأرض و السماء،لأنهم اعتمدوا على نصوص الوحي المنزل ممن يعلم السرّ في الأرض و السماء،و على دلالات الألفاظ،و معاني الآيات.).

ص: 25


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري،كتاب القدر،رقم الحديث 6594-(ج /11ص 480).

ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة

اشارة

لا بد ابتداء من تعريف كلمة«جنين»،فمدار البحث عليها.و بداية فإن كلمة «جنين»تشير إلى الولد الذي يتخلق في البطن.جاء في القاموس المحيط:«الجنين:

الولد في البطن ج:أجنّة و أجنن» (1).

و في كلام العرب إذا اجتمعت الجيم و النون في كلمة،و تقدمت الجيم،أفادت الكلمة معنى الخفاء و الستر (2).و لذلك سمّي الولد الذي في البطن جنينا لأنه مستور عن الأعين.جاء في القاموس المحيط:«و كلّ مستور و جنّ في الرّحم يجنّ جنّا:

استتر،و أجنّته الحامل...و عليه جنّا و جنونا و أجنّه:ستره،و كلّ ما ستر عنك فقد جنّ عنك» (3).و بالتالي فإن هذه التسمية تعبّر عن مدى جهل العرب بحال الجنين الذي يتخلق في رحم المرأة.

و من المهم إلقاء نظرة على تاريخ علم الأجنّة و من ثمّ متابعة الكشوفات المتلاحقة في هذا المجال،كي ندرك حقيقة المراحل التي مرّ بها علم الأجنّة،و ما اكتنف هذا العلم من جهل و غموض عند سائر الشعوب-غير العربية-لندرك مدى حجم الصعوبة التي كانت تحول دون معرفة العلماء الكونيين عما كان يجري في الرحم،كما تشير إليه كلمة«جنين»عند العرب.

و لا يخفى عليك صعوبة الطريق الموصلة إلى حقيقة عالم الأرحام،و ما يجري فيه.و بالإجمال:

يمكننا تقسيم تاريخ علم الأجنّة إلى ثلاث مراحل أساسية:

ص: 26


1- القاموس المحيط لمجد الدين محمد،باب النون،فصل الجيم،ص 1532.
2- و نعطي أمثلة لهذه القاعدة:فمن ذلك الجنّة؛لأنها محجوبة عن الأعين،و الجنّ؛لأنهم مستورون عن أعين الناس،و الجنون؛لأنه تغطية لنور العقل،و من الشواهد القرآنية لهذه القاعدة:كلمة«جنّ»التي جاءت في الآية: فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76]،تشير إلى سترة الليل لسيدنا إبراهيم عليه السّلام،جاء في تفسير ابن كثير-(ج /2ص 151):« فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ :أي تغشاه و ستره»،و كلمة«جنّة»التي جاءت في الآية: اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2]،تشير إلى تستر المنافقين عن المؤمنين بالأيمان الكاذبة التي يسترون بها حقيقتهم، جاء في تفسير القرطبي،(ج /1ص 123):«أي سترة».
3- القاموس المحيط لمجد الدين محمد،باب النون،فصل الجيم،ص 1532.

أ-مرحلة علم الأجنّة الوصفي:

المرحلة الأولى هي التي يمكن أن نسميها مرحلة تاريخ علم الأجنّة الوصفي، و هي تعود إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد،و تمتد حتى القرن التاسع عشر، و اقتصرت هذه الفترة على وصف الملحوظات الخاصة بظاهرة تطوّر الجنين، و إعطائها تفسيرات سطحية قائمة على التوهّم و التخيّل،مع تأثر كبير بالسحر.

و لا بأس من إلقاء نظرة عاجلة على نشاطات هذه المرحلة و تصوّراتها:

لقد وجد في مجال علم الأجنّة بعض السجلات المدوّنة من فترة السّلالات الفرعونية الرابعة و الخامسة و السادسة في مصر القديمة،و قد حمل ما لا يقل عن عشرة أشخاص متعاقبين اللقب الرسمي:فاتح مشيمة الملك، و اقتضت المراسيم فيما بعد أن تحمل رأية تمثّل مشيمة الملك أمام موكب الفراعنة.(انظر الصورة رقم:1).

و كانت تعزى إلى خواصّ المشيمة قوى سحرية خفية في اختلاط ظاهر بين العلم و السحر،و كانت للنساء رقى و تمائم يتلونها عند الحمل و الولادة، و لكي تضمن المرأة الحامل الحصول على ولادة سهلة و طبيعية،فقد كانت تستعين بتميمة تصوّر امرأة راقدة على سريرها في هدوء و راحة شديدتين،و إلى جوارها طفلها الذي وضعته في يسر و بلا معاناة،في تعلّق واضح على القوى السحرية و الخفية.

(1)-راية تمثل«المشيمة الملكية» لفرعون( Kleiss 1964 م).

و دام ذلك الاعتقاد حتى عهد اليونانيين القدماء،حيث كان لعلم المنطق اليوناني أثر في فهم علم الأجنّة.

و أقدم الوصفات المدوّنة للوقاية من الحمل،مدونة بالخط الهيري(لغة مصر القديمة قبل الهيروغليفية)على ورق البردى،و يعود تاريخها إلى ما بين 2000 و 1800 قبل الميلاد،و من العناصر الأساسية المكونة للوصفة روث التماسيح إلى جانب عناصر أخرى (1).

ص: 27


1- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 13.

و كان المصريون القدماء يقدسون الحيوانات التي لا تضر و لا تنفع،في صورة معبودات نوعية يقدم كل منها خدمة معيّنة؛فكانت المعبودة«تاويريت»على هيئة أنثى فرس النهر،و ترمز إلى الخصب البشري،كما تحمي الحوامل من الوضع المتعسر.

و كان أيضا هناك«أبيس»،العجل المقدّس،و يشير إلى القوة الجسدية و التفوق في النسل.و كذلك«حقت»،المعبودة التي ترسم برأس ضفدعة،و كانت تساعد الحوامل في الولادة،و كان هناك أيضا«خنوم»،و يظهر في هيئة رجل له رأس كبش، و أمامه عجلة الفخار يشكل عليها الطفل قبل مولده،و كانت هناك«نيت»،و نسب إليها أنها إله التناسل،و أنها عظيمة الاهتمام بالحوامل،و كانت هناك أيضا«مسخنت» على هيئة سيدة يعلو رأسها نبات مائي،و كانت معبودة للولادة،مما يدلّ على دور الأوهام العظيم الذي كان يسيطر على عقول المصريين القدماء.

و كان المصريون القدماء يجهلون دور المني في تخلّق الجنين،و إن كانوا يعتقدون أن هناك علاقة ما بين العضو الذكري و المني و الحمل،و كان الرأي العلمي لديهم أن المني ينبع من الحبل الشوكي،و ربما يكون مرجع ذلك إلى الكهنة الذين كانوا يذبحون القرابين،و كانوا يعتقدون بأن قضيب الثور امتداد لعموده الفقري،و من هنا كان اهتمامهم بالعظمة الموجودة في آخر أربع أو خمس فقرات من العمود الفقري،عند العجز،باعتبار أنها المسئولة عن الحفاظ على مني الرجل.

و قد عرف المصريون القدماء على وجه التقريب مدة الحمل؛ففي إحدى البرديات الطبية«و ستكار»نجد«خوفو»يسأل الساحر(دجيدي DJEDI )متى ستتم ولادة(ريدجدت REDDJEDDET )فيجيبه قائلا:«سوف تولد في الخامس عشر من أول الشتاء،و تلك فترة تتراوح بين 275 و 294 يوما» (1).

و قد وجد أيضا في مجال طب الأجنّة الهندي(رسالة سنسكريتية SANSKRIT TREATISE )تعود إلى 1416 سنة قبل الميلاد.

هذه الرسالة تسمى(غربها أو بانيشاد GARBHA UPANISHAD )و تصف الأفكار القديمة المتعلقة بتطور الجنين.

و تشير هذه الرسالة إلى ما يلي:

من اتحاد الدم و المني يأتي الجنين إلى الوجود.6.

ص: 28


1- كتاب إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان،د.محمد فيّاض،ص 24-26.

و بعد التزاوج الجنسي،في الوقت المؤاتي للحمل،يصبح[الجنين بما يسمى] (كلادا KALADA )(أي جنين في اليوم الأول من عمره).

و بعد مرور سبع ليال،يصبح[الجنين]بذرة.

و بعد مرور أسبوعين،يصبح[الجنين]كتلة مستديرة.

و بعد مرور شهر،يصبح[الجنين]كتلة متماسكة.

و بعد مرور شهرين،يتخلّق الرأس.

و بعد مرور ثلاثة أشهر،تظهر منطقة الأوصال.

و ظاهر أن هذا يتنافى تماما مع الحقيقة،و يدلّ على دور الخيال في فهم مراحل تطور الجنين.

أما اليونان القدماء،فهم أول من ربط العلم بالمنطق بفضل تعليلهم لملحوظاتهم بالمنطق العقلي لا بالقوى السحرية الغامضة،و لكن مع هذا التقدم،لم ينسجم منطقهم مع الحقائق الثابتة،و ظلت التعليلات بعيدة عن الحقيقة،و ذلك لأن العقل لا يستطيع وحده الوقوف على الحقائق،و إلا فإن الظنون تجتاحه و يتحول منطقه مملوءا بالخرافات.

فكان أول من تكلم في هذا المجال(هيبوكراتس HIPPOCRATES OF GOS ) العالم اليوناني الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد،فقد كتب:«خذ عشرين بيضة أو أكثر ودع دجاجتين أو أكثر تحضنها،و بعد كل يوم من اليوم الذي حصل فيه التفقيس،خذ بيضة و اكسرها و تفحصها،فسوف ترى تماما ما قلناه لك إنه من الممكن مماثلة طبيعة الطير بطبيعة الإنسان».

ثم اشتهر العالم(أرسطو ARISTOTLE OF STAGIRA )(384-322 ق.م) بأبحاثه عن علم الأجنة حيث وصف تطور الصيصان و أجنة أخرى،فاعتبر بذلك مؤسس علم الأجنّة مع أن أفكاره كانت تدور حول تطور الجنين من الحيض بعد تنشيطه من قبل منّي الرجل (1).

و قد شجّع فكرتين:

الأولى:أن الجنين يتطور من مادة لا شكل لها واصفا إياها«بالبذرة المعدّة قليلة التكامل ذات نفس مغذّية و أعضاء جسدية».ف.

ص: 29


1- كتاب(الإنسان النامي،د.مور و بارسو THE DEVELOPING HUMAN,MOORE AND PERSAUD ) ص 9،بتصرف.

و الثانية:بأن الجنين يمر بمراحل،و ذلك بعد أن درس تطور بيض الدجاج، غير أنه لم يعط تفاصيل كافية عنها.

أما(جالن CLAUDIUS GALEN )فقد وضع في القرن الثاني بعد الميلاد كتابا تحدث فيه عن تطور و تغذية الأجنّة،و عن المشيمة التي تحيط بالجنين،و قد اقتصر بحثه على المراحل المتأخرة من تطور الجنين.

و من ثمّ لم تسجل في العصور الوسطى أبحاث تذكر سوى قلة نادرة جدا عن هذا الموضوع،إلا ما ورد في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة(و سوف نتكلم عنها بتفصيل-إن شاء اللّه-في هذا الكتاب فيما بعد).

و قد كتب العالم(قسطنطين CONSTANTINUS AFRICANUS OF SALERNO )(1020-1087 م)رسالة قصيرة سماها(طبيعة الإنسان DE HUMANA NATURA )وصف فيها مراحل تطور الجنين المتلاحقة.

و قد ربط تطورات الجنين المتلاحقة بالكواكب،و هنا يظهر كيف أن التعليلات التي تعتمد على الظن تؤدي إلى نشوء نظريات أقرب إلى الخرافات.

أما في عهد النهضة فقد نشر(ليوناردو دافانشي LEONARDO DA VINCI )في القرن الخامس عشر رسومات دقيقة عن مقاطع لأرحام حاملة مع أغشيتها و قد أدخل فيها النّسب القياسية الدالة على تطوّر نمو الجنين (1).(انظر الصورة رقم:2).

أما في القرن السادس عشر فقد أظهرت بعض الرسوم في كتب القبالة كيفية تطور الجنين من كتلة دموية و بذرة.(انظر الصورة رقم:3).

و هذا المفهوم الخاطئ كان قد قال به العالم أرسطو،و استمرّ ذلك على مر القرون.

أما في عام 1604 م فقد بيّنت أعمال(فابريسيوس HIERONYMUS FABRICIUS )رسما ممتازا لتطور جنين دجاجة.(انظر الصورة رقم:4).و قد اشتهر (ويليام هارفي WILLIAM HARVEY )-أحد تلاميذ فابريسيوس-في(بادوا PADUA )بدراسته في مجال دوران الدم و ملحوظاته لتطور الأجنّة.ف.

ص: 30


1- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 10،بتصرف.

> CS <

ص: 31

و في عام 1651 م نشر هارفي كتابا سماه(الجيل الحيواني DE GENERATIONE ANIMALIUM )،و قد ذكر فيه أن بذرة الرجل(أي المني)بعد أن تدخل الرحم تتحول إلى مادة شبيهة بالبيضة يتخلق منها الجنين،كما أنه درس أجنّة صيصان بواسطة عدسات و وضع بعض الملحوظات الجديدة عليها،و قد درس تطور الغزال و لكنه لم يستطع مراقبة المراحل الأولى لتخلق الجنين،و خلص إلى أن الأرحام تفرز الأجنّة(أي أن بطانة الرحم تلفظها بعد أن كانت موجودة كاملة في داخلها) (1).

و في ذلك الوقت ظهر المجهر،و كان عبارة عن عدسة بدائية مكبرة و حامل قصير و لم يكن متطورا آنذاك.

و في عام 1672 م لاحظ(دو غراف DE GRAAF )حجرات صغيرة في رحم الأرنب،و استنتج في أبحاثه أن الرحم لا يفرز الأجنة و لكنها تأتي من أعضاء أخرى سماها(أوفاريز OVARIES )و بدون شك فقد كانت هذه الحجرات الصغيرة هي ما نطلق عليه الآن اسم(الكرات الجرثومية BLASTOCYTS ).

و في عام 1675 م درس(مارسيلّو مالبيجي MARCELLO MALPIGHI )-على ما اعتقد-بيض دجاجات غير ملحقة و اعتقد أنها تحتوي على أجنّة صغيرة (2)،كما نشر رسومات لجنين الدجاجة المتخلق يظهر الفلقات بوضوح تام.(انظر الصورة رقم:5).

> CS <

(5)-المراحل الأولى من تخلق الدجاجة وفقا لكتاب ما لبيجي و كتابه:( De Formatione pulli in OVO ).ف.

ص: 32


1- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 10-15،بتصرف.
2- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 11،بتصرف.

و نعرف اليوم أن هذه الفلقات تحتوي على خلايا،تولّد الجزء الأكبر من الهيكل العظمي للجسم و عضلاته.

و هذا ما لم ينتبه إليه(أو لم يكتشفه)العلماء آنذاك و ذلك لأنهم كانوا يعتقدون -إلى هذا الوقت-أن التخلّق الإنساني ليس إلا زيادة في الحجم لصورة واحدة تتسع أبعادها بمرور وقت الحمل (1)،حيث كانت فكرة الخلق التام للإنسان من أول مراحله ما زالت مسيطرة على أذهان العلماء (2).

و نشرت في الوقت ذاته تقريبا مجموعة أخرى من الرسومات،تظهر تخلّق الجنين البشري و تعبّر كلها عن نفس الأفكار و عن رسم واحد،و لكن بمقاييس مختلفة.(انظر الصورة رقم:6).

و هذه الأفكار تعرف:بنظرية(الخلق الجاهز PREFORMATION THEORY ).

> CS <

(6)-رسم قديم يظهر التخلق البشري و كان الاعتقاد السائد أن هذا الإنسان يتضخم مع مرور الوقت(1959 م NEEDHAM ).

و في عام 1677 م استعمل كل من(هام و لو فينهوك HAMM AND LEEUWENHOEK )مجهرا أكثر تطورا من الذي وضع من قبل و اكتشفا الحيوان المنوي و ظنا أنه يحتوي على إنسان صغير جدا (3).(انظر الصورة رقم:7).1.

ص: 33


1- الجمعية الملكية للفلسفة.
2- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 15.
3- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 11.

(7)-استعمل العالم لوفينهوك المجهر في أواخر القرن السابع عشر فاكتشف الحيوان المنوي،و في الرسم منظر جانبي يوضح طريقة استخدام هذا المجهر،حيث كان الجسم يوضع أمام العدسة على الحامل القصير و يتم تعديل وضع الجسم أمام العدسة بواسطة اللولب،و في الصفحة القادمة رسومات للحيوان المنوي وفقا للعالم لوفينهوك.

> CS <

و تظهر صورة الحيوان المنوي في الصور التي تلي(انظر الصورة رقم:8-9) و التي وضعت وفقا للعالم لو فينهوك عام 1701 م.و الرقمان 1 و 7 في الصورة رقم:9 يشيران إلى الحيوان المنوي البشري،أما البقية فتشير إلى الحيوان المنوي للأغنام.

و من أنصار نظرية الخلق الجاهز،نذكر العالم(سوامردام JAN SWAMMERDAM )(1637-1680 م)الذي اعتقد هو أيضا أن الإنسان موجود بصورة مصغرة في رأس الحيوان المنوي (1).

و قد ثار جدل كبير في هذه الفترة حول الملحوظات التي تمت أو تم تخيّلها، و لم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى تعرّف المراقبون على أشياء في الحيوان المنوي تعبّر عن روح الإبداع في ذلك العصر.

و الرسم الذي قدمه(هرتسوكر HARTSOEKER )للحيوان المنوي عام 1694 م (انظر إلى شكل القزم في الصورة رقم:10)يدل على أن المجهر يومئذ لم يكن كافيا لبيان تفاصيل تكوين الحيوان المنوي،فأكملت الصورة من خيال العلماء،و عبّروا مرة ثانية عن الفكرة السائدة عندهم،و هي أن الإنسان يكون مخلوقا خلقا تاما في الحيوان المنوي في صورة قزم (2).1.

ص: 34


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،محمد علي البار،ص 187-188،بتصرف.
2- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 21.

> CS <

ص: 35

و الرسم الذي وضعه(بوفون BUFFON )عام 1749 م(انظر الصورة رقم:11) للسائل المنوي البشري(انظر إلى الشكل في الجزء الأعلى)،و السائل المنوي للكلب (انظر إلى الشكل في الجزء الأسفل)،بما في ذلك بعض سائل من أنثى كلب لم تخصّب بعد،هو مثال ثان على أن الخيال كان يلعب دورا كبيرا في فهم عملية تخلق الجنين البشري.

> CS <

(11)-التناسل وفقا للعالم بافون(1749 م Buffon ).

يمثل الشكل( A )المني البشري مخلوطا بماء المطر بغية عزل ما يحتويه من خيوط للسماح بانفصال الأجسام الصغيرة.

الشكل( B )المني نفسه بعد تركه فترة من الوقت ليصبح أكثر سيولة.

الشكل( C )مأخوذ عن ذكر كلب.

الشكل( D )من أنثى كلب لم تخصب بعد.

و في عام 1745 م عادت الأنظار لتتجه إلى البويضة على أنها تحمل الجنين بصورة مصغرة،و ذلك عند ما اكتشف العالم(بونيه CHARLES BONNET )أن بويضات الحشرات يمكنها التطور إلى أجنّة كاملة دون الحاجة مطلقا إلى الذكر، و تدعى هذه الطريقة:(الولادة بدون أب PARTHENOGENESIS ) (1).ف.

ص: 36


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،محمد علي البار،ص 188،بتصرف.

و في عام 1759 م رفض(وولف CASPAR FRIEDRICH WOLFF )الأفكار القائمة سابقا،و ذلك بعد أن لاحظ أن بعض أجزاء الجنين تتطور من«كريّات»(و هي أنسجة الجنين النامية)،فقد شاهد بيض دجاج غير مخصّب و لم يستطع رؤية الأجنة التي تكلم عنها ما لبيجي،و قدم أفكاره على أن ما نسميه اليوم بالبيضة المخصّبة تنفلق لتؤلف طبقات من الخلايا(و نسميها اليوم القرص الجنيني)التي يتخلق منها الجنين.

و قد أسّست أفكاره نظرية(الخلق الفوقي EPIGENESIS )القائلة بأن التطور ناتج عن نمو الخلايا و تمايزها.

و بينما كان فريق من العلماء يرى أن الإنسان يخلق خلقا تاما في بويضة الأنثى، كان فريق آخر يقول:إن الإنسان يخلق خلقا تاما في الحيوان المنوي.

و لم ينته الجدل بين الفريقين إلا قرابة عام 1775 م عند ما أثبت(سبالانزاني SPALLANZANI )أهمية كل من الحيوان المنوي،و البويضة في عملية التخلّق البشري بعد أن أظهرت تجاربه في التلقيح الصناعي أن الحيوان المنوي هو العامل المخصّب للبويضة.

ب-مرحلة علم الأجنّة التجريبي:

لم تكتشف بويضة الثدييات إلا في أواخر القرن الثامن عشر،حيث بدأت المرحلة الثانية-عهد علم الأجنّة التجريبي-بكتابات(فون باير VON BAER ) (1827 م)و(شليدن و شوان SCHEILDEN AND SCHWAN )(1839 م)و(داروين CHARLES DARWIN )(1859 م)و آخرين.

و في عام 1817 م اكتشف(باندر HEINRICH CHRISTIAN PANDER )أن الجنين مؤلف من ثلاث طبقات.

أما فون باير(1827 م)فكان عملاقا في عصره في هذا المجال،فقد قفز بعلم الأجنّة من التجارب و المشاهدات إلى صياغة المفاهيم الجنينية لا العكس،و كانت تلك نقلة نوعية دقيقة جدا،حيث انتقل به تفكيره إلى أبعد من المفاهيم التي تعلّمها، فقد تابع تقاسم البويضة المخصّبة في أنبوب الرحم و الخلية الجرثومية في الرحم، و ساهم في فهم مصادر الأنسجة و الأعضاء من الطبقات التي تحدث عنها باندر و ما لبيجي.

و قد عمّم فون باير نظرية باندر و قال إن أجنّة جميع الحيوانات تحتوي على

ص: 37

ثلاث طبقات،كما أنه وضع مفهومين مهمين في مجال طب الأجنة:مفهوم مراحل تطور الجنين،و مفهوم سبق الصفات العامة للصفات الخاصة (1).

و في عام 1824 م تمكن العالمان(بريفوست و دوماس PREVOST AND DUMAS )من وصف(انشقاق البويضة CLEAVAGE )و لكنهما لم يتبينا مغزى ذلك الانشقاق (2).

و حصل تطور مهم في علم الأجنّة عند ما أعلن كل من شليدن و شوان(1839 م) أن جسم الإنسان مكون من خلايا،و هذا المفهوم أدى إلى إدراك أن الجنين تأتّى من خلية واحدة و هي:(البويضة المخصبة ZYGOTE ) (3).

و في عام 1865 م وضع العالم(غريغور مندل GREGOR MENDEL )أسس علم الوراثة غير أن علماء الطب لم يفهموا معاني هذه الأسس لسنين عديدة.

و في عام 1875 م تمكن(هيرتويج HERTWIG )من ملاحظة كيفية تلقيح الحيوان المنوي للبويضة،و أثبت بذلك أن كلا من الحيوان المنوي و البويضة يساهمان في تكوين البويضة الملقحة،و كان بذلك أول إنسان يشاهد عملية التلقيح هذه و يصفها (4).

كما تميزت المرحلة التاريخية الثانية بالبحث عن الآليات،و برز اسم(ويلهلم روكس WILHELM ROUX )في هذا المجال،و انتقلت الدراسة الجنينية من وصف الملحوظات إلى التدخل،و معالجة الكائنات الحيّة المتطورة (5).

و قد شغلت مسألة معرفة الآلية التي يحدث فيها التمايز بين الخلايا اهتمام الباحثين أمثال العالم(فليمينغ FLEMMING )(1878 م)الذي شاهد(الصبغيات CHROMOSOMES )و اقترح أن لها دورا في عملية الإخصاب.

و أمثال العالم(فان بندن VON BENEDEN )(1883 م)الذي وصف ظاهرة (الانقسام الاختزالي MEIOSIS )قائلا:إن الخلايا الناتجة عن عملية الانقسام لها عدد منخفض من الصبغيات.3.

ص: 38


1- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 11-12.
2- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،محمد علي البار،ص 189،بتصرف.
3- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 12.
4- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،محمد علي البار،ص 190،بتصرف.
5- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 23.

و أمثال العالمين(ستن و بوفيري SUTTON BOVERI )(1902 م)حيث أعلن كل منهما على حدة أن الصبغيات تنقسم أثناء التخصيب و تخلّق الخلايا وفقا للأسس التي وضعها العالم مندل في علم الوراثة (1).

و أمثال العالم(مورجان THOMAS HUNT MORGAN )(1912 م)الذي وصف دور الجينات في الوراثة و أن هذه الجينات موجودة في مناطق محددة من الصبغيات (2).

و كان أول من حاول تحديد عدد الصبغيات هو(فون وينيوارتر VON WINIWARTER )عام 1912 م قائلا:إن عددها هو سبعة و أربعون،و من ثمّ أعلن كلّ من(تجيو و لوفان TJIO LEVAN )عام 1956 م أن عدد الصبغيات هو ستة و أربعون (3).

و في عام 1914 م رتّب(مول MOOL )مائتين و ستة و ستين جنينا بشريا في سلسلة من المراحل.

و من ثمّ رتب(ستريتر STREETER )عام 1942 م الجنين البشري في ثلاث و عشرين مرحلة،و أطلق عليها اسم«آفاق التطور».

و من ثمّ قدم(أورايلي OREILLY )عام 1973 م نظاما أكثر تفصيلا من الذي وضع من قبل لتصنيف الجنين البشري،و خاصة خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من تكوينه (4).

و درس(هانس سبيمان HANS SPEMANN )(1841-1941 م)آليات التفاعل النسيجي كالذي يحدث خلال التطور الجنيني (5).

و بدأ(أوتو واربورغ OTTO HEINRICH WARBURG )(1883-1970 م) دراسات عن الآليات الكيميائية للتخلق (6).3.

ص: 39


1- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 12.
2- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،محمد علي البار،ص 190،بتصرف.
3- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 12.
4- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 175.
5- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 23،كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 12.
6- كتاب علم الأجنّة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 23.

ج-مرحلة التقنية و استخدام الأجهزة:

و تمتد المرحلة الثالثة أو الحديثة من الأربعينات حتى يومنا هذا،و قد تأثرت هذه المرحلة تأثرا كبيرا بتطور الأجهزة مما أثر بقوة على مجرى البحوث.

و على سبيل المثال:فإن المجهر الألكتروني (1)،و آلات التصوير الأخرى، و قياس الشدة النسبية لأجزاء الطّيف،و الحاسوب،و مجموعة وسائل الكشف عن البروتينات،و الأحماض النووية،و الكربوهيدرات المعقدة،و عزلها و تحليلها،يمكن أن تعتبر كلها عوامل تجعل علماء(الأحياء البيولوجي النمائي DEVELOPMENTAL BIOLOGY )اليوم في وضع يسمح لهم بإجراء تجارب كانت تبدو قبل عقد من الزمن مجرد حلم خيالي.

فيمكننا اليوم مثلا أن نجري تحليلا دقيقا مفصلا لسطح الخلايا خلال تمايزها.

و يمكننا أيضا أن ندرس دور النواة،و السائل الهلامي للخلية(أي السيتوبلازم:

المادة الحية للخلية باستثناء النواة)،و المنابت خارج الخلية باستخدام تهجين الخلايا، و كذلك غرس النواة و غرس الجينات في الرحم،و غير ذلك من التقنيات.

و يمكننا أن ننظر أيضا إلى الأجنة بوضوح لم يمكن تصوره في زمن العالم مالبيجي.

و يمكننا أن ننظر داخل الأقسام لنفهم آليات التمايز الطبيعي و الشاذ بشكل أفضل.(انظر الصورة رقم:12).

ص: 40


1- المهجر الألكتروني يتيح لنا تكبير الصورة إلى درجة تصل إلى نصف مليون مرّة.فالإلكترونات المستخدمة في المجهر الألكتروني كمصدر للضوء تتميّز بأطوال موجية قصيرة تجعل(قوّة تباين RESOLUTIoN )المجاهر الألكترونية كبيرة،مما يمكننا أن نرى المسافات بين نقطتين تصل إلى حد 20-40 من النانوميتر، (و النانوميتر جزء من المليون من الملم).و يمكن رؤية و دراسة طبوغرافية و أسطح الخلايا و الكائنات الصغيرة،و تكوين صورة ثلاثية الأبعاد باستخدام:(المجهر الألكتروني الماسح Scanning Electron Microscope:SEM ).و يمكن رؤية الخلايا،و محتوياتها الداخلية،و قطاعات الأنسجة باستخدام:(المجهر الألكتروني النفاذ Transmission Electron Microscope:TEM )،و لكن كل ذلك بعد تحضير العينات بمساعدة(المثبتات Fixative )و(المواد الكيميائية المنظمة Buffer )التي تغيّر في كثير من الأحيان من طبيعة و شكل النسيج المعتبر.و يمكننا تفادي هذه المشكلة باستخدام(تقنية التبريد Cryo-technique ):كالتثبيت بالتبريد المنخفض و السريع،أو باستخدام مثبتات بسيطة مثل:البارافو مالدهايد،أو(التبريد البديل -Cryo substitution )،أو(التقطيع الدقيق بالتبريد Cryo-ultramicrotomy )التي تمكننا من دراسة العيّنات، و محتويات الأنسجة،و الخلايا الطبيعية باستخدام:(التحليل الدقيق بأشعة س X-Ray microanalysis EDAX )بدون تعريض العينات النسيجية للمواد الكيميائية.

> CS <

ص: 41

معارف العرب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم

سنلقي الضوء أولا على الحالة الثقافية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية ليتبيّن لنا مدى الفرق الشاسع بين المستوى العلمي السائد في هذه الجزيرة،و بين ما جاء على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من آيات علمية إعجازية،و حتى نتفهّم ما في آيات الإعجاز العلمي في القرآن و السنة من تحد و سبق علمي للأمم عامة،و للغرب خاصة.

لم يكن العرب حينها على مستوى عال من الثقافة العلمية،فغالبية العرب كانت تجهل الكتابة و يؤيد ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّا أمة أمية لا نكتب و لا نحسب»[أخرجه البخاري ح 7] (1).

إلا أن بعض العرب قد عرف الكتابة قبل الإسلام و كان منهم من يقرأ و يكتب بقلم المسند(قلم ظهر في اليمن)و بقلم النبط و بقلم بني أرم،و قد تعلم بعضهم اللغة العبرانية،و كان القليل منهم يلجأ إلى معابد و مدارس اليهود و النصارى لتعلم الكتابة و القراءة،و لكن السواد الأعظم منهم كان يجهل الكتابة و القراءة قبيل الإسلام،و لم يكن العرب يعنون بتعليم أطفالهم الكتابة و القراءة (2)،إنما كان الرجل منهم يشعر بالحاجة إلى ذلك فيتعلمها،و لذلك لم يستطيعوا النهوض إلى درجة عالية من العلم.

لقد تفاوتت درجة العلوم التي انتشرت في عصرهم،فقويت العلوم التي كانت لها صلة ببيئتهم مثل الشعر،و تحسس مخابئ الماء تحت طبقات الأرض و علم الأنواء(تعرّف أوقات نزول الغيث عن طريق حركة النجوم و منازلها)،و معرفة آثار الأقدام(القيافة)،و علم الأنساب(و ذلك ليحفظوا أنسابهم و لأمور أخرى كان

ص: 42


1- الرجاء من القرّاء الكرام مراجعة«قسم تخريج الأحاديث»للاطلاع على مدى صحة سند الأحاديث التي أوردناها في هذا البحث،و على«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»حتى يتبين للقارئ ما هو حكم الحديث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة.
2- كتاب مختصر الجامع في السيرة النبوية،سميرة الزائد،ج /1ص 70-71،كتاب السيرة النبوية،محمد بن محمد أبو شهبة،ص 93،بتصرف.

مجتمعهم البدوي بحاجة إليها)،و ضعفت العلوم الأخرى عندهم مثل الطب (1)، الذي كان مرتبطا بالسحر،و اقتصر على الوسائل البدائية مثل الكيّ و البتر و الفصد (الشق)و التداوي بالأعشاب و الحجامة،و انتشرت بعض العلوم التي ليس لها ركائز منطقية مثل دراسة الأجرام السماوية:التنجيم و الكهانة،لمعرفة الأمور الغيبية من حاضر و مستقبل.

أما علم الأرحام عند العرب-و هو الذي يعنينا في بحثنا هذا-فلم يكن أحسن حالا من سائر العلوم الأخرى،و كان قائما عندئذ على ما تعلّمه العرب من اليهود،كما يعلمنا الحديث الشريف:«عن ابن عباس،قال:إن ابن عمر-و اللّه يغفر له-أوهم،إنما كان هذا الحي من الأنصار-و هم أهل وثن-مع هذا الحي من يهود-و هم أهل كتاب-و كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم..»[أخرجه أبو داود ح 117].

فعلى سبيل المثال:اقتدى العرب باليهود في اعتزال المرأة إذا حاضت اعتزالا تاما،لا يؤاكلونها،و لا يجالسونها على فراش،و لا حتى يساكنونها،لأنهم كانوا يعتقدون أن السموم تغلب على بدن المرأة في فترة الحيض (2).كذلك كانوا يعتقدون أن الجنين يأتي أحول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها-أي:إذا جامع الرجل المرأة من الخلف و لكن في قبلها-،على ما كان يعتقده اليهود،مثلما جاء في الحديث:«حدثنا أبو نعيم،حدثنا سفيان،عن ابن المنكدر،قال:سمعت جابرا رضي اللّه عنه قال:كانت اليهود تقول:إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول،فنزلت:

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ [البقرة:223]»[أخرجه البخاري ح 15]،و قد اعتقد الأطباء العرب أيضا أن الجنين يعقد من دم الحيض (3).

و هكذا نفهم أن الظلام العلمي كان منتشرا في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام،و لا سيما عند العرب.».

ص: 43


1- على أنه كان فيهم أطباء معروفون و إن كانوا قلة،مثل الحارث بن كلدة.
2- انظر مبحث«ازدياد الأرحام و غيضها».
3- انظر مبحث«اضطراب عروق النطفة».

أمّية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمّيا لا يقرأ و لا يكتب،فقد نشأ في مجتمع كانت غالبيته من الأميين،و قد اقتصر علمه صلّى اللّه عليه و سلّم على المعرفة برعاية الغنم(و ذلك لمساعدة عمه أبي طالب)،و على بعض الأمور الحربية(لعموم الضرورة إلى معرفة ذلك)،و على بعض الأمور السياسية(كاشتراكه في حلف الفضول)،و على بعض أمور التحكيم (فقد حكّمه قومه في وضع الحجر الأسود في الكعبة و رضي بحكمه سائر القبائل).

و قد أتيح له السفر إلى اليمن أربع مرات في مهمات تجارية كان يقوم بها صلّى اللّه عليه و سلّم للاتجار بمال خديجة بنت خويلد رضي اللّه عنها،و مرة واحدة إلى مدينة بصرى في بلاد الشام (1)، و هي أبعد مكان رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في حياته (2)(و الأولى أن نقول:قبل النبوة) (3).

و من الشواهد على هذه المعرفة قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]و قوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [يونس:16]و حادثة نزول الوحي(كما روتها لنا السيدة عائشة رضي اللّه عنها):«أول ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم،فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح،حتى جاءه الحق و هو في غار حراء،فجاءه الملك فقال:

اقرأ،قال:«ما أنا بقارئ»،قال:«فأخذني فغطّني(الغطّ هو العصر الشديد و الكبس) حتى بلغ مني الجهد،ثم أرسلني»،فقال:اقرأ،قلت:«ما أنا بقارئ،فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد،ثم أرسلني»،فقال:اقرأ،فقلت:«ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة،ثم أرسلني»،فقال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) [العلق:1-3][أخرجه البخاري ح 8] (4).

ص: 44


1- و كانت بصرى يومئذ كبرى مدن حوران(في سورية)(المعالم الأثيرة في السنة و السيرة،محمد محمد حسن شرّاب،ص 48-49).
2- كتاب دراسة في السيرة،د.عماد الدين خليل،ص 39.
3- و ذلك أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم وصل إلى أبعد من هذا المكان بعد النبوة،و ذلك في حادثة الإسراء(حيث كان الإسراء إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس).
4- الرجل من القرّاء الكرام مراجعة«قسم تخريج الأحاديث»للاطلاع على مدى صحة سند الأحاديث التي أوردناها في هذا البحث،و على«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»حتى يتبين للقارئ حكم الحديث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة.

هذه الحادثة تشير إلى نقطتين بالغتي الأهمية:

*أولا:أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن غير متعلم فحسب (1)،بل كان أميا لا يعرف القراءة و الكتابة (2).

*ثانيا:أن اللّه سبحانه و تعالى أشار في ثاني آية أنزلت من القرآن الحكيم- أي:في بدء الوحي-أن الإنسان خلق من علقة تبيانا لمعجزة خلق الإنسان-و الله أعلم-،و هذه المعجزة اتخذت منحى خطيرا بعد ما أمر اللّه سبحانه و تعالى رجلا أمّيا صلّى اللّه عليه و سلّم أن يعلم أمة بأكملها حيث قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].].

ص: 45


1- و إلى ذلك تشير الآية: وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113]،حيث إنها تشير إلى أن اللّه عزّ و جلّ علّم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أمورا لم يكن على درايتها، مثل:أمور الشرع،و الحكمة كما تنصّ عليه الآية نفسها،و كما تنص عليه الآية التالية: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]،و مثل:بعض الأمور العلمية كما يشير إليه الحديث الشريف رقم 9 الذي سيأتي تفصيله،حيث سأل اليهودي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن العملية التي تؤدي إلى الإذكار أو الإيناث فأجابه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه و ما لي علم بشيء منه حتى أتاني اللّه به»[أخرجه مسلم ح 9].
2- و إلى ذلك تشير الآية: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]،و الآية: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ(156) اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ [الأعراف:156-157].

الوحي يمحو الأمية

لقد قرأنا في البحوث السابقة عن الثقافة التي كانت سائدة داخل شبه الجزيرة العربية و خارجها،فرأينا أن الظلام الدامس كان يسود كل أقطار العالم في المجال العلمي و خاصة في مجال علم الأجنّة في عصر النبوة،فالعرب في شبه الجزيرة العربية آنذاك كانوا أميين في غالبيتهم،و القلّة الباقية التي تعلمت القراءة و الكتابة لم تكن بارعة في العلوم الحيوية،أما الغرب خاصة و بقية العالم عامة بعد القرن الخامس قبل الميلاد،فكانوا أكثر معرفة،لأنهم استطاعوا أن يربطوا العلم بالمنطق و لكن هذا لم يفدهم شيئا،لأنهم أخطئوا في النظريات التي وضعوها و التي كانت لا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلمية،و لأن قلة الوسائل التقنية المتاحة لهم حجزتهم عن مراقبة الأمور عن كثب في الأرحام،و حالت دون معرفتهم لحقائق الأمور في علم الأجنّة.

و هكذا فإن التاريخ يشهد أنه لم يكن هناك أي تدوين مميّز شامل للتخلّق البشري كالتصنيف المرحلي،و علم المصطلحات،و الوصف لمجريات الأمور في الأرحام،كما أن التاريخ يشهد أنه لم يكن هناك أية وسيلة لمراقبة ما يجري في الأرحام في عصر النبوة.

فهل يعقل-و الحال هذه-أن يكشف الرسول الكريم-عليه الصلاة و السلام- حقائق علمية لم تكن موجودة آنذاك في العلوم البشرية لو لا وحي السماء؟.

لقد رأينا كيف أن الأمية و الجهل يولّدان مجرد خيالات بعيدة عن الدقة كما في حالة اليونانيين،بالرغم من أنهم كانوا أكثر الشعوب تطورا في مجالات العلوم،فأنّى للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم المقدرة على كشف حقائق علمية هي في أقصى الدرجات من الدقة إلا بإعجاز قاهر،من رب قادر،و قد عجز كثير من العلماء عن الإتيان بالقليل منها و لو بصورة مبسطة،حتى بعد أن اكتشفوا المجهر،و بعد أن انكبوا على مراقبة الأجنّة؟.

إلى غير ذلك،فتقديم وصف علمي لمراحل التخلّق البشري يتطلب الحصول على عدد كبير من الأجنّة البشرية في عمر معين و دراستها،و يصعب تماما حتى في يومنا هذا تجميع مثل هذه السلسلة،كما يحتاج إلى أجهزة متطورة جدا لم تكن متصوّرة في عصر النبوة في أي قطر من أقطار العالم(كالمجهر الألكتروني،و آلات التصوير الأخرى،و قياس الشدة النسبية لأجزاء الطيف،و الحاسوب،و مجموعة

ص: 46

وسائل الكشف عن البروتينات،و الأحماض النووية،و الكربوهيدرات المعقدة و غيرها)،و لو لا هذه البحوث لما توصل علم الأجنّة إلى ما هو عليه الآن.

و مما يزيد الأمور تعقيدا أيضا،أن الأجنّة التي كانت تخرج في حالات الإجهاض في المراحل الأولى من تخلّق الجنين على هيئة سقط مبكر،كانت تخرج في كمية من الدماء،و قد تمزقت إلى أجزاء دقيقة و لم تكن لتعطي مظهرا يمكن دراسته.

إضافة إلى ذلك فإن الأجيال التي عاصرت الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن بإمكانها أن تعلم أن هذه الدماء تحمل سقطا من جنين،لأن معرفة حدوث الحمل في الأسابيع الأولى لم تكن متحقّقة حتى عهد قريب.

و لو افترضنا أنه أتيح للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هذا كله،فالجنين في المراحل الأولى من تخلّقه و خصوصا في مرحلة عجب الذّنب(التي سنتكلم عنها فيما بعد-انظر مبحث «الذّنب»-)لا يبلغ حجم أجزائه أكثر من 05,5 ملم،و تلك الأجزاء موجودة ليس داخل الرحم ذي الظلمة الدامسة فحسب،بل داخل بطانة الرحم و الوصول إلى تلك الأمكنة متعذر،لأن عنق الرحم-كما نعلم-لا يسمح في الحالات العادية-عند معظم النساء-لأكثر من الإصبع الصغير من أن يدخل فيه،و هو مسدود(بكتلة مخاطية MUCUS PLUG )في فترة الحمل(انظر الصورة رقم:13)،و الفجوة التي تحدثها النطفة عند الدخول داخل بطانة الرحم تنغلق بسدادة نسيجية.

> CS <

(13)-تسد مدخل الرحم كتلة من المخاط مما يجعل مراقبة الأجنة أمرا صعبا للغاية

ص: 47

إنه لمن الغريب جدا،بل من المستحيل أن يصف الرسول-عليه الصلاة و السلام-أحوال و مظهر الجنين في الرحم و خصوصا في الأسابيع الأولى،و هي تتغير باستمرار خلال أوقات وجيزة جدا،و إنه لمن الغريب أيضا أن يضع برنامجا زمنيا دقيقا للغاية كما سنرى،لا يقبله أي عقل بشري في ذلك الوقت نظرا لغرابته و لخروجه عن المألوف،أو ليس هذا كله دليلا على أنه نبي يوحى إليه من اللّه تعالى؟.فمن يتخيل أن يتخلّق الجسم الأساسي للجنين خلال أربعين يوما،و الحال أن الجنين يمكث في بطن أمه تسعة أشهر؟،و من يتخيل أن الجنين يشبه المادة الممضوغة التي تلوكها الأسنان؟.

لقد أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ببعض أسس علم الوراثة بإذن من رب العالمين قبل 1400 سنة من اكتشافها من قبل العلماء؛فلقد أوضح صلّى اللّه عليه و سلّم أن بنية الإنسان تتقدر حين خلقه عند ما يلقّح الحيوان المنويّ البويضة،و أن عملية التقدير تستوجب انصهار محتوى النطفتين بعضهما ببعض،و انتشار صبغيات الحيوان المنوي بين صبغيات البويضة،و أن عملية نمو الجنين تعتمد على الشيفرة الجينية الموجودة داخل البويضة المخصّبة.إن التحدث عن هذه الأمور الغيبية يعتبر أقوى من التحدث عن التغيرات التي تطرأ على الجنين،و ذلك لأن الأمور أدق في هذا المجال،فضلا عن أنها الأسس التي تتحكم بمصير الجنين في المستقبل الخفي.

حقا إنه لكشف مدهش،إن هذا الكشف-إن لم يكن وحيا من اللّه تعالى- فإنه يحتاج إلى كثير من الوقت و العديد من الاختصاصيين المتمرّسين ليفهموا تلك الأحداث،و إلى تقنيات متطوّرة للغاية؛و هذا الوقت و تلك التقنيات لم تكن متوفرة للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأنه كان مشغولا بالدعوة و تنظيم الأمة الإسلامية على أحسن حال، إضافة إلى أنه لم يمارس في حياته نشاطا علميا قط في هذا المجال كما سجّل التاريخ (فهو عليه الصلاة و السلام اشتغل برعاية الغنم،ثم بالتجارة قبل البعثة،و من ثمّ تفرّغ لأعباء الدعوة).و كان أمّيا كما أخبر بذلك القرآن،و كما يظهر لنا من خلال رواية حادثة بدء الوحي.

و في المقاطع اللاحقة سنقارن-إن شاء اللّه-بين ما بيّنه اللّه عزّ و جلّ على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم،و بين الاعتقادات السائدة في عصره في مختلف مراحل تخلق الجنين(و التي قلبها رأسا على عقب).هذا من جهة،و من جهة أخرى بين ما اكتشفه

ص: 48

مجموعة من العلماء بعد قرون عديدة بواسطة آلات ذات تقنية (1)عالية(كان أولها في القرن السابع عشر،و آخرها في القرن العشرين)لندرك مدى إعجاز الكشف الرباني على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و حتى نزداد يقينا أنه وحي من عند اللّه عزّ و جلّ.ا.

ص: 49


1- إن كلمة«تقانة»هي القياس اللغوي الصحيح،و لكننا سنستعمل كلمة«تقنية»في البحث لأنها هي الشائعة في عصرنا هذا.

التحدّي

إن من قرأ و تأمّل في تاريخ دعوة الأنبياء-عليهم الصلاة و السلام-للناس لاحظ أن دعوتهم كانت حافلة بالتحدي،فعامة الناس لا يؤمنون بالرسل إلا إذا رأوا منهم آيات أو معجزات تدل على صدق نبوتهم.

فعلى سبيل المثال:لم يؤمن السحرة بنبوة سيدنا موسى عليه السّلام إلا عند ما رأوا العصا تتحول إلى حية،و إلا حينما عاينوا يده تشع نورا...و كذلك قوم سيدنا صالح عليه السّلام لم يؤمنوا إلا عند رؤيتهم الناقة العملاقة تخرج من الحجر...و قوم سيدنا عيسى عليه السّلام إلا عند معاينتهم له يحيي الموتى بإذن اللّه،و يشفي الأكمه و الأبرص بإذن اللّه...إلخ ما ورد من القصص العديدة المروية في القرآن الكريم، و العهد القديم و العهد الجديد،و كتب الرواية و كتب التاريخ البشري.

و عند ما بعث الرسول-صلوات اللّه و سلامه عليه-تحداه قومه كالعادة، و طالبوه بأن يأتي بالمعجزات و بالآيات التي تدل على اصطفائه صلّى اللّه عليه و سلّم من قبل اللّه عزّ و جل كما حكى عنهم القرآن الكريم: وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه:133]،أو كقوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً(93) [الإسراء:90-93]فقبل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هذا التحدي بإذن من رب العالمين، و تحققت المعجزات و تنوعت على يده؛فكان منها:المعجزات الإخبارية كحادثة وصفه لبيت المقدس و هو صلّى اللّه عليه و سلّم في مكة و ذلك في حادثة الإسراء و المعراج،و حادثة الإخبار بأن الأرضة أكلت الصحيفة التي تعاهد فيها كفار مكة على مقاطعة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بني هاشم،و استثنائها لأسماء اللّه تعالى التي كتبت عليها.

و من المعجزات أيضا معجزات حسّيّة كنبع الماء من أصابع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و كإعادته عين مقاتل إلى مكانها بعد أن اقتلعت،و ككسر كدية عظيمة-أي صخرة صلبة من الأرض لا تعمل فيها الفأس-عجز الصحابة عن كسرها،بثلاث ضربات حتى عادت كالكثيب-أي كالرمل المتجمع-،و كالبركة في الطعام حتى إن الطعام

ص: 50

الذي دعا إليه جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو طعام يكفي لرجلين فقط،كفى ألفا من الصحابة،و بقي بقيّة منه..إلخ.

و لما كان الرسل قبل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم يبعثون إلى أقوامهم خاصة،و لأزمنة محدودة فقد أيدهم اللّه ببيّنات حسية كما رأينا،و تستمر هذه البينات الحسية محتفظة بقوة إقناعها في الزمن المحدد لرسالة كل رسول،حتى إذا تطاول الزمن و تقادم و تكدّر نبع الرسالة الصافي،اختفت قوة الإقناع الحسية،و بعث اللّه رسولا آخر بالشريعة التي يرضاها و بمعجزة جديدة و ببينة مشاهدة.و لما ختم اللّه النبوة بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم ضمن له حفظ دينه،و ذلك بأن أيّده بمعجزات معنوية تنكشف في المستقبل،لكي يؤمن بها المتأخرون من الأمم،فتبقى البينة الكبرى بين أيدي الناس قائمة إلى قيام الساعة (1).

قال اللّه تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51) [العنكبوت:50-51]،فهذه الآيات تعلمنا أن اللّه تعالى أجاب طلب قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لآيات يؤمنون من خلالها بأن القرآن الكريم هو خير دليل على صدقه صلّى اللّه عليه و سلّم،بما فيه من معجزات معنوية.

و قوة هذه البينة هي أنها تدحض ادعاءات من افترى،و ادعى كذبا أن سيدنا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم استفاد من العلوم المتوافرة في عصره لتأليف القرآن.

فبإظهار الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم معلومات لم تكن معروفة في عصره،و هي من اختصاص علم اللّه تعالى،تنقطع الحجة بأن الرسول-عليه أفضل الصلاة و التسليم-قد استفاد و تعلم من الأمم التي عاصرها،و بهذا لا يستطيع أحد أن ينفي أن معلوماته مستقاة من خالق الإنسان،و هذه الآيات التي فيها الإخبار بما لم يكن معروفا في زمنه هي من علم اللّه،و ستبقى منار هدى،و سبيل معرفة بأن القرآن هو كلام اللّه لكل إنسان في كل زمان و مكان.].

ص: 51


1- قد يعترض بعض الناس أن هناك أشخاصا تنبّئوا ببعض الأمور في الكون و حدثت،نعم قد يحدّث بعض الناس بأمور ستحدث في المستقبل و تقع،و لكنهم أيضا يحدّثون بأمور كثيرة و لا تقع،بل يحدّثون بخلاف الواقع،و هذا يطعن في الشخص:في نبوءته و في أقواله.أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأقواله و أحاديثه صحيحة السند عن الأمور الكونية دائما مصيبة كما سنرى في«قسم تخريج الأحاديث و صلتها بالإعجاز العلمي»،و تتحدث عن الواقع الكوني كما هو،دون تحليل ذهني و عن تجربة،بل هو إعلام من اللّه تعالى فقط،فقد قال اللّه تعالى: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113].

قال تعالى: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً [النساء:166].

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (1):«أنزله بعلمه،أي:فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات و الهدى و الفرقان،و ما يحبه اللّه و يرضاه و ما يكرهه و يأباه،و ما فيه من العلم بالغيوب من الماضي و المستقبل».

و هكذا يسطع نور الوحي المنزل على سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بيّنا،بما نزل فيه من علم إلهي يدركه الناس في كل زمان و مكان متجددا على مر العصور،و لم يتأتّ ذلك لسائر النبيين-عليهم السلام-،و لذلك قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر،و إنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إليّ،فأرجو أنّي أكثرهم تابعا يوم القيامة»[أخرجه البخاري ح 10].

و في القرآن توجد إشارات كثيرة إلى كشوفات علمية سيرفع عنها اللثام في المستقبل،و سوف تبقى ظاهرة متجددة إلى قيام الساعة،و هذه الأنباء موجودة في القرآن،و لكن حقائقها و كيفياتها لا تتجلى إلا بعد حين،قال اللّه تعالى: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ(87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88) [ص:87-88].

قال الفرّاء-من علماء اللغة-في تفسير الحين:إنه«بعد الموت و قبله..

أي في المستأنف» (2).

و ذهب السّدّي الكبير-من التابعين-إلى هذا المعنى (3).

و قال ابن جرير الطبري في تفسيره:«إن اللّه أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحدّ...و لا حدّ عند العرب للحين» (4).

و شاء اللّه أن يجعل لكل نبأ زمنا خاصا يتحقق فيه هذا النبأ،فإذا تجلى الحدث ماثلا للعيان أشرقت تلك المعاني التي تدلّ عليها الحروف و الألفاظ في القرآن،و في هذا الباب قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67].

و يبقى النبأ الإلهي محيطا بكل الصور التي يتجدد ظهورها عبر القرون،قال ابن).

ص: 52


1- تفسير ابن كثير-(ج /1ص 589).
2- تفسير القرطبي-(ج /15ص 231).
3- البحر المحيط لأبي حيان-(ج /7ص 411).
4- تفسير الطبري-(ج /23ص 121).

جرير الطبري في تفسيره:«لكل خبر مستقر،يعني قرارا يستقرّ عنده و نهاية ينتهي إليه فيتبين حقّه و صدقه من كذبه و باطله» (1).

و قال الطبري أيضا:«يقول:و سوف تعلمون أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به» (2).

و قال ابن كثير في تفسيره:«أي لكل خبر وقوع،و لو بعد حين،كما قال تعالى: وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]و قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد:38]» (3).

و إلى هذا ذهب كثير من المفسرين (4).

و من هذا الباب أيضا قوله تعالى: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [النمل:93].

قال أبو حيان في البحر المحيط:« سَيُرِيكُمْ آياتِهِ :تهديد لأعدائه بما يريهم اللّه من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها و الإقرار أنها آيات اللّه» (5).

و إشارة أخرى من اللّه عزّ و جلّ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].

قال القرطبي في تفسيره للآية (6):«و المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من المعجزات و ما جعله له» (7).].

ص: 53


1- تفسير الطبري-(ج /7ص 147).
2- تفسير الطبري-(ج /7ص 147).
3- تفسير ابن كثير-(ج /2ص 143).
4- تفسير القرطبي-(ج /7ص 11)،فتح القدير للشوكاني-(ج /2ص 128)،تفسير الرازي-(ج /7 ص 25،26)،محاسن التأويل للقاسمي-(ج /6ص 112)،تفسير أبي السعود-(ج /7ص 239)،نظم الدرر للبقاعي-(ج /16ص 435).
5- البحر المحيط لأبي حيان-(ج /7ص 103).
6- تفسير القرطبي-(ج /11ص 289).
7- و الدليل على أن هذه الآية تشير إلى الإعجاز العلمي في العلوم الكونية أنها أتت بعد الحديث عن ظواهر كونية كان فهمها ضربا من الغيب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و هي الآن محط أنظار العلماء الكونيين و الإسلاميين لإثبات إعجازها،مثل ظاهرة الانفجار الكوني العظيم كما في قوله: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء:30]،و أن كل شيء خلق من ماء وفقا للآية وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]،و أن الجبال تحفظ الطبقة الأرضية الخارجية من الانزلاق وفقا للآية وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء:31]،و أن الأرض و القمر يدوران في فلك كما جاء في الآية وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33]،و من الجدير بالذكر أن النص القرآني موجه إلى الكفار،حتى يؤمنوا بعد أن يروا مطابقة الحقائق الكونية لمعاني الآيات القرآنية كما أشارت إليه الآية أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما... [الأنبياء:30].

و من المعجزات التي تتحدث عن المستقبل على سبيل المثال،ما قاله صلّى اللّه عليه و سلّم عما سيحل بأمته في آخر الزمان في الحديث:«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.قيل:أو من قلة نحن يومئذ يا رسول اللّه؟قال:بل إنكم يومئذ كثيرون و لكنكم كغثاء السيل،و لينزعن اللّه من قلوب عدوكم المهابة،و ليقذفن في قلوبكم الوهن،قيل:و ما الوهن يا رسول اللّه؟قال:حب الدنيا و كراهية الموت» [أخرجه أبو داود ح 11].

و من الأمثلة المستقبلية أيضا،ما جاء في القرآن عن كشف أسرار طبيعة الإنسان، و الذي سيكشفه العلم في المستقبل مصداقا لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].

و السين في قوله تعالى سَنُرِيهِمْ للاستقبال،و هي قرينة تدلّ على أن الفعل المضارع للاستقبال.

و الأفق:ما ظهر من نواحي الفلك و أطراف الأرض،و آفاق السماء:نواحيها (1).

قال الشوكاني عند تفسيره الآية:«سنريهم دلالات صدق القرآن،و علامة كونه من عند اللّه في الآفاق-أي في النواحي-و في أنفسهم».. (2).

و لقد وردت في القرآن الكريم-في عدة مواضع-آيات تؤكد على أن اللّه يعلم ما يجري في الأرحام،مثل:

*قال العليم الحكيم: وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ... [فاطر:

11].

*قال عزّ و جلّ: وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان:34].

قال سبحانه و تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ... [آل عمران:6].

*قال علاّم الغيوب: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى... [الرعد:8].).

ص: 54


1- مقاييس اللغة لابن فارس-(ج /1ص 114-115)،لسان العرب لابن منظور-مادة«أفق»-(ج /1 ص 164)،الصحاح للجوهري-(ج /4ص 1446)،تاج العروس لمحمد مرتضى-مادة«أفق»-(ج /1 ص 6)،المفردات للأصفهاني-ص 79.
2- فتح القدير للشوكاني-(ج /4ص 523).

*قال جلّ ذكره: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ... [النجم:32].

و تعدد إيراد هذه الآيات قد يكون للدلالة على مدى صعوبة كشف الأحداث المنوطة بتخلق الجنين في رحم الأم،و على مدى إعجازه،و لم تقتصر الآيات على التشديد على هذا الأمر بل تعدته لتعلن أن اللّه أعلم من الناس أنفسهم بتخلقهم، فلما ذا هذا التأكيد؟:وحدهم علماء الأجنة يستطيعون الإجابة على هذا السؤال؛ و ذلك لأن الرحم غير بارز،بل هو واقع في وسط الجسم،و من الصعب معرفة ما يجري فيه في مراحل تخلق الجنين الأولى إلا بواسطة المجاهر الإلكترونية التي لم تكن موجودة في عصر النبوة.فالجنين الذي يدور الكلام عليه لا يبلغ طوله أكثر من 1 ملم في مراحله الأولى و 13 ملم بعد تخلّقه و لا مجال لرؤية تفاصيله في الرحم إلا بواسطة تلك المجاهر المتطورة.

إن المعجزات الإخبارية الغيبية أقوى من المعجزات الحسية بالنسبة لعصرنا، ذلك لأن الإنسان يفتقد السيطرة على الأمور غير المرئية،و لا مجال لديه للاطلاع عليها أصلا،و لذلك كان حقا على ابن آدم أن يؤمن إذا أبلغ بها.

ص: 55

بدء الخلق

*قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كل شيء خلق من ماء»[أخرجه أحمد ح 12].

*قال اللّه عزّ و جلّ: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ... [الحج:5].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض...»[أخرجه الترمذي ح 64].

*قال اللّه علام الغيوب: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7].

*قال العليم الحكيم: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12].

*قال الخالق سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].

*قال الواحد الأحد: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26].

*قال اللّه البارئ المصور: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14].

*قال اللّه العليم الحكيم: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17].

و قبل الخوض في موضوع«تخلّق الجنين في الرحم»،نود إلقاء نظرة على مسألة بداية الخلق:فمن هذه النقطة ابتدأ خلق الإنسان،و من هذا الباب خرج الإنسان إلى الوجود،و كان بالتالي أول الأسباب لإيجاد الأجنّة في الأرحام،و من هذه النقطة نستطيع النظر عن كثب إلى المادة التي خلقنا منها لكي يصبح الموضوع متكاملا،واضحا،مترابطا فيما بينه.

من الأمور التي لا مجال للنقاش فيها:مسألة خلق سيدنا آدم عليه السّلام،فلم يشاهد أحد ذلك و لا يستطيع أحد أن يزعم أن هناك آلة خاصة أو منهجية محددة تخلّق منها الإنسان الأول،و ذلك لأن هذا العلم و الخلق من اختصاص اللّه سبحانه و تعالى و من دلائل قدرته،فهو القائل: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].و لكن ما نستطيع أن نتعرف عليه هو المادة التي خلق منها سيدنا آدم عليه السّلام؛صفاتها،و مستلزماتها لكي تصبح مادة حيّة-أي مادة مكوّنة من خلايا-مهيّئة لتقبّل الروح بإذن من رب العالمين وفق السنن الكونية التي وضعها اللّه عزّ و جلّ.

ص: 56

و لا بد من ركيزة لهذه المعرفة،و هذه الركيزة لا بد من أن تتلقّى من رب العالمين؛فهو الخالق،و هو الأعلم بالمخلوقات التي خلقها،فهو القائل: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

هذه الركيزة هي آيات اللّه سبحانه و تعالى في كتابه الكريم و التي ذكرناها سابقا.

من هذه الآيات تتوضح لنا عدة أمور:

أولا:أن من عناصر المادة التي خلق منها سيدنا آدم عليه السّلام:الماء،كما في قول اللّه سبحانه و تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] و كما في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كل شيء خلق من ماء»[أخرجه أحمد ح 12].

ثانيا:أن العنصر الثاني الذي كوّنت منه هذه المادة هو:التراب كما في قول اللّه سبحانه و تعالى: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ... [الحج:5]و في قول الرسول-عليه الصلاة و السلام-:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض...» [أخرجه الترمذي ح 64].

فإذا اجتمع التراب و الماء أصبحا طينا،و هذا ما أكده اللّه تعالى في قوله:

وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ... [السجدة:7]و كان هذا الطين رخوا لزجا،كما قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].قال الطبري:«و إنما وصفه باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء» (1).

و من صفات هذا الطين أنه أسود،أو أن صفاته تتغير إلى أن يصبح الطين مائلا إلى السواد،كما في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]،جاء في تاج العروس:«حمأ:الحمأة بفتح فسكون:الطين الأسود المتغيّر» (2)،و قال القرطبي:«(الحمأ):الطين الأسود...و(المسنون):المتغيّر» (3).».

ص: 57


1- صفوة التفاسير لمحمد علي الصابوني-تفسير سورة الصافات-(ج /3ص 29).
2- تاج العروس-مادة حمأ-(ج /1ص 140).
3- تفسير القرطبي-(ج /10ص 21)،و جاء في تفسير الألوسي-(ج /3ص 21)للآية: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها [البقرة:259].« لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة،و قيل:أصله لم يتسنن و منه-الحمأ المسنون-أي الطين المتغير و متى اجتمع ثلاثة حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظنّنت:تظنيت و في تقضّضت:تقضيت». و جاء في تفسير أبي السعود-(ج /5ص 239):« وَجَدَها أي الشمس تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:86]أي ذات حمأة و هي الطين الأسود،من حمئت البئر إذا كثرت حمأتها..».

و من صفات هذا الطين أيضا أنه منتن.عن ابن عباس و مجاهد:أن الحمأ المسنون هو المنتن (1).

جاء في لسان العرب:«و المسنون:المنتن» (2).

و من صفات هذه المادة أنها ليّنة بحيث نستطيع أن نصقلها صقلا،و أن نلمسها بسهولة لكي نصوّرها.

جاء في لسان العرب:«المسنون:المصقول من سننته بالمسنّ سنّا،إذا مرّرته على المسن،...و المسنون المصور و قد سننته أسنّه إذا صوّرته،المسنون المملس...و سنّ عليه الماء صبه و قيل أرسله إرسالا ليّنا،...و السنّ الصب في سهولة» (3).

و الآن بعد أن سردنا عناصر هذه المادة و صفاتها،نأتي إلى الحديث عن شروط عملية التكوين هذه التي وضعها سبحانه و تعالى.

نستخلص أول شرط من الآية الكريمة التالية: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14]،أي خلق أباكم آدم من طين يابس يسمع له صلصلة،أي:

صوت (4).

فإذا كان التراب معجونا بالماء كما أسلفنا القول فكيف يذكر الآن أنه يابس؟.

الجواب هو أن هذا الطين تعرض للحرارة حتى جف،و الدليل على ذلك قوله تعالى:

مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ ،فالفخار يستلزم حرارة عالية ليصبح على ما هو عليه (5).».

ص: 58


1- تفسير ابن كثير-تفسير سورة الحجر-(ج /2ص 550).
2- لسان العرب لابن منظور-مادة«سنن»-(ج /6ص 401).
3- لسان العرب لابن منظور-مادة«سنن»-(ج /6ص 395).
4- صفوة التفاسير-تفسير سورة الرحمن-(ج /3ص 295).
5- و مما يشير إلى أن الطين تعرّض لحرارة عالية هو ما جاء في تفسير أبي السعود-(ج /5ص 239):« وَجَدَها أي الشمس، تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة،و هي الطين الأسود من حمئت البئر إذا كثرت حمأتها، و قرئ حامية أي حارّة.روي أن معاوية قرأ(حامية)و عنده ابن عباس رضي اللّه عنهما فقال:(حمئة)،فقال معاوية لعبد اللّه بن عمرو بن العاص:كيف تقرأ؟قال:كما يقرأ أمير المؤمنين،ثم وجه إلى كعب الأحبار:كيف تجد الشمس تغرب؟قال:في ماء و طين.و روي في ثأط فوافق قول ابن عباس رضي اللّه عنهما،و ليس بينهما منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين».

أما الشرط الثاني فيتجلى لنا من الآية: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:

17] (1)،قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية:«و أنشأكم من الأرض كما يخرج النبات» (2):أي أنبتكم من الأرض بالطريقة التي اتّبعت لإنبات النبات،و بالتالي فإن الطريقة المرموز إليها هي عملية(التمثيل الضوئي PHOTOSYNTHESIS )و اللّه تعالى أعلم،و ذلك أن النبات يعتمد خلال نموّه على عملية التمثيل الضوئي بحيث يحول بواسطتها مادة(ثاني أوكسيد الكربون 2CO )و مادة الماء إلى(مواد عضوية ORGANIC COMPOUNDS )(كمادة النشاء STARCH )و مادة الأوكسيجين من خلال مادة لونها أخضر(في الغالب)تسمى(كلوروبلاست CHLOROPLAST )موجودة داخل خلايا نسيج النبات الأخضر مستعينا بالطاقة الشمسية التي يلتقطها لاقط للضوء لونه أخضر هو الآخر يسمى(الكلوروفيل CHLOROPHYLL )موجود بدوره داخل مادة الكلوروبلاست (3).و الحاصل أن الكلوروفيل يلتقط الطاقة الشمسية و يستعملها لكسر ذرات الماء في النبات إلى أوكسيجين و هايدروجين،فأما الأوكسيجين فيطلقه النبات في الهواء و أما الهايدروجين فيستعمل لتحويل ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء إلى نشاء و سكر نباتي (4).و بالتالي فإن الكلوروفيل يعتبر المولّد للطاقة، و السبب الأول لحصول عملية التمثيل الضوئي و لإيجاد المواد العضوية،ى.

ص: 59


1- من المهم أن ننوّه إلى أن هذا البحث عامة،و الشرط الثاني خاصة غير قطعي،لأننا نعتمد على دلالات الآيات القرآنية و الحديثية،و ليس هناك علم كوني يقيني يثبت ما أشرنا إليه،فنحن لم نشاهد خلق سيدنا آدم عليه السّلام،و بالتالي لا نستطيع أن نجزم بالتفسير المشار إليه أعلاه،غير أننا نرجحه لأن الأدلة تعضد بعضها بعضا،و لا تعارضها المعطيات العلمية.
2- صفوة التفاسير-تفسير سورة نوح-(ج 3 ص 453).
3- GROLLIER MULTIMEDIA ENCYCLOPEDIA \ SCIENCES \ LIFE SCIENCES \ BOTANY\ PLANT STRUCTURE AND PHYSIOLOGY \ CHLOROPHYLL PHOTOSYNTHESIS .
4- قد يعترض بعض القرّاء أن الإنسان-في عصرنا و العصور التي مضت-لم يكن لديه أجهزة نمو النبات مثل الكلوروفيل و الكلوروبلاست-و بالتالي فإن نظرية خلق المادة الحيّة للإنسان-الخلايا-بواسطة التمثيل الضوئي باطلة.غير أنه نود التذكير أن عدم وجود هذه الأجهزة لدى الإنسان الحالي لا تنفي ابتداء الخلق باستعمال عملية التمثيل الضوئي و ذلك أنه لا يشترط أن يحتفظ الإنسان بهذه الأجهزة بعد أن يستغني عنها، فقد تتغيّر طبيعة المادة التي تخلقت بواسطة هذه الأجهزة بعد الفراغ منها دون أن تتغيّر صورة الإنسان الخارجية،و ذلك أن اللّه تعالى-كما نعلم-قد خلق آدم عليه السّلام على صورته وفقا للحديث:«خلق اللّه آدم على صورته طوله ستّون ذراعا»[أخرجه البخاري ح 107]،أي أنه خلقه على صورته التي وجد عليها دون أن ينتقل في أطوار تمسّ صورته،بل تؤثّر على مادته؛فلا خلاف لدى العلماء أن مادّة سيدنا آدم عليه السّلام مرّت بعدّة أحوال إلى أن صارت على ما هي عليه،و بالتالي فقدت تركيبتها الأولى.

و الكلوروبلاست السبب الثاني و العملي لتصنيع البروتين النباتي،و كلاهما أخضر(ما عدا عددا قليلا من أنواع الكلوروبلاست).و الدليل على أن الآية وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17]تشير إلى عملية التمثيل الضوئي هي الآية: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً [الأنعام:99].فهذه الآية تتكلم عن نمو النبات على وجه عام،و قد أشارت إلى المادة الخضراء(من خلال إيراد كلمة«خضرا»)التي يتخلق منها النبات.و الهاء التي جاءت في الجملة: خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ تعود لكلمة«خضرا»و ذلك أن الضمير في اللغة العربية يعود لأقرب مذكور له (1)،و وظيفة كلمة«من»التي جاءت في اللفظ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ هي ابتداء الغاية (2)،و بالتالي فإن معنى الآية على النحو التالي: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً (نخرج بدءا من هذا الخضر حبا متراكبا...)،و كما رأينا سالفا فإن المواد العضوية تتخلق بدءا من المواد الخضراء:الكلوروفيل و الكلوروبلاست من خلال عملية التمثيل الضوئي، (و بالتالي فإن عملية الإنبات التي وردت في الآية رقم 17 من سورة نوح ترتكز على عملية التمثيل الضوئي التي تحصل في«المادة الخضراء»التي ذكرتها آية رقم 99 من سورة الأنعام)كما أثبته العلم الحديث و كما أشارت إليه الآيات القرآنية.و الإشارة إلى هذه المادة هو إعجاز بحد ذاته،لأن هذه المادة الخضراء غير مرئية،حيث إن حجمها يتراوح بين أربعة إلى ستة ميكرون طولا(و الميكرون هو واحد على الألف من المليمتر)،و واحد إلى اثنين ميكرون عرضا،و لم يكتشفها العلماء إلا في القرن التاسع عشر على يد العالمين(هيوغوفون موهل HUGO VON MOHL )و(جوليوس فان ساش JULIUS VON SACHS ).أي بعد حوالي ألف و مائة سنة تقريبا!!!.

نستنتج إذا أن تكوين و خلق سيدنا آدم عليه السّلام استلزم التالي:

1-الماء.

2-التراب.».

ص: 60


1- راجع الحاشية رقم 3،ص 137 في مبحث«اختلاط عروق النطفة».
2- راجع مبحث«النطفة/النطفة».

3-كون الطين رخوا لزجا في بادئ الأمر.

4-كون الطين قريبا إلى السواد.

5-كون الطين منتنا.

6-خضوع الطين للحرارة العالية.

7-كون الطين ليّنا صالحا للصقل،و للتصوير.

8-عملية(التمثيل الضوئي)في عملية تخلّق المادة الحيّة أو الخلايا.

قبل بدء البحث في الشروط التي استخلصناها من الآيات و الأحاديث الشريفة التي أسلفنا ذكرها نود أن نلفت نظر القارئ إلى أن الإنسان يتغذى و يتكون من خلاصات الطعام،و الطعام إما أن يكون من مصدر نباتي أو من مصدر حيواني، و المصدر الحيواني يتغذى و يتكوّن على المصدر النباتي،و النبات ينبت من الأرض، و بالتالي فإن سلالته من طين.

لنر الآن ما ذا يقول العلم الحيوي في صدد الشروط التي ذكرناها سابقا:

يفيد العالم في(علم التبيؤ ECOLOGY SCIENCE )(و هو علم الأحياء الذي يدرس العلاقات بين الكائنات الحية و بيئتها)(دايفد أتامبورو DAVID ATTENBOROUGH ):«إنه مما لا شك فيه أن أساس تركيبات البروتينات مثل (الحامض الأميني AMINO ACID )و(الحامض النووي NUCLEIC ACID ) و السكريات و غيرها قد تكونت في البحار في بادئ التاريخ» (1)معتمدا على بعض التجارب المخبرية التي أجريت عام 1950 م.و هذا ما يؤكد أن كل شيء حي خلق من الماء مصداقا لقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]و ذلك لأن تلك الذرات(أي الحامض الأميني و غيره)هي أساس تركيبات الكائنات الحيّة.

و يفيد عالم التبيؤ دايفد أتامبورو أيضا أن أبسط صور للكائنات الحية مثل البكتيريا،و(الطحالب الزرقاء و الخضراء BLUE-GREEN ALGAE )،و(البروتوزوا PROTOZOA )الآحادية الخلية تعيش في الماء و تحتاج لعملية(التمثيل الضوئي)لكي تبقى على قيد الحياة.(انظر الصورتين رقم:14-15)،و هذا ما يؤكد أن الخلايا أو المادة الحيّة تعتمد على العملية التي تمتاز بها النباتات خلال تكاثرها،و هكذا نفهم لما ذا قال اللّه تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17].2.

ص: 61


1- (كتاب الحياة على الأرض،دايفد أتامبورو LIFE ON EARTH,DAVID ATTENBOROUGH )، ص 19-22.

> CS <

ص: 62

و بما أنه كان من المتعذر علينا مشاهدة حادثة خلق أبينا آدم عليه السّلام،فالطريقة الوحيدة التي تتيح لنا أن نتحقق عمليا من النقاط التي أوردناها أعلاه هي إيجاد وسط اصطناعي مخبري يخضع للشروط التي أسلفنا ذكرها،أو النظر إلى وسط طبيعي يمتاز بهذه الشروط لنرى مدى تشابه حصيلة اجتماع تلك المستلزمات بالشروط المرموز إليها في القرآن الكريم.

و بما أنه من المتعذر علينا في عصرنا هذا صناعة خلايا معقدة في وسط مخبري يتصف بالشروط التي أتينا على ذكرها،فقد اخترنا النظر عن كثب إلى وسط طبيعي يتصف إلى حد ما بالشروط التي ذكرناها آنفا،من غير أن نحدد أو نجزم بالمكان الذي خلق فيه الإنسان الأول.

يشير العالم دايفد أتامبورو (1)إلى منطقة تقع في الولايات المتحدة تسمى:

منطقة(يالوستون YELLOWSTONE )في ولاية(وايومينغ WYOMMING )،يقول:

إن هناك الكثير من البكتيريا التي تتولد في هذه المنطقة البركانية ذات الصخور المائعة -أي الطين-(انظر الصورة رقم:16)،و من هنا نفهم لما ذا قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].

و يتفجر من هذه الصخور الماء مصداقا لقول اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]،و هذه المياه ذات حرارة عالية لأنها تنبع وسط أرض بركانية، مما يطابق المعطيات القرآنية في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14]،و من هذه الصخور تفوح رائحة البيض المعفن الناتجة من رائحة الهيدروجين الكبريتي(الذي يتولد من تفاعل الكبريت المعدني مع المياه الجوفية) و التي تعتمد عليه تلك الكائنات الحية في غذائها و تكاثرها،و هذه الصخور ليّنة بحيث إن لها القابلية على أن تنصقل و تملّس«فأكثر أنواع الكبريتيد ليّنة» (2)،و تلك الصفات تحدّث عنها القرآن في الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:

26]،أي من طين منتن كما فسره ابن عباس رضي اللّه عنهما و مجاهد رحمه اللّه،و هذا الطين له القابلية على أن ينصقل بسهولة كما جاء في لسان العرب:«المسنون:المصقول...

المسنون:المملّس...و سنّ عليه الماء:صبه،و قيل:أرسله إرسالا ليّنا،و السن:).

ص: 63


1- كتاب الحياة على الأرض،دايفد أتامبورو،ص 20.
2- 5991,GROLIER MULTIMEDIA ENCYCLOPEDIA ،(باب الكبريت المعدني SULFIDES MINERALS ).

> CS <

(16)-تتوالد البكتيريا في منطقة(يالوستون Yellowstone )في أمريكا و هي منطقة بركانية ذات حرارة عالية.

الصب في سهولة» (1).و هذه الصخور تميل إلى السواد لأنها من مشتقات الكبريت المعدني مما يفسر قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ... [الحجر:

26]،أي من الطين المتغير إلى السواد،«فالكبريتية يأتي في عدة ألوان حسب صفائه من الشوائب،و لكن الصفرة و السواد المعدني و السخامي(أي القاتم)يغلب عليه» (2).).

ص: 64


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«سنن»-(ج /6ص 398-399-401).
2- 5991,GROLIER MULTIMEDIA ENCYCLOPEDIA، (باب الكبريت المعدني SULFIDES MINERALS ).

يقول الدكتور محمد علي البار (1):«و يقول العلم الحديث إن نشأة الحياة كانت من الطين الآسن..طين المستنقعات التي تتصاعد منه الغازات الكريهة الرائحة..

و هي غاز(الميثان METHANE )و(غاز كبريتور الهيدروجين H2S )و غاز النشادر (الأمونيا AMMONIA )و ترى صورة ضخمة في قاعة المتحف الطبيعي بلندن تصور كيف تجمعت هذه الغازات المنتنة من الحمأ المسنون لتكوّن الأحماض الأمينية ثم كيف تطورت هذه لتكوّن البروتينات و أهمها الحامض النووي الذي به سر الحياة».

و من هذه النقاط نرى توافق المعطيات العلمية مع المعطيات الدينية على النقاط السبع المنطوية في الآيات القرآنية أ لا و هي:الماء،التراب،أن يكون الطين مائعا، أن يكون التراب قريبا إلى السواد،أن يكون التراب منتنا،أن يخضع التراب للحرارة العالية،و أن تستعمل عملية التمثيل الضوئي في عملية تكاثر الخلايا.7.

ص: 65


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البار،ص 17.

تعريف الأطوار

*قال عزّ و جلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً(13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً(14) [نوح:13-14].

*قال العليم الحكيم: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ...

[الزمر:6].

إن التخلق الإنساني معقد للغاية؛و ذلك لأن تركيبة الإنسان البيولوجية و صورته تختلف و تتغير مع مرور الوقت،لذلك إذا أراد الإنسان أن يفهم تطور الجنين في رحم أمه،فإن أفضل طريقة لذلك هو أن يقسم تطور الجنين إلى عدة مراحل محددة بأوقات زمنية،و لها مميزات خاصة تدل على ما يطرأ عليها من تغييرات على الجنين.

و الطّور لغة:هو الحال أو الهيئة (1).

و من هذا التفسير نفهم أن الآية السابقة تعني: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً (-أي عظمة و جلالا-و قد خلقكم على هيئات).

و بما أن لفظ طور أتى في صيغة الجمع فقد دلّ ذلك على أن الهيئات مختلفة.

يؤكد هذا المفهوم الآية الثانية في قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ... [الزمر:6]،فعبارة«خلقا من بعد خلق»تنص على أن خلقا جديدا يضاف إلى خلق آخر قد تم من قبل،أو بعبارة أخرى إلى طور جديد قد حدث.

و لمزيد من التفسير نورد ما جاء في تفسير الألوسي:«و صيغة المضارع للدلالة على التدرج و التجدد،و قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ مصدر مؤكد إن تعلق من بعد بالفعل،و إلا فغير مؤكد،أي:يخلقكم فيها خلقا مدرجا حيوانا سويا،من بعد عظام مكسوة لحما،من بعد عظام عارية،من بعد مضغة غير مخلقة،من بعد علقة، من بعد نطفة،فقوله سبحانه: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين..» (2).

و بالفعل سوف يتيقن القارئ عبر قراءته للكتاب أن الجنين يمر بمراحل مختلفة.

ص: 66


1- المعجم الوسيط-مادة«طار»-(ج /2ص 569).
2- تفسير الألوسي-(ج /23ص 241).

و لقد فهم بعض فقهاء الصحابة رضوان اللّه عليهم المفسرين للقرآن معنى هذه الآيات:جاء في تفسير القرطبي تفسيرا لكلمة«أطوارا» (1):«قال ابن عباس:أطوارا يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة»و هو يشير بذلك-كما سنراه لا حقا-إلى مراحل تخلق الجنين التي وردت في الآية الكريمة: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14].

و ورد في تفسير القرطبي تعليقا على عبارة خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ (2):«قال قتادة و السدي:نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما».

و تجدر الإشارة هنا إلى أن أول من اكتشف أن تطور الجنين يمر في مراحل هو (أرسطو ARISTOTLE )في القرن الرابع ق.م،من خلال أبحاثه على الدجاج.غير أن هذه الأبحاث لم تكن هامة لسببين:

الأول:أنه لم يعط تفاصيل عنها.

و الثاني:أن المراحل الابتدائية للدجاج لا تنطبق على المراحل الأولى للتخلق البشري.و ظل بعدها العلم المختص بتقسيم تخلق الجنين إلى أطوار ضعيفة للغاية حتى القرن العشرين.و في أواسط القرن السابع عشر اكتشف المجهر،و قد أدى هذا التطور إلى اكتشاف الحيوان المنوي،و اعتقد العلماء في ذلك الحين أن كل حيوان منوي يحمل كائنا بشريا في داخله،(كما أشرنا إليه سابقا في مبحث«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»).و في عام 1675 م ظن العالم مالبيجي-الذي يعتبر أبا لعلم الأجنّة الحديث-أن بيضة الدجاج غير المخصّبة تتضمن شكلا مصغرا لدجاجة،على إثر دراسته لبيضة دجاجة غير ملقحة.

إن الصورة التي كانت سائدة لدى سائر العلماء هي أن الحيوان المنوي أو البويضة يحمل كائنا بشريا دقيق الحجم و أن التخلق الإنساني ليس إلا زيادة في الحجم لصورة واحدة تتسع أبعادها مع مرور الوقت(كما أشرنا إليه سابقا في مبحث:

«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»)،غافلين عن أن تخلق الجنين يمر بمراحل مختلفة،و لم ينته الجدل بين العلماء إلا عام 1775 م عند ما أثبت(اسبالانزاني SPALLANZANI )أهمية كل من الحيوان و البويضة في عملية التخلق.).

ص: 67


1- تفسير القرطبي-(ج /18ص 303).
2- تفسير القرطبي-(ج /15ص 236).

و كانت هذه الحادثة انطلاقة جديدة لمفاهيم تخلق الأغشية الجنينية التي وضع أسسها(فون باير VON BAER )عام 1827 م مشيرا إلى مراحل تطور الجنين،بيد أن أول محاولة لوصف مراحل تخلق الجنين ظهرت عام 1914 م على يد(مول MOOL ) و من ثمّ ابتدأ وصف المراحل الجنينية يتطور على أيدي العلماء إلى يومنا هذا أمثال (ستريتر STREETER )و(أورايلي OREILLY )و غيرهما.و يرمز علماء الأجنّة اليوم إلى مراحل تخلّق الجنين بواسطة أرقام عديدة تجعل تصنيف المراحل معقدا للغاية.

لقد ذكر القرآن الكريم و السنّة المطهرة منذ أربعة عشر قرنا الحقيقة العلمية و هي أن التخلق البشري يتم على مراحل،و لم تكن هذه الحقيقة معروفة للعلماء غير المسلمين حتى منتصف القرن التاسع عشر،و بذلك يكون سيد البشرية،معلم الخلائق-عليه الصلاة و السلام-السبّاق في هذا المجال بما أوحى اللّه إليه.

و سنتناول في هذا الكتاب كل مرحلة على حدة في مقاطع وضعناها وفق ترتيب حصولها.

ص: 68

المنهجية المتبعة في وصف الأطوار الجنينية

لقد وضع العلماء في بداية محاولاتهم لوصف تخلق الجنين حرفا أبجديا لوصف كل مرحلة من المراحل التي يمر بها الجنين،ثم غيّرت الحروف إلى أرقام، إلا أن هذه الحروف و الأرقام لم تحمل مفهوما وصفيا مميزا لمرحلة دون أخرى.

و من ثم حاول العلماء وضع تسميات مناسبة لكل مرحلة،غير أنهم ما زالوا يجدون صعوبة في اختيار تسميات مناسبة لوصف الملامح الأساسية لكل مرحلة.

و التسميات المستعملة حاليا لوصف هذه المراحل لا تبرز الصفات المميزة للجنين في كل مرحلة،و قد يستعمل الترقيم التعددي لذلك،دون إشارة إلى أي وصف.

من هذا المنطلق ينبغي استعمال مصطلحات متطورة أكثر من التي استعملت من قبل العلماء تبرز صفات الجنين،و يجب أن يكون هناك توافق تامّ بين التسمية و بين طبيعة التطور و الأحوال التي يمر بها الجنين في هذه المرحلة،و لكي نتجنب الالتباس بين مرحلة و أخرى يجب أن يكون المصطلح واصفا للمظهر،و أن يعكس العمليات التي تحدث في كل طور و أن يحدد بداية و نهاية واضحة لكل مرحلة.

لذلك كانت المصطلحات الواردة في القرآن و السنة تتميز بالبساطة و الشمولية، كما أنها تتصف بالإيجاز و كثافة المعلومات التي تلقيها على المستمع،إضافة إلى انسجامها مع علم الأجنّة الحالي،و هي مع ذلك معبرة عن التغيرات الداخلية التي تطرأ على الجنين،و عن الأوصاف الخارجية معا.

أما البساطة فهي مشار إليها في الآية التالية: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:

17]،و التيسير هو جعل المعنى بسيطا قريبا إلى أذهان مختلف طبقات الناس.

و أما الشمولية و غزارة المعلومات مع الإيجاز و كثرة المعاني في التعبير فقد أشار إليها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13]،و جوامع الكلم هو جمع أكثر من معنى في كلمة واحدة.

ورد في«فتح الباري بشرح صحيح البخاري» (1):«و جوامع الكلم:القرآن فإنه

ص: 69


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري-كتاب الجهاد-باب قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«نصرت بالرعب مسيرة شهر»- رقم الحديث 2977-(ج /6ص 128)،و انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري-كتاب السير-باب ما جاء في الغنيمة-رقم 1553-(ج /5ص 119).

تقع فيه المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة،و كذلك يقع في الأحاديث النبوية الكثير من ذلك».

و جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1):«أعطيت جوامع الكلم)و في الرواية الأخرى(بعثت بجوامع الكلم)قال الهروي:يعني به القرآن،جمع اللّه تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة،و كلامه صلّى اللّه عليه و سلّم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني».

و كذلك قيل في شرح سنن النسائي للسيوطي و السندي (2).

و ورد في عون المعبود شرح سنن أبي داود (3):«(يستحب الجوامع من الدعاء):أي الجامعة لخير الدنيا و الآخرة،و هي ما كان لفظه قليلا،و معناه كثيرا».

و أفضل ما يقال في هذا المجال-بعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-:اللفظ قائم، و المعاني مختلفة،تدور حوله.

نستنتج من التعليقات التي وردت في كتب شروح الحديث و التي سردناها آنفا أن كلام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يحتوي على الكثير و العديد من المعاني،و هذه القاعدة تطبّق أيضا على كلام اللّه تعالى.و هذا المنهج يفتح الباب على مصراعيه لوصف مراحل تطور الجنين و إلقاء الضوء على التغيرات و العمليات التي تطرأ عليه من عدة أوجه بعبارات وجيزة،و هكذا فإن المنهجية في وصف الأطوار الجنينية تقتضي البحث عن معاني كلام اللّه تعالى،و كلام رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم في الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة، و تخريج الأوجه الخفية منها بشرط أن لا تتعارض فيما بينها،و أن تكون منضبطة ضمن قواعد اللغة العربية،و أن تتفق مع العلم الديني و الدنيوي.

و نحن نقترح-خدمة للإنسانية جمعاء على وجه العموم،و للطب على وجه الخصوص-«قرأنة»المصطلحات التي تشير إلى مختلف المراحل الجنينية لأن كلمات القرآن الكريم،و الحديث الشريف شاملة و أيسر من التي وضعها علماء الأجنّة (و انظر في آخر الكتاب جدول«قرأنة مصطلحات المراحل الجنينية»).).

ص: 70


1- صحيح مسلم بشرح النووي-كتاب المساجد و مواضع الصلاة-باب ابتناء مسجد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم-رقم الحديث 6-(ج /3ص 10).
2- شرح سنن النسائي للسيوطي و حاشية السندي-كتاب الجهاد-باب وجوب الجهاد-(ج /6ص 3).
3- عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب-كتاب الصلاة-باب الدعاء-رقم الحديث 1469-(ج /4 ص 355).

الماء و المني

أ-نبذة علمية عن إفرازات الرجل و المرأة:

لكي لا يلتبس الموضوع على القارئ نريد في البداية أن نوضح ما يلي قبل الاستفاضة في الشرح:

للرجل نوعان من السوائل من حيث آلية الإفراز من العضو التناسلي:

أولها:سائل شفاف يسيل من العضو التناسلي للرجل،و ليس له علاقة في تكوين الجنين،و مهمته تنظيف القناة البولية عند الرجل قبل خروج سائل ثان (المذكور فيما يلي)،و هذا السائل يخرج عند شهوة الرجل.

ثانيها:سائل متدفق يخرج من العضو التناسلي للرجل،و قدر هذا السائل حوالي ثلاثة و نصف من المللتر و هذا السائل يحتوي على الحيوانات المنوية التي هي سبب لتخلق الجنين لأنها تلقح بويضة المرأة،و هذا السائل يخرج عند اشتداد شهوة الرجل.

و للمرأة نوعان من السوائل من حيث آلية الإفراز من العضو التناسلي:

أولها:سائل لزج يسيل و لا يتدفق و هو ماء المهبل...و ليس له علاقة في تكوين الجنين،و مهمته المساعدة في الإيلاج-أي في إدخال إحليل الرجل في مهبل المرأة-،و في ترطيب المهبل و تنظيفه من الجراثيم و الميكروبات،و هذا السائل يخرج عند شهوة المرأة.

ثانيها:سائل متدفق يخرج من المبيض مع كل بويضة،و قدّر هذا السائل عشرة إلى خمسة عشر مليليتر،و هذا السائل يحتوي على البويضة التي هي سبب لتخلق الجنين لأنها تجتمع مع الحيوان المنوي،و هو يخرج مرّة كل شهر.

ب-التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني:

المني:ورد في لسان العرب (1):«مني:المنى بالياء:القدر».

و جاء أيضا في نفس الكتاب:«(قال)أبو بكر:تمنّيت الشيء أي قدّرته و أحببت أن يصير إليّ،من المنى و هو القدر...».

ص: 71


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«مني»-(ج /13ص 202).

و جاء أيضا:«يقال منى الرجل و أمنى من المنيّ بمعنى،و استمنى أي استدعى خروج المني» (1).

إذا فأصل كلمة مني هو القدر،و المني سمّي منيّا لأن الإنسان يقدّر نزوله، و يتمنّى حصول الشهوة بنزوله.

و من الجدير بالذكر أن لفظ«منيّ»لفظ خاص،لأنه وضع للسائل الذي يخرج بشهوة الإنسان.

و اللفظ الخاص هو اللفظ الموضوع وضعا واحدا لكثير محصور،أو لواحد سواء أ كان شخصيا،أم نوعيا،أم جنسيا (2).

و بالتالي فدلالته على معناه دلالة قطعية،و هذا يعني أن لفظ«مني»يدل فقط على المعنى الذي أوردناه سابقا و لا يصرف عن معناه الذي وضع له إلى غيره إلا بدليل يدل على ذلك.

و هكذا فإن لفظ«مني»لا يصح أن نصرفه إلا للسائل الذي يخرج من خلال شهوة الإنسان.

الماء:الماء هو-كما جاء في القرآن الكريم-السائل الذي يتخلق منه الجنين كما في الآية: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

و من الجدير بالذكر أن لفظ«ماء»من أسماء الأجناس التي تدل على ماهية الشيء،و هو بالتالي من ألفاظ العموم.

و اللفظ العام هو اللفظ الدال على كثيرين،المستغرق لما يصلح له،بحسب وضع واحد،دفعة واحدة من غير حصر (3).0.

ص: 72


1- غريب الحديث-ج /1ص 667:«التّمنّي:يتصرّف على ثلاثة أوجه:أحدها أن يقال:تمنّى الرّجل بمعنى قدّر و أحبّ،و هو مأخوذ من المني و هو القدر.يقال:منى اللّه لك ما تحب منّى،أي قدّر لك.و منه قوله: مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى [النجم:46]أي تقدّر».
2- كتاب أصول الفقه الإسلامي،د.إبراهيم السلقيني،الفصل الخامس:التقسيم الرابع باعتبار وضع اللفظ للمعنى،المبحث الثاني:العام،ص 291-293.و اللفظ الخاص الذي أشرنا إليه هنا هو بالمعنى الاصطلاحي لا بالمعنى الأصولي.
3- كتاب أصول الفقه الإسلامي،د.إبراهيم السلقيني،الفصل الخامس:التقسيم الرابع باعتبار وضع اللفظ للمعنى،المبحث الثاني:العام،ص 279-280.

و هذا يعني أن اسم الجنس إذا عرّف بأل التعريف،فيشمل و يتناول ما وضع له من أفراد مفهومه.

و هكذا فإن لفظ«الماء»قد يطلق على أي نوع من السوائل،سواء أ كانت تسبّب التخلق أم لا،و هو بذلك قد يدل على المني أو على أي سائل آخر في الرحم.

ج-مطابقة بين المعطيات العلمية و التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني (1)

سائل المبيض:هو السائل الذي يخرج من المبيض و الذي يحتوي على البويضة و يتخلق منه الجنين،و لذلك يسمى ماء على وجه التحديد في مجال علم الأجنة وفقا لما جاء في القرآن.

إن السائل الذي يخرج من المبيض لا يخرج عند شهوة المرأة،و لكن يخرج في أوقات محددة في الشهر،و لذلك فلا يصح أن يسمى منيّا،للدليل الذي سقناه سابقا في نص«التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني».

و هكذا،فإن هذا السائل يسمى ماء فقط.

سائل المهبل:هو السائل الذي يخرج من المهبل تقدّر المرأة نزوله،و تتمنى حصول الشهوة بنزوله،و لذلك يسمى منيا وفقا للمعنى اللغوي الذي أوردناه سابقا.

إن السائل الذي يخرج من المهبل لا يتخلق منه الجنين،غير أنه في نهاية الأمر سائل من السوائل،و بالتالي فقد يشار إليه بالماء على اللفظ العام،كما أشرنا إليه سابقا في نص«التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني».

و هكذا،فإن هذا السائل يسمى منيّا على اللفظ الخاص،و ماء على اللفظ العام.

سائل الرجل:هو السائل الذي يخرج من إحليل الرجل يحتوي على الحيوانات المنوية و يتخلق منه الجنين،و بالتالي يسمى ماء على وجه التحديد في مجال علم الأجنة وفقا لما جاء في القرآن.

إن السائل الذي يخرج من إحليل الرجل يقدّر الرجل نزوله،و يتمنى حصول الشهوة بنزوله،و لذلك يسمى منيا على وجه التحديد وفقا للمعنى اللغوي الذي أوردناه سابقا.

ص: 73

و هكذا فإن هذا السائل يسمى منيا و ماء على وجه التحديد في الوقت نفسه.

أما الماء الذي يسيل من إحليل الرجل عند شهوته قبل خروج المني،و الذي لا يحتوي على الحيوانات المنوية،فليس له أثر يذكر على عملية تخلق الجنين،و لذلك لن نتحدث عنه في هذا البحث،و نظرا لدقة الألفاظ،سمّته الشريعة الإسلامية المذي للتفريق بينه و بين المني للحديث:عن عليّ رضي اللّه عنه أنّه قال:استحييت أن أسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن المذي من أجل فاطمة فأمرت المقداد فسأله فقال:«منه الوضوء» [أخرجه مسلم ح 102].

و في كلمة مختصرة:فإن سائل المهبل يسمّى منيّا فقط،و سائل المبيض يسمّى ماء فقط،و سائل الرجل الذي يخرج عند الجماع يسمّى منيّا أو ماء،و سائل الرجل الذي يخرج عند الشهوة قبل القذف يسمّى مذيا فقط.

د-النقاط الثمانية حول الماء و المني:

اشارة

الآيات و الأحاديث التي جاءت في هذا المجال هي:

*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

*قال اللّه تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172].

*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... [النساء:1].

*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى... [الحجرات:13].

*عن أم سلمة رضي اللّه عنها:جاءت أمّ سليم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه إن اللّه لا يستحيي من الحق،فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»فغطت أم سلمة-تعني وجهها-و قالت:أو تحتلم المرأة؟فقال:«تربت يمينك فبم يشبهها ولدها؟»[أخرجه البخاري ح 14].

*عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم...قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما سبق كان الشبه»[أخرجه النّسائي ح 67].

ص: 74

من خلال الآيات الحكيمة و الأحاديث الشريفة السابقة الذكر يمكن أن نستنتج ثمانية نقاط:

*النقطة الأولى:أن للمرأة منيّا كما أن للرجل منيّا.

*النقطة الثانية:أن لمنيّ الرجل و منيّ المرأة دورا في إتمام تسهيل عملية إذكار أو إيناث الجنين.

*النقطة الثالثة:أن كلاّ من ماء الرجل و ماء المرأة يشارك في تخلق و إذكار أو إيناث الجنين.

*النقطة الرابعة:أن لماء المرأة و لماء الرجل دورا في شبه الجنين بأمه أو بأبيه.

*النقطة الخامسة:أن هذا الماء متدفق-أي يخرج بقوة و بسرعة مع ضغط-.

*النقطة السادسة:أن هذا الماء ليس متدفقا فحسب بل هو دافق-أي يملك قوة دفع ذاتية-.

*النقطة السابعة:أن مكونات هذا الماء تخرج من الظّهر و تحديدا من مكان موجود ما بين الصلب و الترائب.

*النقطة الثامنة:أن ماء المرأة أصفر.

1-تفسير النقطة الأولى(أن للمرأة منيا كما للرجل مني):

اشارة

*الحديث الأول:عن أمّ سلمة جاءت أمّ سليم رضي اللّه عنهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه إن اللّه لا يستحيي من الحق،فهل على المرأة من غسل إذا هي احتملت؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»،فغطّت أم سلمة-تعني وجهها- و قالت:أو تحتلم المرأة؟فقال:«تربت يمينك فبم يشبهها ولدها»[أخرجه البخاري ح 14].

*الحديث الثاني:عن أمّ سليم رضي اللّه عنها قالت:إنها مجاورة أمّ سلمة رضي اللّه عنها زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فكانت تدخل عليها،فدخل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أم سليم:يا رسول اللّه أ رأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أ تغتسل؟فقالت أم سلمة:تربت يداك يا أم سليم فضحت النساء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أم سليم:إن اللّه لا يستحيي من الحق و إنا أن نسأل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عما أشكل علينا خير من أن نكون منه على

ص: 75

عمياء،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأم سلمة:«بل أنت تربت يداك،نعم يا أم سليم عليها الغسل إذا وجدت الماء»،فقالت أم سلمة:يا رسول اللّه،و هل للمرأة ماء؟!،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنى يشبهها ولدها؟هن شقائق الرجال»[أخرجه أحمد ح 77].

يؤكد الحديث الأول أن المرأة تحتلم.

و الاحتلام في نظر الصحابيات-رضي اللّه عنهن-هو ورود الشهوة خلال النوم،و الدليل على ذلك أن أم سليم قالت-على سبيل الإيضاح-بخصوص موضوع الاحتلام،في الحديث الثاني:«إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام»[أخرجه أحمد ح 77].

و يصاحب الاحتلام في أغلب الأحيان،خروج ماء عند المرأة(غير مخاطية عنق الرّحم).

هذا الماء في نظر الشرع الإسلامي هو المني.

جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري (1):«قوله:إذا رأت الماء:أي المني بعد الاستيقاظ...».

و كما أشرنا إليه في نص«التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني»الذي أوردناه سابقا (2)،فلفظ الماء هو لفظ عام،و قد يشير إلى أيّ سائل يفرزه الرحم،فلا يوجد بذلك تعارض بين دلالة لفظ الماء الظاهر في الحديث و بين تفسير العلماء على أنه المني.

إن معرفة الصحابيات بالاحتلام لا يعني أنهن يعلمن أن للمرأة منيّا يخرج عند الاحتلام؛فأم سلمة رضي اللّه عنها كانت على شك من أمرها لأنها قالت:«يا رسول اللّه، و هل للمرأة ماء؟!»[أخرجه أحمد ح 77].

هذه الحادثة تدل على قلّة المعرفة التي كانت سائدة في أوساط الجزيرة العربية في هذا الجانب العلمي-«مجال الإفرازات المهبليّة»-،كما أنه إشارة إلى كون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم معلّما لأمته في مجال علم الأرحام،مصداقا للحديث الشريف:«إنما بعثت معلّما»[أخرجه ابن ماجة ح 78].

فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و أكّد أن المرأة تفرز منيا قياسا على ما يفرز ولدها من مني،بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنى يشبهها ولدها،هن شقائق الرجال»[أخرجه أحمد ح 77].6.

ص: 76


1- فتح الباري شرح صحيح البخاري-كتاب الغسل-باب إذا احتلمت المرأة-رقم الحديث 282-(ج /1 ص 389).
2- انظر ص 76.

فشبه المرأة بولدها هو أنها تفرز ماء كما يفرز ولدها ماء لأنها من نفس الجنس.

جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي عن معنى«الشقائق» (1):«قال ابن الأثير:أي نظائرهم و أمثالهم،كأنهن شققن منهم،و لأن حواء خلقت من آدم عليه السّلام».

و جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري (2):(و قد روى أحمد من حديث أم سليم رضي اللّه عنها في هذه القصة أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت:«يا رسول اللّه و هل للمرأة ماء؟!،فقال:هن شقائق الرجال»،و روى عبد الرزاق الصّنعاني في هذه القصة«إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل»،و روى أحمد من حديث خولة بنت حكيم رضي اللّه عنها في نحو هذه القصة:«ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل).

و نود الإشارة هنا إلى أن خروج المني عند الاحتلام غير واضح للمرأة،و ذلك لأن هناك سوائل أخرى تخرج من رحم المرأة،و لا سيما ما يسمّى بالطّهر(و المخاط عند وقت الإباضة)،غير أن ما يميّز المني هو كثرته(و تركيبته الكيميائية)،و لذلك قال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»[أخرجه البخاري ح 14]،فلا بد أن يخرج هذا السائل بكثرة ليكون بيّنا و تراه المرأة بعد سيلانه.

ورد في شرح سنن ابن ماجة للسّندي (3):«أثبت أنها يمكن أن تحتلم،إذ خروجه ممكن إذا كثر و أفاض».

و هذه نظرة دقيقة للأمور بفتح من اللّه عزّ و جلّ على رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم.

و هكذا أكّد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن للمرأة منيا.

و قد ثبت علميا،أن الطّهر يختلف عن المني بشيئين:أولا بكميته،و ثانيا بنسب التركيز في عناصر السوائل التي تؤلّفه.

فخلال الجماع يفرز حائط المهبل(الغشاء المخاطيّ TRANSUDATE )، و يحتقن عنق الرحم بالأوردة،و يخرج من الغدد-خصوصا(غدد سكن).

ص: 77


1- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري-أبواب الطهارة-باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا، و لا يذكر احتلاما-رقم الحديث 113-(ج /1ص 326).
2- فتح الباري شرح صحيح البخاري-كتاب الغسل باب إذا احتلمت المرأة-رقم الحديث 282-(ج /1 ص 389).
3- شرح سنن ابن ماجة للسندي،كتاب الطهارة و سننها-أبواب التيمم-باب المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل-(ج /1ص 108).

SKENE GLANDS )و(غدد بارثولين BARTHOLIN GLANDS ) (1)-إفرازات بكمية كبيرة،و بذلك فإن مني المرأة مكوّن من عدة سوائل على غرار مني الرجل المكون-هو أيضا-من عدة سوائل و لا سيما إفراز(البربخ EPIDIDYMIS )،و(الحويصلة المنوية SEMINAL VESICLE )،و(غدد البروستاتا-الموثة- PROSTATE GLANDS )، و غدد صغيرة تقع حول مجرى البول تدعى(غدد كوبر COWPER GLANDS ).

التمييز بين ماء المبيض و المني عند المرأة:

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا مني المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه» [أخرجه مسلم ح 9].

إن هذا الحديث يحتاج فهمه إلى دقة علمية و لغوية لكي يفسّر على الوجه الصحيح؛فالاكتشافات العلمية و المفردات التي ينتقيها الرسول-عليه الصلاة و السلام-ثم صياغة الحديث،هي التي تضع الأسس الواجب انتهاجها عند البحث عن الحقيقة.

و كما أسلفنا القول فإن للمرأة نوعين من السوائل من حيث آلية الإفراز:

-سائل يتدفق من المبيض و يحتوي على البويضة،و هو السبب في تخلّق الجنين.

-و سائل تفرزه المرأة عند الجماع و عند الشهوة،و هذا السائل ليس له دور في تخلّق الجنين.

و تختلف وظيفة هذين السائلين،و ذلك تبعا لاختلاف خصائص كل منهما، و اختلاف تركيبتهما الكيميائية.

و لذلك،فقد فرّق الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بين هذين السائلين،في حديثه الشريف المتعلق بعملية إذكار أو إيناث الجنين.

و التفريق يحصل من خلال صياغة الحديث،و انتفاء المفردات الملائمة لكل سائل.

و التفريق بين السائلين يتمّ من خلال استعمال كلمتين مختلفتين(ماء)و(مني)ن.

ص: 78


1- هذه الغدد تقع في الجهة الخلفية من الفرج،على جانبي(الدهليز VESTIBULE )،و للغدة قناة طولها 25 ملم،تفتح في الفرج داخل الشفرين الصغيرين.

لهما دلالات مختلفة في حديث واحد،حيث تعود كلمة(ماء)لسائل المبيض، و تعود كلمة(مني)لسائل عنق الرّحم (1).

و التفريق يتمّ من خلال ذكر عمليتي اختلاط متعاقبتين(علا)و(أذكرا)أو(آنثا) لسائلين مختلفين(مني)و(ماء)،و ذلك إن أحسنا فهم الحديث على أنه لا يشير إلى عملية اختلاط واحدة لسائل واحد(على عكس ما فهمه الكثير من العلماء)،و إن أصبنا في إعادة ألف التثنية لكلمة(اجتمعا)و ألفي التثنية لكلمتي(أذكرا)و(آنثا) للفاعلين المناسبين،فكثير من العلماء لم يفرّقوا بين كلمة(ماء)و كلمة(مني)، و اعتبروهما سائلا واحدا،و بالتالي فهموا أن ماء الرجل و ماء المرأة(أو مني الرجل و مني المراة-حيث لا فرق عندهم بين الكلمتين-)يختلطان،فيعلو الواحد الآخر،فينتج عن ذلك إذكار أو إيناث الجنين.

و هذا خطأ لعدّة أسباب:أن ماء المرأة مختلف عن مني المرأة،و لا يختلط ماء المرأة بماء الرجل في بادئ الأمر،و إنما يختلط في البداية مني المرأة بمني الرجل، و من ثمّ يختلط ماء الرجل(بالمعنى الخاص)بماء المرأة،فينتج عن ذلك إذكار أو إيناث الجنين.

و تفصيل ذلك فقهيا و علميا:

بداية سوف نتحدث عن ألف التثنية لفعل«اجتمعا»الذي ورد في الحديث الذي أسلفنا ذكره.

إن ألف التثنية هذه قد تعود إلى الرجل و المرأة كما قد تعود لماء الرجل و ماء المرأة و قد ورد ذكر كل منهما في الحديث.

إن الماء الذي يخرج من المبيض يتبعثر في(التجويف البطني PERITONEAL CAVITY )،و ما يصل منه إلى(قناة فالوب FALLOPIAN TUBE )يختلط بالسائل الذي يغطيها،و بالسوائل الأخرى التي تفرزها غدد رحمية موجودة في الرحم مثل (لبن الرحم UTERINE MILK ) (2)،و بالتالي ما يخرج من عنق المهبل،في حال خرج منه،تخف خصائصه و تضعف قبل أن تتفاعل مع مني الرجل و بذلك لا يكون هذا السائل مميّزا عن غيره من السوائل،و هذا يعني أنه بعيد عن ماء الرجل الذي يقع في مهبل المرأة،فلا مجال إذا للاختلاط مباشرة به فور جماع الرجل لامرأته.5.

ص: 79


1- إن الماء و المني اللذين نتكلم عنهما في هذه الحالة يعودان للمرأة،كما سبق بيانه.
2- كتاب(علم الأجنّة الإنساني،بويد و موسمان،هاملتون HUMAN EMBRYOLOGY,BOYD AND MOSSMAN,HAMILTON )،ص 85.

و من هذا الشرح نفهم أن ألف التثنية لفعل«اجتمعا»تعود للرجل و المرأة و ليس لماء الرجل و لماء المرأة و ذلك لأن ماء المبيض و ماء الرجل لا يجتمعان في بادئ الأمر.

هذا المفهوم يؤيده الحديث التالي الذي سنأتي على تفسيره في مبحث«اختلاط عروق النطفة»و هو«إذا أراد اللّه تعالى أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة...» [رواه الطبراني ح 21]،ففي هذا الحديث يظهر جليّا أن فعل«جامع»يعود للرجل و المرأة فقط لأنه لا يوجد ذكر لأي من السوائل فيما قبل،و الحديث يفسّر بعضه بعضا.

أما الماء الثاني الذي يفرز من قبل المرأة عند الجماع فهذا يفرز من(عنق الرحم CERVIX )و من غدد أخرى مثل:(غدد بارثولين)و(غدد سكن)و هو يختلط (أو يجتمع)بماء الرجل في المهبل فور الجماع كما جاء في الحديث الشريف أعلاه:

«...فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة...»[أخرجه مسلم ح 9].

لذا نجد أنفسنا أمام نوعين من السوائل يتحدث عنهما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،أحدهما يختلط بعضه ببعض أولا بأول،عند الجماع،و يسمى«منيا»،و الثاني لا يختلط بعضه ببعض في بادئ الأمر،فور الجماع،و يسمى ماء.

أما ألف التثنية لفعلي(أذكرا)و(آنثا)فتعود لماء الرجل و ماء المرأة(كما سنراه في تفسير النقطة الثالثة)،حيث يشتركان معا في إذكار أو إيناث الجنين،و بالتالي فإن الحديث ينص أن هناك جماع الرجل للمرأة،و من ثمّ علو مني الرجل لمني المرأة(أو العكس)،و من ثمّ إذكار أو إيناث الجنين من جراء اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

و يظهر بالتالي فكّ الإشكال سابقا من أن ألف التثنية في(اجتمعا)تعود للرجل و المرأة بذاتهما،و ألف التثنية في(أذكرا،آنثا)تعود إلى مائهما (1).س-

ص: 80


1- لفك الإشكال الذي نتج في الحديث رقم 9،لا بد من الاستعانة بقواعد اللغة العربية،و الارتكاز على دلالاتها،و ما توصّل إليه العلم الكوني في هذا المجال حتى يستقر المعنى على نحو سليم و منضبط،فهذا الحديث جاء في مجال تحدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لليهودي في نبوّته،و بالتالي ناسب إظهار أقصى درجات الإعجاز البلاغي في الكلام النبوي الشريف إلى جانب الإعجاز العلمي لإثبات نبوة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عبر استعمال عدّة أدوات بيانية في آن واحد تؤدي مجتمعة إلى إيصال المعنى المراد بطريقة موجزة و مكثفة، يعجز الجن و الإنس عن الإتيان بمثلها: ففي الحديث استعمال«الكناية»(و هو ضرب من المجاز،انظر مبحث«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها،باب:قولنا:معان...صريحة في دلالاتها»). و تتمثل الكناية هنا باستعمال فعل(اجتمعا)كناية عن الجماع و الممارسة الجنسية،تماما كما أن لمس-

ص: 81

و مما يجدر ذكره هنا أن المني عند المرأة يطلق عليه اسم الماء،و ذلك لأنه في نهاية الأمر سائل من السوائل كما أوضحنا سابقا،أما ماء البويضة فلا يسمى منيا، و ذلك لأنه لا يخرج عند الشهوة،و لكن يخرج في وقت محدد من كل شهر(و هو اليوم الذي يأتي قبل أربعة عشر يوما من أول يوم للحيض المقبل)و لذلك ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث أم سلمة الماء و إن كان الحديث يدور على المني أصلا (1)، و امتنع في حديث الإذكار أو الإيناث عن ذكر كلمة الماء فقط بل استعمل في صياغة الحديث كلمتي(الماء)و(المني).

2-تفسير النقطة الثانية(أن لمني الرجل و لمني المرأة دورا في تسهيل عملية

إذكار أو إيناث الجنين):

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه» [أخرجه مسلم ح 9].

إن الفعل الرئيسي في الحديث النبوي الذي يشرح عملية الإذكار أو الإيناث هو فعل«علا».

و هذا الفعل له عدة معان،منها:

ص: 82


1- -و هذا الأسلوب جاء في أكثر من موضع في القرآن الكريم،و نظيره: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:73]،فالليل و النهار فيهما لف،ثمّ نشر من الكلام ما يخصّ كل واحد منهما،حيث يرد السامع إلى كل واحد منهما ما يخصّه،فالليل يخصه قوله تعالى:لتسكنوا فيه،و النهار يخصه قوله تعالى: وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ .

1-غلب.جاء في تاج العروس (1):«علوت الرجل:غلبته».هذا المعنى ورد في القرآن الكريم في آيتين:الأولى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، الثانية: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

2-أن يأتي شيء فوق شيء و يعلوه.جاء في تاج العروس (2)أيضا:

«(و علاه)...(صعده)جبلا كان أو دابة».و جاء في الحديث:عن أبي موسى الأشعري قال:أخذ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في عقبة-أو قال في ثنيّة-(و هو المرتفع من الأرض)،قال:

فلما علا عليها رجل،نادى فرفع صوته:لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر،قال:و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على بغلته،قال:«فإنكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا»[أخرجه البخاري ح 16].

و سوف نتطرق إلى المعنى الأول لفعل علا(غلب)في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»و ذلك خلال حديثنا عن شبه الولد لأمه أو لأبيه.

أما المعنى المرموز إليه في الحديث المذكور آنفا فهو أن يأتي شيء فوق شيء و يعلوه،و تفصيل ذلك:

-من المعلوم أن الإفراز المهبلي للمرأة يمتاز بخاصية الحموضة،و تأتي هذه الخاصية نتيجة لوجود(حامض اللاكتيك LACTIC ACID )الذي يخرج من الخلايا المهبلية الغنية بمادة(الجليكوجين GLYCOGEN ).

هذه الحموضة هامة و ذلك لحماية المرأة من غزو البكتيريا لها،غير أن هذه الحموضة تضعف و تقتل كثيرا من الحيوانات المنوية الحاملة للذكورة Y ،و ذلك لصغر حجمها مقارنة بالحيوانات المنوية الحاملة للأنوثة X التي تستطيع مقاومة هذه الحموضة.

و لكن ما ينقذ الموقف الحرج بالنسبة للحيوانات الذكرية هو مني المرأة،فهذا الأخير له خاصية قلوية،و هو يعدّل من الحموضة في المهبل عند ما تفرزه المرأة،فإذا صبّ الرجل ماءه في فرج المرأة قبل أن تستثار جنسيا فإن ماءه يلتقي بالوسط الحامضي للفرج،و بذلك تموت أعداد كثيرة من الحيوانات المنوية الحاملة للذكورة Y و تعطب،و يضعف بذلك احتمال أن يفوز بالسباق إلى البويضة الحيوان المنوي الذكري.).

ص: 83


1- تاج العروس لمحمد مرتضى-مادة«علو»-(ج /19ص 699).
2- تاج العروس لمحمد مرتضى-مادة«علو»-(ج /19ص 693).

في هذه الحالة يظهر مني الرجل قبل مني المرأة،لأن الرجل قد صب ماءه قبل أن تستثار المرأة جنسيا،و من ثمّ يأتي مني المرأة و يعلوه-أي يأتي فوقه-.

أما في الحالة المعاكسة،أي في حالة إثارة المرأة و إفرازها لمنيها قبل أن يقذف الرجل ماءه فإن منيها في هذه الحالة يكون موجودا قبل مني الرجل،و بما أن له خاصية قلوية فإنه يلطف من حموضة المهبل،و من ثم يأتي مني الرجل فوق مني المرأة و يعلوه،و تنجو بذلك الحيوانات المنوية الذكرية من الهلاك،و بما أن الحيوانات المنوية الذكرية أصغر حجما من الحيوانات المنوية الأنثوية،فهي بالتالي أسرع منها و تستطيع أن تصل إلى البويضة بسرعة أكبر،و بذلك يزيد احتمال أن يأتي الولد ذكرا (1).

و هكذا نفهم أبعاد الحديث«فإذا علا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منّي المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9].

3-تفسير النقطة الثالثة(أن كلا من ماء الرجل و ماء المرأة يشارك في تخلّق

و إذكار أو إيناث الجنين):

*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... [النساء:1].

*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى... [الحجرات:13].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه» [أخرجه مسلم ح 9].

إن ضمير التثنية المثبت في الفعلين«أذكرا»و«آنثا»في الحديث السابق يعود للماءين؛ماء المبيض و ماء الرجل،و ليس لمنيّ المرأة و منيّ الرجل كما يعتقده بعض الناس،و ذلك لأن كلاّ من ماء المبيض و ماء الرجل يشارك في تخلّق الجنين؛فنصف (المورّثات GENES )لدى المخلوق الجديد تأتي من ماء الرجل،و النصف الآخر يأتي من ماء المرأة و بذلك يشاركان كلاهما في عملية التخلّق و عملية الإذكار أو الإيناث.

ص: 84


1- كتاب هل تستطيع اختيار جنس مولودك:ولد أم بنت؟،د خالد بكر كمال،ص 22،25،31،بتصرف.

إن نطفة الرجل(أي الحيوان المنوي)-كما سنشرحه في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»-هي التي تحمل الصبغيات X أو Y و نطفة المرأة تحمل الصبغية X فقط،فإذا اجتمع الحيوان المنوي الحامل للصبغية Y مع نطفة المرأة الحاملة للصبغية X أصبح الجنين ذكرا بإذن اللّه و إذا اجتمع الحيوان المنوي الحامل للصبغية X مع نطفة المرأة الحاملة للصبغية X أصبح الجنين أنثى بإذن اللّه.

و هكذا يعود ضمير التثنية في الفعلين«أذكرا»و«آنثا»للماءين مجتمعين؛ماء الرجل و ماء المرأة؛لأن إذكار أو إيناث الجنين يحتاج لكليهما معا.و من هذا المنطلق نفهم لما ذا خصّ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بالذكر نوعين من السوائل في الحديث؛الماء و المني؛ و ذلك لأن الماء(أي ماء الرجل و ماء المرأة)هو أساس لتخلّق الجنين،و المنيّ(منيّ الرجل و منيّ المرأة)هو الذي يسهل عملية الإذكار و الإيناث.

و قد أشار القرآن إلى أن ماء المرأة و ماء الرجل يشتركان في تخلّق الجنين في قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى... [الحجرات:13].

جاء في القرطبي (1):«بيّن اللّه تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر و الأنثى،و كذلك في أول سورة النساء...و الصحيح أن الخلق يكون من ماء الرجل و المرأة لهذه الآية فإنها نص لا يحتمل التأويل».

كذلك أشار اللّه عزّ و جلّ في أول سورة النساء إلى هذا الأمر في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... [النساء:1].

ورد في تفسير ابن كثير (2):«و ذرأ منهما أي:من آدم و حواء رجالا كثيرا و نساء».

فالخلق كان من الذكر و الأنثى و ليس من واحد دون الآخر،و البثّ كان من آدم و حواء-أي:من ذكر و أنثى-،و الفقهاء أقروا أن هذا الخلق إنما هو من ماء الرجل و ماء المرأة.

و الآية خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ تعني ماء الرجل و ماء المرأة على حدّ سواء،لأن لفظ«ماء»جاء هنا على إطلاقه،و هذا ما أكده القرطبي في تفسيره للآية قائلا (3):

«و أراد ماءين:ماء الرجل و ماء المرأة،لأن الإنسان مخلوق منهما»،فتلك الآية لم).

ص: 85


1- تفسير القرطبي-(ج /16ص 343).
2- تفسير ابن كثير-(ج /1ص 448).
3- تفسير القرطبي-(ج /20ص 4).

تفرق بين ماء الرجل و ماء المرأة،كما أن كلا الماءين يتدفق،و كلاهما يخرج من بين الصلب و الترائب،كما سنرى في النصوص المقبلة.

إن الاعتقاد السائد قبل عهد الرسالة،أي قبل التوضيح بالآيات القرآنية و الحديث،هو أن الجنين يتخلق من اتحاد المني مع دم الحيض،و هذا ما كتبه (أرسطو)في القرن الرابع قبل الميلاد،و كان يعتبر أفضل المراجع العلمية آنذاك.

و هذا الاعتقاد(بأن دم الحيض و ليس مني المرأة هو سبب وجود الطفل)ظل مسيطرا لمدة طويلة إلى أن أتى الإسلام بتعاليمه الحكيمة،و لم يكتف الإسلام بنسف فكرة تخلّق الإنسان من دم الحيض،بل أمر بعدم إتيان النساء في فترة الحيض: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

و منعا للجدل و لتثبيت الحقائق المنصوصة في الآية الكريمة(التي لم يحدد اللّه سبحانه و تعالى فيها أن الماء هو منيّ الرجل فقط)،حدّد الرسول الكريم-عليه الصلاة و السلام-أن الماء هو للمرأة كما هو للرجل في حديث الإذكار أو الإيناث الذي أوردناه سابقا.

4-تفسير النقطة الرابعة(ان لماء المرأة و لماء الرجل دورا في شبه الجنين بأمّه أو

بابيه):

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما سبق كان الشبه»[أخرجه النّسائي ح 67].

لقد رأينا في المقطع السابق أن كلاّ من ماء المبيض و ماء الرجل يشارك في تخلّق الجنين،و ذلك لمشاركة الحيوان المنوي و البويضة في تلك العملية.فإذا كان كذلك،فهذا يعني أن الجنين سيتخلّق وفق ما تحمله تلك الأعضاء من خصائص، و بالتالي فهذه مسئولة عن إعطائه شكلا يشبه شكل الأم أو الأب،و سنفصّل هذا الأمر أكثر-إن شاء اللّه-في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»، فانظره هناك وفقك اللّه.

5-تفسير النقطة الخامسة(أن هذا الماء متدفق):

*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

كما هو ظاهر في الآية القرآنية فإن الماء الذي يخلق منه الجنين يدفق-أي يخرج بقوة و بسرعة مع ضغط-.

ص: 86

و لسنا بحاجة هنا إلى توضيح استمناء الرجل و تدفق مائه فذلك ظاهر،و لكن تجدر الإشارة إلى ما يحصل عند المرأة،و ذلك أن سلالة المرأة(أي البويضة)-كما يفسره الدكتور عدنان الشريف،جزاه اللّه خيرا (1)-التي ستنضج في أحد مبيضيها، تسبح داخل(جريب FOLLICLE ).و هذا الجريب يحتوي سائلا يتزايد ضغطه إلى درجة من الضغط تساوي 15 مليمترا زئبقيا تنفجر عندها حويصلة البويضة و قشرة المبيض في أضعف نقطة منهما،فتقذف بالسلالة و الخلايا الحامية لها و المحيطة بها مع قليل من ماء الحويصلة إلى تلافيف بوق أنبوب الرحم المعروف بقناة فالوب (انظر الصورة رقم:17)،و لو لا هذا الضغط لما استطاعت البويضة أن تقفز من المبيض إلى(التجويف البطني PERITONEAL CAVITY )،لتلتقطها من ثمّ(أهداب بوق فالوب FIMBRIAE OF FALLOPIAN TUBE ).

إن الضغط الذي يصاحب انتقال البويضة و السرعة التي تحتاجها حتى تستطيع الانتقال من المبيض إلى بوق فالوب لهو الدليل على أن ماء المرأة هو ماء دافق كما هو ماء الرجل وفقا لصياغة الآية الكريمة السابقة الذكر التي جاءت على الإطلاق لتشمل الماءين:ماء الرجل،و ماء المرأة.

6-تفسير النقطة السادسة(أن هذا الماء ليس متدفّقا فحسب بل دافق):

*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(2) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7]

لقد اختلف العلماء كثيرا في تفسير كلمة(دافق)التي وردت في الآية: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) [الطارق:6]،فمنهم من اعتبر أن كلمة(دافق)اسم فاعل،و لكن أسندها إلى المجاز،و منهم من أوّل كلمة الدفق بالدفع،و أخذها على حقيقتها، و اعتبر أن الدفع ناتج من فاعل و مفعول به،و منهم من أوّل دافق بمعنى مفعول، و منهم من صرف الدفق إلى النسب،و منهم من قال:إن كلمة(دافق)اسم فاعل، و انظر لهذا الغرض قول تفسير ابن عاشور (3)،و تفسير الألوسي (4)،و تفسير الشوكاني (5)،و تفسير ابن القيم (5)في هذا الموضوع.

ص: 87


1- كتاب من علم الطب القرآني،د.عدنان الشريف،ص 76.
2- التبيان في أقسام القرآن،ج /1ص 64.
3- تفسير التحرير و التنوير لابن عاشور-ج /30ص 261.
4- روح المعاني،ج /30ص 99.
5- فتح القدير،ج /5ص 420.

> CS <

ص: 88

و من الطبيعي أن يكون هذا الخلاف في معنى هذه الصيغة موجودا على أشدّه عند المتقدمين،فإن حقائق مبادئ الخلق كانت غير متوفّرة لهم،و هي التي كشفت لنا المعنى الحقيقي لهذه الصيغة،و جعلتنا نتلمس مواطن الإعجاز في هذه النقطة.

و لا بد أن نلقي نظرة على أبعاد هذه الصيغة من الناحية البلاغية،قبل أن نستعرض المعطيات العلمية في هذا الخصوص،لكي نوفّق بينهما على أتمّ وجه، و تتكشّف لنا الأسرار الإعجازية في استعمال هذه الصيغة.

و التحقيق في هذه الصيغة ما نقلته من تعليقات الشيخ عبد الرحمن الحكمي على كتاب البصائر و الذخائر لأبي حيان التوحيدي،قال:«اشتقاق صيغة[فاعل]من فعلها،ينبغي أن يكون في الصيغة معنى الفعل،أي:يكون الفعل قائما بالصيغة،فإذا قلنا:آكل،فمعنى ذلك أن الأكل-و هو مصدر أو معنى الفعل-يكون قائما بالصيغة التي هي اسم الفاعل الذي قام بالأكل،هذا هو الأصل و الأكثر في اللغة العربية بالنسبة لهذا الاشتقاق و هذه الصيغة.

و لكن قد ترد هذه الصيغة في كلام العرب،و يلحظ المتلقي أن الفعل ليس قائما فيها،بل قائم بغيرها،و إنما جاء على صورتها لكون صاحبها له صلة فعلية مؤثّرة من قريب أو بعيد فيها،و ذلك نحو قولهم:«لابن-تامر»،عن صاحب اللبن و صاحب التمر،فاللبن لم يقم بالرجل الذي هو صاحب الصيغة،إنما قام بالدابة التي ربّاها الرجل و اعتنى بها حتى صارت لابنة،و كذلك التمر،لم يونع في الرجل المقصود بصيغة[فاعل]في«تامر»،و إنما أينع في النخل التي اعتنى بها الرجل و ثمّرها حتى صارت متمرة.

و فيما تقدّم تظهر في هذه الصيغة،بهذا المعنى،مراعاة فاعلين حقيقيين لفعل واحد،و إن كان أحدهما مظهرا للفعل أو محلا له،و لكن لم يهمل في هذه الصيغة بهذا المعنى لقوّة سببه،و شدّة تأثيره،فاللابن بهذا المعنى جمعت هذين الفاعلين:

1-الرجل الذي قصد بها مع أن اللبن لم يظهر فيه،و لكن اعتبر سببه،و اعتدّ بتأثيره،حتى أخرج على أنه فاعل،فأعطي صورة الفاعل.

2-الدابة التي ألبنت و ظهر فيها اللبن،و هي الفاعل الحقيقي.

و قد عبّر كثير من النحويين عن مثل هذا المعنى في هذه الصيغة بأنه يحمل معنى[ذو]،و المراد من لابن مثلا:ذو لبن.

و قد ذكر الإمام الرازي-رحمه الله-وجود مثل هذا اللون في اللغة،و جوّزه في مبحث تام في كتابه«المحصول»(ج /1ص 248-250).قال:«و مما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق:أن المفهوم من الاسم المشتق

ص: 89

ليس إلا أنه«ذو»ذلك المشتق منه،و لفظ«ذو»لا يقتضي الحلول».و قد طوّل الإمام ابن الحاجب-رحمه الله-هذه المسألة في«مختصر المنتهى»،و انظره بشرح العضد-رحمه الله-(ج /1ص 181-182).

و ذكر الإمام ابن الوزير-رحمه الله-أن هذه المسألة لغوية ليس فيها نظر و لا قياس(أي أنها سماعية)،و أن العرب قد يشتقّون مما ليس بقائم بالفاعل صيغة (فاعل)،انظر كتابه«العواصم و القواصم»(ج /4ص 366).

...و سبب ذلك أن المقصود بهذه الصيغة-التامر(أو اللابن)-كان سببا مؤثّرا،و عاملا قويا،في الإيناع حتى صار في درجة قوّة الفاعل،و أصبح لصيقه و ضميمه،حتى كأنه هو،و لذلك ظهر في صورته،و تجلّى في مظهره،فأتى على صيغته،و ليس في الأصل،و من هنا يتبيّن صدق هذه الصيغة،و صحة ورودها،و دقّة معناها فيما جاءت له»انتهى كلامه.

أما إذا أردنا أن نقابل الكلام السالف ذكره على موضوع الدفق المنصوص سابقا في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،فنقول:

إنه إذا حقّ على كلمة(دافق)أن تكون اسم فاعل،فهذا يعني أن فعل الدفق قائم بها،أي بمعنى آخر أن صفة تكوين الماء:الاندفاق،حيث يوجد فيه قوّة ذاتية للدفق كسبب لصيق به،و كصفة ثابتة فيه لا تنفك عنه،قائمة به.أما إذا حقّ أن تنطبق صيغة النسب على(دافق)،فهذا يعني أن السبب الرئيس للدفق ليس قائما بالماء،و لم يحل فيه،و لكن حلّ بغيره،غير أن السبب الرئيس متصل مع سبب ثانوي قائم بالماء لكي تحقّ صفة النسب على فعل دفق الماء.

و سنستعرض المعطيات العلمية و نرى مدى صحة آخر تفسيرين.

و قد أثبت العلم في العصر الحديث أن للحيوانات المنوية قطعا مصفوفة واحدة تلو الأخرى تسمى:(ميتوكوندريا MITOCHONDRIA )موجودة قبل رأس الحيوان المنوي،و تحتوي على مادة(أدينوزين تريفوسفات ADENOSINE TRIPHOSPHATE:ATP )-المادة المهمة لتزويد الحيوان المنوي بالطاقة الدافعة إلى الأمام لعدة ساعات (1)-(انظر إلى الصورة رقم:18 حيث تظهر قطع«الميتوكوندريا»)، كما أن الغطاء النسيجي لقطع الميتوكوندريا يدفع ذيل الحيوان المنوي إلى الحركة (2). .

ص: 90


1- كتاب(ولد طفل،د.لارس هامبرغر A CHILD IS BORN,LARS HAMBERGER )،ص 45،بتصرف و كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 23.
2- 0991 OURA AND TOSHIMORI .

> CS <

(18)-نرى في الصورة قطع«الميتوكوندريا»خلف رأس الحيوان المنوي، و هذه تعطي للحيوان المنوي الطاقة لكي يتحرك،و بالتالي فهو و المني الذي يرافقه دافقان، كما تشير إليه الآية: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق:6]

بالإضافة إلى أن ماء الرجل يحتوي على مادة(البرستاجلاندين PROSTAGLANDINS )التي تحدث تقلصات في الرحم تساعد على نقل الحيوانات المنوية إلى موقع الإخصاب،و بالتالي فإن مصدر النطف-ماء الرجل-هو الذي يسبّب دفع الحيوان المنوي إلى الأمام.

كذلك فإن(الحويصلات المنوية SEMINAL VESICLES )تفرز مادة(الفركتوز FRUCTOSE )التي تصبح أحد أعضاء المني،و هذه المادة تعطي الطاقة للحيوانات المنوية لكي تتابع سيرها (1).

و هكذا يتبيّن لنا أن هناك سببين ينشآن من نفس الفاعل و يؤديان إلى إحداث الفعل به،كصفة لا تنفك عنه،و هما مادة الميتوكوندريا و الفروكتوز،و أن هناك سببا آخر ينشأ من نفس الفاعل بإذن الله،و لكن لا يتجلّى به مباشرة،بل برد فعل عكسي من خلال عضو آخر يدفع الفاعل إلى فعله،كما في حالة مادة البرستاجلاندين، فيعود الدفق بذلك إلى النسب في هذه الحالة. .

ص: 91


1- 1991 BARATT AND COOKE, .

و يكون مجمل حركة الماء ناتجا من سببين على صيغة فاعل،و من سبب على صيغة نسب.

أما بالنسبة للبويضة فإن عملية إباضتها معقّدة للغاية،و دفقها غير واضح و لا جلي،غير أن العلماء استطاعوا أن يكتشفوا كمّا مهما من المعلومات عنها،و إذا أردنا تحليل دلالات كلمة دافق،لنرى كيف تنطبق على عملية الإباضة،و انتقال البويضة من المبيض إلى قناة فالوب،فلا بد أن نراجع بالتفصيل عملية الإباضة،و نتوقّف عند كل مرحلة من مراحلها.

و يخبرنا الدكتور آلان أندرز عن مراحل عملية الإباضة قائلا (1):

1-(تنشق البذرة التي تتكون في سطح المبيض في أضعف منطقة لها RUPTURE OF THE STIGMA )،فيخرج الماء الحويصلي بسرعة،مع(حبيبات الخلايا GRANULOSA CELL )،و ذلك من جراء الضغط المتولّد من الماء الحويصلي (2)حيث يبلغ 20 ملم زئبقيّا،و هو و إن كان معتدلا،و لكن يلعب دورا مهما (3).

2-و من ثم يتبع ذلك خروج البويضة مع(كم الخلايا التي ترافقها CUMULUS CELLS )بسرعة أقل[من الماء الذي سبقها].

3-و تتقلّص بعض العضلات داخل الحويصلة باعجة إياها،و دافعة لها، فتساعدها على الخروج مع بقية الماء الحويصلي.

و تقلّص العضلات المراد هي عضلات الأغشية الخارجية التي تحيط بالحويصلة (تكا إكسترنا THECA EXTERNA )،و التي يعود تقلّصها لمادة(البرستاجلاندين PROSTAGLANDINS ) (4)الموجودة في الماء الحويصلي (5)،و لانخفاض ضغط الماء .

ص: 92


1- March 4,1998,uman Microscopic Anatomy,Dr.Allen Enders CHA.http\\:medocs.ucdavis.edu CHA \402\ lectsy 1\89\ fem.HTM 202/204. DATE :4002/4/22 .
2- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 29.
3- Ovulation:Lawrence L.Espey,Trinity University,San Antonio,TX 78212.http://www.trinity.edu/le- spey/ovulation/encyc/encyc.html.DATE:22/4/2004 .
4- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص.29
5- SURGICAL PATHOLOGY OF OVARIES,PETER RUSSEL AND ANNABELLE FARNS- WORTH,SECOND EDITION,1997,PAGE 40,CHURCHILL LIVINGSTONE .

الحويصلي الذي يدفع عضلات الغشاء الخارجي للحويصلة للتقلص بطريقة منتظمة و متقطّعة (1).

4-و تتمايل أهداب بوق فالوب حول المبيض...مساعدة شعيرات بوق فالوب[التي تتمايل هي أيضا]لالتقاط البويضة و إدخالها مع الخلايا المحيطة بها إلى داخل البوق.

أضف إلى ذلك أن دفق البويضة يعود أيضا لإشارات كيميائية تأتي مع الماء الحويصلي،و تجعل عضلات قناة فالوب تنقبض،و تولّد ضغطا سلبيا،مما يساعد شعيرات بوق فالوب على التقاط البويضة (2).

و بعد ذلك تنتقل البويضة ببطء في قناة فالوب إلى الرحم من جراء دفع الشعيرات التي تبطّن القناة لها (3).

و بذلك تكون الحركة الإجمالية للماء مزيجا من السرعة و البطء،و الضغط الداخلي المعتدل،و الشفط الخارجي.

و هكذا فإن دفق الماء الحويصلي مع البويضة يعود لماء البويضة نفسه فقط(كما في حالة ضغط الماء)(كاسم فاعل)،و لماء البويضة بالتعاون مع مسبّب آخر لا يظهر فيه فعل الدفق،بل يحث عليه(كما في حالة انقباض عضلات قناة فالوب من جراء الإشارات الكيميائية التي تأتي مع الماء الحويصلي،و لانقباضات العضلة التي تحيط بالجريب بفعل مادة البرستاجلاندين الموجودة في الماء الحويصلي،و بفعل انخفاض ضغطه)(فيعود الدفق بذلك إلى النسب)،كما أنه يعود لعوامل خارجية مستقلّة (شعيرات بوق فالوب)غير أن هذه الشعيرات أنتجت أثرا فاعلا أدّى إلى حركة الماء بدفق حتى صار في صورة الفاعل،و ليس هو هنا في الحقيقة بفاعل،و هذا كلّه لا يخرج عن معنى النسب في هذه الصيغة.

و من هذا الكلام نفهم أن مجمل الدفق يعود للنسب أو للفاعل نفسه في5.

ص: 93


1- Barry university:Natural and health science,endocrinology Departement.http://66.218.71.225/ search/cache ? vp expulsion + of + the + oocyte vp-vt any vst o vd all fI o vf all ei ISO-8859-1 vm p n 20 u snhs-plin.barry.edu/-disc 10/000000 a 3.htm w %22 expulsion + of + the + oocyte %22 d 73 F 5 F 21271 c 483 yc 45082 icp 1.Date 22/4/2004 .
2- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 32.
3- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر ،ص 35.

الغالب،و هو يظهر كذلك بالرغم من أن هناك عوامل خارجية تضاف إلى العوامل الفاعلة و النسبية،و لا يعبّر عن هذه الصفات-أو الأسباب-إلا صيغة«الدافق» بالمعنيين المتقدّمين فقط لا غير،فيا سبحان اللّه!.

و في النهاية نودّ تلخيص ما سبق:

1-يتبيّن لنا في المبحث السابق،أن صعوبة الصيغة،و عدم تجلّي الحقائق العلمية في ذلك للمتقدمين أدى إلى خلاف كبير في عدم فهم هذه الصيغة على معناها الدقيق.

2-صيغة(فاعل)تأتي في اللغة العربية لفاعل الفعل الذي اشتق منه،و هذا هو الأكثر.

و لكن قد تأتي لغير ذلك،لمناسبة بين الفاعل الحقيقي و بين الكلمة التي اشتقت له مثل(لابن)،و كلا هذين المعنيين لهذه الصيغة حقيقة لغوية،و سماع عن العرب،و ليس بمجاز.

و(دافق)جمعت هذين المعنيين معا،و كانت هذه الصيغة هي المناسبة تماما للإحاطة بتفاصيل صفات ذلك الماء و ملابساته.

3-قد ظهر ذلك كما تقدّم مفصلا،و يمكن تلخيصه فيما يأتي:

I -ماء الرجل:

أ-تعطي مادة الفركتوز و مادة الميتوكوندريا الطاقة للحيوان المنوي على السير ذاتيا،و في كلا هاتين الحالتين يتجلّى المعنى الأكثر لصيغة(الفاعل)،حيث إنه هو الفاعل الحقيقي المستقل.

ب-تحثّ مادة البرستاجلاندين الموجودة في الماء الرّحم على الانقباض مما يؤثّر عكسيا على الحيوانات المنوية في السير،فيحل سبب الدفق الرئيس في غير الفاعل،و لكن يظهر الفعل في الفاعل،و يكون للفاعل نسبة في إحداث السبب الرئيس،فيتجلّى معنى النسبية في الصيغة[فاعل].

II -ماء المرأة:

أ-يدفق ماؤها من جراء ضغطه المتولّد في الحويصلة،فيقع بذلك سبب الفعل على الفاعل نفسه،و يتجلّى معنى(اسم الفاعل)في هذا المقام.

ب-يدفق ماؤها من جراء المواد الموجودة فيه،و التي تحث أعضاء أخرى- مثل عضلات غشاء الحويصلة،و عضلات قناة فالوب-على دفعه إلى الأمام،فيصير

ص: 94

الماء مظهرا للفعل،حتى كأن فيه سبب الفعل الرئيس،فيحق أن يذكر الفعل على صيغة النسب في هذا المقام.

ت-يدفق ماؤها من جراء عوامل مستقلة،مثل تمايل شعيرات بوق فالوب، التي تحدث ضغطا سلبيا،فتجذب ماء الحويصلة إلى داخل البوق،فيظهر دافقا و كأنه هو الذي دفق بنفسه،و بذلك حقّ هنا المعنى الثاني لصيغة الفاعل،و هو النسبة.

و يظهر مما تقدّم من اللطائف أن صيغة(دافق)استوعبت كل من هذه الحالات الست.

7-تفسير النقطة السابعة(أن مكوّنات هذا الماء تخرج من الظهر):

*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

لفظ اَلتَّرائِبِ اسم صفة،لا اسم ذات،و يدل بأصل اشتقاقه على التماثل و التناظر،فكلمة«الترائب»جمع تريبة و هي مشتقة من ترب،أي من التراب و التراب هو الأرض،جاء في لسان العرب:«ترب:...(قال)اللّيث:التّرب و التّراب واحد، إلا أنهم إذا أنّثوا قالوا التربة،يقال أرض طيبة التربة أي خلقة ترابها...»،و تستعمل الكلمة لوصف أن شيئا ما تستوي حاله مع التراب،جاء في لسان العرب:

«...و رجل ترب،لازق بالتراب من الحاجة،ليس بينه و بين الأرض شيء،و في حديث أنس رضي اللّه عنه،لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سبّابا و لا فحّاشا،كان يقول لأحدنا عند المعاتبة:ترب جبينه،قيل:أراد به دعاء له بكثرة السجود...»،و بالتالي فهي تعني على وجه العموم الاستواء بين شيء و شيء آخر،جاء في لسان العرب:

«...و الترب اللدّة و السن:يقال هذه ترب هذه أي لدتها،و قيل ترب الرجل أي الذي ولد معه...»،و يقيّد دلالة اللفظ السياق الذي يأتي فيه،و القرائن التي تستنبط من النص،و القرائن الخارجية من حديث شريف و علم ثابت...فعلى سبيل المثال:

يشير السياق و الأحاديث النبوية الشريفة أن كلمة«ترب»في الآيات: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ(52) [ص:52]،و إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً(35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً(36) عُرُباً أَتْراباً(37) [الواقعة:35-37]،و وَ كَواعِبَ أَتْراباً(33) [النبأ:33]تشير إلى التماثل في الحسن و الجمال و البهاء و فيض الأنوثة و نضارة الشباب في تصوير حال الزوجات في الجنة.

و نظرا لطبيعة هذه الكلمة فقد تفسّر على أكثر من وجه،و لذلك اختلف المفسّرون بشكل واسع حول دلالة اللفظ في النص القرآني المعتبر،جاء في لسان

ص: 95

العرب (1):«و الترائب:موضع القلادة من الصدر،و قيل:ما بين الترقوة إلى الثندوة، و قيل:الترائب عظام الصدر،و قيل:ما ولي الترقوتين،و قيل ما بين الثديين و الترقوتين...و قيل:الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر و أربع من يسرته...»، و إذا اعتبرنا قاعدة أن دلالة اللفظ يقيّدها السياق و القرائن التي تأتي فيه،فهمنا أن قرائن النص في هذا المقام-مقام الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة-تعتمد مباشرة على المعطيات العلمية التي تثبت هذه الصفة طبقا للحقيقة الموجودة في جسم الإنسان،فيصدق بذلك أن يصرف إلى الأضلاع التي تكوّن عظام الصدر-كما سنرى فيما بعد-،و لفظ اَلصُّلْبِ بالمثل،اسم صفة،لا اسم ذات،يدل بأصل اشتقاقه على قائم متين،يصلب عليه الشيء و يشد محمولا عليه،فيصدق على العمود الفقري الذي يحمل معظم بدن الإنسان القائم،غير أن المفسّرين لم يختلفوا حوله، و ذلك لأن الأعضاء النظيرة في الجسم كثيرة كما رأينا،أما الأعضاء المتينة التي تحمل أعضاء أخرى فهي جد قليلة في الجسم،و هو كما جاء في لسان العرب (2):

«و الصّلب:عظم من لدن الكاهل إلى العجب...».

و تحدثنا الآيتان التاليتان خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) أن الماء يخرج من مكان ما واقع ما بين الصلب و الترائب (3)و ذلك لكل من المرأة].

ص: 96


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«ترب»-(ج /2ص:24-25).
2- لسان العرب لابن منظور-مادة«صلب»-(ج /7ص:379).
3- لقد أعاد بعض العلماء فعل يَخْرُجُ الذي جاء في النص القرآني: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7]للإنسان،فتصبح الآية عندئذ تعني:فلينظر الإنسان ممّ خلق،خلق من ماء دافق،يخرج الإنسان من بين الصلب و الترائب.و نقول:إن الآية في هذه الحال لا تفيد شيئا جديدا،بل و لا تشير إلى حكمة بالغة،فكلّنا يعلم أن الحميل-أي الجنين بالمعنى المتداول-يخرج من الرحم الذي يقع في وسط الجسم،و بذلك يخرج عبر محور الجسم الذي يقع بين الصلب و الترائب، و هذا يتنافى مع بلاغة القرآن.فالآية تعلن بوضوح من خلال فعل فَلْيَنْظُرِ أن هناك أمرا مهمّا يجب النظر إليه-أ لا و هو إعجاز علمي-،أكثر من مجرد الإخبار عن خبر مألوف لدى الجميع،كذلك فإن سياق النص القرآني: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ(8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ(9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ(10) وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ(11) وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ(12) ...[الطارق:7-12]يشير إلى عدّة إعجازات علمية مثل:أن السماء لها خاصية الرجع،أي أنها ترجع عدة أشياء إلى الأرض،كإرجاع مياه البحور-التي تتبخر و من ثمّ تتكثّف -إلى الأرض من خلال سقوط المطر،و إرجاع الأشعّة الضوئية الضارة إلى الفضاء الخارجي،و مثل:أن الأرض ليست قطعة واحدة متواصلة،بل يوجد فيها صدوع عدّة،تجعلها مؤلفة من(لوحات PLATES ) عدّة،تتحرك و تمور كما تخبرنا الآية: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ [الملك:16].

و الرجل،لأن لفظ«ماء»يخص كليهما،و هو لفظ عام غير مقيّد بأحد الجنسين، و ليس كما أشار إليه بعض المفسّرين أنه من صلب الرجل و من ترائب المرأة.

قال الألوسي:«و ظاهر الآية أن أحد طرفي البينية(التوسط):الصلب،و الآخر الترائب...فكان الصلب و الترائب لشخص واحد فلا تغفل...قال الحسن،و روي عن قتادة أيضا:أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل و المرأة، و ترائب كل منهما...» (1).9.

ص: 97


1- روح المعاني،ج /30ص 99.

و نلاحظ أيضا أن اللّه سبحانه و تعالى قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ و لم يقل ...يخرج من الصلب و الترائب،لما ذا؟:

ذلك لأن الماء يخرج من موضع ما قريب من التقاء الصلب و الترائب و ليس من الموضعين نفسيهما،هذا الاستنتاج ليس خطأ أو غريبا عن القرآن الكريم لأن هذا الأسلوب وصف في موضع آخر من القرآن الكريم تخلّق اللبن عند الحديث عن مصدره في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ [النحل:66].و قد أوضحنا في باب تخلّق اللبن في مبحث«الرضاعة»الآتي لاحقا أن اللبن يستخلص من الفرث و من ثمّ من الدم،و ليس هو الدم و الفرث نفسيهما (1).

كلنا يعلم أن ماء الرجل إنما يتكون في الخصية و ملحقاتها،و أن ماء المرأة يتكون في المبيض،فكيف يخرج الماء إذا من مكان بعيد عن تلك الأعضاء(أي من بين الصلب و الترائب)؟

الحقيقة أن الآية تتحدث عن أصل الماء و ليس عن الماء نفسه و ذلك لإظهار الإعجاز في معرفة خفايا تخلّق الماء.

إن أصل الماء هو الماء الذي يغذّي المبيض و الخصية،و بالتالي يكون أساسا لهذا الماء.

يقول الدكتور محمد علي البار في حديثه عن تحديد موقع مصدر«أصل الماء»:«إن الخصية و المبيض إنما يتكوّنان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين و ترائبه...و تتكون الخصية و المبيض في هذه المنطقة بالضبط أي:بين الصلب و الترائب.ثم تنزل الخصية تدريجيا حتى تصل إلى كيس الصّفن(خارج الجسم)في أواخر الشهر السابع من الحمل..و بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة و لا ينزل أسفل من ذلك.(انظر الصورة رقم:19).

و مع هذا فإن تغذية الخصية و المبيض بالدماء و الأعصاب و اللّمف تبقى من حيث أصلها..أي من بين الصلب و الترائب.فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر(الأورطي البطني)من بين الصلب و الترائب،كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة..يصب الوريد الأيسر في الوريد الكلوي الأيسر بينما يصب وريد الخصية الأيمن في الوريد الأجوف السفلي..و كذلك أوردة المبيض و شريانها يصبان في نفس المنطقة أي بين الصلب و الترائب..كما أن الأعصاب المغذية».

ص: 98


1- انظر مبحث«الرضاعة».

للخصية أو للمبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب و الترائب..و كذلك الأوعية اللمفاوية تصب في نفس المنطقة أي بين الصلب و الترائب...فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب و الترائب،كما أن منشأها و مبدأها من بين الصلب و الترائب» (1).(انظر الصورة رقم:20).

فالخصية أو المبيض قد بدأ تكوينهما إذا من مكان يجاور الكلى(من جسم (ولف WOLFF )و قناته الذي نشأ بدوره على جانب من جانبي العمود الفقري)،أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا و مقابل أسفل الضلوع،لذلك ظل مصدر تغذيتهما حيث كان،أي:بين الصلب و الترائب.

و مما يعزّز هذا المعنى قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172].تشير هذه الآية إلى أن الشامختين التناسليتين،اللتين تمثلان أصل الإنسان بما تحتويان على خلايا جنسية،ابتدأ تخلّقهما على الجدار الخلفي للبطن من الظهر.(انظر الصورة رقم:21).و للعلم فإن الظهر ليس محصورا بالصلب كما يعتقده عامة الناس و لكن يشمل كلاّ من الصلب و الترائب و الأعضاء الموجودة على الجهة الخلفية للإنسان،و ذلك واضح في المفهوم القرآني و الدليل على ذلك قوله تعالى: وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما... [الأنعام:146]،أي ما احتوت ظهورهما (2)،و بذلك تندرج الشامختان التناسليتان في محتوى الظهر لدى الجنين،و يكون أصل الذرية من الظهر.

إنه بحق إعجاز علمي،فمن يتصوّر أن المبيضين و الخصيتين ينحدران من مكان ما يقع ما بين الصلب و الترائب؟!،و من يتصوّر أنّ تغذيتهما باللمف و الأعصاب و الأوردة تنبع من نفس المكان؟!،مع أن المبيضين و الخصيتين موجودان في أسفل البطن،و مع أن ماءهما يخرج من الأعضاء التناسلية بعيدا عن الصلب و الترائب كما يشاهده عامة الناس،لا شك أن ذلك غير متصوّر في عصر خلا من الوسائل و التقنيات العلمية،و لكن إثباته في ذاك لا يدل إلا على شيء واحد،أ لا و هو الوحي الإلهي الرباني؟!!.).

ص: 99


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البار،ص 114.
2- قال الإمام ابن كثير في تفسيره للآية رقم 146 من سورة الأنعام:«يعني ما علق بالظهر من الشحوم». و اختلف العلماء على ما شملته الآية من أعضاء(و هذا لا يعنينا في بحثنا هذا،و ما يعنينا هو أن الظهر يشمل الأعضاء الموجودة في الجهة الخلفية من جسم الإنسان على وجه العموم).

> CS <

ص: 100

> CS <

ص: 101

و من الجدير بالذكر هنا أن نشير إلى أنه قد جاء ذكر الأصلاب في ثلاثة نصوص شرعية هي الآية الكريمة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:23]،و الحديث الشريف:«عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها قالت:دعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى جنازة صبيّ من الأنصار،فقلت:يا رسول اللّه طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنّة لم يعمل السّوء و لم يدركه،قال:أو غير ذلك يا عائشة! إنّ اللّه خلق للجنّة أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم،و خلق للنّار أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم».[أخرجه مسلم ح 109] (1)،و الحديث الشريف:«قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا» [أخرجه البخاري ح 110].

و ظاهر النصوص الثلاثة يشير إلى أن الإنسان كان موجودا في عالم الذر في الصلب،و بالتالي فهذا الظاهر يتعارض مع الحقيقة العلمية التي سبق و أشرنا إليها».

ص: 102


1- فائدة: من المهم بمكان هنا أن نوضّح أمرين أساسيين ليس لهما صلة بالإعجاز العلمي،و هما يرتبطان بصلب العقيدة الإسلامية،و يرتكز عليهما فهم الحديث رقم 109: إن علم اللّه عزّ و جلّ هو علم كاشف راصد،و هذا العلم لا دخل له في اختيارات العباد،و لا في إلزامهم بها،فهو علم إحاطة فقط،و اللّه جلّ و علا يعلم أعمال العباد و اختياراتهم للكفر و الإيمان قبل أن يخلقهم في الأزل. إن الأطفال في الإسلام-سواء أ كانوا أطفال الكفار أم أطفال المؤمنين-يدخلون الجنّة على أغلب أقوال العلماء،و يشهد لذلك عدّة أحاديث ثابتة،و ذلك لأنهم لم يبلغوا الحلم،و لم يكلّفوا بعد،و إنما جاء نهي الرسول صلى اللّه عليه و سلّم للسيدة عائشة رضي اللّه عنها في التكلم عن مصير الطفل،تعليما لنا بأن نتوقف عن التكلم عن مصير المخلوقات لأن هذا من اختصاص اللّه تعالى،فالأحوط أن نتوقّف في هذه المسائل الغيبية حتى لا نقع في الخطأ و نحاسب عليه،جاء في شرح سنن النسائي للسندي للحديث رقم 1947،كتاب الجنائز،باب الصلاة على الصبيان:«(أو غير ذلك)أي بل غير ذلك أحسن و أولى و هو التوقف... قال النووي...لعله نهاها المسارعة إلى القطع من غير دليل».

و هي:أن الإنسان انبثق من الشامختين التناسليتين اللتين تقعان قرب الصلب و الترائب، و ليس من نفس الصلب و الترائب،كما أشار إليه النص القرآني الكريم: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

و في الحقيقة ليس هناك تعارض لعدّة أسباب،أهمها:هو أن آية سورة النساء، و الحديث رقم 109،و الحديث رقم 110 جاءوا على ذكر الأصلاب من باب المجاز المرسل للدلالة على أن الإنسان انحدر من مكان يجاور الصلب،و ذلك لكثرة تداول و شيوع هذه الكلمة عند العرب.

فالعرب تستعمل هذا النوع من المجاز،و قد جاء ذكره في كتب اللغة العربية، قال الكردي في«نظرات في البيان» (1):«إذا كان الشيء مجاورا لآخر في مكانه يكون بينهما اتصال،يعدّ في العرف مجاورة.من ذلك قولك:شربت من الراوية.الراوية:

ما يستقي عليه من بعير و غيره،و المزادة:سقاء الماء الذي يوضع عليها.و الراوية مستعملة في المزادة،و العلاقة مجاورة المزادة للراوية،و القرينة كلمة:شربت».

و عند الأصوليين إذا وقع تعارض ظاهر بين نصّين شرعيين،فعلينا التأليف بينهما قبل أن نحكم عليهما بالتعارض،و هو الحال هنا.

فهناك الكثير من الأحاديث تتكلّم عن أمور لها صلة بظواهر كونية لم تكن تعرف لدى العرب وقت التنزيل،و التكلم عن هذه الأمور جاء لتبيين مواضيع شتّى كالتشريع...أو إظهار حكمة ما،و لم يسق أساسا لتبيين الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،و الاستطراد في الكلام لتبيين الأمور العلمية الغيبية التي تتفرّع من المواضيع الأساسية يجعل فهم المواضيع الأساسية معقّدا على السامعين.لذلك فالاختصار في الكلام في هذا الموضع و استعمال المجاز فيه،المألوف للمجتمع العربي آنذاك، يسهّل استيعاب الكلام،و في الوقت نفسه يفتح المجال لاكتشاف الحقيقة العلمية في المستقبل،و هذا الأسلوب يدلّ على دقّة عالية،و حكمة متناهية،في التعبير عن المعاني التي يصل إليها الكل بطرق مختلفة،حيث إن استعمال المجاز هنا لا يعارض معتقدات هذه الشعوب(لأنه بالظاهر يوافق معتقداتهم بأن الإنسان ينسل من الصلب)،و لا الحقيقة العلمية(لأنه يستخدم المجاز الذي يتيح فهم أن انسلال).

ص: 103


1- «نظرات في البيان»،للدكتور محمد الكردي،باب المجاز المرسل،ص 238-و انظر«عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح»،لأحمد السبكي،(ج /1ص 100)-و«المطول في شرح تلخيص العلوم»، للتفتازاني،ص 576-و«الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم»،لإبراهيم محمد بن عربشاه العصام الحنفي، (ج /1ص 85).

الإنسان هو من مكان يجاور الصلب)في آن واحد،فجاء التأليف بينهما بأسلوب سهل،ليّن،سائغ للسامعين.

و لا يعتبر هذا الأسلوب تضليلا للسامعين عن الحقيقة العلمية،لأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بيّن الحقيقة العلمية في مكان آخر،فقد جاء ذكرها في نص سورة الطارق بأسلوب يدعونا للتفكّر و اكتشاف الحقيقة العلمية،و هو أسلوب إيضاح، و تبيين،و تفصيل لمبدأ نشأة الإنسان كما يشير إليه سياق النص القرآني: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) [الطارق:5]،أما في آية سورة النساء و الحديث رقم 109، و الحديث رقم 110 فقد جاء ذكر كلمة«الأصلاب»بطريقة موجزة،و هكذا فإن النصوص الشرعية الثلاثة مجملة،و آية سورة الطارق مبيّنة،و علينا أن نردّ المجمل إلى المبيّن كما يقرّره علم«أصول الفقه»،و بالتالي فلا نستطيع أن نقول إن النصوص الشرعية الثلاثة تتعارض مع نص سورة الطارق.كذلك فإن نص سورة الطارق سيق لغرض تبيين نشأة الإنسان،و النصوص الشرعية الثلاثة لتبيين أمور أخرى،و قد استعمل فيها كلمة«الأصلاب»تبعا في ذكر أمر آخر،و علينا أن نردّ الأمر العرضي إلى الأمر الأساسي،أضف إلى ذلك أن المجاز استعمل في النصوص الشرعية الثلاثة،و الحقيقة العلمية في نص سورة الطارق،و علينا أن نردّ المجاز إلى الحقيقة قبل أن نجزم أن هناك تعارضا.

8-تفسير النقطة الثامنة(أن ماء المرأة أصفر):

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر...»[أخرجه مسلم ح 9]

إن الماء الذي يتدفق من مبيض المرأة(أي السائل الحويصلي)و الذي يحتوي على البويضة،أصفر اللون،و الحديث السابق يشير إلى هذا الماء؛و الدليل على ذلك هو أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أشار في حديث آخر (1)إلى لون النطفة الذّكرية و الأنثوية،و بما أن النطفة هي القطرة من الماء،فبالتالي إن لونها يتبع لون الماء الذي يحويها.(انظر الصورة رقم:22).و بعد خروج البويضة من الحويصلة يتحول ما تبقى من تلك الحويصلة إلى ما يعرف(بالجسم الأصفر CORPUS LUTEUM ) (2).

ص: 104


1- الحديث هو:«نطفة الرجل بيضاء غليظة،و نطفة المرأة صفراء رقيقة،فأيهما غلبت فالشبه له»[ذكره ابن هشام ح 69].
2- كتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب،د.حامد أحمد حامد،ص 40.

> CS <

(22)-نرى هنا النطفة داخل بوق فالوب و هي صفراء اللون وفقا للحديث «ماء المرأة أصفر»[أخرجه مسلم ح 9]

هذا الأمر لم يستطع أحد تأكيده في عهد رسول اللّه-عليه و على آله الصلاة و السلام-لأن المجهر لم يكن موجودا في ذلك العصر ليكشف عما يجري داخل الرحم،بيد أن هذا الأخير اكتشف عام 1677 م على يدي هام و هوك ليوين.

ص: 105

النطفة

اشارة

*قال العليم الحكيم: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة:37].

*قال العليم الحكيم: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8].

*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«ما من كل الماء يكون الولد..» [أخرجه مسلم ح 17].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فمن أيّهما علا أو سبق يكون الشّبه منه»[أخرجه مسلم ح 67].

*عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيهما غلبت فالشبه له».[ذكره ابن هشام ح 69].

أ-النطفة:

1-تعريف النطفة

اشارة

نفهم من الآيتين الكريمتين السابقتين أن الإنسان خلق من جزء من المني و ليس من المني كله،لأن الإنسان خلق من نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ (1).فالنطفة ليست المني كله و لكنها جزء من المني،و يكون معنى الآية:أ لم يك الإنسان قطرة من مني يمنى؟.

ص: 106


1- لقد رأينا في مبحث«الماء و المني»أن الإنسان يتخلق من مني الرجل و ماء المرأة،و أيقنّا أيضا أن ماء الرجل هو مني الرجل في الوقت نفسه،على حين أن ماء المرأة يختلف عن مني المرأة،لذلك قد يتساءل بعض القرّاء لما ذا قال اللّه تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة:37]؟و الحال هي أن الإنسان لم يتكون بأكمله من مني يمنى،لأن الآية في هذه الحالة تشير بالظاهر إلى مني الرجل فقط،و هي تؤلّف نصف مادة الجنين المتخلق،و ليس كلّها،كذلك فالقارئ قد يتساءل أن اللّه تعالى لو قال:أ لم يك نطفة من ماء،أ لم يكن ذلك يكفي المعنى؟ نقول-و بالله التوفيق-:إن اللّه تعالى نزّل هذا الكلام منزلة التغليب،و تعريفه:«و حقيقته إعطاء الشيء حكم غيره،و قيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر،أو إطلاق لفظه عليهما،إجراء للمختلفين مجرى المتفقين».«البرهان في علوم القرآن للزركشي»،ص 302.و انظر«الأشباه و النظائر»للسيوطي -(ج /1ص 170).

ص: 107

ص: 108

إلى ذلك فالنطفة في اللغة العربية هي القليل من الماء الذي يعدل القطرة.

جاء في لسان العرب (1):«النطفة:و النطفة القليل من الماء...و النطف:القطر و نطف الحب و الكوز و غيرهما ينطف و ينطف نطفا و نطوفا و نطافا و نطفانا:قطر».

و قد وردت عدة أحاديث للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و روايات للصحابة رضى اللّه عنهم تحمل هذا المفهوم منها:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«بينما أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر بين رجلين ينطف رأسه ماء...»[أخرجه مسلم ح 18]،و منها:«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»،فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه.

[أخرجه أحمد ح 19].هذا هو مفهوم الصحابة رضي اللّه عنهم للنطفة.

هذا و قد أوضح الرسول الكريم-عليه أزكى الصلوات و أطيب التحيات-أن مصدر الإنسان إنما هو من جزء من الماء بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من كل الماء يكون الولد، و إذا أراد اللّه خلق شيء لم يمنعه شيء»[أخرجه مسلم ح 17]،فمنطوق الحديث أنّه ليس من كل الماء يكون الولد،و مفهومه بل من جزء يسير منه،و بهذا تكون النطفة-أي القطرة من الماء-السبب في خلق الإنسان.

و هكذا نفهم لما ذا أطلق الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم لفظ«نطفة»على كل من بويضة المرأة و البويضة المخصبة،بل و حتى على الحيوانات المنوية التي تنتقل هي أيضا من المهبل إلى قناة فالوب حتى تلقح بويضة المرأة.(انظر الصورتين رقم:23-24).).

ص: 109


1- -من مني؟أو أ لم يك نطفة تمنى؟كما في قوله تعالى: وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى(46) [النجم:45-46]،لكي نفهم المعنى،غير أن تكرير أصل«منى»من خلال كلمتي«مني» و«يمنى»،الذي يشير إلى تمني الشهوة بنزول السائل الجنسي دلّ على أن شهوة الذكر للأنثى(أو شهوة الأنثى للذكر)تلعب دورا كبيرا في تسهيل إذكار أو إيناث الجنين كما يشير إليه الحديث الشريف:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا مني المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9]،و كما أشرنا إليه في مبحث«الماء و المني/أن لمني الرجل و لمني المرأة دورا في تسهيل عملية إذكار أو إيناث الجنين):و من هنا كان ارتباط آخر الكلام بأوّله». *و من ناحية أخرى:إن قول-على سبيل المثال-:أ لم يك نطفة من ماء يتدفق،ثم كان علقة، فخلق،فسوى،فجعل منه الزوجين الذكر و الأنثى،لن يحتفظ بجمال البيان و رونقه،كما لا يخفى على العالم باللغة العربية،و نحوها،و بلاغتها... و الله تعالى أعلم،و أجلّ و أكرم.

> CS <

ص: 110

2-نطف ذكرية و أنثوية

*سأل يهودي الرسول الكريم-عليه أفضل الصلاة و التسليم-قائلا:يا محمد ممّ خلق الإنسان؟،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20].

بعد أن عرّفنا-من خلال ما تقدم-أن للمرأة ماء كما أن للرجل ماء،لا بد أن نشير إلى أن إثبات وجود ماء للمرأة لا يلزم منه إثبات وجود بويضة داخل هذا الماء.

و إن كانت الفرضية قد تقود إلى مثل هذا الفهم،فإن ثمة فرضيّات كثيرة أخرى تقود إلى خلاف هذا،فقد ذهب العالم(مارسيلو مالبيجي MARCELLO MALPIGHI )1675 م إلى أن الحيوان يكون في ماء الرجل و يتغذى من ماء المرأة.

إذا فالمعرفة الدقيقة لهذا المعنى لا بد أن تكون قائمة على أسس أكثر ثباتا من الفرض و التخمين.

و قد أثبت الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:

*أن للمرأة نطفة كما أن للرجل نطفة.

*أن نطفة المرأة تلعب دورا أساسيا كنطفة الرجل في خلق الإنسان،و الحال أن اكتشاف حويصلة البويضة لم يتم إلا في القرن السابع عشر على يد العالم دوغراف،و لذلك تسمى:(فوليكول دوغراف FOLLICULE DE GRAAF ).

و بذلك يكون الرسول-عليه الصلاة و السلام-قد نسخ مزاعم الطبيب مالبيجي التي أطلقها في سنة 1675 م من أن البويضة تحمل الجنين بصورة مصغرة، و أن السائل لا وظيفة له إلا تنشيط البويضة،و اعتقاد(هام و لو فينهوك HAMM AND LEEUWENHOEK )أن الجنين موجود بصورة مصغرة جدا في الحيوان المنوي،و أن لا وظيفة للبويضة إلا في تغذيته و تنشيطه،و ذلك عند ما أكد صلّى اللّه عليه و سلّم أن لكل من نطفة الرجل و نطفة المرأة حظا في عملية تخلّق الجنين،و كان بذلك صلّى اللّه عليه و سلّم قد أشار إلى هذه الحقيقة العلمية قبل أن يكتشفها العالم(سبلانزاني SPALLANZANI )(1729- 1799 م)أيضا.

ب-السلالة:

اشارة

هذا ما يتعلق بكلمة نطفة،أما بالنسبة لكلمة سلالة،فنشير إلى أن كلمة سلالة قد وردت في الآية الكريمة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]إلى جانب كلمة«ماء».

ص: 111

هذه السلالة تستخرج من الماء تحديدا و ليس بالضرورة من المني،و بالتالي فإن السلالة تأتي من الرجل أو من المرأة و ليس من الرجل فقط،و ذلك لأن الماء هو سبب تخلّق الجنين كما أشرنا إليه في مبحث«الماء و المني»و هو بالتالي يحمل نطف المرأة أو نطف الرجل،أما المني فهو يحتوي على نطفة الرجل فقط و لا يحتوي على نطفة المرأة(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).

و الماء المهين هو الماء القليل في اللغة العربية.

جاء في لسان العرب (1):«مهين:قال أبو إسحاق:هو فعيل من المهانة و هي القلة...و قوله عزّ و جلّ:خلق من ماء مهين،أي من ماء قليل ضعيف».

كلنا يعلم أن مني الرجل قليل و ذلك لأنه ظاهر للعيان؛فعلى سبيل المثال:

فإن متوسط ما يتدفق من المني عند استمناء الرجل يبلغ حوالي ثلاثة و نصف من المليليتر،و يوجد في هذا الحيّز من المكان حوالي ثلاثة مائة و خمسين مليون حيوان منوي؛أي أن لكل مائة مليون نطفة-تبلغ من الطول ستة في المائة من المليمتر- ملم مكعب واحد لتتحرك فيه،و هذا مكان صغير نسبيا.

أما بالنسبة للبويضة فإن قطرها يبلغ 13,0 ميليمتر عند خروجها من الجريب (2)و يبلغ حجم السائل الذي يقذف معها حوالي 10 إلى 15 مليلتر (3)،و هو أيضا رقم صغير نسبيا.

إذا معرفة أن ماء الرجل قليل كما أسلفنا القول ليس من الإعجاز،أما معرفة أن ماء المرأة قليل فهو أمر غير طبيعي؛فالسائل الذي يحتوي على البويضة غير ظاهر و لا سبيل للنظر إليه إلا بواسطة آلات متقدمة كانت غير موجودة في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.و هذا السائل يخرج من المبيض و يتبعثر في(تجويف البطن PERITONEAL CAVITY )،و ما يصل منه إلى قناة فالوب يختلط بالماء الموجود فيها و بالسوائل الأخرى التي تفرزها غدد رحمية موجودة في الرحم مثل(لبن الرحم UTERINE MILK ) (4)،و بالتالي ما يخرج من الرحم،في حال خرج منه،لا يكون مميّزا عن غيره من السوائل،و هكذا فلا سبيل لمعرفة مقداره.5.

ص: 112


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«مهن»-(ج /13ص 212).
2- كتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب،د.محمد أحمد حامد،ص 40.
3- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 31.
4- كتاب علم الأجنة الإنساني،بويد و موسمان،هاملتون،ص 85.

و لنتكلم الآن عن معنى كلمة«سلالة»،فهذه الكلمة مشتقة من كلمة«سلّ»، و كلمة«سلّ»لها عدة معان منها:

1-الماء القليل.

2-السمكة الطويلة.

3-انتزاع الشيء و إخراجه في رفق (1).

4-الخروج من الزحام.

5-الخروج من مضيق.

6-السير السريع و السباق.

قال ابن فارس:«سل:السين و اللام أصل واحد،و هو مدّ الشيء في رفق و خفاء...و مما حمل عليه:السلسلة:سميت بذلك لأنها ممتدة في اتصال،و من ذلك:تسلسل الماء في الحلق إذا جرى...» (2).

ورد في لسان العرب (3):«سلل:السّل:انتزاع الشيء و إخراجه في رفق،سلّه يسلّه سلاّ و استلّه فانسلّ و سللته أسلّه سلاّ...و السلالة ما انسلّ من الشيء...و الانسلال:المضي و الخروج من مضيق أو زحام...قال ابن بري:قوله سال السليل بهم أي ساروا سيرا سريعا...و سلّة الفرس:دفعته من بين الخيل، و فرس شديد السلة:و هي دفعته في سباقه».

جاء في تاج العروس عن السلالة (4):«و أيضا السمكة الطويلة».

و نقول:إن العرب سمّت السمكة الطويلة بالسلالة لأنها ممتدّة باتصال،و أنّ انتزاع الشيء من الشيء الآخر هو امتداد له،لذلك أطلق العرب اسم السلالة على ما استخرج من الشيء،كذلك الخروج من الزحام هو امتداد للجماعة التي تشكل الزحام،و الخروج من المضيق هو اختفاء عن الأنظار من خلال الولوج في هذا المضيق و الخروج من ناحيته الأخرى،و السير يشكّل حلقة متّصلة من الخطوات،).

ص: 113


1- القاموس المحيط لمجد الدين محمد-مادة«سلل»-ص 1312.تاج العروس لمحمد مرتضى-مادة «سلل»-(ج /14ص 349).
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس،(ج /3ص 59-60).
3- لسان العرب لابن منظور-مادة«سلل»-(ج /6ص 338-340).
4- القاموس المحيط لمجد الدين محمد-مادة«سلل»-ص 1312.تاج العروس لمحمد مرتضى-مادة «سلل»-(ج /14ص 350).

و السرعة في السير تضفي الخفاء على الشيء لأنه يقطع مسافة معيّنة في مدّة قصيرة فيغيب عن الأنظار...

و مما يجب التنويه به هنا هو أن حرف«من»له عدة وظائف في اللغة،فهو قد يأتي لابتداء الغاية في الأماكن و الأزمنة،أو للتبعيض،أو للجنس.

جاء في لسان العرب (1):«من:...و من بالكسر حرف خافض لابتداء الغاية في الأماكن،و ذلك قولك من مكان كذا و كذا إلى مكان كذا و كذا،و خرجت من بغداد إلى الكوفة،و تكون أيضا للتبعيض،تقول:هذا من الثوب و هذا الدّرهم من الدراهم و هذا منهم،كأنك قلت بعضه أو بعضهم،و تكون للجنس كقوله تعالى:

فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النساء:4]،فإن قيل:كيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله و إنما قال منه؟،فالجواب في ذلك أن«من»هنا للجنس،كما قال تعالى:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج:30]و لم نؤمر باجتناب بعض الأوثان...».

فإن اعتبرنا حرف«من»لابتداء الغاية في الأماكن،فإنه ينطبق على السلالة معنى الخروج من مضيق،أو من الزحام،أو الخروج برفق،و كان المعنى على هذا النحو:ثم جعل نسله من شيء ينسلّ برفق أو من مضيق أو من زحام إلى مكان كذا و كذا.و إن اعتبرنا حرف«من»للجنس انطبق على السلالة معنى السير السريع و السباق،و كان المعنى على هذا النحو:ثم جعل نسله من ماء قليل يسير بسرعة.

و إن اعتبرنا حرف«من»للتبعيض انطبق على السلالة معنى السمكة الطويلة،و كان المعنى على هذا النحو:ثم جعل نسله من بعض المني يشبه السمكة الطويلة.

المعنى الأول و هو الماء القليل:

كلمة سلالة تشير إلى البويضة و إلى الحيوان المنوي لأنها تعني القليل من الماء،و ذلك حسب ما يشير إليه وزن الكلمة،جاء في تفسير زاد المسير (2):« وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]:قال الزجاج:و السلالة فعالة،و هي القليل مما ينسل،و كل مبنيّ على فعالة يراد به القليل،من ذلك:الفضالة،و النّخالة،و القلامة».

في هذه الحالة تكون وظيفة«من»للتبعيض و يكون المعنى على النحو التالي:

ثم جعل نسله من ماء قليل(أي من نطفة)ينسل من ماء قليل أيضا(و هو الماء الدافق).

ص: 114


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«منن»-(ج /13ص 201).
2- زاد المسير لابن الجوزي-(ج /5ص 462).

و بالفعل فإن حجم الحيوان المنوي 1/100 من الملم،و حجم البويضة عند ما تنسل من الجريب 13,0 ملم،و هي أرقام صغيرة نسبيا.

و نفهم من هذا الكلام أن الذي أوحى القرآن لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أراد أن يشير الجذر«سلّ»إلى معنى الشيء القليل،فتكلّم به على وزن«فعالة»ليرينا أنه يعلم أن الحيوانات المنوية و البويضة التي تنسل من الماء صغيرة الحجم.

المعنى الثاني و هو السمكة الطويلة:

توجد الحيوانات المنوية في المني، و المني هو السائل الذي يتدفق من العضو التناسلي للرجل،و بالتالي فإن الحيوانات المنوية توجد في وسط مائي كما توجد الأسماك في مياه البحار و الأنهار.

إلى ذلك فإن الحيوان المنوي مؤلف من ثلاثة أجزاء:رأس،و قطعة متوسطة، و ذيل.يسبح و يتنقّل الحيوان المنوي في هذا السائل بواسطة ذيله الذي يدفع به إلى الأمام،و هكذا فإن الحيوان المنوي يشبه السمكة من حيث الحركة.

يتخذ رأس الحيوان المنوي شكلا كمّثريا-أي مثل شكل الإجاصة-و هو ضخم بالنسبة للقطعة المتوسطة و الذيل مما يجعله يشبه السمكة ذات الرأس الكبير من حيث الشكل.

و هكذا نرى تشابه الحيوان المنوي بالسمكة من حيث المحيط و الحركة و المظهر.

إنّ الحيوان المنوي طويل جدا بالنسبة لعرضه؛يبلغ طول الحيوان المنوي ستة في المائة من المليمتر و يحتل رأسه الضخم خمسة ميكرونات فقط(و الميكرون هو واحد على الألف من المليمتر) (1)،أما باقي أجزاء الحيوان المنوي-القطعة المتوسطة و الذيل-فهي تتخذ شكلا مستطيلا طويلا و تحتل معظم طول النطفة؛ و بالتالي فإن الحيوان المنوي يظهر للرائي ليس كسمكة فحسب بل كسمكة طويلة كما تنص عليه كلمة«سلالة»التي وردت في القرآن الكريم.(انظر الصورة رقم:25).

المعنى الثالث و هو انتزاع الشيء و إخراجه في رفق:

بعد تدفق المني من عضو الرجل في مهبل المرأة تبدأ الحيوانات المنوية رحلتها إلى البويضة فتسبح في بادئ الأمر في مني الرجل و من ثمّ تصعد إلى قناة عنق الرحم سابحة في منيّ الرجل.

ص: 115


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البار،ص 160.

> CS <

(25)-نرى في الصورة الحيوان المنوي يتحرك في الرحم و كأنه سمكة طويلة تسبح في قاع البحر وفقا لمعنى كلمة«سلالة»

و تجدر الإشارة هنا إلى أن(عنق الرحم CERVIX )يمتلئ في هذه الفترة بمادة مخاطية و لكن تصبح طبيعتها أكثر لزاجة فتسهّل عبور الحيوانات المنوية إلى الرحم و تمدها بالأوكسيجين.كما أن جدار الرحم يمد الحيوانات المنوية بالطاقة لمواصلة سيرها إلى هدفها مما يساعدها على الانسلال برفق من المني إلى الرحم فقناة فالوب تماما كما تعنيه كلمة«سلالة».

أما بالنسبة للبويضة فإن حركة(أهداب بوق فالوب FIMBRIAE )تسهّل انسلالها؛فهذه تكون قد تلقّت من الجريب موادّ كيميائية ترشدها إلى المكان الذي ستنفجر منه الحويصلة،و بذلك تتخذ مواقع لها تمكّنها من التقاط البويضة بحيث لا تضيع في جوف البطن،كما أن جريب البويضة يفرز مادة تجعل أهداب بوق فالوب

ص: 116

تسحب ماء البويضة إلى داخل البوق،إلى ذلك فإن حركة شعيرات قناة فالوب و تقلّص عضلات قناة الرحم يحدثان ضغطا سلبيا مما يساعد على التقاط البويضة و المحافظة عليها.و الأهم من ذلك كله هو أن البويضة تحاط بكمية كبيرة من الغذاء تخوّلها مواصلة نشاطها،و لو لا هذا التسهيل لواجهت النطف-سواء أ كانت الحيوانات المنوية أو البويضة-الموت المحتّم.

و هكذا يتبيّن لنا كيف أن التعبير بكلمة«سلالة»متوافق تماما لما توصّل إليه العلم من أن هناك عوامل تسهّل رحلة الحيوانات المنوية من محيطها الأول إلى محيطها الثاني،و أن هناك عوامل أخرى تسهّل انسلال البويضة من المبيض إلى مكان تلقيحها.

المعنى الرابع و هو الخروج من زحام:

كما أسلفنا القول:فإن حجم ما يتدفق من المني عند استمناء الرجل يبلغ حوالي ثلاثة و نصف من المليليتر،و يوجد في هذا الحيّز من المكان حوالي ثلاث مائة و خمسون مليون حيوان منوي!!!و بذلك فإن المني مزدحم بتلك النطف.

إلى ذلك تجتمع الحيوانات المنوية في مرحلة أولى حول عنق الرحم الذي لا يسمح بمروره إلا للقليل منها فتتزاحم الحيوانات المنوية لتعبره و من ثمّ تخرج منه بدفعات قليلة و تصعد إلى قناة فالوب فينقص عددها إلى حوالي خمسمائة حيوان و لا يلقح البويضة إلا نطفة واحدة.(انظر الصورة رقم:26).

و هكذا يخرج هذا الحيوان المنوي من وسط هذا الزحام ليلقح البويضة التي تنتظره.

أما بالنسبة للبويضة فإن المبيض يحتوي على أربع مائة ألف بويضة أولية عند بلوغ الأنثى،و بشكل دوري-يتكرر مرة كل شهر-يتم انتخاب واحدة منها لتنزل إلى قناة فالوب و حتى يلقحها الحيوان المنوي.و هكذا تخرج البويضة من ازدحام المبيض بالبويضات لكي تحقق المعنى الدقيق لكلمة«سلالة»التي وردت في القرآن الكريم.

مفهوم الخروج من الزحام يستوجب أن يكون هناك زحام،و الزحام بدوره يستوجب كثرة الأفراد و إلا لما حصل هناك زحام،و انتقاء كلمة«سلالة»يدل على أنّ من جعل تلك الكلمة في مكانها ذلك يعلم تمام العلم أن هناك كثرة من الحيوانات المنوية و البويضات و أنه يحصل ازدحام من جراء ذلك.

المعنى الخامس و هو الخروج من مضيق:

تحدثنا أعلاه أن الحيوانات المنوية تزدحم عند فتحة عنق الرحم و من ثمّ تحاول عبور هذا العنق.

ص: 117

و عنق الرحم هو الواصل بين المهبل و الرحم-و هو جزء لا يتجزّأ من الرحم-.

و هذا العنق له فوهتان تنفتح الظاهرة منهما على جوف المهبل أما الباطنة فتنفتح على جوف الرحم.

إن منطقة الفوهة الباطنة تسمى(المضيق-أو البرزخ- UTERINE ISTHMUS ).

و مسافة هذا المضيق هي اثنان إلى خمسة ملم (1).

و تحت تأثير(الأستروجين ESTROGEN ) (2)يمتلئ عنق الرحم بالمادة المخاطية و لكن تصبح طبيعتها أكثر لزاجة مما يسمح للحيوانات المنوية بالعبور عبر قنيوات ضيّقة تتخلل المخاط.(انظر الصورة رقم:27-28).

إن عرض القنيوات الضيقة يعادل عرض شعرة الرأس (3).

و هكذا يتجلى لنا كيف أن الحيوانات المنوية تعبر عنق الرحم-الذي يشكل مضيقا بصورة عامة-،عبر قنيوات ضيقة-التي تشكّل كل واحدة منها مضيقا بصورة خاصة-لتدخل إلى الرحم.

أما بالنسبة للبويضة؛فإن عملية الانسلال من مضيق تحصل لها بعد أن تلقح، فهذه النطفة بعد أن تهاجر من(الثلث الوحشي لقناة فالوب AMPULLA OF THE UTERINE TUBE )،تواجه عند دخولها الرحم،مضيقا لا يسمح-لصغر قطره- للبويضة بعبوره لو لا اتساعه في ذلك الحين.فهذا المضيق لا يزيد قطره عن 7,0 ملم في الأيام العادية و 1 ملم عند خروج النطفة منه.

و نورد في هذا المضمار ما قاله الدكتور لارس هامبرغر (4):«إن أضيق مكان من قناة فالوب يتسع و من ثمّ تخرج البويضة الملقحة عبر الممر المحدود إلى الرحم».

ذكر كلمة«سلالة»في القرآن الكريم يدل على أن من جعلها في مكانها يعلم تمام العلم شكل رحم المرأة و هو يبدأ بمضيق عند قناة عنق الرحم و عند مدخل قناة فالوب و ذلك لما تعنيه كلمة«سلالة»من:الخروج من مضيق.9.

ص: 118


1- كتاب القرار المكين،د.مأمون الشقفة،ص 40.
2- و الأستروجين هو هرمون المرأة و يفرز المبيض هذه المادة في بداية الدورة الشهرية.
3- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 41.
4- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 39.

> CS <

ص: 119

المعنى السادس و هو السير السريع و السباق:

تصل المسافة التي يقطعها الحيوان المنوي إلى حوالي خمسة عشر إلى ثمانية عشر سنتيمترا،و تستغرق رحلة الحيوانات المنوية من فتحة عنق الرحم إلى قناة فالوب في العادة عدة ساعات و لكن بعض الحيوانات المنوية تصل إلى أنابيب الرحم بعد ثلاثين دقيقة!!!.

و بالتالي فإن سرعة الحيوان المنوي قد تصل إلى 3 ملمتر في الدقيقة و هو بذلك يقطع مسافة تعادل طوله خمسين مرة في الدقيقة الواحدة.

أما بالنسبة للبويضة؛فهي أكبر و أثقل بكثير من الحيوانات المنوية،و بالتالي فهي أبطأ من النطف الذكرية و لا مجال للمقارنة بينهما.و بما أن السرعة معيار نسبي فسنحلل سرعتها من زاوية أخرى:

إن رحلة البويضة من المبيض إلى بوق قناة فالوب تستغرق من خمس عشرة إلى عشرين ثانية!!!و من المبيض إلى الثلث الوحشي من قناة فالوب تستغرق خمسا و عشرين دقيقة.و بعد أن تلقح البويضة تستغرق رحلتها من الثلث الوحشي لقناة فالوب إلى الرحم من ثلاثة إلى أربعة أيام.و بالتالي فإن مرحلة السلالة،أي مرحلة انسلال البويضة من المبيض إلى حين تلقيها من الحيوانات المنوية هي أسرع بكثير من مرحلة هجرتها من قناة فالوب إلى داخل الرحم؛فهي تقطع ثلث المسافة المقدرة لها في خمس و عشرين دقيقة خلال فترة السلالة مقارنة بالمرحلة التي تليها حيث تقطع ثلثي المسافة بثلاثة إلى أربعة أيام.و تعزى سرعة البويضة في مرحلة السلالة إلى الضغط المتولد في جريب المبيض-خمسة عشر مليمترا زئبقيا-و الذي يدفع بها إلى الأمام و إلى حركة أهداب بوق قناة فالوب و التي تسحب بدورها البويضة إلى داخل البوق،كما أن حركة الشعيرات و انقباض عضلات قناة الرحم تساعد على إحداث ضغط سلبي يتم به سحب البويضة إلى الداخل.

و هكذا يتجلى لنا الإعجاز العلمي في استعمال كلمة«سلالة»:و هو السير السريع للحيوانات المنوية و البويضة لمصيرها المقدّر إلا و هو التلقيح.

باختصار شديد:فإن النطفة تسمّى سلالة،لأنها جزء صغير من السائل الذي يحتويه«ماء التخلق»(أي المني)،و شكل هذا الجزء شكل سمكة طويلة،و هو يخرج برفق من«ماء التخلق»بواسطة السباحة،و يزدحم عند مضيق هو مضيق عنق الرحم، فيخرج من الزحام و من المضيق و يسير بسرعة بغية التلقيح.

ص: 120

ج-الوصف الداخلي للنطف:

*عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيهما غلبت فالشبه له»[ذكره ابن هشام ح 69].

ما سبق هو الوصف الظاهري الخارجي للنطفة.فما الوصف الداخلي لها؟ يحدثنا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن تلك الصفات قائلا إن نطفة الرجل غليظة و نطفة المرأة رقيقة.

جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1):«قال العلماء:مني الرجل في حال الصحة أبيض ثخين...» (2).

و جاء في لسان العرب (3):«ثخن:ثخن الشيء ثخونة و ثخانة و ثخنا،فهو ثخين:كثف...».

و ورد في لسان العرب (4):«رقق:الرقيق نقيض الغليظ و الثخين...».

إذا المني كثيف و ماء المرأة على العكس من ذلك.

و الكثافة معيار نسبي،و لكي نستطيع أن نصف شيئا بالكثافة،فلا بد أن نقارنه مع شيء آخر لذلك سوف نقارن النطفتين:

إن نطفة الرجل مؤلفة من ثلاثة أجزاء:الرأس،و الجزء المتوسط،و الذيل.إن أهم مكون في هذه النطفة هو الرأس نظرا لأنه يحمل أهم مادة أ لا و هي المادة الوراثية.إن المادة الوراثية في رأس هذه النطفة مركّزة بصفة عالية-أي إنها شديدة الكثافة و غليظة-؛يقول الدكتور كيث مور (5):«إن الكروماتين(المادة الموجودة في رأس الحيوان المنوي)شديد الكثافة».أما المادة الوراثية الموجودة في البويضة فهي قليلة الكثافة إذا قارنّاها مع نظيرتها الموجودة في رأس الحيوان المنوي؛الدليل على ذلك هو أن رأس الحيوان المنوي ينتفخ جدا فيما بعد ليصبح بنفس حجم نواة

ص: 121


1- صحيح مسلم بشرح النووي-كتاب الحيض-باب وجوب الغسل على المرأة-رقم الحديث 30-(ج /2 ص 228).
2- جاء في تفسير السمرقندي-(ج /3ص 525):«ثم قال: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان:2] يعني:مختلطا ماء الرجل و ماء المرأة،لا يكون الولد إلا منهما جميعا.ماء الرجل أبيض ثخين،و ماء المرأة أصفر رقيق».
3- لسان العرب لابن منظور-مادة«ثخن»-(ج /2ص 87).
4- لسان العرب لابن منظور-مادة«رقق»-(ج /5ص 286).
5- كتاب(الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور THE DEVELOPING HUMAN with islamic additions )،ص 15.

البويضة.و هذا يعني أن المادة الوراثية في البويضة تأخذ حيزا من المكان أكبر من ذلك الذي تأخذه المادة الوراثية في رأس الحيوان المنوي،و بذلك تكون أقل كثافة منها(انظر إلى الصورة التالية حيث يظهر كيف ينتفخ رأس الحيوان المنوي).و هكذا نرى أن نطفة المرأة أرق من نظيرتها لدى الرجل و إن كانت أكبر منها و أثقل،و ذلك لأن محتواها هو أقل كثافة من محتوى نطفة الرجل فيتحقق قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة»[ذكره ابن هشام ح 69].(انظر الصورة رقم:29).و على العموم فإن نطفة المرأة يحيط بها غلاف يسمى(التاج المشعّ CORONA RADIATA )شبيه بالمادة الجيلاتينية (1)و هي محاطة بسائل شبيه بمادة الجيلاتين يسمى:(السائل الحويصلي FOLICULLAR FLUID ) (2)مما يضفي عليها مظهر الرقة الذي تكلم عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.(انظر الصورة رقم:29).

و هكذا يتبين لنا الإعجاز في دقة المعاني المستعملة و الحقائق العلمية التي تنطوي عليها الآيات التي نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منذ أكثر من 1400 سنة،على أن لا ننسى أن العالم بأسره كان يأخذ بمعلومات خاطئة حتى عام 1677 م،و شهادة ذلك أن الطبيب البريطاني هارفي كتب في عام 1651 م أن الجنين يفرزه الرحم،إلى أن أتى العالمان هام و هوك ليوين و اكتشفا أنه يوجد في الماء المتدفق من عضو الرجل حيوان منوي،كل ذلك يؤكد شهادة اللّه عز و جل لذاته أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].6.

ص: 122


1- كتاب الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور،ص 24.
2- كتاب الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور،ص 26.

> CS <

ص: 123

مستودع النطف

*قال العليم الحكيم: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1].

*و قال العليم الحكيم: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98].

جاء في لسان العرب:«المستودع:المكان الذي تجعل فيه الوديعة،يقال استودعته وديعة إذا استحفظته إياها» (1).

و من هذا الكلام نفهم أن المستودع هو المكان الذي تحفظ فيه الوديعة لفترة من الوقت ريثما تؤخذ منه في المستقبل.

ترى ما هي الوديعة؟.

الآية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً تجيب على السؤال:

فهذه الآية تشير إلى أن الإنسان كان نطفة لفترة من الوقت قبل أن يخلقها اللّه إنسانا.

و كلمة«هل»تأتي بمعنى«قد»و لها وظيفة التقدير و التقريب،جاء في تفسير الكشاف (2):«هل بمعنى«قد»في الاستفهام خاصة،و الأصل:أهل،بدليل قوله:

أهل رأونا بسفع القاع ذي الأكم،فالمعنى:أ قد أتى؟على التقدير و التقريب جميعا، أي:أتى على الإنسان قبل زمان قريب» (3).

و الآية تصف حالة الجنس البشري على العموم،جاء في تفسير القرطبي (4):

«و قد قيل«الإنسان»في قوله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ عنى به الجنس من ذرية آدم» (5).

ص: 124


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«ودع»-(ج /15ص 254).
2- الكشاف للزمخشري-(ج /4ص 166).
3- تفسير القرطبي-(ج /19ص 118):«هل:بمعنى قد؛قاله الكسائي و الفراء و أبو عبيدة.و قد حكي عن سيبويه«هل»بمعنى قد».تفسير الألوسي-(ج /29ص 150):«و عن ابن عباس و قتادة هل هنا بمعنى قد».
4- تفسير القرطبي-(ج /19ص 120).
5- تفسير الألوسي-(ج /29ص 151):«المراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس».

و الحين يشير إلى فترة زمنية غير محدودة،جاء في تفسير الألوسي (1):

«و الحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير و القليل و الدهر:الزمان الممتد غير المحدود...».

و بالتالي فالآية تعني:لقد مرّ على كل إنسان فترة زمنية قريبة لم يكن فيها شيئا مذكورا.

و لما ذكر في الآية لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ،نسأل:هل كان الإنسان شيئا قبل أن يصبح على الصورة التي هو عليها؟

و الجواب-و باللّه التوفيق-هو:أن الإنسان كان نطفة قبل أن يخلقه اللّه تعالى كما تعلمنا الآية: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37- 38].

جاء في تفسير القرطبي (2):«و حكى محمد بن الجهم عن الفرّاء:«لم يكن شيئا»،قال:كان شيئا و لم يكن مذكورا».

و جاء في تفسير الكشاف (3):«أي كان شيئا منسيا غير مذكور،نطفة في الأصلاب» (4).

فالإنسان كان شيئا-أي نطفة-،و لكن لم يكن مذكورا،لأن النطفة هي شيء صغير جدا،لا تذكر لصغر حجمها،و لقلّة قدرها عند الناس.

جاء في تفسير ابن كثير (5):«يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته و ضعفه».

و جاء في تفسير القرطبي أيضا (6):«أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة».).

ص: 125


1- تفسير الألوسي-(ج /29ص 151).
2- تفسير القرطبي-(ج /19ص 119).
3- الكشاف للزمخشري-(ج /4ص 166).
4- و في الحقيقة أن النطفة ليست في الأصلاب أي صلب الرجل و المرأة-و لكن في المستودع أي الخصية و المبيض-و هذا لا يقدح في التفسير،لأننا نأخذ منه منهاج التفكير و ليس العلم الجنيني،حيث إن الحقيقة العلمية لم تكن مستقرة في مجتمع المؤلف.
5- تفسير ابن كثير-(ج /4ص 453).
6- تفسير القرطبي-(ج /19ص 119).

و هذا المعنى تشهد له الآية: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:

8]فهي تشير إلى أن سلالة الإنسان-أي النطفة-شيء مهين،أي حقير،ضعيف، قليل.

جاء في لسان العرب (1):«مهن:قال أبو إسحاق:هو فعيل من المهانة و هي القلة،...و قوله عزّ و جلّ:خلق من ماء مهين،أي من ماء قليل ضعيف».

كذلك فإن سياق النص القرآني لسورة الإنسان المذكور أعلاه،يشير إلى أن الإنسان كان نطفة لفترة من الوقت قبل أن يصبح إنسانا،لأن الآية التي تلي الآية المذكورة،و هي: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]،تذكر أيضا أن الإنسان خلق من نطفة.فالنص القرآني يتكلم على العموم عن النطف،و بالتالي علينا أن نفسر الآية حسب ما يمليه السياق.

فإذا أيقنّا بأن الإنسان كان لفترة من الوقت نطفة قبل أن يتخلق،فهمنا عند ذلك أنه وضع وديعة تحفظ في مكان ما،لحين من الدهر،قبل أن يخلقها اللّه تعالى إنسانا،و هذا لا يكون إلا في المستودع قبل أن يخرج.

فإذا جمعنا معنى الآيتين السابقتين: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1]و وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98]،يصبح المعنى هكذا:لقد مرّ على كل إنسان فترة من الوقت قريبة كان شيئا لا يذكر لحقارته و مهانته محفوظا في مستودع قبل أن يخلقه اللّه تعالى إنسانا (2).ّن

ص: 126


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«مهن»-(ج /13ص 212).
2- قد يتساءل بعض القرّاء:كيف يصح أن نقول إن الآية وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ [الأنعام:98]تشير إلى أن الإنسان وضع في مستودع و الحال أنه لم يتكوّن بعد و ذلك لعدم اختلاط النطفتين؟، كذلك فإن الخصية و المبيض عضوان يحمل كل منهما جزءا من الإنسان(أي نطفة الرجل و نطفة المرأة) فكيف يصح أن تطلق اسم«المستودع»على الإنسان،و الإيداع هو للنطف و ليس للإنسان؟.نقول-و بالله التوفيق-:إن نطفة الرجل و نطفة المرأة هما بمثابة«مشروع»لإنسان،و بالتالي فإن الخصية و المبيض مستودعان للأجزاء التي ستؤدي مآلا إلى خلق إنسان،و هذا ضرب من المجاز باعتبار ما سيكون،كما في الآية: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:36]،فالرجل كما تعلمنا الآية يرى أنه يعصر عنبا سيتحول إلى خمر فيما بعد،و قد أطلق على العنب اسم الخمر مجازا باعتبار ما يؤول إليه(أصول الفقه الإسلامي،د.إبراهيم السلقيني،الفصل الأول،التقسيم الأول للفظ باعتبار الاستعمال،ص 239)،و بالتالي يصحّ عندئذ أن نطلق على الخصية أو المبيض اسم«المستودع».و على كلّ حال فإن الآية رقم 98 من سورة الأنعام جاءت بصيغة النكرة:فهناك مستودع،و لم تحدد الآية أن المستودع هو للإنسان ككائن مكتمل،أو للأجزاء التي ستكوّن

و من السياق نفسه نستنتج أن اللّه تعالى يخلق النطف قبل أن يحين موعد خروجها و تلقيحها بقليل(أو بكثير)،و إلا لما حفظت في مستودع.

جاء في تفسير الألوسي (1):...و المعنى هنا:قد أتى،أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئا مذكورا بل كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا،أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد،و المراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه،بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا،و لا يعرف بعنوان الإنسانية،و هو مادته البعيدة أعني العناصر، أو المتوسطة و هي الأغذية،أو القريبة و هي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة».

و نود الإشارة هنا إلى أن تلك المفاهيم المنطوية في الآيات الكريمة التي أشرنا إليها في مبحثنا هذا،ليس من السهل أن يعلمها أحد و لو كان متمرّسا في مجال «تخلّق الجنين»،فإذا كان هناك نطف فهذا لا يستلزم أنها تخلّقت قبل أن تخرج من الجسد بكثير،و إذا كان هناك نطف فهذا لا يستلزم أيضا أن تحفظ بمستودع لها (2).

فهناك احتمال كبير أن يستطرد العالم في اتجاه مختلف عن الذي أشار إليه المولى عزّ و جلّ؛فعلى سبيل المثال قد يظن العالم أن النطف قد تتخلق عند خروج المني من جسم الإنسان.

و الإشارة إلى وجود مستودع لهذه النطف هي بحد ذاتها عجيبة،لأن هذاب.

ص: 127


1- تفسير الألوسي-(ج /29ص 151).
2- -إنسانا،و بالتالي فليس شرطا أن نعيد كلمة«مستودع»إلى الإنسان،فقد تكون الآية تشير إلى أيّ من هذين المعنيين: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ [الأنعام:98]لهذه النفس[في بادئ الخلق][في الرحم] و مستودع لها[في المبيض و الخصية]،أو: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ لنطفة هذه النفس[في الرحم]و مستودع لنطفها[في الخصية و المبيض].

المستودع غير ظاهر،فهو مختبئ داخل الجسم،و علينا أن نشرّح الجسم لنكتشف وجوده.

و لمعرفة موقع هذا المستودع يجب أن نتابع خط سير تخلق النطفة،و نفهم المسار الذي تتخذه لكي تخرج من الجسم.و هكذا نستطيع التوقف عند المحطة حيث تجثو هذه النطف قبل الخروج،و أن نقول إنه المستودع الذي تتكلم عنه الآية الكريمة.

و أما مواقع هذه المستودعات فهي كالتالي:

1-عند الرجل:تتكون خصية الرجل بمختصر مبسّط من حبال تسمى «قنيوات منوية»موجودة داخل فصوص،و عند مرحلة بلوغ الذكر تتخلّق الحيوانات المنوية من الطبقات التي تبطن تلك القنيوات (1).و بعد أن تتخلق تذهب إلى(البربخ EPIDIDYMIS )الواقع على أعلى الخصية حيث تستودع هناك إلى أن يحين وقت الخروج.و هكذا فإن الخصية هي مستودع النطف على وجه العموم،و البربخ هو المستودع على وجه الخصوص الذي تنص عليه الآية الكريمة السابقة (2).(انظر الصورة رقم:30).

2-عند المرأة:يوجد في مبيض الجنين الأنثى في الأسبوع الخامس من تخلّق الجنين حوالي خمسة ملايين نطفة،و لكن في فترة نمو المرأة يضمر أكثر هذه النطف و يموت،حتى إذا بلغت الأنثى عشر سنوات يكون تعداد النطف قد أصبح 000,400 نطفة تقريبا يتمّ انتخاب 400 إلى 500 منها للإخصاب.

هذه البويضات تكون داخل ما يسمى حويصلات،و هذه الحويصلات تكون داخل مبيض.و تظل هذه البويضات في هذه الحويصلات إلى حين نضوجها،ثم تخرج منها ليلتقطها البوق داخل رحم المرأة.

و هكذا يتبيّن لنا أن مستودع نطف الأنثى الذي تتكلم عنه الآية الكريمة السابقة هو المبيض على وجه العموم،و هو الجريب داخل المبيض المسمى بالحويصلة (3)على وجه الخصوص.(انظر الصورة رقم:31).0.

ص: 128


1- الآيات العجاب في رحلة الإنجاب،د.حامد أحمد حامد،ص 51،بتصرف.
2- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 26.
3- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 20.

> CS <

ص: 129

> CS <

ص: 130

و يفهم من كلامنا أن اختيار كلمة«مستودع»يشير إلى إعجاز علمي يتجلى في معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن النطف تتخلّق قبل أن تخرج بكثير،و أنها توضع في مخابئ تحفظها من التلف مع السائل المنوي(أو الماء الدافق)إلى أن يحين وقت خروجها (1).

و تعليقا على تسمية«المستودع»،نشير إلى أن هذه التسمية جامعة؛فهي تشير على حدّ سواء إلى الخصية أو إلى المبيض،كما أنها تشير إلى أن النطف تحفظ في مكان آمن لفترة من الوقت لا يستهان بها،و أن هذه النطف تخرج من هذا المكان في-.

ص: 131


1- فائدة:قد يفهم البعض أن«المستودع»المذكور في الآية: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98) [الأنعام:98]يشير إلى الرحم و ليس إلى الخصية أو المبيض،و ذلك لأن النطف تحفظ لفترة مؤقتة في الرحم كما تحفظ لفترة ما في الخصية أو المبيض.و الحق يقال:إن هذا غير صحيح،فالنطفة عند ما تستقر في الرحم تصبح شيئا يذكر لأن الأم و الأب يعطيانها عندئذ العناية الفكرية الفائقة،أضف إلى ذلك أن حجم النطفة يتضخم فتصبح فيما بعد شيئا محسوسا لا يمكن تجاهله،و الوديعة التي توضع في المستودع لا تتغير طبيعتها.أما في حالتنا هذه فالنطفة سرعان ما تخرج عن طبيعتها في الرحم،و لذلك لا يمكن أن نطلق تسمية«المستودع»على الرحم،و ما قاله ابن عباس و الألوسي و ابن تيمية -رحمة اللّه عليهم-يستدل به لمعرفة ما ترمي إليه الآية،فقد جاء في تفسير الألوسي-(ج /7ص 235): (و أخرج جماعة منهم الحاكم و صحّحه من طرق عن ابن عباس-رضي اللّه تعالى عنهما-أن المستقر الرحم،و المستودع الأصلاب[و لا يشترط الأخذ باجتهاد ابن عباس رضي اللّه عنهما لأنه اجتهاد،و يتعلّق بالقضايا الكونية،و هي تحتاج إلى وسائل تقنية للوصول إلى معرفتها،و هذا لم يكن موجودا في عصر الصحابة- رضوان اللّه تعالى عليهم-،و هذا ليس أمرا توقيفيا بمعنى التوقف فيه].و جاء في رواية أن حبر مدينة تيماء كتب إليه يسأله رضي اللّه تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر.و يؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى: وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج:5]و أما تفسير المستودع بالأصلاب فقد قال شيخ الإسلام:إنه ليس بواضح.و ليس كما قال،فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر و المستودع«بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع،و مما يدل على قوة هذا القول-يعني المروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما-أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا و الجنين يبقى زمانا طويلا،و لما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى».و يلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى).(أي في المبيض أو الخصية أولى)،و إذا قسنا ذلك على العلم فإن النطفة تمكث في الرحم 266 يوما،و أما الحيوان المنوي فيحتاج إلى 72 يوما تقريبا لكي يتخلق، و إلى 12-21 يوما ليرتحل عبر قنيوات البربخ إلى أعلى الخصية(الآيات العجاب في رحلة الإنجاب، د.حامد أحمد حامد،ص 51،بتصرف)،أي ما مجموعه 88 يوما،و إذا أضفنا إلى ذلك مدة مكوثه في أعلى الخصية(شهر على أبعد تقدير،ريثما يقذف الرجل النطف بالاتصال أو الاحتلام)فيصبح مجموع مكوثه في الخصية ابتداء من أول يوم يبدأ تخلق الحيوان المنوي 120 يوما تقريبا،و هذا أقل بكثير من 266 يوما-مدة مكوث النطفة في الرحم-.

نهاية المطاف،أما تسمية(المبيض OVARY )و تسمية(الخصية TESTICLE )فهاتان تشيران فقط إلى أن تلك الأعضاء تحتوي على النطف،فسبحان من علّم الإنسان البيان!قال عزّ و جلّ: اَلرَّحْمنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ(4) [الرحمن:1-4].

ص: 132

نطفة الأمشاج

*قال اللّه تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].

*سأل يهودي الرسول الكريم-عليه أفضل الصلاة و التسليم-قائلا:يا محمد ممّ خلق الإنسان؟،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20].

إن اللّه سبحانه و تعالى لم يترك الأمر بدون توضيح تام باهر للعقول؛و ذلك لكي يتبين للناس عامة و للعلماء خاصة أنه الحق،أي أنه دليل واضح على أن القرآن ليس من كلام البشر بل هو من كلام اللّه تعالى الذي أوحاه إلى عبده خاتم الرسل و الأنبياء سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و جعله المعجزة الخالدة الدالة على صدقه و على أن هذا الدين الذي بعث به هو الحق.

و لذا نرى أن القرآن الكريم أشار إلى أن خلق الإنسان كان من نطفة أمشاج.

و قد رأينا في المبحث السابق ما يشير إليه معنى النطفة(القطرة)،و مما يضاف إلى التفسير الأول هو أن النطفة المذكورة هي«قطرة مختلطة»(أمشاج)،أي قطرة تتشكل من خلط أجزاء متفرقة تختلط فيما بينها-و هي نطفة الرجل و نطفة المرأة- (1).

جاء في مختار الصحاح (2):«م ش ج:مشجت بينهما مشجا:خلطت، و الشيء مشيج،و الجمع أمشاج».

و جاء في تفسير القرطبي عن كلمة الأمشاج (3):«أخلاط...و يقال مشجت هذا بهذا أي خلطته...و قال الفرّاء:أمشاج:أخلاط ماء الرجل و المرأة».

ص: 133


1- انظر حاشية الصاوي على تفسير الجلالين لأحمد صاوي-(ج /4ص 273).و فتح القدير للشوكاني-(ج /5 ص 344).
2- الصحاح للجوهري-(ج /1ص 241).
3- تفسير القرطبي-(ج /19ص 120).

و جاء في الدر المنثور للسيوطي (1):(أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله«من نطفة أمشاج»«قال من ماء الرجل و ماء المرأة حين يختلطان»).

و بالفعل فإن الحيوان المنوي يندفع نحو البويضة و يرتطم بجدارها و يشق لنفسه طريقا داخل هذا الجدار و من ثمّ يلج إلى داخل النطفة الأنثوية.(انظر الصورة رقم:32).

و مما يثبت ما قلناه أن نبيّ اللّه،صلّى اللّه عليه و سلّم،أشار إلى أن كلاّ من الحيوان المنوي و البويضة يساهم في تخليق جسم واحد(أي الجنين)عند ما قال«من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]و هذا يقتضي اتحادهما.

> CS <

(32)-نرى في الصورة كيف أن الحيوانات المنوية تحفر لنفسها ممرا لتدخل البويضة و تختلط بها فتصبح هي و البويضة«نطفة أمشاج»كما وصفها اللّه تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2].).

ص: 134


1- الدر المنثور للسيوطي،(ج /6ص 297).

و بذلك تصبح النطفتان نطفة واحدة،و يؤيد هذا المفهوم صياغة الآية الكريمة التي وصفت حادثة الاختلاط: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ،فكلمة«نطفة» اسم مفرد،و أما كلمة«أمشاج»فهي صفة في صيغة الجمع،و قواعد اللغة تجعل الصفة تابعة للموصوف في الإفراد و التثنية و الجمع،و بالتالي فإن كلمة«أمشاج»هي صفة جمع تصف كلمة«نطفة»المفردة،قال القرطبي:«و قال أهل المعاني:الأمشاج ما جمع و هو في معنى الواحد لأنه نعت للنطفة كما يقال:برمة أعشار و ثوب أخلاق» (1).).

ص: 135


1- تفسير القرطبي،(ج /19ص 121).

اختلاط عروق النطفة

*قال اللّه تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].

*قال اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].

*قال سبحانه و تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)[عبس:17-19].

*عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21].

رأينا في مبحث«نطفة الأمشاج»أن النطفة الذكرية تلج إلى داخل النطفة الأنثوية.

فيا ترى هل تختلط النطف بكل أجزائها أم هناك أجزاء منها تختلط فيما بينها؟.

إن كلمة«أمشاج»تعبّر عن حالة عامة أ لا و هي حالة الاختلاط.هذه الحالة تحصل على نطاق واسع من خلال دخول نطفة الرجل نطفة المرأة و على نطاق ضيّق من خلال انصهار نواة النطفتين.

و لقد أشار المولى عزّ و جلّ إلى عملية الانصهار بقوله تعالى: فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً .

إن المعنى الشائع لكلمتي نسب و صهر لدى عامة الناس هو معنى القرابة(سواء أ كانت بالتوالد أم بالتزاوج)،أما المعنى الجلي الذي يظهر من خلال الآية السابقة فإنه أعم من ذلك و يشمل معنى آخر له صلة بالتخلّق الإنساني.

ف«صهرا»:مصدر من صهر،و يعني الاندماج.و الدليل على ذلك:ما قاله القرطبي في شرحه للآية:«و اشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته» (1).

ص: 136


1- تفسير القرطبي،(ج /13ص 60).

استعمال هذه الصفة هنا-صفة الانصهار-إلى جانب كلمة ماء له مدلوله الخاص،فهو يشير إلى عملية انصهار تحصل للماء أي للنطف لتؤلف نطفة لها صفات جديدة.

الماء المذكور هنا هو النطفة(قطرة الماء)التي جاء تعريفها في الحديث«ما من كلّ الماء يكون الولد...»[أخرجه مسلم ح 17]و كما أشار إليه القرطبي في تفسيره للآية وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً... عند ما أعاد صياغتها مستبدلا كلمة ماء بكلمة نطفة«أي خلق من النطفة إنسانا...» (1).

الهاء التابعة لفعل«فجعله»في هذه الآية ضمير قد يعود لإحدى الكلمتين:

«الماء»أو«بشرا»و الدليل على ذلك ما جاء في تفسير القرطبي (2):«فجعله:جعل الإنسان نسبا و صهرا.و قيل:من الماء...» (3)(4).

في كلتا الحالتين ينطبق المعنى بدقة مصداقا لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«بعثت بجوامع الكلم» [أخرجه البخاري ح 13].فإذا أرجع الضمير لأول كلمة،أي إذا أرجعت الهاء إلى الماء فقد تعني:فجعل الماء(ماء الرجل و ماء المرأة أو نطفهما كما جاء في تفسيرر.

ص: 137


1- تفسير القرطبي،(ج /13ص 59).
2- تفسير القرطبي،(ج /13ص 59).
3- نشير هنا إلى أن القاعدة العامة هي إرجاع الضمير إلى أقرب مذكور له في الكلام،و بالتالي فعلينا إرجاع الضمير-هاء-إلى«بشرا»،و هذا ما فعله معظم السلف الصالح لأنه لم تتح إليهم الوسائل التي تطلعهم جيدا على العلم الكوني و الإلمام به،و هذا لا يمنع إرجاع الضمير-هاء-إلى ما هو أبعد له،بقرينة دالة على جواز ذلك،كما أشار إليه القرطبي بقوله:«و قيل من الماء»،و أمثال ذلك كثيرة في القرآن كقوله تعالى: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]،حيث إن الضمير المستتر في جعلكم عائد إلى اللّه،لا إلى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم،لاستقرار المعنى على هذا النحو.و القرينة الدالة على جواز إرجاع الضمير إلى ما هو أبعد له في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو استقرار معنى الآية أو الحديث كما يشير إليه السياق القرآني و الصياغة(انظر إلى تعليقنا الذي يلي).و في هذه الحالة فإن العلم الكوني يوافق معنى الآية إذا أرجعنا الضمير-هاء-إلى«الماء»(انظر إلى تفسير الآية كما أوردناه أعلاه).
4- و لا يضرّ أن يفسّر القرطبي الآية المعتبرة على هذا النحو بقوله:«و قيل»،أي بصيغة التضعيف،و ذلك أنه ضعّف هذا التفسير لعدم إحاطته بالعلم الكوني المرتبط بصهر الماء إحاطة كاملة من جراء عدم تقدم العلم الكوني في عصره،غير أنه أشار إلى أن هذا الاحتمال وارد وفق الدلالات اللغوية.و الفصل في النهاية هو للعلم الكوني في تفسير الآيات التي تتكلم عن ظواهر كونية لأن القرآن الكريم و العلم الكوني توأمان لا يفترقان على مدى الدهور.

القرطبي)صهرا،أي ينصهر بعضه مع بعض،و إذا أرجع الضمير إلى كلمة«بشر»فقد تعني فجعل البشر يتصاهرون فيما بينهم (1).ن-

ص: 138


1- قد يظنّ بعض القارئين أننا نغلو في تفسير الآية: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54]،و أن معنى كلمة«صهر»الذي نشير إليه(اختلاط نطفتي الرجل و المرأة)ليس هو المراد،إنما المراد هو المعنى المتداول بين الناس،أ لا و هو معنى القرابة،ذلك أن معنى الاختلاط بعيد عن متناول أذهان عامّة الناس،إلا إذا ألقى عليه العلماء الضوء،و لكننا نقول:إن هذه الآية جاءت بعد آية أخرى تشير إلى إعجاز علمي،و هي: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان:53].فهذه الآية تشير إلى أن هناك حاجزا مائيّا بين البحر العذب و البحر المالح عند ملتقاهما،و أن هذا الحاجز يحول-إلى حد ما-دون أن تلج مياه أحدهما في الآخر،كذلك فإن اختلاف نسبة الملوحة تمنع أسماك البحر العذب من أن تدخل في البحر المالح(و العكس صحيح)،فيصبح هذا الحاجز حجرا محجورا،و هذا يعني أن النص القرآني يشير مليّا إلى إعجاز علمي لأن السياق يقتضي ذلك، و خصوصا أن صيغة الآيتين واحدة،و جاءت باستعمال صيغة«و هو الذي...»،حتى تربط بين ما ترمي إليه الآيتان،أ لا و هو موضوع الإعجاز العلمي في القرآن.و لعلّ ذكر وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً في نهاية الآية وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54]هو للدلالة على أن هناك إعجازا علميا مرموزا إليه،و هو عملية انصهار معقّدة للماء،تحدث على مستوى دقيق جدا،لا يقدر على إحداثها و ضبط نسبها إلا الذي مرج البحرين و خلق من الماء بشرا،و بالتالي فإن السياق و الصياغة-إضافة إلى المعنى- يحملنا إلى أن ننسب هذه الآية إلى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. و قد تكرّر مثل هذا الأسلوب في القرآن الكريم في الكلام عن الإعجاز في خلق العنصر الحيواني من الماء مثل قوله عزّ و جلّ: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45](انظر مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة/السبب الوراثي لتنوع خلق الحيوانات»)،فظهور القدرة في كلا الأمرين(تنوع الخلق من الماء-انصهار ماءين مختلفين ماء واحدا)أوضح و أجلى و أمكن في الإعجاز من كونه خلق من الماء نوعا جعل منه النسب و الصهورة. و كذلك فإن الآيتين-آية رقم 53 و 54 من سورة الفرقان-على هذا التفسير ستكونان من قبيل المقابلة التي تزيد المعنى الإعجازي وضوحا،و ذلك أنّه عزّ و جلّ مرج ماءين(مالحا و عذبا)دون أن يختلط أحدهما بالآخر،مع توافر دواعي الاختلاط و الامتزاج في رأي العين،و في الآية الأخرى مرج ماءين (ماء الرجل و ماء المرأة)مع اختلاف صفاتهما،و توافر دواعي عدم امتزاجهما كما كان يتصوّر لدى الناس حتى عهد قريب(أي حتى سنة 1775 م،حيث اكتشف العالم(سبالانزاني SPALLANZANI ) تلقيح الحيوان المنوي للبويضة)،و مع ذلك صهرهما تماما حتى صارا شيئا واحدا،بعكس الماءين الآخرين(المالح و العذب)،و الخلاصة:أنه ذكر ماءين(ملح،عذب)و عدم اختلاطهما مهما امتزجا في رأي العين،و ذكر ماءين(ماء الرجل،ماء المرأة)و انصهارهما معا مع عدم عقلان ذلك في الذهن، و هذا تماما هو المعنى البديع للإعجاز العلمي،و كما قيل«الضّدّ يظهر حسنه الضّدّ»،و هذا في رأيي هو الأنسب لتلاحم السياق و اتصال أوله بآخره لأن المقابلة تعدّ من ضروب الصلات بين الكلامين-

ص: 139

كيف تتم عملية الانصهار؟.

و الحاصل أن نواة نطفة الرجل و نواة نطفة المرأة تقتربان من بعضهما بعد أن يلج الحيوان المنوي في البويضة،و عند التقاء النواتين يتفكك غشاؤهما النووي و تنصهر النواتان.

يقول الدكتور لارس هامبرغر في هذا المضمار:«إن النواتين(نواة البويضة و نواة الحيوان المنوي)تجذبان بقوة فيما بينهما و بعد قليل تنصهر» (1).

و مما يعزز معنى الانصهار قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19]،هذه الآية تشير إلى البداية الإنسانية.فباختلاط الحيوان المنوي بالبويضة يتحقق خلق إنسان جديد لأن جميع الخطوات التالية ترتكز على هذه الخطوة و تنبثق منها،فهذه الخطوة الأولى لوجود مخلوق جديد.

يتبع دخول الحيوان المنوي في البويضة انصهار نواة النطفتين،و في هذه العملية تتحدد الصفات التي ستظهر في الجنين في المستقبل،كما أنه يتقدر فيها جنس الجنين،لذلك قال تعالى: فَقَدَّرَهُ بعد ما قال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ :فالخلق أولا،و التقدير ثانيا.

تجدر الإشارة هنا إلى أن وضع حرف«الفاء»بين الفعلين«خلقه»و«قدره»هو للإشارة إلى سرعة العملية(فهذه العملية تستغرق أقل من 30 ساعة).

إن حرف«الفاء»يفيد الترتيب مع التعقيب كما سنرى في المراحل الآتية(انظر إلى مبحث«الأسلوب القرآني في استخدام حرفي«ثم»و«الفاء»في آيات علم الأجنّة») و ذلك للدلالة على سرعة العمليات التي ستحصل بعكس حرف العطف«ثم».6.

ص: 140


1- -السامعين معنى الآية بعقولهم،و ذلك بأن يشير ضمير الفاعل-أو المفعول به،أو نحوهما-في الآية المعتبرة إلى فاعل-أو مفعول به،أو نحوهما-آخر من جنسه حتى تصبح الآية مفهومة،و هذا هو المراد أيضا في سورة الفرقان و اللّه تعالى أعلم.حيث إن الاستخدام في هذه الآية،مع إفادته الإيجاز(و ذلك بأن لا يصرّح بذكر المنطوي تحت المذكور،و إنما يكتفي بضميره)،فإنه يقدّم لكل عصر،و طبقة من المجتمع،إمكانية فهم الآية حسب إمكانياتهم الفكرية،و ما آلت إليه علومهم لفقدان التصريح بالمنطوي عنه،فيفتح بذلك المجال للتأويل المحدود؛فهو في هذه الحالة يجمع ثقة السامعين بتصوّرهم إيّاه على ما يعرفونه من النسب و الصهر(و ذلك بصرف ضمير«فجعله»«لبشرا»)، كما أنه يجمع إلى ذلك فهم علماء الإعجاز العلمي لمعناه على ما قدّمته آنفا(و ذلك بصرف ضمير «فجعله»الذي يشير إلى نوع معيّن من الماء-ماء الرجل و ماء المرأة-إلى جنس الماء العام الذي ينطوي تحته).

و هكذا تنصهر النواتان فيما بينهما لتؤلّفا ما يسمى باللغة العلمية:(البويضة المخصّبة ZYGOTE ).

و هنا يظهر الإعجاز،إذ ليس ثمة كلمة أدق و أوجز من تلك التي وردت في كلام اللّه سبحانه و تعالى لتبيان حقيقة الانصهار.

أما بالنسبة لمعنى كلمة«نسب»التي وردت في الآية المذكورة أعلاه فإن الحديث الذي سنورده إن شاء اللّه و الذي سنعلق عليه في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»سيلقي الضوء على الوجه الثاني لمعنى النسب و الحديث هو:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم» [رواه الطبراني ح 63]،فانظره هناك.

لننظر الآن إلى الحديث الذي رواه مالك بن الحويرث و إلى رواية زيد بن أسلم رضي اللّه عنهما لنرى تفاصيل هذا الانصهار:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ » [أخرجه الطبراني ح 21].

سبحان اللّه!إن صياغة هذا الحديث بسيطة جدا و لكنها في غاية الإعجاز.فهو يحمل في طياته أكثر من إعجاز إخباري و لا يستنبط أسراره إلا الراسخون في العلم الديني و الدنيوي.و سوف نتعرض لكل من هذه الإعجازات في مواضعها المناسبة من النصوص المتعلقة بها-إن شاء اللّه تعالى-.

الماء المذكور هنا هو النطفة في المفهوم النبوي،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من كلّ الماء يكون الولد...»[أخرجه مسلم ح 17]و كما جاء في تعريف النطفة(قطرة من ماء).

يعلم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تمام العلم أن النطفة لا تطير(حسب مفهومنا العامي) (1)،.-

ص: 141


1- نشير هنا إلى التفسير العلمي الخاطئ للحديث رقم 6594 في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:«إن أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما...»(و سوف نشرح هذا الحديث في مبحث لاحق بعنوان«اجتهاد غير مصيب»)،و نحن نورده هنا حتى لا تختلط المفاهيم على القارئ فيذهب بعيدا عن الصواب؛فقد «روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنّه قد فسّر الحديث السابق ذكره:بأن النطفة إذا وقعت في الرحم و أراد اللّه أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر و شعر،ثم تمكث أربعين يوما،ثم تنزل دما في الرحم،فذلك جمعها»(كتاب القدر-رقم الحديث 6594 ج /11ص 480)/و هو بذلك قد استعان لشرح الحديث السابق بالحديث«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان اليوم السابع،جمعه اللّه»[رواه الطبراني ح 21]،و اللّه تعالى أعلم.-

و أنها تسبح بدلا من أن تطير(كما تعني كلمة سلالة:راجع مبحث«نطفة»)،و أن وظيفة النطفة الذكرية هي تلقيح النطفة الأنثوية:فهو الذي أكد أن الماء يختلط بدلا من أن يطير(وفقا لما جاء في الحديث الشريف:«يا يهودي من كلّ يخلق من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]أو كما أوحى اللّه سبحانه و تعالى على لسانه إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ... [الإنسان:2]،لذا وجب تفسير الحديث على الوجه الصحيح.

و لا بد إذا أردنا أن نصيب في التفسير،أن نلاحظ النقاط التالية:

1-أن الطيران حاصل في العروق(و هذا مستحيل علميا حسب مفهومنا العامي للطيران)،لأن العروق-أي العروق التي يجري فيها الدم-منتشرة في جسم الإنسان.و إذا أخذنا الحديث الشريف بالمعنى العامي أي بمعنى الطيران،فهذا يعني أن النطفة تجري في كافة أعضاء الإنسان و هذا أمر يرفضه العلم.

2-أن الحديث يتكلم عن التخلق كما يشير إليه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة...»[أخرجه الطبراني ح 21].و عملية التخلق هذه تستوجب اختلاط النطف،و مفهوم الطيران وجب عليه من هذا المنطلق أن يكون ضمن هذا الإطار، بحيث يتوافق مع السياق،و هذا يستوجب معنى الانتشار كما سنراه.

3-لو جاء معنى العروق بالمعنى المتعارف عليه في أيامنا هذه(أي عروق الدم)لأصبح المعنى عبثيا مستحيلا و ذلك لأن إحضار العروق من سيدنا آدم عليه السّلام متعذر.

4-أن العرق الذي ذكر في الحديث الشريف هو(الصبغيات CHROMOSOMES )في المصطلح العلمي،و الدليل على ذلك:

*ورود كلمة عرق في عدّة أحاديث بمعنى الصبغيات كما في«تزوّجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس»[ذكره السخاوي ح 71]،و«هذا لعله يكون نزعه عرق له...»[أخرجه مسلم ح 65](انظر إلى مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة» و مبحث«الانحراف التخلّقي و مضاعفاته كما يراه القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة»).).

ص: 142

*إذا أردنا أن نعيد معنى كلمة«العرق»للجنين فإن إحضار العرق حسب مفهومنا العامي مستحيل و ذلك لأن الجنين في مراحله الأولى كتلة خلايا و ليس هناك أيّ عرق دم فيه.و إذا أردنا أن نعيد كلمة«العرق»إلى المرأة فإن إحضار عروق المرأة مستحيل أيضا لأن تلك العروق تبقى في محلها.

أما عن معنى كلمة«عصب»فسنتعرض له في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»،فانظره هناك.

إن المفهوم النبوي للتخلّق و لحركة النطفة(حركة التخصيب FERTILIZATION )،بالإضافة إلى النقاط المذكورة أعلاه يرسم لنا الإطار الذي يجب أن نفكر فيه للوصول إلى التفسير الصحيح و الحقيقة.

إن المعنى الذي ينطبق على فعل«طار»في هذه الحالة هو انتشر،و يستعمل للدلالة على شدة الانتشار و سرعته(انظر حاشية«الملحق»المرفق في آخر الكتاب).

و الدليل على ذلك هو ما قاله ابن فارس:«طير:الطاء و الياء و الراء،أصل واحد يدل على خفّة الشيء في الهواء،ثم يستعار ذلك في غيره و في كلّ سرعة...يقال لكل من خف:قد طار» (1).

فإذا خفّ الشيء في الهواء،أخذه الهواء في كلّ ناحية،و تفرّق.

قال ابن فارس:«و يقال من هذا:تطاير الشيء:تفرّق،و استطار الفجر:

انتشر،و كذلك كل منتشر» (2).

و ورد في لسان العرب (3):«و التطاير و الاستطارة:التفرق.و استطار الغبار إذا انتشر في الهواء.و غبار طيّار و مستطير:منتشر....

و في حديث بني قريظة:و هان على سراة بني لؤيّ حريق،بالبويرة،مستطير أي منتشر متفرّق كأنه طار في نواحيها».

لذلك فإن كلمة«طار»في الحديث هي من قبيل الاستعارة (4).).

ص: 143


1- معجم مقاييس اللغة لابن فارس،ج /3ص 435.
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس،ج /3ص 436.
3- لسان العرب لابن منظور-مادة«طير»-ج /8ص 238-240.
4- قد كثر استعمال كلمة«طار»في هذا المعنى كما يفهم من ابن فارس سابقا،حتى صار مستعملا في كلّ سرعة، أو في كلّ منتشر،و بهذا أصبح قرينا لحقيقة الانتشار و السرعة،إن لم يكن أشهر منها،و هو بالتالي من المجاز الصريح المنضبط،بل كاد أن يكون أشهر من الحقيقة،حتى أصبحت دلالته للانتشار قطعية في الحديث إذا ما أخذنا بالاعتبار الحقيقة العلمية،و بالتالي يصحّ الاستدلال به لما سيمرّ معنا في الحاشية رقم 1،ص 581 من مبحث«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها/باب معان...صريحة في دلالاتها»).

قال اللّه تعالى في القرآن الكريم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7].

جاء في ابن كثير تعليقا على هذه الآية (1):«و يتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء حساب يوم المعاد و هو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عامّ على الناس إلا من رحم اللّه...قال قتادة:استطار-و اللّه-شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات و الأرض...».

و لقد ورد معنى الانتشار في التعليق على الحديث الذي رواه مالك بن الحويرث في كتاب«فتح الباري بشرح صحيح البخاري» (2):«و كل ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشبه في اليوم السابع و أن فيه يبتدئ الجمع بعد الانتشار».

و كما أسلفنا القول فإن النطفة الذكرية(أي الحيوان المنوي)تدخل في النطفة الأنثوية و من ثمّ يقترب رأسها المحتوي على كتلة الصبغيات(أو العروق)من نواة النطفة الأنثوية(البويضة)التي تحتوي على كتلة عروق مماثلة فتطير و تنتشر عروق هذا الحيوان المنوي بين عروق البويضة (3).

يقول الدكتور كيث مور (4):«إن صبغيات الأم و صبغيات الأب تختلط في (الطور الاستوائي METAPHASE )(لأول عملية انقسام ميتوزية FIRST MITOTIC DIVISION )للبويضة المخصبة».

فإذا أردنا أن يستقر معنى الحديث«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها» [أخرجه الطبراني ح 21]على ضوء المعطيات العلمية التي ذكرناها سابقا وجب علينا أن2.

ص: 144


1- تفسير ابن كثير-ج /4ص 454.
2- فتح الباري شرح صحيح البخاري-كتاب القدر-رقم الحديث 6594-ج /11ص 481.
3- قد يظن بعض الناس أن الحديث يشير إلى انتشار كامل منيّ الرجل داخل عروق(أي شرايين)رحم المرأة! نقول-و باللّه التوفيق-:إن هذا التفسير للحديث يستحيل أن يستقر؛و ذلك لأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أكّد أن المعنيّ هو جزء من الماء و ليس الماء كله في الحديث«ما من كل الماء يكون الولد...»[أخرجه مسلم ح 17]،و لأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تكلم عن الماء الذي سيتركب منه الجنين كما يشير إليه الحديث النبوي«ثم قرأ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»،و بالتالي فهو يتكلم عن الجزء الذي سيتكوّن منه الجنين،أي النطفة لزوما.و إذا سلمنا أن النطفة هي المعنية في الحديث،فهمنا من ذلك أنه لا بد أن تكون عروق النطفة هي التي تنتشر، و ليس«كل الماء».انتهى.
4- كتاب الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور،ص 32.

نعيد الضمير في كلمة«منها»إلى بويضة المرأة (1)،فإذا فعلنا ذلك تكشّفت لنا إعجازات علمية عديدة هي التالية:

1-إن النطفة الذكرية أصغر من النطفة الأنثوية و إلا لما طارت في...(أي انتشرت في...).فالانتشار في مكان ما يستوجب من المنتشر أن يكون أصغر من مكان الانتشار،و هذا يعني أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلم تمام العلم أن الحيوان المنوي أصغر من البويضة.(انظر الصورة رقم:34 في الصفحات التالية).

2-إن الحيوان المنوي يدخل البويضة لأنه ينتشر فيها.

و مما يؤكد استدلالنا هو صياغة الحديث الشريف حيث ورد:«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21].

فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أدرج ماء الرجل بأكمله و عروق المرأة فقط في عملية الانتشار.

و من المعلوم أن عملية الانتشار تستوجب إدراج عروق الحيوان المنوي و عروق البويضة فقط في عملية الانتشار.

فلو أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قال:طارت عروق ماء الرجل في عروق ماء المرأة لاستثنى بذلك ذيل الحيوان المنوي من دخول البويضة و لقيّد عملية الدخول بعروق نطفة الرجل فقط،و لكن الواقع يشير إلى أن الحيوان المنوي يدخل بأكمله البويضة (باستثناء غشائه الذي يلصق بغشاء البويضة أثناء الدخول)،و لذلك كان لا بد من أن يتكلّم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن الماء بأكمله و ليس عن العروق فقط.(انظر الصورة رقم:34 في الصفحات التالية).

غير أن إدراج الماء بأكمله في عملية الانتشار لا يستوجب أن ينتشر الذيل أيضا؛فالذيل يتحلل فور دخول الحيوان المنوي البويضة (2)،و تبقى العروق لعملية0.

ص: 145


1- هذا الضرب من الكلام يسمّى الاستخدام،و قد سبق تعريفه في مبحث«الماء و المني/تفسير النقطة الأولى»،فانظره هناك،و بيانه هنا:أنه صلّى اللّه عليه و سلّم عبّر بالضمير في قوله«منها»عن أحد المعاني التي تحتملها كلمة المرأة،أو لها منها سبب،و يريد بالضمير هنا«البويضة»،و هذا له اتصال و سبب بالمرأة،فمن هنا ساغ «الاستخدام»،و هذا ينبّئنا عن عظيم القدرة البيانية التي يتمتع بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،حيث يستطيع الأعرابي البسيط أن يفهم الحديث على أن الضمير يعود للمرأة نفسها،فلا ينكر ذلك لأنه المتناسب مع مفهوم زمانه حينذاك،و في الوقت نفسه،يفهم عالم الإعجاز العلمي المعنى الحقيقي للحديث،و أن عود الضمير إلى المرأة بمعنى إلى بويضتها،التي هي منها،أو لها سبب بها.
2- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 36،كتاب(علم الأجنّة الطبي،سادلر MEDICAL EMBRYOLOGY,SADLER )،ص 30.

الانتشار فقط،و تصبح العروق الممثّل الوحيد للماء،و لذلك أطلق اللفظ الذي يشير إلى الكل(أي إلى الماء)في صياغة الحديث الشريف و أريد به الجزء(أي عروق النطفة).

(انظر الصورة رقم:35).

و هذا الأسلوب معروف في اللغة العربية و يندرج في باب المجاز المرسل؛ مثال على ذلك قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [البقرة:19]،فالمقصود من الآية أن أطراف الأصابع تجعل في الآذان و ليس الأصابع كلها (1).

و الدلالة على أن عملية الاختلاط تقتصر على عروق الرجل فقط دون الذيل (و على عروق المرأة أيضا)حسب المعطيات الشرعية هو الحديث الذي سيلي تفسيره في المباحث اللاحقة و هو«إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها...»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]حيث إنه أتى على ذكر العروق فقط لعملية تسبق عملية الانتشار بدقائق معدودة،و هذه العروق هي عروق الرجل و المرأة فقط كما سنراه لاحقا.

و من كلامنا السابق نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن الحيوان المنوي يدخل بأكمله البويضة و أن ذيله لا ينتشر فيها،و بذلك يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تكلم عن دخول الحيوان المنوي البويضة قبل العالم(هيرتويج HERTWIG )الذي تمكن من ملاحظة كيف يلقّح الحيوان المنوي البويضة عام(1875 م)أي بعد 1200 سنة تقريبا!!!.

3-إن النطفة الأنثوية تحتوي على عروق و إلا لما ذكر الرسول-عليه الصلاة و السلام-أن الماء يطير(أي ينتشر)في عروق المرأة-أي في العروق التي تفرزها المرأة أ لا و هي عروق نطفتها-.و هذا يشير إلى معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن النطفة تحتوي على صبغيات.فلو أن العروق لم تكن موجودة في بويضة المرأة-حسب المفهوم الإسلامي-فلما ذا تفرز المرأة نطفة تعطي الجنين صفات،إن كان العرق غير موجود فيها و هو المسئول عن إعطاء الصفات؟،و لهذا تشهد الأحاديث التالية:

«و هذا لعله يكون نزعه عرق له»[أخرجه مسلم ح 65]،«و انظر في أيّ نصاب تضع ولدك فإن العرق دسّاس»[ذكره العجلوني ح 71]،«الناس معادن و العرق دساس»[ذكره ابن الجوزي ح 71]،«تزوّجوا في الحجر الصالح فإن العرق دسّاس»[ذكره السخاوي ح 71]، «نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيّهما غلبت صاحبتها فالشبه له» [ذكره ابن هشام ح 69] (2).».

ص: 146


1- كتاب أصول الفقه الإسلامي،د.إبراهيم محمد سلقيني،ص 240.
2- انظر مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة».

كذلك فهم بعض فقهاء الصحابة رضي اللّه عنهم ما أشرنا إليه؛فلقد أشار الصحابي الجليل عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه إلى أن النطفة تحتوي على عروق،كما في الروايتين التاليتين:

-جاء في الدر المنثور:أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عبد اللّه بن مسعود قال:إذا جئناكم بحديث أتيناكم بتصديقه من كتاب اللّه إن النطفة تكون في الرحم أربعين ثم تكون علقة أربعين ثم تكون مضغة أربعين،فإذا أراد اللّه أن يخلق الخلق نزل الملك فيقول له:اكتب،فيقول:ما ذا أكتب؟فيقول:اكتب شقيا أو سعيدا، ذكرا أو أنثى،و ما رزقه،و أثره و أجله،فيوحي اللّه بما يشاء و يكتب الملك،ثم قرأ عبد اللّه: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ثم قال عبد اللّه:أمشاجها عروقها.

-و ورد فيه أيضا (1):أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله أمشاج،قال:العروق.

قال ابن رجب الحنبلي (2)-بعد أن أورد الآية إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ -قال:«و فسّر طائفة من السّلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها» (3).

و الخلاصة:قوله:إن النطفة لها أمشاج،و هذه الأمشاج هي العروق(أي الصبغيات)،هو دلالة على أن في النطفة صبغيات.

و هكذا فإن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تحدث عن دور الصبغيات في عملية الإخصاب قبل العالم(فليمينغ FLEMMING )(1878 م).

4-إن النطفة الأنثوية(أي البويضة)لا تحتوي على عروق فحسب،بل على مكوّنات أخرى و ذلك لأن ماء الرجل يطير في عروق من نطفة المرأة لا في النطفة بأكملها؛فالانتشار ثابت بين أعضاء محددة من البويضة(أي الصبغيات)كما تشير إليه كلمة«منها».

و بالفعل فإلى جانب العروق التي توجد في نواة النطفة هناك(الهلام الخليوي CYTOPLASM )الذي يحيط بالنواة و الذي يحتوي على(مولدات الطاقة MITOCHONDRIA )في النطفة و مصانع تصنيع البروتينات(الريبوسومات].

ص: 147


1- الدر المنثور للسيوطي-(ج /6ص 297-298).
2- جامع العلوم و الحكم لابن رجب الحنبلي،ص 158.
3- اللافت للنظر جدا أن يستنتج أسلافنا في عصر يملؤه الجهل العلمي أن هناك عروقا للنطفة،و قد استنبط ذلك الصحابة-رضوان اللّه عليهم-معتمدين على النصوص القرآنية و الأحاديث الشريفة،و لا عجب، فهؤلاء لهم مدد نوراني من اللّه عزّ و جلّ،و يشهد لذلك الحديث الشريف التالي:«اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه»[أخرجه الترمذي ح 74].

> CS <

(33)نرى في الرسم مقطعا للخلية(و بالتالي البويضة)حيث يتبين لنا أنها تتألف من أعضاء كثيرة غير الصبغيات كما أشرنا إليه في النقطة رقم 4 لتفسير الحديث «طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21].

RIBOSOMES )و(جهاز جولجي GOLGI APPARATUS )المختص بتخزين عمليات البناء في الخلية،و عناصر أخرى.(انظر الصورة رقم:33).

و هذا ما أكده زيد بن أسلم حيث قال في تفسيره للآية: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ :الأمشاج العروق التي في النطفة (1).

فلقد حدد أن العروق موجودة داخل النطفة و بالتالي حدد أن العروق لا تؤلّف كل النطفة بل هناك أعضاء أخرى.

و من كلامنا السابق نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن الصبغيات لا تكوّن كلّ البويضة.

5-إن الأجزاء التي اختلطت هي عروق موجودة في النطفة و ليس سواها، و ذلك لأن الماء يطير في(أي ينتشر بين)عروق و أعصاب نطفة المرأة(أي صبغياتها) و لم ينتشر في أعضاء أخرى.).

ص: 148


1- الدر المنثور للسيوطي-(ج /6ص 298).

و هذا تلميح واضح إلى أن العناصر الأخرى لا تشارك في عملية الاختلاط.

(انظر الصورة رقم:38).

و قد أقرّ الصحابي عبد اللّه بن مسعود و التابعي زيد بن أسلم رضي اللّه عنهما هذا المفهوم في قولهما:«أمشاجها عروقها»و«الأمشاج العروق التي في النطفة»؛أي أن الأجزاء التي تختلط هي العروق المتواجدة داخل النطفة.و مما يقوّي هذا التفسير هو أنه إذا اختلط شيئان نقول عنهما:«مشيج»في الغالب و ليس«أمشاج»،ذلك أن كلمة «أمشاج»تشير إلى أن عدة أشياء اختلطت فيما بينها؛أ لا و هي العروق،جاء في لسان العرب (1):«مشج:المشج و المشج و المشج و المشيج:كل لونين اختلطا...

و قيل:هو كل شيئين مختلطين،و الجمع أمشاج».و جاء في مختار الصحاح (2):«م ش ج:مشجت بينهما مشجا:خلطت،و الشيء مشيج،و الجمع أمشاج» (3).ة.

ص: 149


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«مشج»-(ج /13ص 111).
2- الصحاح للجوهري-(ج /1ص 241).
3- هناك بعض الباحثين ممن يفسّر نطفة الأمشاج على أنها نطفة الرجل،أو نطفة المرأة،أو النطفة المخصبة، و ذلك أن نطفة الرجل(أو نطفة المرأة)تحتوي على أخلاط من الصبغيات انحدرت من كلّ من الجدّ و الجدّة على حدّ سواء،و أن الصبغيات تحتوي على مزيج من المورّثات جاءت منهم أيضا من خلال عملية (التصالب و العبور CROSS OVER )التي حدثت(للنطفة الجنسية الأولية PRIMARY SEX CELL )التي انقسمت مرّتين خلال نضوجها(الانقسام الميوزي الأول و الثاني FIRST AND SECOND MEIOTIC DIVISION )و التي أدّت إلى نشوء نطفة الرجل(أو المرأة)(انظر مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»)،فكل من نطفة المرأة و نطفة الرجل نطفة مشيج،و النطفة المخصبة نطفة أمشاج،حصلت من جمع مشيجين حسب مفهومهم،فجعلوا كلمة«أمشاج»جمع«مشيج»،و ذلك خطأ من الناحية اللغوية،لأن كلمة«أمشاج»صفة للنطفة التي هي مفردة،و بالتالي فإن صفتها(أي كلمة أمشاج)لفظ مفرد و ليس بجمع، جاء في تفسير الرازي-(ج /30ص 740):«قال صاحب«الكشاف»:الأمشاج لفظ مفرد،و ليس بجمع، بدليل أنه صفة للمفرد،و هو قوله: نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2]،و يقال أيضا:نطفة مشيج،و لا يصح أن يكون أمشاجا جمعا للمشج،بل هما مثلان في الإفراد،و نظيره برمة أعشار،أي قطع مكسرة،و ثوب أخلاق،و أرض سباسب...».و الإشارة إلى أن لفظ نطفة الأمشاج قد يشير إلى نطفة الرجل أو نطفة المرأة جائز،ذلك أن كلاّ منهما يحتوي على أخلاط،و كذلك الإشارة إلى أنه قد يشير إلى النطفة المخصبة جائز أيضا،لأن النطفة المخصبة مزيج من نطفة الرجل و نطفة المرأة،أو لأنها تحتوي على أخلاط من الصبغيات و المورّثات،و لكن القول بأن القرآن أشار إلى أن هناك مزجا على مزج غير صحيح،للسبب الذي سقناه سابقا،و نكون بذلك قد حمّلنا القرآن الكريم ما لم يشر إليه،و اللّه تعالى أعلم.و لقد استحسنا أن نعتمد التفسير القاتل بأن نطفة الأمشاج هي النطفة المكونة من نطفة الرجل و نطفة المرأة،لأن عموم الأحاديث تتكلم عن تفاعل-إن لم يكن اختلاط-نطفة الرجل بنطفة المرأة،و لأن أكثر السلف الصالح فسروا نطفة الأمشاج على أنها اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة،و لأن التوجه العام للبحث يشير عقلا إلى هذه الظاهرة.

و هذا يفيد أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم بوحي ربّاني أن هناك عناصر أخرى لا تختلط مع عروق الحيوان المنوي.

6-إن عروق نطفة الرجل تقترب من عروق نطفة المرأة (1)،فالانتشار بين عروق المرأة يستوجب الاقتراب منها،و إلا لما استطاعت العروق الاختلاط.(انظر الصورتين رقم:37-38).

و مما يثبت صحة كلامنا هذا،هو قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54]،فهذه الآية-كما سبق و تكلمنا-تشير إلى انصهار نواتي الماءين،و الانصهار يتوقف على الاقتراب.و نفهم من هذا الحديث أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن نواتي الحيوان المنوي و البويضة تنجذب إحداهما إلى الأخرى.

7-إن عملية التقدير المذكورة في الآية: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ تكون من خلال مشج(أي اختلاط)العروق فيما بينها،و ذلك يوافق ما جاء في الآية: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً... من أن النسب يعقب الخلق و ذلك بانصهار النواتين،كما أنه يوافق المعنى الذي أتى في الحديث:«إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و المفيد بأن إحضار الشبه يكون عند ما يحين الخلق و ذلك بسبب العروق.

8-إن رأس الحيوان المنوي يتسع و يتضخم،فالانتشار يقضي تمدّد و تبعثر أعضاء المادة المنتشرة.و الحيوان المنوي في بادئ الأمر يكون غليظا كثيفا بالنسبة لنطفة المرأة(فعروقه أكثر تراصا و تراكما من عروق المرأة)كما يشير إليه الحديث النبوي الشريف«نطفة الرجل بيضاء غليظة...»[ذكره ابن هشام ح 69]و من ثم تضطرب عروقه و تتسع(أي تتحرك و تتمدد)كما يعنيه الحديث«إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22] (2)(انظر الصورة رقم:36)،و من ثمّ تنتشر و تختلط عروق النطفتين وفق الحديث«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21](انظر الصورة رقم:39)،بعكس حالة البويضة،فهي في بادئ الأمر رقيقة،قليلة الكثافة بالنسبة للحيوان المنوي كما وصفها الحديث«نطفة المرأة صفراء رقيقة...»[ذكره ابن هشام ح 69]،غير أن تلك العروق تستكمل امتدادها فور دخول الحيوان المنوي لأن الحديث شمل كلّ العروق في عملية الاضطراب كما أتى في لفظ«اضطربت العروق كلها»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و لم يشر إلى بعضها دون البعض الآخر.».

ص: 150


1- و بالتحديد إن عروق نطفة المرأة و عروق نطفة الرجل تقترب بعضها من بعض.
2- انظر مبحثي«اضطراب عروق النطفة»و«النطفة».

> CS <

ص: 151

> CS <

ص: 152

> CS <

ص: 153

و نود الإشارة هنا إلى أن:

-عملية الانتشار تتصف باختلاط أجزاء متفرقة.

-و أن الأجزاء المتفرقة هي عروق.

-و أن هذه العروق هي عروق موجودة في النطفة.

بما أن ذلك كله متحقق،فنفهم عندها أن إطلاق تسمية«نطفة الأمشاج»على البويضة المخصبة يعني«نطفة العروق المختلطة».و هكذا يتجلى لنا الإعجاز البلاغي للقرآن لأنه اختصر عدة معان في كلمتين فقط.

و في النهاية نود التعليق على التسمية التي أطلقها القرآن الكريم على البويضة المخصبة و نقارنها بالمصطلحات التي وضعها الأطباء لنرى أيهما مناسب أكثر من حيث الدلالة:

أطلق العلماء على البويضة التي يلقحها الحيوان المنوي اسم(البويضة المخصبة FERTILIZED OVUM )،و على البويضة المخصبة بعد أن تتحد فيها نواتا الحيوان المنوي و البويضة اسم:(الخلية الموحدة ZYGOTE )،و بالتالي فإن تسمية«البويضة المخصبة»تشير إلى تلقيح الحيوان المنوي للبويضة،كما أنها تشير إلى أن شكل البويضة مستدير نسبيا،و هذه التسمية غير مناسبة بتاتا؛ذلك أنها توحي إلى القارئ أن بويضة المرأة هي الأصل،و أن الحيوان المنوي لا يلعب إلا دورا هامشيا،أي دورا محفزا في تكوين الجنين.أما بالنسبة لتسمية الخلية الموحدة فهي لا تعكس ما يجري داخل البويضة المخصبة،و لا تشير إلى شكل البويضة...إلخ.

أما تسمية«نطفة أمشاج»فهي تشير إلى الشكل الخارجي للبويضة المخصبة، و تدل على حجمها،و تعكس العمليات التي تجري داخلها،ناهيك عن أنها تشير إلى حركة البويضة المخصبة؛فالنطفة تعني،كما أشرنا إليه في مبحث«النطفة»،القطرة من الماء،و بالتالي فإن هذه التسمية تشير إلى أن البويضة المخصبة صغيرة كقطرة الماء،و أنها مستديرة نسبيا كقطرة الماء،و أنها تنساب على سطح ما يسمى«بقناة فالوب»خلال هجرتها من المبيض إلى الرحم كما تنساب القطرة من الماء على السطح المائل.

و وصفها بأنها«أمشاج»يشير إلى أنها مكونة من أعضاء كثيرة(الصبغيات)، و يعكس العمليات الداخلية التي تجري داخل البويضة من اختلاط الصبغيات فيما بينها، ناهيك أنه يعطي للحيوان المنوي نفس الأهمية التي يعطيها لبويضة المرأة،في إشارة إلى شراكة متساوية للذكر و الأنثى في تكوين الجنين.فتأمل أيها القارئ الكريم!!!.

ص: 154

اضطراب عروق النطفة

*عن عبد اللّه بن بريدة:أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود، فأخذ بيد امرأته،فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت:و الذي بعثك بالحق،لقد تزوّجني بكرا و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقت!...إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له» [أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].

*عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...

العروق كلّها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].

هذه المرحلة تبدأ زمنيا قبل مرحلة«اختلاط عروق النطفة»و تنتهي عندها، و لكن وضعناها بعدها لكي تتضح الأمور للقارئ،و لأن مبحث«اضطراب عروق النطفة»مرتبط بمبحث«اختلاط عروق النطفة».

إن الحديث الذي رواه عبد اللّه بن بريدة رضي اللّه عنه جاء في توضيح ما حصل لامرأة ولدت غلاما أسود لا يشبه أحدا من أبويه،فشكّ زوجها في عفّتها و لكن برّأها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من شكّ زوجها.

العرق في الحديث هنا و في سائر الأحاديث الشريفة التي ذكرناها في هذا الكتاب يعني الصبغيات في المصطلح العلمي (1).

يكشف لنا الحديث الشريف الذي رواه عبد اللّه بن بريدة النقاب عن حادثة «اضطراب».هذا الاضطراب يحصل للعروق كلها و ذلك«إذا كان حين الولد»[أخرجه الديلمي ح 23]أي إذا حان وقت خلق الجنين.

نقطة الصفر في ولادة الجنين تحصل عند دخول الحيوان المنوي البويضة أي عند مشج و اختلاط النطفتين و ذلك لأن أجزاءه المتفرقة تتوحّد تحت جسم واحد.

و ما روي عن ابن عباس:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق»

ص: 155


1- لمزيد من التفاصيل الرجاء إلقاء النظر على مبحث«اختلاط عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة».

[أخرجه الديلمي ح 23]يوافق هذ المعنى؛فالنطفة التي يخلق منها الولد تشير إلى البويضة المخصبة و ذلك لأن النطف التي لم تخصّب لا تؤدي إلى تخلّق الولد.

لكل من النطفتين-النطفة الذكرية و النطفة الأنثوية-عروق أي صبغيات (1).

هذه العروق تضطرب أي تتحرك لحظة دخول الحيوان المنوي البويضة.

جاء في لسان العرب (2):«و تضرّب الشيء و اضطرب:تحرك و ماج، و الاضطراب:تضرّب».

و جاء أيضا (3):«رعد...و الارتعاد الاضطراب،و في حديث زيد بن أسود:

فجيء بهما ترعد فرائصهما أي:ترجف و تضطرب من الخوف»[أخرجه الترمذي ح 24]..

كل من العروق-عروق الحيوان المنوي و عروق البويضة-ترتجف وفقا لما جاء«اضطربت العروق كلها»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و«ترعد لها...العروق كلها»[أخرجه الديلمي ح 23].

و نود الإشارة هنا إلى أن عملية الاضطراب و الارتجاف هي عملية ذات طابع ارتدادي،أي أن أعضاء هذه العملية تتحرك و من ثمّ تعود أدراجها.و بالتالي فإن عملية الاضطراب ليست مجرد عملية تحرك،كما أن أعضاء عملية الارتجاف تتحرك تحركا محدودا فهي تموج و تتحرك قليلا في مكانها و لا تتحرك كثيرا كالانتقال من مكان إلى آخر.

كيف تتم عملية الاضطراب؟.

بعد أن يدخل الحيوان المنوي البويضة تنقسم العروق الموجودة داخل نواة البويضة إلى جزءين محدثة(الانقسام الميوزي الثاني SECOND MEIOTIC DIVISION ) (4)حيث ينزوي قسم من العروق في أحد جوانب البويضة بينما يواجه القسم الثاني عروق الحيوان المنوي التي دخلت البويضة.

و من ثمّ تمتد عروق نواة البويضة داخل النواة من خلال عملية تسمى:عملية (تخفف التكثف DECONDENSATION ) (5).7.

ص: 156


1- راجع لهذا الغرض مبحث«اختلاط عروق النطفة».
2- لسان العرب لابن منظور-مادة«ضرب»-(ج /8ص 35).
3- لسان العرب لابن منظور-مادة«رعد»-(ج /5ص 242).
4- كتاب الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور،ص 32.
5- كتاب الإنسان النامي،د.كيث مور ود.بارسو،ص 37.

إلى ذلك،فإن رأس الحيوان المنوي الذي يحتوي هو أيضا على صبغيات(أي عروق)بشكل متراص و متراكم يتضخم رأسه و تتسع و تمتد عروقه بداخله (1).

يعقب ذلك تضاعف صبغيات كل من النواتين (2).

و تتقارب النواتان.

و عند التقاء النواتين يتفكك غشاؤهما النووي كما رأينا في مبحث«اختلاط عروق النطفة»و تنصهر النواتان.

يعقب ذلك تكثّف صبغيات كل من النواتين (3).

خلال عملية التكثف تغلظ الصبغيات و يقصر طولها (4).

إن عملية امتداد العروق و انقباضها على نفسها ما هي إلا عملية تموّج أي عملية تحرّك ارتدادي تماما كما تعنيه كلمة«اضطراب».

إلى ذلك فإن تحرك العروق في عملية الامتداد و الانقباض محدودة جدا؛ فالامتداد و الانقباض له مقدار لا تستطيع العروق أن تزيد عليه في الامتداد و لا أن تنقص منه في الانقباض.

و هكذا ترتجف العروق لتحقق معنى الاضطراب و الارتعاد الذي ورد في الأحاديث الشريفة.

و من الجدير بالذكر هنا أن عملية الاضطراب تأتي زمنيا بعد عملية التخلق(أي بعد عملية التخصيب)و قبل(أو عند)عملية تقدير شبه الجنين،و ذلك لأن العروق تستعد لعملية التقدير بسؤال اللّه عزّ و جلّ أن يجعل الشبه لها.

الاستعداد لعملية التقدير يكون بامتداد العروق-و اللّه أعلم-(و ذلك ليتاح لها أن تضاعف صبغياتها فتكون مؤهلة لعملية التقدير)،و بانقباض العروق على نفسها [(و ذلك لكي يتاح لمادة(الدي أن آي DNA ) (5)التي يبلغ طولها حوالي مترين أن تعبّا داخل نواة خلية واحدة لا يزيد قطرها عن ستة ميكرون (6)(و الميكرون هو واحد على الألف من المليمتر)].3.

ص: 157


1- كتاب الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور،ص /32كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر، ص 55.
2- كتاب الإنسان النامي،د.كيث مور ود.بارسو،ص 37.
3- كتاب الإنسان النامي،د.كيث مور ود.بارسو،ص 37.
4- كتاب الآيات العجاب،د.حامد أحمد حامد،ص 12-13.
5- والدنا هو الحمض النووي الرئيسي منقوص الأكسجين.
6- كتاب الآيات العجاب،د.حامد أحمد حامد،ص 13.

إن المتتبّع و المستقرئ للنصوص القرآنية و الحديثية يدرك مدى عظمة الإعجاز الإسلامي في الإخبار عن الأمور العلمية في مجال«تخلّق الجنين».فالآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة توضح لنا الصورة التي تكون عليها العروق و المسار الذي تتبعه، و هو على النحو التالي:

-كثافة الحيوان المنوي بالنسبة للبويضة-دخول الحيوان المنوي البويضة -تمدد الحيوان المنوي-اقتراب نواتي النطفتين-انصهار نواتي النطفتين-اختلاط العروق-إحضار الشبه.

التكلم عن أشياء موجودة داخل مكان مغلق و مظلم(أي داخل الرحم)يلفت النظر...

و التكلم عن أشياء صغيرة جدا(أي عن البويضة و الحيوان المنوي)موجودة داخل ذلك المكان يسترعي الانتباه...

و التكلم عن عمليات لتلك الأشياء الصغيرة(كاختلاط النطفتين)إعجاز إخباري مبين...

و التكلم عن أعضاء متخفّية داخل تلك الأجزاء الصغيرة(أي عن العروق)يزيد من قوة الإعجاز...

و التكلم عن تحرك تلك الأعضاء الصغيرة المتخفية أمر مدهش...!

و أما تحديد طبيعة التحرك لأعضاء تلك الأشياء الصغيرة المتخفية فهو أمر يبهر العقول...! إلى ذلك فإن توقيت التحرك المحدود للأعضاء الصغيرة المتخفية بدقة متناهية أمر لا يصدقه عقل إلا إذا كان:

1-وحيا ربانيا،

2-أو كشوفا علمية لمجمع علمي منعقد لسنين مستمرة،و مزود بتقنيات عالية.

و الاحتمال الثاني تكشّف في عصرنا هذا،و الاحتمال الأول قد أشير إليه قبل 1400 سنة في ظل من الأمية مسيطر،فاعتبروا يا أولي الأبصار!!!.

و انظر لهذا الغرض تعليقنا في الملحق المرفق في آخر هذا الكتاب.

ص: 158

انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب

*قال العليم الحكيم: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95].

*قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].

*قال اللّه عزّ و جلّ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].

نود في البداية التعليق على الآية: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95].

ورد في لسان العرب (1):«و الحبة من الشيء:القطعة منه».

و جاء في تفسير ابن كثير (2):«...و قد عبّروا عن هذا و هذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى،فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة و عكسه...».

و جاء في القرطبي (3):«يخرج البشر الحي من النطفة الميتة،و النطفة الميتة من البشر الحي...و في صحيح مسلم عن عليّ رضي اللّه عنه:و الذي فلق الحبة و برأ النّسمة إنه لعهد النبي الأمّي صلّى اللّه عليه و سلّم...»[أخرجه الترمذي ح 25].

و جاء نفس الكلام في مراجع عديدة (4).

ص: 159


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«حبب»-(ج /3ص 10).القاموس المحيط-باب الباء/فصل الحاء-. الصحاح للجواهري-باب الباء/فصل الحاء-.
2- تفسير ابن كثير،ج /2ص 158.
3- تفسير القرطبي،ج /7ص 44.
4- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي-(ج /3ص 33).و نقل نفس الكلام في فتح الباري-باب سورة آل عمران عن مجاهد-كتاب التفسير-سورة آل عمران-(ج /8ص 209).و في جامع البيان في تفسير القرآن للطبري-(ج /7ص 187)-عن السّدّي و عن أبي مالك و عن ابن عباس.و في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ورد عن ابن عباس-(ج /7ص 44).و في تفسير الألوسي-(ج /7ص 226،و 110/11،و /21 30).و في تفسير السمرقندي-(ج /1ص 469).و في زاد المسير لابن الجوزي-(ج /3ص 90).

إذا أخذنا بمجموع التفاسير المذكورة السابقة أصبحت الآية تعني:إن اللّه فالق القطع الصغيرة من جسم الإنسان و نواتها(و هي الحبّ أي النطف) (1)يخرج البشر الحي من النطفة الميتة،و مخرج النطفة الميتة من البشر الحي.

هنا الدهشة تمتلك من يتدبر الآيات القرآنية:

إن الآية: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95]تعبّر عن سمة كونية عامة يمتاز بها عالم النبات و الحيوان و الإنسان،فالفلق سمة عامة لكلّ خلاياهم(الجنسية أو الجسدية)كما يشير إليه العلم الكوني،و كما تدل عليه صياغة الآية الكريمة،فاللفظ: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى جاء على إطلاقه و لا يقيّد سمة الفلق لجنس من الأجناس.

إن البويضة بعد تخصيبها من الحيوان المنوي تنفلق-أي تنقسم-إلى جزءين مصداقا لقول اللّه تعالى: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ... ،هذا الانفلاق يحصل أيضا لنواة البويضة كما جاء في الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى .

و التفصيل كالآتي:

لقد رأينا في مبحث«اضطراب عروق النطفة»أن صبغيات النطفة المخصبة تمتد و من ثمّ تتضاعف صبغياتها و من ثمّ تنقبض على نفسها.و يعقب ذلك أن تصطفّ العروق و هي مؤلّفة من زوج من الحبال تسمى:(كروماتيد CHROMATIDS )بشكل منتظم عند خط استواء النطفة،و يتصل كل زوج من حبال الكروماتيد بقسيمة مركزية تسمى:(سنترومر CENTROMERE ).

إلى ذلك يتألف القسم المركزي للنطفة من زوج يسمى:(سنتريول CENTRIOLES )يتباعدان بحيث يتجه كل سنتريول في اتجاه أحد قطبي النطفة.

و خلال اصطفاف العروق عند خط استواء النطفة تمتد خيوط شعاعية من (قسيمات النطفة المركزية CENTRIOLES )إلى كل(القسيمات المركزية للصبغيات CENTROMERES )و تؤلف ما يسمى بخيوط المغزل.

و يعقب ذلك أن ينقسم كل(سنترومر CENTROMERE )إلى اثنين بحيث تنفصل الحبال الشقيقة(الكروماتيد)إلى حبال مستقلة.

و من ثمّ تنكمش خيوط المغزل نحو قطبي النطفة فتنجذب الحبال المنفصلة».

ص: 160


1- للمزيد من التعليق على أن كلمة الحب تشير أيضا إلى النطف راجع مبحث«الحرث».

معها بحيث يجتمع في النهاية عند كل قطب من النطفة عدد متساو من الحبال، و بذلك تنفصل نواة النطفة إلى نواتين مستقلتين.

و يعقب ذلك أن ينقسم(الهلام الخلوي للبويضة CYTOPLASM )إلى جزءين مستقلين (1)يحتوي كل منها على نواة،و بذلك تنفلق النطفة إلى خليتين محدثة ما يسمى باللغة العلمية:(الانفلاق الفتيلي MITOTIC DIVISION )،و يتحقق الانفلاق للنطفة على وجه عام و لنواتها على وجه خاص كما أشارت إليه الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى... .(انظر الصورة رقم:40).

إلى ذلك فإن عملية الانفلاق التي تحدّثنا عنها و التي تحدث للنطفة و لنواتها هي التي سوف تؤدي إلى خلق شيء حي،كما جاء في الآية الكريمة: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ،و هذا المعنى يؤيده تفسير ابن كثير و القرطبي(يخرج البشر الحي من النطفة الميتة)كما ذكرناه في بداية هذا البحث.فلو لا هذه العملية لما نشأ فيما بعد(كما سنراه في مبحث«جمع خلايا الجنين»)كتلة الخلايا التي ستؤلف الجنين.

و بذلك فإن الوحي السماوي قد سبق العالمين(بريفوست و دوماس PREVOST AND DUMAS )(1824 م)إلى وصف ظاهرة(انشقاق البويضة CLEAVAGE )، و العالم(و ولف WOLFF )(1759 م)إلى أن الكرويات تنفلق لتؤلف طبقات من الخلايا يتخلق منها الجنين،و العالم(فون بندن VON BENEDEN )(1883 م)الذي وصف ظاهرة الانقسام الاختزالي(أي انقسام نواة البويضة).

و تعليقا على الآيتين: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] و سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]نورد ما يلي:

إذا تأملنا تطور النطفة يمكننا تسجيل هذه النقاط:

*إن نطفة الرجل-و خلال هجرتها من الجهة الظاهرة من الخصية إلى الجهة الباطنة-تنفلق إلى جزءين،و كل جزء من هذين الجزءين ينفلق إلى جزءين آخرين.

*إن خلايا نطفة المرأة قبيل تلقيحها من قبل الحيوان المنوي،تنقسم إلى جزءين بعد أن تسقط من المبيض داخل قناة فالوب.و الحاصل أن نصف خلايا النطفة تنزوي في جسم صغير معلّق بالنطفة يسمى:(الجسم القطبي POLAR BODY )، و يبقى النصف الثاني في النطفة.(انظر الصورة رقم:41).5.

ص: 161


1- كتاب علم الأجنّة الطبي،سادلر،ص 85.

> CS <

ص: 162

> CS <

ص: 163

*بعد أن ينصهر النصف الثاني من نواة نطفة المرأة مع رأس الحيوان المنوي، يبدأ انفلاق(نطفة الأمشاج ZYGOTE ):فالنطفة الحاصلة تنفلق إلى جزءين،و هذان الجزآن ينقسم كل واحد منهما إلى جزءين آخرين،و يتم هذا الانفلاق في كل من الأجزاء اللاحقة،فتسمى النطفة عند ما تصبح مكونة من ثمانية خلايا باللغة العلمية (بالتوتة MORULA )و من ثمّ(بالكرة الجرثومية BLASTOCYT ).(انظر الصورتين رقم:43-44)

> CS <

ص: 164

> CS <

ص: 165

*عند ما تدخل نطفة الأمشاج في الرحم،تنقسم الخلايا الناتجة من الانفلاق إلى جزءين:أحدهما سوف يؤدي إلى تخلّق الجنين(و يسمى كتلة الخلايا الداخلية)،و الثاني سوف يؤدي إلى تخلّق(المشيمة PLACENTA )(و يسمى كتلة الخلايا الخارجية).

(انظر الصورة رقم:45).

> CS <

فالنقاط الخمس التي ذكرناها أعلاه تؤكّد إخبار اللّه-سبحانه و تعالى-قبل أربعة عشر قرنا بأنه يفلق النواة إلى جزءين.و هذا التصريح تؤكده الآية الكريمة الثانية: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].على أن الآية الأخيرة عامة في معناها أكثر و تشمل و تظهر حقائق أكثر؛فكل شيء مكوّن من زوجين سواء انفلق أم لم ينفلق:

*فالإنسان مؤلّف من رجل و امرأة.

*و النطفة من نطفة ذكرية(حيوان منوي)و نطفة أنثوية(بويضة).

*و نطفة الرجل تنقسم إلى جزءين،و نطفة المرأة تنقسم إلى جزءين و نطفة الأمشاج تنقسم إلى جزءين و كل جزء منها ينقسم إلى جزءين،و مجموعة السلالات التي تؤلف النطفة بعد أن تقع في رحم المرأة تنقسم إلى جزءين.

*و نواة الخلية العادية سواء عند المرأة أو عند الرجل مؤلفة من ثلاثة و عشرين زوجا من الكروموزومات(أي الصبغيات:و هي التي تحدد فيما بعد شكل الإنسان) و كل اثنتين من هذه الصبغيات متعلقة بعضها ببعض.(انظر الصورة رقم:46).

ص: 166

> CS <

يحتوى الصبغ على حلزون(الحمض النووي الرئيسي D N A ،هذا الحلزون مزدوج التركيب أي أنه مؤلف من سلسلتين من الحبيبات.(انظر الصورة رقم:47).

> CS <

ص: 167

*و كل من السلسلتين مصنوع من مجموعة من الجزئيات،و كل مجموعة من السلسلة الأولى تتحد مع مجموعة أخرى من السلسلة الثانية على شكل زوج:

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].لاحظوا التعبير الدقيق: اَلْأَزْواجَ و وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ :لقد جاء هذان التعبيران للدلالة على أن الأزواج موجودة في جسم الإنسان،و أضاف عليها: وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ للتلميح إلى أن الكثير من الأزواج لم تكتشف بعد:ذلك أن المعاصرين للرسول-عليه الصلاة و السلام-لم يكتشفوا تلك الأزواج التي توصّل إليها العلم الآن،و لا ندري ما ذا سيكتشف العلم مستقبلا.ناهيك عن أن الآيتين: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ... و سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ... لم تحصرا الأزواج في الإنسان فقط، و هذا ما برهنه العلم أيضا فالحيوان من زوجين،و النبات و(نطفها POLLEN )أزواج ...إلخ.

*كما أن هذه السلاسل تتكون من أربع قواعد نيتروجينية و هي:

(آدنين،غوانين،سايتوزين،و ثايمين، ADENINE,GUANINE,CYTOSINE, THYMINE )و هذه القواعد جاءت أزواجا.فالآدنين دائما يتزاوج مع الثائمين، و الغوانين دائما يتزاوج مع السايتوزين.

و لا يمكن أبدا أن يتزاوج الآدنين مع الغوانين،و لا الغوانين مع الثائمين،و لا السايتوزين مع الآدنين،و لا الثائمين مع السايتوزين.

*كما أن كل واحد من هذه القواعد الأربعة يتصل بأحد(السكريات الناقصة الأوكسيجين- DEOXY RIBOSE )،و هذا السكر يتصل بجزئي من الفوسفات ليكون أيضا زوجا،لا يبتعد عنه،و لا ينفصل منه (1).

و الرسم(صورة رقم:48)على اليسار يوضح هذا الكلام.

> CS <ف.

ص: 168


1- كتاب الإعجاز العلمي في القرآن:المعجزة القرآنية،د.محمد حسن هيتو،ص 269-270،بتصرف.

وقوع النطفة في الرّحم

*قال-صلى اللّه عليه و على آله و سلم-:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا...»[رواه الطبري ح 32].

هذا الحديث يخبرنا بأن النطفة تقع في الرحم،و قد يعتقد البعض أن الإشارة الظاهرة من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا تحتوي إعجاز إخباريا و لكنه اعتقاد مجانب للصواب،فوقوع النطفة في الرحم كما جاء في الحديث الشريف«إذا وقعت النطفة في الرحم...»[رواه الطبري ح 32]يدل على إعجاز علمي لأن وقوع النطفة-يحصل خلال دقائق معدودة-أو ثوان معدودة على وجه أصح-و حجم الكرة الجرثومية (أو نطفة الأمشاج)لا يبلغ حينها أكثر من 7,0 ملم.(انظر الصورة رقم:49).

إن وقوع النطفة في الرحم ظاهرة يصعب التنبؤ بها إلا إذا وجد شخص يترقّب الأحداث داخل الرحم بواسطة مجاهر إلكترونية.

أيضا قد يظنّ عالم الأجنة أن النطفة تتدحرج بدلا من أن تقع في الرحم،أو أنّ الرحم يفرزها(أي أن بطانة الرحم تلفظها بعد أن كانت موجودة كاملة في داخلها) حيث تبقى على سطحه و تتخلّق بدلا من أن تهاجر من مكان آخر إلى الرحم،لذلك كان حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بمثابة إعجاز إخباري.

ص: 169

> CS <

ص: 170

القرار المكين

اشارة

*قال اللّه تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13].

لقد رأينا في النص السابق أن النطفة تقع في الرحم،ترى ما صفة هذا الرحم؟ و كيف سيستقبلها؟إن النص التالي سوف يجيب على هذه الأسئلة.

هذه الآية تتضمن وصفا لعلاقتين:علاقة الرحم بالجنين و علاقة الرحم بجسم الأم.

أ-بالنسبة لعلاقة الرحم بالجنين:

فقد قال اللّه سبحانه و تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ و لم يقل ثم جعلناه في مكان،لما ذا؟لأن كلمة قرار لا تشير إلى مجرد مكان فحسب و لكن تشير إلى أكثر من ذلك:فهي تعني أن الرحم بمثابة مكان آمن لاستقرار الجنين (1)و راحته،فهو بمثابة مكان سكن للنطفة،جاء في لسان العرب (2):«قرر:و القرار و القرارة من الأرض:المطمئن المستقر».

و ليس مطمئنا فحسب،و لكن في غاية الاطمئنان،جاء في تفسير الألوسي (3):

« فِي قَرارٍ أي مستقر و هو في الأصل مصدر من قرّ يقرّ قرارا بمعنى ثبت ثبوتا، و أطلق على ذلك مبالغة».

و مكين في اللغة العربية بمعنى ثابت،راسخ في مكانه.جاء في لسان العرب:

«مكن...المكنة إنما هي بمعنى التّمكّن مثل الطّلبة بمعنى التّطلّب و التّبعة بمعنى التّتبّع.يقال:إنّ فلانا لذو مكنة من السلطان،فسمي موضع الطير مكنة لتمكّنه فيه؛ و تمكّن كمكن...» (4).

ص: 171


1- جاء في القاموس المحيط لمجد الدين محمد-مادة«قرر»-ص 592:«و بالمكان يقرّ،بالكسر و الفتح، قرارا و قرورا و قرّا و تقرّة:ثبت،و سكن،كاستقرّ و تقارّ...و القرار و القرارة:ما قرّ فيه،و المطمئنّ من الأرض».
2- لسان العرب لابن منظور-مادة«قرر»-(ج /11ص 100).
3- تفسير الألوسي-(ج /18ص 13).
4- لسان العرب لابن منظور-مادة«مكن»-(ج /13ص 163).

و الدليل من القرآن أن كلمة مكين معناها:ثابت،متمكن بقوة هو معنى الآية فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]

و مكين على وزن فعيل،و هذه الصيغة للمبالغة كخليق من خلق،جاء في تهذيب اللغة:«و قال الليث:و امرأة خليقة ذات جسم و خلق...و قال غيره يقال:

رجل خليق إذا تم خلقه» (1).

و من الكلام السابق نفهم أن مكين في هذا المقام يعني:في غاية التمكّن، و الرساخة و الثبوت.

و الثبوت هو للنطفة في الرّحم.

جاء في تفسير الألوسي (2):« مَكِينٌ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان و هو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر» (3).

و هذا يعني أن النطفة متمكنة و ثابتة بقوّة في الرحم.

كما نعلم جميعا أنّ من طبيعة الجسم أن يطرد أيّ جسم خارجي،و لكن ما يحصل هو أن الرحم يتهيّأ لاستقبال النطفة من جراء الهورمونات التي يفرزها المبيض.كما أن النطفة تحوي موادّ تؤثر على جهاز المناعة عند المرأة فتضعفه، و بذلك يصبح الرحم بمثابة قرار لها (4).(انظر الصورة رقم:50).

إلى ذلك فإن من وظائف الرحم أن يمكّن الجنين من مواصلة نموّه،فالرحم يستطيع أن يكبر آلاف المرات(من 2-3 سم 3 إلى 5000 سم 3 أي بازدياد مقداره حوالي 2500 ضعف)و هو بذلك يتكيف مع حجم الجنين في مختلف مراحله، و نتيجة هرمون البروجسترون (5)تكون تقلّصاته متئدة وقورة بحيث لا تؤذي الجنين.

(انظر الصورة رقم:51).

و أيّ مكان أكثر سكونا من هذا المكان؟.).

ص: 172


1- تهذيب اللغة-(ج /7ص 16).
2- تفسير الألوسي-(ج /18ص 13).
3- و جاء في الكشاف للزمخشري-(ج /3ص 44):«القرار:المستقرّ،و المراد الرحم.وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها،كقولك:طريق سائر».
4- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 64،بتصرف.
5- و هو هرمون يفرزه المبيض إلى الأسبوع السابع من الحمل و من ثمّ يفرزه الغشاء المشيمي(المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي،الإعجاز الطبي في القرآن،1985/9/25 م:د.جولي سمبسمون).

> CS <

ص: 173

> CS <

ص: 174

ب-و أما بالنسبة لعلاقة الرحم بجسم المرأة:

فالآية تفيد بأن النطفة-أي نطفة الأمشاج التي انقسمت إلى عدة خلايا و التي تسمّى باللغة العلمية:(الكرة الجرثومية BLASTOCYST )-تستقر في مكان راسخ.جاء في تفسير السمرقندي (1)عند قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13]:«يعني في مكان حريز حصين»و في تفسير أبي السعود (2):« فِي قَرارٍ أي مستقر و هو الرحم».

و جاء أيضا في تفسير الألوسي (3):«و جوّز أن يقال:إن الرحم نفسها متمكنة، و معنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمجّ ما فيها».فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة و هو وجه وجيه.

إذا تأملنا الصورة التشريحية لهذه المنطقة يتبين لنا مدى صدق هذه الحقيقة من خلال ملحوظات عدة:

1-يمكن اعتبار الرحم من الوجهة الفراغية في منتصف الجسم تماما طولا و عرضا و عمقا.و هكذا يصعب الوصول إليه و يعتبر محميا بما فيه الكفاية.(انظر الصورة رقم:52).

2-يحيط بالرحم تصفيح عظمي من جميع الجهات.و تجدر الإشارة هنا إلى أن حوض المرأة أوسع و أقصر من حوض الرجل،و بذلك يكون له دور أكمل في الدفاع عن الجنين.(انظر الصورة رقم:53).

3-يثبّت الرحم كثير من الأربطة و العضلات و هي على نوعين:أربطة كاذبة، و أربطة حقيقية.

و الأربطة الكاذبة سميت كذلك لأنها مكوّنة من انعطافات بروتينية،و ليس لها صفاقات و لا عضلات،غير أنها تساهم مساهمة فعّالة في حفظ الرحم في محله، و هذه الأربطة هي(انظر الصورة رقم:54):

*الرباط الرحمي العريض:المكوّن من انعطاف بريتوني بالحوض،و يتصل بجسم الرحم من الأمام و الجزء الأكبر من السطح الخلفي للرحم.

*الرباط المبيضي الرحمي:الذي يربط بين المبيض و الرحم و يثبّت كلاّ منهما بالآخر.

*الرباط الرحمي المثاني:الذي يثبّت الرحم بالمثانة من الأمام.

ص: 175


1- تفسير السمرقندي-(ج /2ص 496).
2- تفسير أبي السعود-(ج /6ص 126).
3- تفسير الألوسي-(ج /8ص 13).

> CS <

ص: 176

> CS <

*الرباط الرحمي المستقيمي:الذي يثبّت الرحم من الخلف بالمستقيم.

و الأربطة الحقيقية مكوّنة من صفاقات و عضلات،و هذه الأربطة هي:

*الرباط الرحمي المبروم:الذي يتصل من جهة بقرن الرحم من كل جانب، و من جهة ثانية بحبل الزهرة الواقع على عظم العانة،و يثبّت الرحم من الجهة الأمامية (1).

*الرباط الرحمي العجزي:الذي يثبّت الرحم بعظام العجز من الخلف.

*الرباط الحامل للمبيض و الرباط المبيضي:اللذان يثبّتان الرحم من جانبيه الأيمن و الأيسر.0.

ص: 177


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البار،ص 65-66 بتصرف.و كتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب،د.حامد أحمد حامد،ص 110.

> CS <

ص: 178

*الرباط العاني الرحمي المثاني:الذي يثبّت الرحم و المثانة و عظم العانة من الأمام.

*الرباط الوحشي لعنق الرحم:الذي يثبّت الرحم من جانبيه الأيمن و الأيسر.

4-إن هناك توازنا ثابتا بين الضغوطات المتولدة نتيجة عضلات الحجاب الحاجز و عضلات جدار البطن التي تدفع بالرحم إلى الأسفل و بين تقلّص عضلات العجّان التي تدفع بالرحم إلى الأعلى.

5-إن الرحم هو عضو عضلي أجوف ذو جدار ثخين و متين،سمكه سنتيمتران و نصف،مكوّن من ثلاث طبقات،أولها من الخارج:(الطبقة البروتينية PERIMETRIUM )التي تغطي الرحم،و ثانيها:(الطبقة العضلية MYOMETRIUM )، و ثالثها:(الطبقة المخاطية ENDOMETRIUM )و هي الغشاء المبطن للرحم.(انظر الصورة رقم:55).

> CS <

و هكذا نفهم أبعاد كلمة«قرار مكين»التي تشير إلى كثير من الصفات الغيبية الدقيقة للرحم و للنطفة على وجه سواء.و يتبيّن لنا الإعجاز العلمي الكامن وراء استعمال هذه الكلمة.

ص: 179

ازدياد الأرحام و غيضها

اشارة

*قال العليم الحكيم: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8].

*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة»[أخرجه أبو داود ح 26].

*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق، لتقعد أيام أقرائها،ثم لتغتسل،ثم لتستثفر بثوب،و لتصلّ»[أخرجه أحمد ح 27].

*قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

*قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«مري فاطمة بنت أبي حبيش فلتمسك كل شهر عدد أيام أقرائها ثم تغتسل و تحتشي و تستثفر و تنظّف ثم تطهّر عند كل صلاة و تصلي،فإنما ذلك ركضة من الشيطان،أو عرق انقطع،أو داء عرض لها»[أخرجه أحمد ح 31].

الكلمتان الأساسيتان في الآية: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ هي:«تغيض»و«تزداد».

ليس من الصعب فهم كلمة«تزداد»،فهي الزيادة في الحجم أو الوزن أو ما شابه ذلك.

أما بالنسبة لكلمة«تغيض»فنورد ما جاء في لسان العرب (1):«غيض:غاض الماء يغيض غيضا و مغيضا و مغاضا،و انغاض:نقص أو غار فذهب.و في الصّحاح:

قلّ فنضب.و في حديث سطيح:و غاضت بحيرة ساوة أي غار ماؤها و ذهب.و في حديث خزيمة في ذكر السنة:و غاضت لها الدّرة أي نقص اللّبن.و في حديث عائشة تصف أباها،رضي اللّه عنهما:و غاض نبع الرّدة أي أذهب ما نبع منها و ظهر...».

و جاء في المعجم الوسيط (2):«غاض الماء غيضا و مغاضا:قلّ و نقص.أو غار فذهب.أو قل و نضب.أو نزل في الأرض و غاب فيها».

ص: 180


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«غيض»-(ج /10ص 157).
2- المعجم الوسيط-(ج /1ص 668).

و جاء في مفردات ألفاظ القرآن (1):«و الغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه».

و جاء في معجم البلدان (2):«الغيض:بالفتح و السكون،يقال:غاض الماء يغيض غيضا،إذا نقص و غار في أرض أو غيرها».

إذا فعل«غاض»قد يعني:

-نقص من.

-دخل في(أي غار في).

جاء في تفسير القرطبي بخصوص هذه الآية (3):«الغيض:ما تنقصه الأرحام من الدم و الزيادة ما تزداد منه.و قيل:الغيض و الزيادة يرجعان إلى الولد».

و من الجدير هنا أن ننوّه إلى أن الزيادة و النقصان لا يقتصران على الدم فقط لأن لفظ الآية وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ [الرعد:8]جاء على إطلاقه و بالتالي فقد يشمل أشياء أخرى في الرّحم مثل:ازدياد حجم و أعداد الغدد الرّحمية و نقصانها أو ما شابه ذلك.

فإذا كان الغيض يشير إلى ما يحدث للأرحام نفسها انطبق عليها المعنى الأول «نقص من»و أصبحت الآية تعني:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تنقص الأرحام من دم و ما تزداد منه.

و إذا كان الغيض يشير إلى ما يحدث للحمل انطبق عليها المعنى الثاني«دخل في»(أو غار في)،و أصبحت الآية تعني:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما يغور في الأرحام من حمل و ما يزداد منه.

و في هذا النص سوف نتحدث عن المعنى الأول،أما المعنى الثاني فسنتناوله في مبحث«غيض النطفة في الرحم».

تحدثنا في المبحث السابق-مبحث«القرار المكين»-أن الرحم يتهيأ لاستقبال النطفة،و لكننا لم نحدد كيف تستقر فيه،و ما هي العمليات التي تحصل للرحم فتخوّله أن يحتويها بدلا من أن يطردها كما هو الحال مع أيّ جسم خارجي.).

ص: 181


1- مفردات ألفاظ القرآن-ص 619.
2- معجم البلدان للحموي باب الغين و الياء و ما يليهما-(ج /4ص 221).
3- تفسير القرطبي-(ج /9ص 289).

و بعد:فإن دورة الرحم تتكوّن من ثلاث مراحل أساسية:و هي مرحلة النمو، و مرحلة الإفراز،و مرحلة الغيض.

تؤلف مرحلتا النمو و الإفراز مرحلة الازدياد،و فيها يتهيّأ الرحم لاستقبال النطفة.

أ-(مرحلة النمو PROLIFERATIVE PHASE ):

تبدأ(الدورة الحيضية MENSTRUAL CYCLE )عند ما تصنّع(خلايا عصبية مفرزة NEUROSECRETORY CELLS )(الهرمون المطلق للجونادوتروبين GONADOTROPIN-RELEASING HORMONE )في(الهيبوتالاموس HYPHOTALAMUS )(أي ما تحت المهاد،و هو جزء من المخ)،و هذا بدوره ينبه(الغدة النخامية PITUITARY GLAND )(التي تقع عند قاعدة المخ)لتفرز(الهرمون المحفز للحويصلات المبيضية FOLLICLE STIMULATING HORMONE:F.S.H )الذي يحفّز نمو الحويصلات البويضية في المبيض،بالإضافة إلى إنتاج هورمون الإستروجين من المبيض،و ينتقل الإستروجين في الدم حتى يصل إلى الرحم و يسبّب زيادة في حجم بطانة الرحم.فينمو غشاء الرحم من نصف مليمتر إلى خمسة مليمترات و تنمو الأوعية الدموية نموا كبيرا حتى تصير لولبية الشكل من فرط طولها و يزداد عدد الغدد الرحمية و تصبح على شكل أنابيب طويلة.(انظر الصورة رقم:56).

ب-(مرحلة الإفراز SECRETORY PHASE ):

و مستويات الإستروجين المتزايدة تجعل الغدة النخامية تنتج سيلا من(هورمون اللوتنة LUTEINIZING HORMONE:L.H )،و ارتفاع مستويات هورمون اللوتنة تسبّب انطلاق بويضة ناضجة من إحدى الحويصلات المبيضية الموجودة في المبيض،و الحويصلة التي صارت فارغة الآن تنتج المزيد من الإستروجين،بالإضافة إلى البروجسترون،و كلاهما يعمل على بناء بطانة الرحم كاستعداد لاستقبال البويضة المخصبة فيما بعد.فينمو الغشاء المبطن للرحم من خمسة مليمترات إلى ثمانية مليمترات،و تكثر الغدد الرحمية كثرة بالغة،و يمتلئ تجويفها بالإفرازات كما تنمو الشرايين المغذّية للرحم.(انظر الصورة رقم:56).

و هكذا يتبين لنا إعجاز الآية في تصوير نموّ الرحم.

فمرحلة الازدياد هي مرحلة نمو الرحم لأنه يزداد فيها الرحم حجما و تزداد أعداد الأوعية و الغدد و أحجامها خلال هذه الفترة.

و التهيؤ لاستقبال النطفة يكون بازدياد ثخانة الرحم و بازدياد مخزونه من الجليكوجين و المخاطين الذي يوفر بدوره الغذاء للنطفة.

ص: 182

كل هذا يكون قبل الحمل،فإذا حملت المرأة ازداد الرحم نموا،و اندرج ذلك تحت مرحلة الازدياد مرة أخرى.

ج-(مرحلة الغيض PHASE OF ENDOMETRIAL BREAKDOWN ):

و إذا لم يحدث إخصاب للبويضة،فحمل،فإن الحويصلة الفارغة تتوقف عن صنع الإستروجين و البروجسترون.و عند ما تنخفض مستويات هذه الهرمونات جدا إلى الحد الذي لا تتمكن عنده من المحافظة على بطانة الرحم المتثخّنة فإن الحيض يحدث و تبدأ مرحلة الغيض.

و الحيض هو دم يسيل من رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة.

فالحاصل أن أوعية بطانة الرحم تنقبض،فيقل جريان الدم،و تتسع الشرايين من جراء ذلك،و من ثمّ(تنقبض الشرايين و تتسع بشكل متكرر RYTHMIC VASOCONSTRICTION AND DILATATION )،و يزداد ضيق الشرايين،فينقص دوران الدم و(ينحسر عن الرحم ENDOMETRIAL ISCHEMIA AND STASIS )، و(تموت الأنسجة في بطانة الرحم NECROSIS IN THE SUPERFICIAL TISSUES )، مما يعطي(للرّحم مظهرا مائلا للبياض ENDOMETRIAL BLANCHING )،و تتشقق فيما بعد الشرايين،و ينفذ الدم في بطانة الرحم مؤلفة(جزرا مغلقة VENOUS LACUNAE )،و يتفتّت و يسقط غشاء الرحم،و يسيل الدم منه (1).

و من جراء سيلان الدم ينقص وزن الرحم و يغيض.

و هكذا يكون الحيض وسيلة لغيض الأرحام الذي تكلمت عنه الآية التي سبق ذكرها.

فإذا حملت المرأة و أتى وقت الطلق و وضعت المرأة مولودها،فإن الرحم ينقبض و يعود إلى ما كان عليه و يدخل مرحلة الغيض التي تكلمت عنه الآية التي سبق ذكرها.

فإذا حملت المرأة و أتى وقت الطلق و وضعت المرأة مولودها،فإن الرحم ينقبض و يعود إلى ما كان عليه و يدخل مرحلة الغيض التي تكلمت عنه الآية التي سبق ذكرها.

و قد أوضح الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم وقت الغيض و الازدياد في الحديث«فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه ثم اغتسلي،فإذا رأيت أنك قد طهرت و استنقأت فصلّي أربعا و عشرين ليلة أو ثلاثا و عشرين ليلة و أيامها...»[أخرجه الترمذي ح 89]،ففي الحديث هناك حيض و نقاء،و الحيض علامة على الغيض-كما رأينا سابقا-، و النقاء علامة على الازدياد.و بالتالي فإن الحديث يشير إلى أن فترة الغيض المتوسطة لدى النساء أقصاها سبعة أيام،و فترة الازدياد ثلاثة و عشرون يوما.

ص: 183


1- كتاب LEON SPEROFF,CLINICAL GYNECOLOGIC AND ENDOCRINOLOGY ،ص 269-270.

> CS <

ص: 184

و اللفظ الدال على أن هذه الفترة هي الفترة المتوسطة لدى النساء على العموم:

«فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه»،أي كما أقرّه اللّه تعالى في علمه للنساء عامة.

و فترة الحيض المتوسطة لدى النساء هي خمسة أيام،و قد تزيد أو تنقص يومين (مع العلم أن فترة الحيض الطبيعية لدى النساء قد تزيد أو تنقص أكثر من ذلك،كما تشير إليه المعطيات العلمية،و كما هو معروف لدى الفقهاء المسلمين.غير أن الفترة التي تزيد أو تنقص عن الحد المذكور آنفا لا تعتبر متوسطة).

جاء في كتاب«علم التوليد و علم الأرحام»:«إن الفترة العادية للجريان[جريان الدم]هي خمسة[أيام]مع زيادة أو نقصان يومين» (1).

و بالتالي فإن فترة الحيض المتوسطة القصوى هي:5+2 7 أيام،و فترة الحيض المتوسطة الدنيا هي 5-2 3 أيام.

و بما أن الصحابية التي كانت تستفتي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كانت تعاني من حيضة قوية قائلة:«يا رسول اللّه إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها؟»[أخرجه الترمذي ح 89]،فلزم اختيار الفترة المتوسطة القصوى لكي تحتاط المرأة من النجاسة و تتأكد من نقائها.

و أما وقت الدورة الشهرية المتوسطة حسبما جاء في الحديث فهو:

6+24 30 يوما،أو 7+23 30 يوما.

و من المعلوم في الطب النسائي أن متوسط الدورة الشهرية (2)لدى النساء هي ثمانية و عشرون يوما،مع فترة متوسطة للحيض قدرها خمسة أيام،فإذا اعتبرنا الفترة الاعتيادية القصوى للحيض-سبعة أيام(أي بازدياد مقداره يومين)-أصبحت فترة الدورة الشهرية المتوسطة القصوى 28+2 30 يوما.

جاء في كتاب«خلق الإنسان بين الطب و القرآن»:«و تعتبر الدورة الشهرية بما فيها الحيض و الطهر 28 يوما قد تزيد أو تنقص يوما أو يومين» (3).4.

ص: 185


1- كتاب(علم التوليد و علم الأرحام OBSTETRICS AND GYNECOLOGY )،لويلسون كارينغتون،ص 83.
2- يقصد بالدورة الشهرية المدّة الواقعة بين بدايتي حيضتين.
3- كتاب«خلق الإنسان بين الطب و القرآن»،د.محمد علي البار،ص 94.

و بالتالي فإن العلم يوافق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تماما في هذا المجال.

و بعد:فنفهم من الشرح السابق و من أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عدة أمور:

إذا نظرنا إلى الحديثين«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27]و«إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم»[أخرجه البخاري ح 28]استنتجنا أن العروق الموجودة في جسم الإنسان تحتوي على الدم و تكوّن مجاري لها.

و هذا ما يؤكده الحديث حيث قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العرق»[ذكره السيوطي ح 94].

و الرحم يحتوي على عروق كما يشير إليه الحديث الشريف-بطريقة غير مباشرة-«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27]،فالمكان الذي يتكلم عنه صلّى اللّه عليه و سلّم هو الرحم،بدليل أن الموضوع هو عن الحيض،و لقد عزا نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم النزيف الحاصل في الرحم إلى العروق،و هذا يعني أن الرحم يحتوي على العروق.

و للمقابلة فلقد رأينا في المقاطع السابقة أن الرحم يمتلئ بالعروق في مرحلتي النمو و الإفراز.

و بما أن العروق تكوّن مجاري للدم،فهذا يعني أن أيّ نزيف للرحم يحصل من جرّاء تشقق لتلك العروق،و هذا ما يؤكده الحديث التالي«فإنما ذلك...عرق انقطع»[أخرجه أحمد ح 31].

و بما أن الحيض يتألف من الدم وفقا لما جاء في الحديث الشريف«إذا كان دم الحيض فإنه أسود...»[أخرجه أبو داود ح 26]،فبالتالي تشقّق العروق و خروج الدم منها يحصل خلال الحيض،و هذا يكون في الحالة الطبيعية في مرحلة الغيض،أما باقى المراحل فهي مراحل ازدياد كما ألمحت إليه الآية الكريمة: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ [الرعد:8].

و للمقابلة فلقد رأينا أن العروق تتشقّق في مرحلة الغيض و يحصل نزيف داخلي في بطانة الرحم و من ثمّ يسيل الدم من الرحم حاملا معه أغشية بطانة الرحم.

و خروج الدم يكون أيضا في حالة الاستحاضة،و الاستحاضة:سيلان الدم من الرحم في الأوقات غير الاعتيادية.

فالحديث«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27]جاء في

ص: 186

معرض الجواب عن استفسار حول مشكلة استحاضة صحابية (1)بشكل شبه متواصل لفترات طويلة من الزمن كما جاء في الرواية:«قالت عائشة:فكانت تغتسل لكل صلاة و تصلي،و كانت تغتسل أحيانا في مركن في حجرة أختها زينب و هي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى إن حمرة الدم لتعلو الماء»[أخرجه النّسائي ح 29].

و بعد أن تمر مرحلة الحيض يتهدم البناء السطحي لبطانة الرحم و يتخثّر الدم و يتوقف.

و في حالة الصحابية التي كانت تنزف لفترات طويلة،فإن العرق هو السبب المباشر في النزيف كما يشير إليه الحديث«إنما هو عرق»[أخرجه أحمد ح 27]، و بالتالي فإن الدم يخرج مباشرة من العروق إلى خارج سطح الرحم لعدم وجود الطبقة المبطنة بعد انهيارها (2)و لعدم تخثّر بعض العروق.

و الواقع فإن توقف النزيف في الرحم له عدة أسباب من أهمها:انقباض العروق لفترات طويلة،و انهيار الأنسجة،و توقف الدم عن الجريان و إفراز هرمون الاستروجين الذي يؤدي إلى تخثّر الدم (3).

و بالتالي فإن التخثّر يلعب دورا مهمّا في توقّف نزيف الدم،فإذا لم يتغلّب هذا العامل على نزيف بعض العروق ظلّ الرحم يسيل دما.و هذا ما أشار إليه قول الصحابة في الحديث الشريف:«أن امرأة مستحاضة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قيل لها إنه عرق عاند»[أخرجه النّسائي ح 30]أي عرق لم ينسد رغم وجود عامل التخثر و ظل يعاند التخثر و ينزف دما.

و الاستحاضة لا تعزى فقط إلى تشقق الشرايين في الرحم و لعدم انسدادها، و إنما لأمراض شتّى،و هذا ما أكده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:«فإنما هو داء عرض» [أخرجه أحمد ح 31].و نذكر هنا للمقابلة بعض الأمراض التي تسبب استحاضة المرأة:0.

ص: 187


1- و لا يضر إن استشهدنا سابقا بالحديث لتفسير ظاهرة الحيض و إن كان جاء في مجال الاستحاضة،لأن علّة سيلان الدم من الرّحم واحدة للحيض و الاستحاضة،فالدم ينزف في كل من الحالتين،و لا بد أن يكون النزيف ناتجا عن تشقق العروق الموجودة في الرّحم لأنها تكوّن مجاري لها،غير أنه في حالة الاستحاضة يتشقق عرق أو عرقان عامة،و في حالة الحيض تنقطع كل العروق و يسقط الغشاء المبطن للرحم بأكمله، و يصحب الدم أشياء أخرى.
2- نشير هنا إلى أن هناك حالات مرضية أخرى يحصل فيها استحاضة للمرأة،و لكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سكت عنها لأن حالة الصحابية لم تكن تندرج تحت تلك الحالات.
3- كتاب LEON SPEROFF,CLINICAL GYNECOLOGIC AND ENDOCRINOLOGY ،ص 270.

-فمن ذلك الأمراض التي يسببها الخلل الهرموني؛مثل:(انخفاض نسبة هرمون الأستروجين و البروجسترون؛ ESTROGEN WITHDRAWAL BLEEDING PROGESTERONE WITHDRAWAL BLEEDING,ESTROGEN BREAKTHROUGH BLEEDING PROGESTETONE BREAKTHROUGH BLEEDING ).

-و منها أمراض السرطانات،مثل:سرطان الرحم،أو سرطان عنق الرحم،أو المبيض،و بعضها يعزى لأسباب أخرى مثل:وجود تليّف في جدار الرحم...إلخ

و هكذا يتبين لنا مفهوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-و اللّه أعلم-لسائر العمليات التي يخضع لها الرحم و تتجلّى لنا المعاني الدقيقة التي تحتويها أحاديثه الشريفة.

و من كلامنا السابق يفهم أن الدم يخرج من العروق في كلتا الحالتين:

الاستحاضة،و الحيض.و بالتالي فإن دم الحيض(عند خروجه من العروق)و دم الاستحاضة لا يختلفان.

و ما يجعل دم الحيض يختلف عن دم الاستحاضة هو أن دم الحيض يحتوي زيادة على دم العروق على:ماء،و(أيونات IONS )،و ذرات(الأمينو أسيد AMINO ACID )التي أضيفت في مرحلة الازدياد (1).كما أنه يحتوي على أنسجة بطانة الرحم التي قد تشققت في مرحلة الغيض.

و هذا الاختلاف نص عليه الحديث الشريف بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27].و بالتالي فإن لدم الحيض مميزات خاصة تجعله مختلفا عن الدم العادي.هذه المميزات يفسرها لنا الدكتور ج.س.جورنجر (2)؛فأبحاثه المعملية أثبتت أن هناك فرقا بين نسب التركيز في المكوّنات الخاصة بكل نوع من أنواع الدم،و على سبيل المثال:دم الحيض لا يحتوي على البروتين المسمى(بالفيبرينوجين FIBRINOGENE )لأنه يتحلل بسرعة، و يمكن قياس المواد المتحللة بكثرة في دم الحيض و التي هي شبه منعدمة في الدم العرقي،كما أن المواد المسماة(بالهيموغلوبين HEMOGLOBIN )و(الألبومين ALBUMIN )تنقص في دم الحيض إذا ما قارنّاها بالدم العادي.و هناك أيضا فرق واضح بين نسب(الصوديوم SODIUM )و(النحاس COPPER )،أما مستوى (البروستاغلاندين PROSTAGLANDIN )فهو عال جدا في دم الحيض.

و هكذا تتحقق نبوءة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن دم الحيض يختلف عن الدم العادي.م.

ص: 188


1- كتاب LEON SPEROFF,CLINICAL GYNECOLOGIC AND ENDOCRINOLOGY ،ص 267.
2- المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي:الإعجاز الطبي في الإسلام،1985/9/25 م.

أما بالنسبة لصفات هذا الدم فإن الحديث:«إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف،فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة»[أخرجه أبو داود ح 26]يلقي الضوء عليها.

جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود (1):«[يعرف]:فيه احتمالان:

الأول:إنه على صيغة المجهول من المعرفة؛قال ابن رسلان:أي تعرفه النساء،قال الطّيبي:أي تعرفه النساء باعتبار لونه و ثخانته.و الثاني:أنه على صيغة المعروف من الأعراف أي له عرف و رائحة».

و لم يكتف الرسول-صلوات اللّه و سلامه عليه-بأن يشير إلى أن دم الحيض يختلف عن الدم العادي بل أوضح صفة هذا الدم أيضا،و ذكر أنه أسود و أن له رائحة و أنه يعرف.فما ذا يقول العلم؟.

إن لدم الحيض رائحة.لسنا بحاجة إلى أن نتوسع في هذا الباب فكل النساء تعرف أن دم الحيض له رائحة و هذه الرائحة حادّة متميزة.

إن دم الحيض معروف أيضا.فالعلماء يعرفون دم الحيض من خلال مميزاته التي سبق و ذكرناها،أما النساء فهن يعرفنه من خلال مدته و مقداره.يقول الدكتور دوغادلبيرد في هذا الصدد:«و ما بين البلوغ و سنّ اليأس تكون العادة في أغلب النساء منتظمة..و هنّ يعرفن موعد حيضهن و مدّته و مقداره..فإذا اختلف عرفته بسرعة..

و تستطيع معرفة ذلك أغلب النساء دون صعوبة».

أما بالنسبة لسواد دم الحيض فلنستمع إلى الدكتور دوغادلبيرد (2)و هو يبدي رأيه في هذا الموضوع:«إن لون دم الحيض هو أسود...أما الدم الأحمر المشرق فإنه دم غير طبيعي...و دم الحيض لا يتجلط (3).و يمكن إبقاؤه سنين طويلة على تلك الحالة دون أن يتجلّط...فإذا ظهر دم يتجلط أثناء الحيض فإن الحائض سرعان ما تعرف ذلك،و يعتبر غير طبيعي».

و السبب في عدم تجلّط الدم في الرحم هو أن الرحم يفرز أنزيمات تحلل مادة الفايبرينوجين التي تسبب تخثّر الدم و تدعى:(مذيب الفيبرين PLASMIN ).و لذلك لا يتجلط دم الحيض و لو بقي سنين طوالا.ا.

ص: 189


1- عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب-كتاب الطهارة-باب إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة-رقم الحديث 283-(ج /1ص 471).
2- المرجع في أمراض النساء و الولادة،د.دوغادلبيرد(انظر كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البار،ص 89-90).
3- أي غالبا.

د-علاقة الزمان و المكان بدم الحيض:

اشارة

و لم يقتصر الأمر في الإسلام على وصف الدورة الرّحمية و صفات دم الحيض، بل تعداه إلى وصف علاقة الزمان و المكان بدم الحيض،و أثره على العلاقة الزوجية.

1-معتقدات الشعوب عن الحيض:

و لا بد أن نلقي نظرة على معتقدات الشعوب عن المحيض حتى يتبين لنا مدى الجهل العلمي الذي كان سائدا عبر التاريخ،و لكي ندرك مدى الإعجاز العلمي الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.

معتقدات قدماء المصريين:لقد عزا المصريون القدماء منذ ما يقرب من سبعة آلاف سنة،حدوث الحيض إلى قوى شريرة تصيب المرأة،تجعل كل جسدها خبثا و دنسا وقت الحيض،و من ثم قام طبيبهم الكاهن باستنبات مجموعة من بذور البقل، سقاها بماء مخلوط بدماء الحيض،و مجموعة أخرى سقاها بالماء العذب،و لما تأخر نمو المجموعة الأولى ثم ذبلت،و ماتت،خلص إلى وجود السم في دماء الحيض، و رسخ لديه ذلك الاعتقاد،و بما أن تلك السموم قد خرجت من بدنها،فهذا يعني أن جميع جسدها خبث و سمّ،و من ثمّ كان المصريون يعتزلون المرأة الحائض تماما إلى حد نبذها وقت الحيض.

معتقدات اليهود:و المعروف عن اليهود أنهم يتشددون في مسائل الحيض، و الدم بصفة عامة،و لا يفرقون في نظرتهم و لا في أحكامهم بين الحيض و الاستحاضة،و ذلك حسب ما ورد في العهد القديم (1)،فالحائض عندهم تعزل تماما خلال فترة الدم-و هي فترة سبعة أيام-و خلال هذه الفترة كلها،يتجنبون ملامساتها و الجلوس معها على فراش،و حتى ملامسة فراشها (2)،و إن ضاجعها رجل بحيث يصير طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام و كل مضجع يضجع عليه يكون نجسا (3)، و عند ما ينقطع منها السيلان تغتسل،و في اليوم الثامن تقدّم للحاخام أمام الرب،في خيمة الاجتماع يمامتين،أو فرخي حمام،واحدة منهما ذبيحة خطية،و الأخرى محرقة،و يكفّر عنها الكاهن سيلان نجاستها أمام الرب (4).

معتقدات المجوس:و كذلك اعتقد المجوس.

ص: 190


1- سفر اللاويين(سفر الأحبار)/الإصحاح الخامس عشر،26-29.
2- سفر اللاويين(سفر الأحبار)/الإصحاح الخامس عشر،20-22.
3- سفر اللاويين(سفر الأحبار)/الإصحاح الخامس عشر،25.
4- سفر اللاويين(سفر الأحبار)/الإصحاح الخامس عشر،30-31.

معتقدات النصارى:لم يرد في الإنجيل ذكر عن الحيض،من قريب أو من بعيد،و بالتالي فإن النصارى لا يعيرون هذا الأمر أهمية،و يجامعون نساءهم غير عابئين بهذه الظاهرة.

معتقدات العرب قبل الإسلام:أما العرب في عهد الجاهلية،فقد كان اعتقادهم المتوارث عن هذا الأمر،لا يختلف في كثير أو قليل،عن اعتقاد المجوس و اليهود و معاصريهم؛فكانوا يعتزلون المرأة إذا حاضت اعتزالا تاما،لا يؤاكلونها،و لا يجالسونها على فراش،و لا حتى يساكنونها.جاء في تفسير القرطبي (1):«و سبب السؤال فيما قال قتادة و غيره:أن العرب في المدينة و ما والاها كانوا قد استنّوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض و مساكنتها،فنزلت هذه الآية».تلك العقيدة لم تكن ثمرة العقل،و لا كانت نتاجا للفكر،بقدر ما كانت تراثا متواترا خلّفه الخيال و رسخ في الوجدان على مرّ السنين.و كانت المرأة تتصف عندهم إذا حاضت بعدة أوصاف:فالمرأة الحائض حسب اعتقادهم هي«عارك»،و«فارك»،و«كابر»، و«دارس»،و«طامث»،و«ضاحك»،و«حائض».قال ابن العربي كما جاء في تفسير القرطبي (2):«...و لها ثمانية أسماء:الأول:حائض،الثاني:عارك،الثالث:

فارك،الرابع:طامس،الخامس:دارس،السادس:كابر،السابع:ضاحك، الثامن:طامث».و لأغلب هذه التسميات (3)-فيما خلا لفظ«الحائض»-دلالات».

ص: 191


1- تفسير القرطبي-الآية رقم 222-سورة البقرة-(ج /3ص 81).
2- تفسير القرطبي-الآية رقم 222-سورة البقرة(ج /3ص 82).و جاء في لسان العرب لابن منظور-مادة «حيض»-(ج /3ص 419):(قال ابن خالويه:«يقال:حاضت و نفست و نفست و درست و ضحكت و كادت و أكبرت و يقال:حاضت المرأة و تحيّضت و درست و عركت تحيض حيضا و محاضا و محيضا...»).
3- و نقول أغلب هذه التسميات للاحتياط،و إلا فجميعها غير صحيح،و ذلك أن بعض العلماء اللغويين و إن كانوا قلّة-يقولون أن لفظ«المرأة الضاحك»الذي ورد في الآية: وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]يعني المرأة الحائض،و هو قول ضعيف،جاء في تفسير القرطبي-(ج /9 ص 66):«قال مجاهد و عكرمة:حاضت،و كانت آيسة؛تحقيقا للبشارة؛و أنشد على ذلك اللغويون: و إني لآتي العرس عند طهورها و أهجرها يوما إذا تك ضاحكا و قال آخر: و ضحكت الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا و العرب تقول:ضحكت الأرنب إذا حاضت...و قد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت.و قال الجمهور:هو الضحك المعروف... و قال مقاتل:...و ليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم.و أنكر أبو عبيد و الفراء ذلك؛قال الفراء:لم أسمعه من ثقة؛و إنما هو كناية».

في اللسان العربي غير صحيحة من الناحية العلمية،إذ يستدل منها أنهم كانوا يعتقدون أن هذا الأمر الذي يعتري المرأة مرة كل شهر،و بصفة دورية،هو بمثابة«فرك»لمواد ضارة و سامة في بدنها«طمست»عليه و ألمّت به فغطّته،و لو أنها بقيت فيه لأضرت به و أهلكته،و هي امرأة«ضاحك»أي منفرجة الأنسجة،متفتحة المسام،كي تتخلص من تلك السموم،و هي«عارك»و«دارس»،و فيهما معنى المغالبة لهذه المواد،و هي أيضا«كابر»،لأنها تكبر هذا الأمر لما فيه من خلاصها من السموم و الإضرار،و هي كذلك«طامث»و الطمث من الدنس و المسّ و الفساد (1).

تلك كانت نظرة العرب في جاهليتهم لهذا الأمر،و ذلك كان اعتقادهم،و لقد كان اعتقادهم ذلك راسخا في نفوسهم،مستقرا في وجدانهم،شبيها بنهج اليهود و المجوس،و ربما اقتبسوه من المجوس و اليهود.

معتقدات علماء الغرب:و لم يختلف اعتقاد أبو قراط و جالينوس (2)و من تبعهما،ممن مارسوا صناعة الطب في القرون الوسطى عن المعتقدات الأخرى الخاطئة في أن المرأة تحمل سموما في دم الحيض.

و قد تلمّس كثير من العلماء،أمثال(جوتيه GAUTIER ) (3)و(بورسيه BOURCET ) (4)عام 1900 م سموم الزرنيخ و اليود،و هي من أشد السموم فتكا،في إفرازات جسم الحائض،من عرق و لعاب و ما إلى ذلك.

و قد أعلن(ماخت MACHT ) (5)عام 1943 م أنه وجد في لعاب و عرق الحائض، و كذلك في دورتها الدموية،مواد سامة،توقف نموّ النبات المستزرع،كما أعلن أن ملامسة الحائض للخضراوات و الزهور تتسبّب في عطبها و ذبولها،و تحول دون حفظها.

و قد أعلن(جورج فان سميث .SMITH.G.V )و(أوليف واتكسن سميث1.

ص: 192


1- القاموس المحيط لمجد الدين محمد-مادة«فرك»ص 1227-مادة«طمس»ص 715-مادة«ضحك» ص 1222-مادة«عرك»ص 1224-مادة«درس»ص 701-مادة«كبر»ص 601-مادة«طمث»ص 220.
2- Quated by LAURENCE.W.R.(3491),Gynecology Text Book,W.B Sounders Co. .
3- GAUTIER(1990),Compt.rend.Acad.d.Sc.,Paris,p:362 .
4- BOURCET(1990),Compt.rend Acad.d.Sc.,Paris,p:493 .
5- MACHT,D.1.(1943), " Further Historical and Experimental studies on Menstrual Toxin " Amer J. Med.Sc.,206:281.

SMITH.O.W. )في العقد الخامس من القرن العشرين(1940-1950 م) (1)أن حيوانات الاختبار،تتوفّى من جرّاء حقنها بكميات ضئيلة من دماء الحيض،بعد تخفيفها بالماء المقطّر،و قد أطلقوا عليها اسم السموم الحيضية.

لكن(رينولدز REYNOLDS ) (2)،لم يستطع أن يداري ارتيابه عام 1947 م فيما خلص إليه فان و أوليف سميث من نتائج،حيث أعلن عن عدم اقتناعه بأن حدثا وظيفيا كالحيض،يناط به أو يرتبط بوجود سموم،و هو ما ينافي الفطرة التي جبل عليها الإنسان،و قد حذا حذوه الكثير من العلماء آنذاك.

و قد عقد مؤتمر طبي في مدينة نيويورك عام 1949 م،شارك في أعماله مائة و سبعة عشر طبيبا من أساطين الطب و أساتذته في العالم آنذاك،و قد ناقش المؤتمرون في ذلك المؤتمر موضوع الحيض،و أنه يحوي سموما فتاكة.

أما المؤلفان الإنجليزيان(كرتس و هوفمان CURTS.E and HOFFMAN ) (3)، فقد أعلنا عام 1950 م أن الاعتقاد الراسخ في خطورة المباشرة في المحيض تملي عدم ممارسته. .

ص: 193


1- SMITH O.W.and SMITH G.V.(0491), " Menstrual Discharge of Woman I.Its toxicity in rats Ex- per.Biol Med.,44:100. SMITH O.W.and SMITH G.V.(1940), " Menstrual Discharge of Woman II.Its progesterone Sti- mulating Effect in Mature Rats " Exper.Biol Med 44:104. SMITH O.W.and SMITH G.V.(1944), " Further Studies on the Menstrual Discharge of Women ". Exer.Biol. Med.,56:285. SMITH O.W.and SMITH G.V.(1945), " Evidence that Menstrual Toxin and Canine Nec-rosin are Identical " ,Exper.Biol. Med.59:116. SMITH O.W.and SMITH G.V.(1945), " A fibriolytic Enzyme in Menstruation and Late pregnancy Toxemia " .Science,102:235. SMITH.G.V.(1946), " Further studies on the Menstrual toxin during Menstruation and Toxemia of Late Pregnancy " Exper.Biol Med.62:227 SMITH.O.W.(1950), " Menstrual Toxin experimental studies in Menstruation and Its Disorders ", Engle Charies C.Thomas,Spring field,III. SMITH G.V.(1950), " Menstrual Toxin Disorders " Ed.E.T Engle.Charies C.Thomas,Springfield III .
2- REYNOLDS S.R.M.(1947), " The physiologic Basis of Menstruation " ,J.Amer.Med.Ass.,135-552. .
3- Curts E.and Hoffman J.(1950), " Hygiene at the time of Menstruation " Gynecology.Sounders Co. Ed.VI. .

و قد عزا(برنارد زوندك ZONDEK.B ) (1)عام 1953 م وفاة الحيوانات خلال تجارب فان و أوليف سميث إلى احتمال وجود جراثيم في دماء الحيض،و ليس لوجود سموم فيها.

على أن الغالبية العظمى من مؤلفي كتب أمراض النساء من الأوروبيين و الأميركيين يوردون في كتبهم ما أورده المؤلف الإنجليزي(جافكوت JEFFCOATE ) (2)عام 1967 م في كتابه«أسس أمراض النساء»،و الذي يعتبر المرجع الأول لجميع المشتغلين بصناعة الطب في هذا الفرع.حيث اعتبر أن الغسل المهبلي بعد الحيض،أو في أي وقت آخر يشكل بصفة عامة خطورة بالغة،لأنه يزيل معه الوسائل الوقائية الطبيعية،و أن الزوجين يستطيعان ممارسة المباشرة الجنسية في المحيض في حال كانا خاليين من الأمراض،و لا خوف على أيّ منهما من أي ضرر،غير أنه لا يستحب الجماع زمن الحيض لوجود الدم فقط،و ينصح بالغسل المهبلي،و يوضع حاجز يحجب سيل الدم مؤقتا.

2-مسألة المحيض في الفقه الإسلامي:

كلمة«حيض»تعني سيل،جاء في لسان العرب (3):«حيض:...و قال المبرّد:سمي الحيض حيضا من قولهم حاض السيل إذا فاض...(و قال)الأزهري:يقال:حاض السيل و فاض إذا سال يحيض و يفيض...».و الدم الذي يخرج من رحم المرأة خلال دورتها الشهرية سمي حيضا لأنه يسيل من فرجها و يفيض.

و سيلان الدم من رحم المرأة ظاهرة طبيعية كما نفهم من الحديث التالي:(عن عائشة رضي اللّه عنها أنها تقول:خرجنا لا نرى إلا الحج فلما كنا بسرف،حضت،فدخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا أبكي،قال:«ما لك؟أنفست؟»،قلت:نعم،قال:«إن هذا أمر كتبه اللّه على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت»)[أخرجه البخاري ح 82]».فالحيض أمر كتبه اللّه تعالى على بنات آدم،أي أن اللّه تعالى جبلهن عليه،و ليس سببه قوى سحرية كما اعتقده قدماء المصريين.

و نفهم من قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ الذي ورد في الآية الكريمة وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ

ص: 194


1- ZONDEK B.(1953), " Does Menstrual Blood contain a specific toxin? " Amer J.Obst Gyn. 56:8601.
2- JEFFCOATE,T.N,A(1967), " Principles of Gynecology " Butterworth-London.Ed.III. .
3- لسان العرب لابن منظور-مادة«حيض»-ج /3ص 419.

حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]نفهم أنه يتعين على الرجال اعتزال النساء اللاتي يسيل الدم من فروجهن و عدم الاقتراب منهن،و هذا الاعتزال هو اعتزال مجامعتهن و ليس عدم الاقتراب منهن كليا كما بيّنته السنة النبوية الشريفة،فلقد وردت أحاديث كثيرة،يعتدّ بها،تشير إلى أن الرجل يستطيع أن يمارس الجنس مع امرأته من دون أن يجامعها،كما في الحديث:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح»[أخرجه مسلم ح 80] -من باب الجواز-.و في الحديث:«عن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:ما يحل لي من امرأتي و هي حائض؟قال:«لك ما فوق الإزار» [أخرجه أبو داود ح 81]»-من باب الإباحة-.

و كلمة«المحيض»التي جاءت في الآية الكريمة مصدر من حاض،على وزن كلمة«المجيء»و«المبيت»و«المغيب»و تطلق على مكان الحيض،بالإضافة إلى الدم،جاء في لسان العرب (1):«حيض:الحيض:...و المحيض يكون اسما و يكون مصدرا...قال عزّ و جلّ: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ،قيل إن المحيض في هذه الآية المأتي من المرأة،لأنه موضع الحيض، فكأنه قال:اعتزلوا النساء في موضع الحيض و لا تجامعوهن في ذلك المكان...».

و هكذا فإن الآية تحرم مباشرة النساء في مكان الفرج فقط.

و نفهم من التفسير السابق أن الإسلام يخالف اليهود و العرب و المجوس و المصريين في اعتزال النساء؛فهو لا يأمر باعتزال النساء كليا و لكن باعتزال جماعهن زمن المحيض،و لا يرى مجامعتهن مجامعة كليّة كما يرى النصارى،فهو بهذا دين وسط وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].

كذلك يخالف الإسلام اليهود بأنه يسمح للرجال بإتيان نسائهم فور انقطاع دم الحيض شرط أن يغسلن فروجهن بالماء (2)،فقوله تعالى: حَتّى يَطْهُرْنَ... ،يشير فيما يشير (3)إلى انقطاع دم الحيض كما جاء في حديث للسيدة عائشة رضي اللّه عنها:«و كن نساء يبعثن إلى عائشة بالدّرجة فيها الكرسف،فيه الصفرة،فتقول:لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء،تريد بذلك الطهر من الحيضة»[أخرجه البخاري ح 83]،و قوله).

ص: 195


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«حيض»-ج /3ص 419.
2- و كذلك شرط أن يغتسلن كليا عند الجمهور،غير أن الاغتسال الكلي أمر تعبدي فقط،انظر كلامنا في الحاشية رقم 3،ص 196-198.
3- فقد يشير إلى أن يغسلن النساء فروجهن بالماء،فتبرأ من الحيض(انظر الحاشية رقم 3،ص 196-198).

تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ... يشير إلى شرط غسل الفرج بالماء للمجامعة،كما روي عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها:«عن عائشة أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم كيف أغتسل من المحيض؟،قال:«خذي فرصة ممسّكة فتوضّئي ثلاثا»،أو قال توضئي بها،ثم إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم استحيا فأعرض بوجهه،فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم»[أخرجه البخاري ح 84].و كما نعلم فإن الوضوء هو الغسل بالماء،و ما يريد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هو أن تزيل الدم من فرجها بالغسل كما جاء في رواية أخرى«عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن غسلها من المحيض،فأمرها كيف تغتسل،قال:«خذي فرصة من مسك فتطهري بها»،قالت:كيف أتطهر؟قال:«تطهّري بها»،قالت كيف؟قال:«سبحان اللّه تطهري»،فاجتذبتها إليّ،فقلت:تتبعي بها أثر الدم»[أخرجه البخاري ح 85].

و قد جاء في هذا الصدد،في تفسير ابن كثير (1):«و قد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء...و قال ابن عباس: حَتّى يَطْهُرْنَ... ؛أي من الدم، فَإِذا تَطَهَّرْنَ... ؛أي بالماء،و كذا قال مجاهد و عكرمة،و الحسن و مقاتل و ابن حيان و الليث بن سعد و غيرهم».و جاء في تفسير القرطبي (2):«فإذا تطهّرن،يعني بالماء،و إليه ذهب مالك و جمهور العلماء،و أن الطّهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم،هو تطهّرها بالماء كطهر الجنب» (3)..-

ص: 196


1- تفسير ابن كثير-ج /1ص 260.
2- تفسير القرطبي-ج /3ص 88.
3- الرجاء قراءة نص«الحقائق العلمية»(ص 201)قبل قراءة هذه الحاشية. لقد اختلف الفقهاء في وطء المرأة التي انتهت من فترة الحيض،في طهرها و قبل الاغتسال،«فذهب مالك و الشافعي و الجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل،و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر مدّة الحيض،و هو عنده عشرة أيام،و ذهب الأوزاعي إلى أنها إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها(أعني:كل حائض طهرت متى طهرت)،و به قال أبو محمد بن حزم. و سبب اختلافهم:الاحتمال الذي في قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [البقرة: 222]،هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء؟ثم إن كان الطهر بالماء؛فهل المراد طهر جميع الجسد أم طهر الفرج؟فإن الطهر في كلام العرب و عرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني. و قد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تطلق على ما يكون من فعل المكلفين،لا على ما يكون من فعل غيرهم،فيكون قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم،و الأظهر يجب المصير إليه حتى يدلّ الدليل على خلافه.-

ص: 197

و من الجدير بالذكر أن الإسلام يخالف النصارى لأنه ينهى عن مجامعة النساء وقت المحيض،بينما هم يحلّونه.

و لم يحرم الإسلام مباشرة النساء لوجود الدم في موضع الإتيان فقط،بل لورود زمن الحيض.فكلمة«المحيض»التي جاءت في الآية وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً... [البقرة:222]لا تشير إلى سيلان الدم و إلى موضع النكاح فحسب، بل إلى ورود زمن الحيض أيضا.جاء في لسان العرب (1):«حيض:...و قيل المحايض جمع المحيض و هو مصدر حاض،فلما سمّي به جمعه،و يقع المحيض على المصدر و الزمان و الدم».

و من التفسير السابق نفهم أن الآية تعني:اعتزلوا موضع جماع النساء،لوجود الدم،خلال الفترة المعلومة للحيض.

و للدلالة على أهمية عامل زمن المحيض،و أنه يعتدّ به،جوّزت الشريعة الإسلامية مجامعة الرجل لامرأته حال كونها مستحاضة.و المستحاضة هي المرأة التي يسيل الدم من فرجها لمرض ما على غير عادة،في غير وقت الحيض و النفاس.فإن لم تستطع أن تميّز بين دم الحيض و دم الاستحاضة فإنها تمتنع عن زوجها في الفترة التي يغلب على ظنها أنها فترة المحيض،بينما تحل نفسها له في الفترة المتبقية و تعتبرها استحاضة.و إحلال فرجها لزوجها يصح لأنه لم يرد دليل بتحريم جماعها).

ص: 198


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«حيض»-(ج /3ص 420).

خلال فترة الاستحاضة،و ذلك عند جمهور العلماء.قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:«تغتسل و تصلي و لو ساعة،و يأتيها زوجها إذا صلت،الصلاة أعظم»[أخرجه البخاري ح 86].

يعني إذا جاز لها أن تصلي و دمها جار،جاز جماعها،لأن الصلاة أعظم من المواقعة في شروط الجواز.و«عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة و كان زوجها يجامعها»[أخرجه أبو داود ح 87].و قد جاء في أكثر من حديث ما يدل على أن عامل الوقت مهم.فعن(أم سلمة رضي اللّه عنها قالت:سألت امرأة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قالت:إني أستحاض فلا أطهر،أ فأدع الصلاة؟،قال:«لا،و لكن دعي قدر الأيام و الليالي التي كنت تحيضين-قال أبو بكر في حديثه:و قدرهن من الشهر-ثم اغتسلي و استثفري بثوب و صلي»)[أخرجه ابن ماجة ح 88].و عن(حمنة بنت جحش،قالت:كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة،فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أستفتيه و أخبره،فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش،فقلت:يا رسول اللّه إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها؟،قد منعتني الصيام و الصلاة،قال:«أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم».قالت:هو أكثر من ذلك.قال:«فتلجّمي».قالت:هو أكثر من ذلك.قال:

«فاتخذي ثوبا».قالت:هو أكثر من ذلك،إنما أثجّ ثجا.فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك فإن قويت عليهما فأنت أعلم».فقال:«إنما هي ركضة من الشيطان،فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه ثم اغتسلي،فإذا رأيت أنك قد طهرت و استنقأت فصلّي أربعا و عشرين ليلة أو ثلاثا و عشرين ليلة و أيامها،و صومي و صلّي،فإن ذلك يجزئك،و كذلك فافعلي كما تحيض النساء، و كما يطهرن لميقات حيضهن و طهرهن،فإن قويت على أن تؤخري الظهر و تعجّلي العصر ثم تغتسلين حين تطهرين،و تصلين الظهر و العصر جميعا،ثم تؤخرين المغرب و تعجّلين العشاء ثم تغتسلين،و تجمعين بين الصلاتين فافعلي،و تغتسلين مع الصبح و تصلين و كذلك فافعلي،و صومي إن قويت على ذلك»،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«و هو أعجب الأمرين إلي»)[أخرجه الترمذي ح 89].و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه»،يعني اعتبري نفسك في المحيض خلال فترة ستة أو سبعة أيام،كما علمك اللّه تعالى،و اللّه أعلم (1)..-

ص: 199


1- «اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال: فقال قوم:يجوز وطؤها،و هو الذي عليه فقهاء الأمصار،و هو مروي عن ابن عباس و سعيد بن المسيب و جماعة من التابعين. و قال قوم:ليس يجوز وطؤها،و هو مروي عن عائشة،و به قال النخعي و الحكم. و قال قوم:لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها،و بهذا القول قال أحمد بن حنبل.-

و للمستحاضة حكم الطاهرات،فتصلي و تصوم و تعتكف و تقرأ القرآن و تمس المصحف و تحمله و تفعل كل العبادات و هذا مجمع عليه من جمهور العلماء.

و الإسلام يخالف اليهود بأنه يفرق بين دم الحيض و دم الاستحاضة،بينما نجد أن نظرة التحريم في اليهودية قائمة على أساس وجود الدم و لا تفرق بين الحيض و الاستحاضة.فالسلوك اليهودي تعبّدي فقط،بينما نجد أن السلوك الإسلامي يعتمد على الأساس العلمي إلى جانب الشق التعبّدي،فتحريم نكاح النساء في الإسلام قد وضع للضرر الذي قد ينشأ،و لذلك قدّم اللّه تعالى العلة على الحكم في قوله تعالى:

قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ... .

و قد هيمن الظلام الدامس على العالم الغربي إلى أن تقدم الطب و العلم.و قد اعتقد العلماء أن دم الحيض يحمل سموما و أن هذا السم منتشر في جسد المرأة من لعاب و عرق...إلخ و ظل هذا الاعتقاد سائدا بأوجه مختلفة إلى العقد الخامس من القرن التاسع عشر و اللّه أعلم.و من ثمّ اختلف العلماء إلى أقسام شتى،فبينما أبدى علماء كثيرون شكهم من النظرة المعاصرة،ظل علماء آخرون يقيمون الندوات و الدراسات التي تؤيد النظرة القديمة،و سلك علماء آخرون مسلكا جديدا و هو أن مكان الجماع آمن،و ذهبوا إلى حد التحذير من أن غسل الفرج يشكل مخاطر جدية!!!،و الإسلام قد أشار إلى الحقيقة منذ زمن بعيد:و هو أن دم الحيض ليس في طبيعته ساما،غير أن ظروف الوقت و الزمان تجعل منه ضارا لأسباب علمية سنلقي عليها الضوء في النص التالي.).

ص: 200

و من الجدير بالذكر أن الأذى الذي قد ينشأ لا يقتصر على المرأة فقط،فاللفظ قُلْ هُوَ أَذىً... على إطلاقه،و هذا يعني أن الضرر قد يلحق بالمرأة و الرجل على حد سواء.

3-الحقائق العلمية:

قام طبيب مسلم يدعى محمد عبد اللطيف سعد (1)عام 1976 م بدراسة تغيرات مجهريات المهبل و درجة التأيّن الحمضي خلال دورة الحيض؛ فتم انتفاء خمسين من السيدات الخاليات من الأمراض الباطنية و النسائية لتكون مادة للدراسة.

و ترددت النساء فرادى على العيادة في أربع زيارات؛قبل الحيض و أثناءه و بعده،ثم في منتصف الدورة الشهرية.

و عند كل زيارة أخذت من كل واحدة منهن مسحة من أسفل المهبل،و أعلاه، و خزعة من البطانة الرحمية،ثم عينة من البول،و قيست درجة التأين الحمضي للمهبل.

و ثم فحص العينات بعد زرعها في مزارع مختلفة،و عمل التحليلات المتباينة لبيان جميع أنواع المجهريات في أسفل و أعلى المهبل،و في البول،و درست علاقة ذلك بوقت الدورة الشهرية،و درجة التأين الحمضي في المهبل،و كذلك في البول.

و تبين عند الفحص أن هناك وجود دورة لمجهريات المهبل ليست منفصلة عن دورة هرمونات المبيض،فوجود الجراثيم الضارة من ناحية،و(عصويات دودرلين DODERLEIN BACILLI )من ناحية أخرى،يسيران في خطين متضادين.فعند ما يكثر الواحد يقل الآخر؛ففي خلال فترة الحيض وجدت الجراثيم الضارة بأعداد رهيبة في حين اختفت عصويات دودرلين تماما.

كذلك تبين أنه أثناء فترة الحيض،وجدت الجراثيم الضارة في أسفل المهبل في حين بدا الجزء العلوي منه خاليا منها تماما.

أضف إلى ذلك،أن هناك أنواعا أخرى من الجراثيم الضارة وجدت أثناء فترة الحيض،بخلاف تلك الموجودة أصلا،و هذه هي جراثيم مجرى البول و الشرج.

ص: 201


1- Abd El-Latif,M.,Hefnawy.F.SOLIMAN A.A Kandil,O.F HABLAS,R,A.,SAMI,G.E., (1976), " Vaginal flora during the menstrual cycle,An Approach to clarify Islamic view concerning menstrual hygiene " ,Thesis submitted to the faculty of medicine,Al-Azhar University,for the M.D. degree in Obstetrics and Gynecology.

و تبين أيضا أن هناك جرثومة واحدة غير ضارة بطبيعتها،اكتسبت خاصية الضرر وقت الحيض و في بعض الحالات.

كذلك ازدهر طفيل الترايكومونس وقت الحيض،و تكاثر إلى أربعة أضعاف ما كان عليه.و من العجب أنه بدلا من أن يبقى في أسفل المهبل،مكانه الأثير،فإنه تسلق إلى الجيوب المهبلية في أعلى المهبل.

و وضح من هذه الدراسة أن عصويات دودرلين،توجد بصفة طبيعية في المهبل،و هي تعتبر الحارس عليه ضد الجراثيم الضارة؛ذلك أن المهبل حرم من الوسائل الدفاعية الأخرى ضد الجراثيم،إذ تبطّن جدره الداخلية طبقة كثة من النسيج الطلائي الذي لا يحتوي على خلايا إفرازية و لا على أهداب تطرد الجراثيم من القنوات الهضمية و البولية و التنفسية.كذلك حرم المهبل من ميزة الانقباضات و التقلصات التموّجية كما هو الحال في الأمعاء.

و بالتالي فإن عصويات الدودرلين تعتبر وسيلة الدفاع الوحيدة للمهبل ضد الجراثيم الضارة؛فهي تخلص المهبل من الجراثيم الضارة و تطردها إلى الخارج و تمنع دخولها إلى الرحم،و من ثمّ إلى القنوات،و بالتالي إلى فراغ البطن الداخلي، و تلك العصويات تعيش على السكر المخزن في خلايا جدر المهبل.و هذه الخلايا تقع تحت تأثير هرمونات المبيض من ناحيتين:

الناحية الأولى:هي نسبة تخزين و تركيز السكر بها؛حيث وجد أن أعلى نسبة تركيز للسكر داخل تلك الخلايا تكون في منتصف الدورة الشهرية،و تقل تدريجا مع انخفاض نسبة هرمونات المبيض،حتى تتلاشى تماما قبل الحيض بساعات و أثناءه.

الناحية الثانية:هي انفصال هذه الخلايا من جدر المهبل؛حيث تنفصل هذه الخلايا كجزء من عملية التجديد الدائم،و قد وجد أن أعلى نسبة لانفصال هذه الخلايا تحدث في منتصف الدورة الشهرية،و من ثم تقل تدريجيا حتى تصل إلى الدرجة الدنيا قبل الحيض بساعات،و من ثم أثناءه.

و على ذلك،فإن أعلى نسبة لتركيز السكر في المهبل تحدث في منتصف الدورة،و أقل نسبة تحدث قبل الحيض مباشرة،حتى أنها تكون معدومة أثناء الحيض،و بالتالي فإن عصويات دودرلين تصل إلى قمة تكاثرها و نشاطها في منتصف الدورة،حيث وصل معدلها في تلك الدراسة إلى > CS < مم 3،و من ثمّ تقل و تضعف قبل الحيض مباشرة،و عند حدوث الحيض و نزول الدم،فإن درجة التأيّن الحمضي للمهبل تتغير من الحامضية إلى القلوية،فتموت تلك العصويات،و يأخذها

ص: 202

تيار الدم معه إلى خارج المهبل.و قد وجد أن العصويات توجد في أسفل المهبل فقط،و أن أعدادها لا تزيد على > CS <1.0 مم 3 في الأيام الأولى للحيض،أما في الأيام التالية،فقد وجد أن المهبل يكون خاليا منها تماما،ذلك لأن تيار الدم قد جرفها إلى الخارج بعد موتها.

و في هذا الوقت بالذات،أي في وقت الحيض،تكون الفرص كلها سانحة و الظروف كلها مهيأة لنمو و تكاثر و نشاط الجراثيم الضارة،و ذلك لأن عصويات دودرلين تحول السكر إلى حمض اللبنيك،الذي يقتل الجراثيم الضارة،و لأن وجود تلك العصويات يكبل نمو الجراثيم الضارة،و يقف دون نشاطها،و يحول دون تكاثرها،بطريقة ما زال يكتنفها شيء من الغموض.

و في غياب تلك العصويات،و تبدل درجة التأيّن الحمضي إلى القلوية،تجد الجراثيم في الدم المرتع الخصب للنمو و التكاثر،ليس هذا فحسب،و إنما تنضم إليها جراثيم الشرج و مجرى البول،و ليس أشد غدرا من جرثومة ضارة.

و قد وجد أن هذه الجراثيم الضارة تزداد في أعدادها و أنواعها وقت الحيض، حيث يصل عددها إلى > CS < مم 3،و ليس من سبيل يمنع دخولها إلى جدار الرحم المتهتك في هذا الوقت الحرج،أو نفاذها إلى داخل فراغ البطن،أو اقتحامها للأنسجة الرخوة و البالغة الطراوة،سوى شيء واحد؛ذلك هو تيار الدم المضاد الآتي من الأعلى إلى الأسفل.

و أما بعد انقطاع الحيض،فقد وضح من نتائج الدراسة أن الوسائل الدفاعية الطبيعية غير موجودة بتاتا في هذه الفترة،ليس هذا فحسب،بل إن مقومات وجودها أيضا من السكر و(درجة التأيّن الحمضي PH )غير متوافرة،هذا فضلا عن وجود أعداد رهيبة من الجراثيم الضارة في أسفل المهبل،حيث توقف سيل الدم عنها، و بالتالي توقف جرفها إلى الخارج.

ليس من الحكمة إذن في شيء،و لا من المنطق،في كثير أو قليل،معاندة الطبيعة باقتحام حاجز الدفاع الوحيد و الباقي للمحيض،أ لا و هو عصويات دودرلين، و ذلك بالإيلاج حيث إن القضيب يحمل معه جراثيم ضارة من قبل الرجل،غير الجراثيم التي تتكاثر لدى المرأة في هذا الوقت،و أنسجة المهبل ضعيفة.و مما يزيد الأمور تعقيدا هو أن جدار الرحم الذي يكون مكونا من عدة طبقات من الخلايا يضعف أثناء الحيض و يصبح جداره رقيقا و مكونا من طبقة رقيقة من الخلايا بدلا من

ص: 203

الطبقات العديدة التي نراها في أوقات الطهر.و بالتالي فإن استعداد الرحم لمقاومة الميكروبات الغازية تقل نتيجة لذلك.

و من الجدير بالذكر هنا أن الرحم يتقرّح عند ما يقذف غشاءه المبطن أثناء الحيض،و لذلك،فإن فرص انتقال الميكروبات تزيد.

و لا يقتصر الأذى على ما ذكرناه من نمو الميكروبات في المهبل،مما يسبب التهاب الرحم و المهبل الذي كثيرا ما تطول فترة التهابهما و يصعب علاجهما،و لكن يتعداه إلى أشياء أخرى.فقد تمتد الالتهابات إلى قناتي الرحم فتسدّهما،أو تؤثر على شعيراتهما الداخلية التي لها دور كبير في دفع البويضة من المبيض إلى الرحم، و ذلك يؤدي إلى العقم أو إلى الحمل خارج الرحم.

و قد يمتد الالتهاب إلى قناة مجرى البول،فالمثانة،فالحالبين،فالكلى.

و لا يقتصر الأذى على الحائض في وطئها،و إنما ينتقل الأذى إلى الرجل الذي يطؤها أيضا،فقد وجد أيضا أن طفيل الترايكومونس في وقت الحيض يتضاعف إلى أربعة أضعاف،و هذا الطفيل وجد في أعلى المهبل أثناء الحيض متحينا فرصته و مترقبا صيده.و من المعروف أنه يسبب التهابات في الجهاز البولي و التناسلي للذكر.

و من المعروف أيضا أن انتقاله إليه لا يكون إلا عن طريق المباشرة الزوجية،و احتمال الإصابة به قائم في ذلك الوقت إذا ما حدثت المباشرة.

و تنتقل الميكروبات السبحية و العنقودية من قناة مجرى البول إلى البروستاتا و المثانة.و التهاب البروستاتا سرعان ما تطول فترته لكثرة قنواتها الضيقة الملتفة و التي نادرا ما يصلها الدواء بكمية كافية لقتل الميكروبات المختفية في تلافيفها.فإذا ما طالت فترة التهاب البروستاتا،فإن الميكروبات سرعان ما تغزو بقية الجهاز البولي و التناسلي فتنتقل إلى الحالبين و منه إلى الكلى.

و قد ينتقل الميكروب من البروستاتا إلى الحويصلات المنوية فالحبل المنوي فالبربخ فالخصيتين،و قد يتسبب ذلك بإحداث عقم نتيجة انسداد قناة المنيّ أو التهاب الخصيتين.كما أن الآلام المبرّحة التي يعانيها المريض في العقم تفوق ما قد ينتج عن ذلك الالتهاب (1).

إن عدم وجود الجراثيم في أعلى المهبل،هو الدليل القاطع على أن دم الحيض لا يحمل سموما،و كما وضح من الدراسة فإن عاملي الوقت و المكان تجعلف.

ص: 204


1- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البار،ص 100-104،بتصرف.

من الدم مؤذيا كما نص عليه القرآن الكريم و السنة الشريفة.و الطريقة المثلى للتعامل مع هذا الوضع هي انتظار انقطاع الدم،أي انتظار الطّهر،و من ثمّ التطهّر بالماء.و قد وضح سابقا أن ذلك يزيل الجراثيم الضارة في الوقت الذي لا يوجد فيه تيار سائل جار لغسلها طبيعيا،و يهيئ أيضا الظروف الطبيعية لوجود عصويات دودرلين مرة أخرى.

و هكذا يتبين لنا الإعجاز العلمي في انتفاء كلمة«المحيض»من بين المفردات الأخرى و كيف أن التعاليم الإسلامية هي الطريقة المثلى،لخلاص البشرية من همومها و ظلامها.

4-مجموع الإعجازات(أو الإشارات)العلمية في مجال الحيض:

و ختاما يمكننا أن نلخّص مجموع النقاط التي تتضمّنها الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة،حتى يتضح لنا حجم الإعجاز العلمي في ذلك:

1-ازدياد مكونات الرحم.

2-غيض الرحم من جراء الحيض.

3-احتواء الرحم على عروق.

4-خروج الدم من العروق في حالة الحيض فقط،و ليس من سواها خلال الدورة الرّحمية(ما عدا حالة الاستحاضة-و هي حالة مرضية-).

5-خروج الدم من خلال تشققات في العروق.

6-اختلاف دم الحيض و دم الاستحاضة(عند خروجهما من المهبل،و ليس عند خروجهما من العروق).

7-سواد دم الحيض.

8-رائحة دم الحيض المتميزة.

9-معرفة دم الحيض(من قبل النساء و الأطباء من خلال مقداره،و مكوّناته ...إلخ).

10-علاقة الزمان و المكان بالأذى الذي قد يتخلّق في المحيض.

11-التصرف المثالي للزوجين لتجنب الأذى المتولد في المحيض.

و مجدّدا تتوالى النبوءات على لسان هذا النبي الأمّي صلّى اللّه عليه و سلّم لترفع راية العلم و لتعزّز معرفة الأطباء.

ص: 205

الإجهاض المبكّر

*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلقة مجّتها الأرحام دما، و إن قال:مخلقة،قال:يا رب:فما صفة هذه النطفة؟».[رواه الطبري ح 32].

*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفّه،فقال:أي ربّ:مخلّقة أم غير مخلّقة؟فإن قيل غير مخلقة لم تكن نسمة و قذفتها الأرحام دما»[أخرجه ابن أبي حاتم ح 33].

يعرف الإجهاض أو السقط في الطب بأنه خروج محتويات الحمل قبل مرور 20 أسبوعا تحسب من آخر حيضة حاضتها المرأة.

قبل أن نسترسل في تفسير الحديثين نفيد بأنهما يختصان بنطفة الأمشاج إذ إن النطفة غير الملقحة غير قابلة للتخليق:فلا معنى لأن يرسل اللّه سبحانه و تعالى ملكا ليسأله هل ستتخلق النطفة أو لا.

انتهينا في المقطع السابق إلى أن البويضة الملقحة ترحل من فم الأنبوب إلى داخل الرحم حيث تقع هناك:ترى ما ذا يحصل آنذاك؟.

فالواقع أن هناك احتمالا كبيرا بأن تجهض المرأة بويضتها بعد أن تقع على سطحها.فهنا لك 45% من الحالات تجهض الأم فيها نطفة الأمشاج-التي انقسمت عدّة مرات و أصبحت تسمى باللغة العلمية:(الكرة الجرثومية BLASTOCYT )-في الأسبوع الأول من الحمل بعد أن تقع على سطحها و ذلك لأسباب عدة،منها:كما يؤكده لنا الدكتور لارس هامبرغر (1)قائلا:«إن هناك كثرة من المورثات غير سليمة (في البويضة)أو أنّ هناك مورثات أكثر أو أقل من اللازم»(و ذلك من جراء دخول أكثر من حيوان منوي إلى البويضة)«و بما أن كثيرا من المادة الوراثية قد دخلت البويضة فبالتالي يتم التطور بطريقة غير سليمة.

هذا واحد من أسباب الإجهاض المبكر.

ص: 206


1- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 69.

هناك سبب آخر للإجهاض المبكر و هو أمر ليس بالخصوص غير اعتيادي، و هو(وجود)خطأ في التركيبة الوراثية للحيوان المنوي».

كذلك فإن نقصا في إفراز هرمون(البروجسترون PROGESTERONE )و هرمون (الأستروجين ESTROGEN )من قبل(جريب البويضة الذي قذف بالبويضة فيما قبل CORPUS LUTEUM )هو أحد أسباب الإجهاض التلقائي (1).

إن هذه الظاهرة-ظاهرة الإجهاض للنطفة-التي تحدث عنها الرسول الكريم -عليه الصلاة و السلام-بإعجاز لم تعرف في الأوساط العلمية إلا في الآونة الأخيرة،فالصعوبات من التحقق من أنّ المرأة حامل في الفترات الأولى من الحمل حالت دون معرفة العلماء أمر الإجهاض المبكّر و ذلك لأن الرحم يقذف البويضة بعد تلقيحها أو بعد انغرازها فيه مباشرة(أي في فترة«الحرث»التي تلي)...و يكون ذلك في موعد الحيض فلا تفطن المرأة إلى أنها حملت أصلا...و قد تتأخر حيضتها بضعة أيام ثم تأتي العادة الشهرية فتظن المرأة أن حيضتها قد تأخرت لأيام فقط و لا تفطن إلى وجود حمل (2)فمن حالات الإجهاض ال 45% التي أسلفنا ذكرها، 30% لا تفطن فيها المرأة إلى أنها حامل و 15% تعلم بحملها.0.

ص: 207


1- كتاب الإنسان النامي،د.مور و بارسو،ص 42.
2- كتاب خلق الإنسان بين الطب و القرآن،د.محمد علي البارّ،ص 400.

مكان مستودع النطف و موقع الإخصاب

*قال العليم الحكيم: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13].

*قال اللّه عزّ و جلّ: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) [المرسلات:20-21].

*قال اللّه تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ... [الزمر:6].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:

مخلّقة قال:يا ربّ:فما صفة هذه النطفة؟».[رواه الطبري ح 32].

*عن عبد اللّه بن بريدة:أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود، فأخذ بيد امرأته،فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت:و الذي بعثك بالحق،لقد تزوّجني بكرا و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقت،...إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له» [أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].

*عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...

العروق كلّها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].

لقد بيّنا في مبحث«مستودع النطف»أن مستودع النطف عند الرجل هو البربخ الواقع أعلى الخصية،و هو عند المرأة المبيض.

إن تبيان مكان المستودع إعجاز بحد ذاته و خاصة إن كان يخص الأنثى:

فتضاريس مستودع الرجل ظاهرة للعيان و إن كان هذا المستودع واقعا تحت البشرة، أما بالنسبة للمرأة فالرحم منغلق على نفسه،داخل الجسد و تضاريسه غير ظاهرة.

و إذا افتقدنا الوسائل العلمية التي تتيح لنا معرفة دقائق الأمور فمن الطبيعي أن نظن أن النطفة تأتي من الرحم نفسه أو أن الرحم يفرزها(أي:أن بطانة الرحم تلفظها بعد أن كانت موجودة كاملة في داخلها،و بذلك يكون الرحم هو المستودع الذي تتكلم عنه الآية)-هذا إن علمنا أن هناك نطفة تفرزها المرأة-ذلك أن الرحم يظهر

ص: 208

للعيان مغلقا،و لا سبيل إلى أن يفقه أحد كيف يمكن للنطفة أن تأتي من خارجه إلا إذا تفحص عالم بواسطة مجهر تركيب الرحم،فعلى سبيل المثال:ظن العالم (هارفي HARVEY )1651 م أن الرحم يفرز الجنين و ذلك لعدم تمكنه من مشاهدة تطور الجنين في المراحل الأولى من تخلقه.

نتوقف هنا عند الآية: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) [المرسلات:20-21].فهي تشير إلى أن الماء المهين،أي المني يجعل،أي يوضع،في القرار المكين،أي الرحم،إذ فعل«جعل»يأتي بمعنى«وضع».جاء في لسان العرب:«جعل:جعل الشيء يجعله جعلا و مجعلا و اجتعله،وضعه...» (1).و ما يوضع في الرحم هو الماء بعد أن يلقح،و الدليل على ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى قال في سورة المؤمنون: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ .و هذه الآية تخص النطفة المخصبة لأن سياق الآيات التي تأتي من بعدها تتكلم عن التخلق البشري،فلو أن النطفة لم تخصب،لم تؤد إلى تخلق الإنسان،و لما تكلم اللّه تعالى في الآيات اللاحقة في سورة المؤمنون عن تخلق العلقة من النطفة كما جاء في قوله عزّ و جلّ:

ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:13-14] (2).

و لقد أكّد المولى عزّ و جلّ في موضع آخر من القرآن الكريم أن النطفة التي يتخلق منها الجنين هي النطفة المخصبة في قوله سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ .

و كما أسلفنا القول فإن الآية رقم 13 من سورة المؤمنون تشير إلى أن النطفة المخصبة تدخل الرحم الموصوف بالقرار المكين باستعمال لفظ(ثم جعلناه...في قرار...)،فلو أن النطفة كانت في القرار لم تكن لتجعل فيه،و هذا يدل على أن النطفة المخصبة تأتي من خارج الرحم.و الحديث رقم 32 يؤكد هذا بواسطة مصطلح آخر إلا و هو:«إذا وقعت النطفة في الرحم...»[رواه الطبري ح 32].فلو أن النطفة كانت في الرحم لما وقعت فيه.و هذا يدل على معجزة معرفة الرسول-عليه الصلاة و السلام-بتركيب الرحم،حيث إن الرحم متصل بقناة فالوب التي تتلقى البويضة من المبيض-مستودع النطفة-،فالوقوع في الرحم يلزم الخروج من مكان ثان؛أ لا و هو«قناة فالوب».».

ص: 209


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«جعل»-(ج /2ص 300).
2- للمزيد من التعليق الرجاء قراءة مبحث«العلقة».

و تقيد هذه الرواية أيضا بأن الرسول-عليه الصلاة و السلام-يعلم تمام العلم بأن مكان تخصيب البويضة-و بالتالي بداية الخلق-هو خارج الرحم،و داخل القناة التي تعرف اليوم بقناة فالوب،لأن الآية و الحديث يعنيان البويضة المخصبة.فالنطفة عند ما تقع في الرحم تكون ملقحة،أي جاهزة لأن تتخلق،و إلا لما سأل الملك اللّه سبحانه و تعالى هل يريد أن يخلق البويضة أم لا،وفقا لما جاء في الحديث رقم 32 و الذي علقنا عليه في مبحث«الإجهاض المبكّر».

و الحديث«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق كلّها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23]،أوضح دلالة من الحديث رقم 32 في أن مكان التخصيب يقع خارج الرّحم،حيث إنه يشير إلى أن النطفة التي يخلق منها الولد(أي النطفة المخصبة)إذا خرجت(أي إذا خرجت من مكان ما يقع خارج الرّحم و هو قناة فالوب)وقعت في الرّحم.

إلى ذلك فإن القرآن الكريم يشير بطريقة غير مباشرة إلى أن الخلق يبدأ من خارج الرحم من خلال قول اللّه تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ... [الزمر:6].

فلو كان الخلق في الأرحام فقط لقال اللّه-سبحانه و تعالى-نخلقكم في أرحام أمهاتكم و اللّه تعالى أعلم.و هذه إشارة إلى أن بدء الخلق الذي يتلخص باجتماع الحيوان المنوي مع البويضة و بانصهاره معها يبدأ في مكان ما خارج الرحم أ لا و هو قناة فالوب.

و هذه الحقائق التي أشار إليها الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم بحق إعجاز علمي،لأن قطر البويضة الملقحة حين تدخل الرحم لا يزيد عن 7,0 ملم،و هذا لا يبيح حتى لعالم بيولوجي متمرس أن يفقه من أين تأتي البويضة إلا إذا زوّد بمجهر إلكتروني،و إذا أمضى وقته في البحث عن المكان الذي تدخل منه النطفة-هذا إن خطر على باله أن هناك مدخلا للنطفة من خارج الرحم إلى داخله-لأن الرحم يظهر للعين المجردة مغلقا تماما من كل الجهات،و ذلك لصغر مدخل النطفة من قناة فالوب إلى الرحم، حيث إنه لا يزيد قطره عن 7,0 ملم في الأيام العادية،و لا عن 1 ملم عند خروج النطفة منه.فالحاصل أن هذا المدخل يتسع لكي تتمكن النطفة الملقحة من عبوره.

نشير هنا إلى أنّ حدود الرحم لا تشمل قناة فالوب،و ذلك لأن قناة فالوب هي دار ممر و ليست بدار مقر.و الواقع أن النطفة بعد أن تخرج من مستودعها تقع في قناة فالوب و تهاجر منه إلى الرحم الذي وصفته الآية الكريمة بدار مقرّ في قوله تعالى:

ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ .

ص: 210

إضافة إلى ذلك فإنّ فعل«جعل»يأتي بمعنى«خلق»،جاء في لسان العرب (1):

«جعل:...و جعل خلق...و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] أي خلقنا».فإذا أبدلنا فعل جعل بفعل خلق أصبح معنى الآية:ثم خلقناه نطفة في قرار مكين،و بالتالي فإن الآية السابقة تشير إلى أن الإنسان يخلق ابتداء نطفة و يوضع -و هو يتخلّق-في الرّحم،فالخلق لم يتوقف منذ أن ابتدأ في قناة فالوب(كما أشرنا إليه سابقا في مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»)عند تخصيب الحيوان المنوي للبويضة إلى أن يصبح فيما بعد علقة في الرّحم(أي في القرار المكين).

و من المهم أن ننوّه إلى أنّ اختيار فعل«جعل»له دلالته،فلو صغنا الآية بفعل «وضع»أو فعل«خلق»لما استطعنا أن نجمع بين المعاني المختلفة و أن نوصل إلى القارئ المعنى المزدوج،و هذا من الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم الذي جاء على لسان الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم حيث قال:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13].

و من المعجزات الإخبارية أيضا:إشارة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بطريقة غير مباشرة إلى أن مخرج قناة فالوب الذي يتصل بالرحم يقع عند هاوية و إلا لما وقعت النطفة في الرحم بل لدخلته.

و بعد هذا كله،نستنتج من الحديثين:«...إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها...»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و«إذا وقعت النطفة في الرحم...» [رواه الطبري ح 32]أن عملية اضطراب العروق و بالتالي عملية التقدير تقع خارج الرحم،لأن في الحديث رقم 22 إشارة إلى أن عملية الاضطراب تقع«إذا كان حين الولد»أي عند تخصيب البويضة،و التخصيب كما أشرنا إليه سابقا في هذا البحث يقع خارج الرحم في قناة فالوب وفقا للحديث رقم 32«إذا وقعت النطفة في الرحم...».

و الحديث رقم 23 يشير إلى نفس الحقائق التي تحدّث عنها الحديثان رقم 22 و 32 مجتمعين من اضطراب العروق خارج الرّحم و لكن بلفظ أكثر وضوحا:

-فالنطفة التي يخلق منها الولد:[دلالة على أن عملية التخصيب قد حصلت].).

ص: 211


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«جعل»-(ج /2ص 301).

-ترعد لها العروق كلها:[دلالة على أن عملية اضطراب العروق،و بالتالي عملية التقدير حصلت بعد أن تمت عملية التخصيب].

-إذا خرجت:[دلالة على أن خروج البويضة من مكان ما يقع خارج الرحم (قناة فالوب)حصل بعد أن تمت عملية التخصيب و عملية التقدير و عملية الاضطراب].

-وقعت في الرّحم:[دلالة على أن وقوع البويضة المخصبة حصل بعد أن تمت العمليات التالية:التخصيب و التقدير و الاضطراب و الخروج من مكان التخصيب].

و من التعليق السابق نرتب مجموع المعلومات عن الرحم و عن العمليات التي تحصل خارج الرحم كالتالي:

1-مكان مستودع النطف يقع خارج الرحم.

2-عملية تلقيح البويضة تقع خارج الرحم.

3-عملية اضطراب العروق تقع خارج الرحم.

4-عملية التقدير تقع خارج الرحم.

5-مدخل قناة الرحم الذي يتصل بالرحم يقع عند هاوية.

ص: 212

هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم

*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].

*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:

مخلّقة قال:فما صفة هذه النطفة؟»[رواه الطبري ح 32].

*قال عزّ و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98].

هذه المرحلة تقع زمنيا قبل مرحلة«نطفة الأمشاج»و لكن وضعناها بعد مبحث «الإجهاض المبكر»و مبحث«مكان مستودع النطف و موقع الإخصاب»لكي يستطيع القارئ أن يؤلف صورة إجمالية عن الأحداث التي تقع في بطن المرأة الحامل قبل استقرار النطفة في الرحم،فيستنتج من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الدلائل التي تشير إلى هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم.

نفهم من الآيات الكريمة: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) أن الماء المذكور يدفق،و بالتالي فهذا الماء ينتقل من مكان إلى آخر.

هذا الماء الذي يدفق يحتوي على البويضة غير المخصّبة و ذلك:

1-لأن مكونات الماء الدافق مستقاة مباشرة من الأوردة التي تتفرع من المنطقة الواقعة بين الصلب و الترائب (1)،و أما النطفة المخصبة فهي تتكون من الحيوان المنوي و البويضة (2).

2-لأن البويضة المخصبة التي أشار إليها الملك بقوله:«مخلّقة أو غير مخلّقة»في الحديث«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا رب:مخلّقة

ص: 213


1- لمزيد من التفاصيل انظر مبحث«الماء و المني».
2- لمزيد من التفاصيل انظر مبحث«نطفة الأمشاج».

أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما»[رواه الطبري ح 32]تقع (1)و لا تدفق.

و كما أشرنا إليه سابقا فالبويضة تخرج من المستودع الذي تتكلم عنه الآية الكريمة: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و تصب في قناة فالوب (2).

و دفق الماء مهم و ذلك لكي تستطيع النطفة أن تقفز من المبيض إلى قناة فالوب بدون أن تضيع داخل جسم المرأة.

و بعد أن تدفق البويضة من المستودع إلى قناة فالوب تخف سرعتها و تجري ببطء (3)و يلقحها الحيوان المنوي عملا بالآية الكريمة: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]،و بالحديث الشريف:يا محمد:ممّ خلق الإنسان؟قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]،و من ثمّ تعاود النطفة رحلتها إلى الرحم.

فالبويضة في بادئ الأمر تدفق،أي:أنها تخرج بقوة و بسرعة مع ضغط من المستودع إلى قناة فالوب،و من ثمّ تخرج من قناة فالوب و تقع في الرحم كما جاء في الحديث الشريف:«إذا وقعت النطفة في الرحم»[رواه الطبري ح 32].

فالوقوع في الرحم يستلزم الخروج من مكان آخر؛أ لا و هو قناة فالوب،و هذا هو ما يشير إليه الحديث:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].

و لقد أضاف اللّه-سبحانه و تعالى-الشدة في وصف خروج الماء(من المبيض)،أما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فلم يستعمل الوصف الشديد عند ما حدّثنا عن خروج النطفة(من قناة فالوب)و وقوعها في الرحم،و هذا يعني أن سرعة البويضة تخف حسب المعطيات القرآنية و الحديثية.».

ص: 214


1- فالنطفة غير المخصبة لا يتخلق منها الولد.و لمزيد من التفاصيل عن أنّ النطفة المشار إليها هي النطفة المخصبة انظر مبحث«مكان مستودع النطف و عملية الإخصاب».و لمزيد من التفاصيل عن عملية وقوع النطفة في الرحم انظر مبحث«وقوع النطفة في الرحم».
2- لمزيد من التفاصيل انظر مبحث«مستودع النطف».
3- يقول د.لارس هامبرغر في كتابه ولد طفل،ص 36:«تتدحرج البويضة ببطء على سطح طيات الغشاء منتظرة نظيرها الذكري».

و قد ورد في أكثر من حديث أن النطفة تقع في الرحم بدون الإشارة إلى أي شدّة في وقوع النطفة في الرحم و ذلك للتأكيد على نفي الشدة أثناء وقوعها و اللّه تعالى أعلم.

و هذه الأحاديث هي:

1-«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجتها الأرحام دما،و إن قال:مخلّقة قال:يا ربّ فما صفة هذه النطفة؟..»[رواه الطبري ح 32].

2-عن حذيفة بن أسيد رضي اللّه عنه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأذنيّ هاتين يقول:

«إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصوّر...»[أخرجه مسلم ح 48].

3-عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...

العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم».[أخرجه الديلمي ح 23].

فإذا خفت سرعة البويضة لزم منها أن تمكث في موقع الإخصاب مدة من الزمن لا يستهان بها.و مما يدعّم هذا المفهوم لفظ«إذا»الذي ورد في الحديث الشريف:«إذا وقعت النطفة في الرحم»[رواه الطبري ح 32]،و«إذا:اسم يدل على زمان مستقبل» (1)،و هذا يشير إلى ثلاثة احتمالات:

1-أن النطفة غير المخصبة تمكث في المستودع حقبة من الزمن،فيستلزم استعمال اسم«إذا»في صياغة الحديث الشريف للدلالة على مكوث الهيكل الأساسي للنطفة المخصبة خارج الرحم(أي في المبيض-أو المستودع...)زمنا طويلا، و هذا يوافق المعنى الذي تشير إليه كلمة«مستودع»أن النطف تمكث في هذا المكان فترة طويلة (2).

2-أن النطفة المخصبة(أو النطفة التي سوف تتخلق)تمكث مدة من الزمن غير يسيرة في موقع الإخصاب،فيستوجب استعمال اسم«إذا»في صياغة الحديث الشريف للإشارة إلى بقاء النطفة خارج الرحم فترة طويلة.و مما يدلّ على أن البويضة المخصبة تمكث في موقع الإخصاب زمنا طويلا هو استعمال حرف العطف«ثم»».

ص: 215


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«إذا»-(ج /1ص 301).
2- لمزيد من التفاصيل انظر مبحث«المستودع».

الذي يفيد الترتيب و التراخي (1)في النص القرآني: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) [المؤمنون:12-13].ففي هذا النص نرى أن اللّه تعالى ذكر ابتداء مرحلة السلالة،و هو بذلك استثنى مرحلة مكوث النطفة غير المخصبة في مستودعها لأنه تكلم عن السلالة(أي النطفة التي انسلت-أي خرجت -من مستودعها)،و من ثمّ فصل بين مرحلة السلالة و مرحلة نطفة الأمشاج في القرار المكين-أي في الرّحم-،بحرف العطف«ثم»،مما يشير إلى أن النطفة غير المخصبة تحتاج إلى زمان غير يسير لتخصّب و من ثمّ لتنتقل من موقع الإخصاب إلى الرّحم.

3-أن النطفة تمكث في المستودع مدة طويلة،كذلك في موقع الإخصاب مما يدعو إلى استعمال اسم«إذا»في الحديث الشريف لنفس السبب الذي ذكرناه آنفا.

و من كلامنا السابق نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أثبت الحركة الديناميكية للنطفة؛فهي تدفق(في موقع التخصيب)،و من ثمّ تقع في الرحم،و من ثمّ تستقر و تغيض في الرحم (2)،و بالتالي أثبت هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم.و مفهوم تحرك النطفة بعيد عن متناول الأذهان؛فلو اتضح للعالم أن هناك نطفة يتخلق منها الجنين فهذا لا يلزم أن تنتقل من مكان إلى آخر،و هذا يدل على إعجاز معرفة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للأمور غير المرئية في مجال علم الأرحام في زمانه.

و الواقع أن النطفة تمكث في قناة فالوب حوالي ثلاثة إلى أربعة أيام تنفلق على التوالي كما تشير إليه المعطيات العلمية (3).

إلى ذلك فإن الدفق يستوجب أن يكون المكان الذي يدفق فيه الماء طويلا و إلا لما سال فيه.و مثال على ذلك:جريان مياه العين،فلو لا طول مجرى العين لما تدفقت و سالت المياه فيه.

و مما قلناه نستنتج أن موقع الإخصاب(أي قناة فالوب)طويل بالنسبة إلى البويضة بحيث يستطيع ماء المستودع أن يدفق فيه و بالتالي أن تسير النطفة فيه.و كما».

ص: 216


1- لمزيد من التفاصيل الرجاء مراجعة مبحث«الأسلوب القرآني في استخدام حرفي«ثم»و«الفاء»في آيات علم الأجنة».
2- لمزيد من التفاصيل انظر مبحث«غيض النطفة في الرحم».
3- كتاب علم الأجنّة الطبي،سادلر،ص 36،انظر أيضا مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب».

نعلم يبلغ طول قناة فالوب خمسة عشر سنتيمترا،و أما قطر البويضة فيبلغ 055,0 ملم (1)عند خروجها من المبيض،و 7,0 ملم عند خروجها من قناة فالوب.

إن اختيار الألفاظ(مستودع-دفق-نطفة مخلّقة أم غير مخلّقة-وقوع- رحم)و اختلاف دلالاتها لشدة الحركة أو رخائها(دفق-وقوع)يحدد لنا الصورة الإجمالية التي ترتبط بالنطفة خلال وجودها خارج الرحم؛فهناك مكان تخصيب(كما تشير إليه عبارتا نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2]و مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5]و له مدخلان:أحدهما يطلّ على المبيض(أي على المستودع)و الثاني على الرحم،و عبر كل من المدخلين هناك حركة انتقالية للنطفة(دفق-وقوع)مما يشير إلى أن النطفة في حركة انتقالية مستمرة و إن اختلفت ديناميكية تلك النطفة(كما تشير إليه دلالات كلمات«دافق»و«خرجت»و«وقعت»).

و تفصيلا:

يتزايد ضغط الجريب الذي يحتوي على البويضة إلى درجة من الضغط تساوي 15 ميليمترا زئبقيا تنفجر عندها حويصلة البويضة و قشرة المبيض في أضعف نقطة منهما،فتقذف بالبويضة و الخلايا الحامية لها و المحيطة بها و قليل من ماء الحويصلة إلى(تلافيف بوق أنبوب الرحم FIMBRIAE OF FALLOPIAN TUBE )و من ثمّ إلى (قمع قناة فالوب INFUNDIBULUM OF FALLOPIAN TUBE )...إلخ فيتدفق الماء من جراء الضغط المتولد.كذلك مما يحفز الماء على التدفق هو أن جريب البويضة يفرز مادة تجعل أهداب بوق فالوب تسحب ماء البويضة إلى داخل البوق إلى جانب تقلص عضلات قناة الرحم الذي يحدث هو أيضا ضغطا سلبيا تجاه قناة فالوب،و من ثمّ تخف سرعة البويضة.و لكن ما يساعدها على مواصلة مسيرها هو أنه يوجد في قناة فالوب غابة من الشعيرات الصغيرة تموج موجا،تدفع بالبويضة إلى الأمام (2).(انظر الصورة رقم:57).إضافة إلى ذلك تتجمّع الحيوانات المنوية التي نجت من الوسط الحامضي للمرأة و من سائر المعوقات حول البويضة،و يكون عددها حينئذ حوالي الخمسمائة.هذه الحيوانات تحاول-جاهدة-دخول البويضة، فتتسابق فيما بينها و تتزاحم حول حائط البويضة،فترتطم به لكي تشق لنفسها طريقا داخل الجدار،و من ثمّ ينفذ واحد فقط إلى داخل البويضة.5.

ص: 217


1- كتاب علم الأجنة في ضوء القرآن و السنة،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ص 236.
2- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 35.

> CS <

و من الجدير بالذكر أن ارتطام الحيوانات بجدار البويضة يؤدي إلى دوران النطفة (1)،فتدور النطفة حول نفسها خلال سيرها في قناة فالوب إلى الرحم 2،ر-

ص: 218


1- كتاب ولد طفل،د لارس هامبرغر،ص 46 و 57.

و كذلك تدور الحيوانات المنوية حول محور النطفة متبعة حركة دائرية من جراء دوران النطفة (1).(انظر الصورة رقم:58).و عند ما تصل البويضة المخصبة إلى نهاية قناة فالوب من جهة الرحم تنسل عبر مضيق يتوسع تلقائيا ليسمح لها أن تعبره،و بعد أن تعبر البويضة المضيق تقع داخل الرحم.

> CS <

و من شرحنا السابق فإن الصورة الإجمالية لمكان التخصيب و لما).

ص: 219


1- نشير هنا إلى أن دوران النطفة لم ينتج فقط من جراء ارتطام الحيوانات المنوية بالبويضة،و إنما لوجود شعيرات تبطن مجرى قناة فالوب و التي تدفع بالبويضة إلى الأمام(كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر، ص 35).

يحصل (1)للنطفة خارج الرحم،التي نستطيع أن نجمعها من الدلائل المستقاة من الآيات و الأحاديث،و التي تشير إليها المعطيات العلمية،هي على الوجه التالي:

1-انتقال النطفة غير المخصبة بسرعة من مكان تحفظ فيه النطف(أي من المستودع)إلى مكان طويل(بالنسبة إلى حجم البويضة)هو موضع التخصيب(أي إلى قناة فالوب).

2-تباطؤ سرعة البويضة.

3-تخصيب البويضة.

4-هجرة البويضة إلى عنق قناة الرحم(الذي يتصف بالضيق (2)كما تشير إليه كلمة«سلالة» (3).

5-مكوث النطفة المخصبة حقبة من الزمن في موضع التخصيب.

6-خروجها من مكان التخصيب إلى مكان آخر(كما تشير إليه عملية الوقوع).

7-وقوعها في الرحم.

و هذا يشير إلى إعجاز معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بوحي من اللّه تعالى إلى دقائق تركيبة الجهاز التناسلي للمرأة،و إلى أحداث تخصيب البويضة،و رحلتها عبر قناة فالوب كما أشرنا إليه سابقا.

و قبل أن ننهي هذا المبحث نود الإشارة إلى أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تمام العلم أن هناك العديد من الحيوانات المنوية،و أن واحدا منها فقط يلقّح البويضة في نهاية المطاف.و الدليل على ذلك قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيهما غلبت فالشبه له»[ذكره ابن هشام ح 69].فكل منهما يشير إلى أن نطفة واحدة لا غير تشارك في تلقيح البويضة مما يعني إحدى الفرضيتين:إما أن هناك نطفة واحدة في منيّ الرجل تلقّح البويضة،و إما أن هناك العديد من النطف في منيّ الرجل،غير أن واحدة منها فقط تنتخب لتلقيح البويضة.و الفاصل في هذا الأمر».

ص: 220


1- لم نتعرض في هذا البحث للأحداث التي تجري داخل النطفة خلال هجرتها إلى الرحم.لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع الرجاء قراءة مبحث«توقيت أحداث التخلقات في القرآن و السنة».
2- لمزيد من التفاصيل عن مضيق قناة فالوب انظر مبحث«السلالة».
3- راجع مبحث«النطفة».

نصوص أخرى من القرآن و السنّة توضّح هذا الأمر.فإذا أخذنا بمعنى السلالة التي وردت في الآية ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]-الخروج من الزحام (1)(كما رأينا في مبحث«النطفة»)-،فهمنا أن الآية تشير إلى أن هناك العديد من النطف،و إلا لما خرج الحيوان المنوي من الزحام(و بالتالي فإن الفريضة الثانية هي الصحيحة).و بما أن نطفة واحدة فقط تشارك في تخلّق البويضة المخصّبة فهذا يعني أن حيوانا منويا واحدا-فقط لا غير-يفوز في هذا السباق،و يهرب من سائر المعوّقات،و ينسل من العدد الهائل للحيوانات المنوية ليلقّح البويضة،تماما كما تشير إليه النصوص الشرعية التي أنزلت من عند من يعلم السرّ في السماء و الأرض: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:6].0.

ص: 221


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«سلل»-ج /6ص 338-340.

الحرث

*قال جلّ و علا: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ... [البقرة:223].

*قال عزّ و جلّ: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ... [البقرة:228].

جاء في لسان العرب (1):«(قال)الأزهري:الحرث قذفك الحب في الأرض لازدراع...».

و في صحيح مسلم بشرح النووي (2)في تفسير الآية عن صفة الرحم:«أي موضع الزرع من المرأة و هو قبلها...».

إذا عملية الحرث المذكورة في نص القرآن الكريم تشير إلى زرع الحبة أي النطفة في قبل المرأة أي رحمها(لمزيد من التعليق على أن كلمة الحبّ تشير إلى النطفة راجع مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»).

هذه العملية تحصل في اليوم السادس.

إن النطفة إذا وقعت في الرحم،إما أن يتقبلها الرحم أو يرفضها.فإذا رفضها حصل حيض و غاض الرحم من جرّاء فقدان دمائه،و إذا لم يرفضها علقت بظاهر بطانته و ابتدأ طور جديد يعرف بطور الحرث.

تبدأ عملية الانغراس للنطفة في بطانة الرحم بما يشبه انغراس البذرة في التربة بواسطة خلايا تخرج منها تتعلق من خلالها في ظاهر جدار الرحم.

فالحاصل أن الخلايا التي تأتّت من الانقسامات المتوالية(كما رأينا في مبحث «انفلاق النطفة»)تتمايز في بادئ الأمر إلى كتلتين من الخلايا:(كتلة خلايا خارجية OUTER CELL MASS OR THROPHOBLAST )و(كتلة خلايا داخلية INNER CELL MASS ).(انظر الصورة رقم:59).

ص: 222


1- لسان العرب لابن منظور-مادة«حرث»-ج /3ص 104.
2- صحيح مسلم بشرح النووي-كتاب النكاح-باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها و من ورائها من غير التعرض للدبر-رقم الحديث 117-ج /5ص 262.

> CS <

ص: 223

و من ثم تتمايز كتلة الخلايا الخارجية إلى طبقتين:(كتلة مخلاوية آكلة تواجه ظاهر بطانة الرحم SYNCYTIOTROPHOBLAST )و(كتلة مخلاوية موجودة تحت الأولى CYTOTROPHOBLAST ).

هذه الخلايا الآكلة تخرج من النطفة أو(الكرة الجرثومية BLASTOCYT ) و تتعلق بظاهر بطانة الرحم عند القطب الجنيني[أي عند مجموعة الخلايا التي ستؤلف الجنين و التي تسمى:(كتلة الخلايا الداخلية INNER CELL MASS )]،و من ثم تخترق هذه الأرومة السخدية ظاهر بطانة الرحم و تبدأ في الانتشار في بطانته و يكون هذا(الانغراس IMPLANTATION )انغراسا جزئيا و هو يشبه كثيرا في معناه معنى كلمة الحرث.(انظر الصورة رقم:60).

هناك حدث يجب أن لا ننساه و هو:أنه خلال عملية الحفر يحصل في بعض الحالات نزيف دموي من جراء خروج الدم من الشرايين التي تنقطع حول مكان الحرث.و قد تظن المرأة أن الحيضة قد أتتها،و لكن الواقع أن هذه الظاهرة تأكيد لحملها.و بما أن هذا الأمر(أي نزيف الدم)قد يحصل في بعض الحالات،و قد تشك المرأة من جرائه بأنها حامل أزال اللّه سبحانه و تعالى هذا الشك بأن أمرها بأن تنتظر ثلاث حيضات بعد طلاق زوجها لها بقوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ... [البقرة:228].

و سنتطرق لهذا الموضوع مرة أخرى عند كلامنا عن نهاية الأسبوع الثامن(أي بعد مرحلة تخلق اللّحم)لتوضيح بقية إعجاز الآيات،لأن هذه الآيات تغطي مرحلة تمتد إلى ما بعد مرحلة عملية الحرث.

ص: 224

> CS <

ص: 225

غيض النطفة في الرحم و استقرارها

*قال العليم الحكيم: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ [الرعد:8].

*عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه:لا يعلم ما في غد إلا اللّه،و لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه،و لا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللّه،و لا تدري نفس بأي أرض تموت،و لا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللّه»[أخرجه البخاري ح 34].

*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى:

فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]؟قال:شكّلك»[أخرجه الطبراني ح 63].

عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثمّ أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[رواه الطبراني ح 21].

إن الآية: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8]أتت بعد الآية: وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد:7]،و كأنها استجابة للكفار بأن يظهر لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم آية تبرهن على صدق رسالته،فجاء الإخبار مباشرة عن إعجاز علمي خفي،يتحدّث عن ظاهرة غيض النطفة في ظاهر بطانة الرحم.

تمتد هذه المرحلة ما بين اليوم السابع و اليوم الرابع عشر.

كما رأينا في مبحث«ازدياد الأرحام و غيضها»فإنّ فعل غاض قد يعني:

1-نقص من.

2-دخل في.

فعل غاض بمعنى غار ذكر في سورة هود وفقا للآية: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ... [هود:44].

ص: 226

فإذا انطبق هذا المعنى على فعل غاض أصبحت الآية تعني:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تبلغ الأرحام من حمل و ما تزداد منه.

هذا المفهوم لفعل غاض يشير إلى أن شيئا ما يدخل و يغور في الرحم،و هذا ما يحدث بالفعل،فالنطفة بعد أن تقع على سطح الرحم و تتعلق به(كما رأينا في مرحلة الحرث)،يزداد انغرازها عمقا داخل باطن الرحم إلى أن تنغمد فيه كليا (1)في اليومين الحادي و الثاني عشر،و من ثم نرى انغلاق مكان دخول الكرة الجرثومية إلى باطن الرحم بالسدادة النسيجية.(انظر الصورة رقم:61).

و تعرف هذه العملية بعملية الانغراس الخلالي.

> CS <

يتساءل الناس لما ذا يصرح الرسول-عليه الصلاة و السلام-بأنه«لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه»[أخرجه البخاري ح 34]و قد توصّل العلماء في عصرنا هذا إلى معرفة ما يحدث في الأرحام؟،الجواب:أن هؤلاء الناس غفلوا عن أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم استعمل كلمة«تغيض».هذه الكلمة تدل على حدوث الانطمار أو الانغراس في سطح الأرحام.فالحاصل أن معرفة الناس ستقتصر على معرفة تفاصيل مراحل تخلق الجنين ما بعد مرحلة الغيض لا قبلها،و إلا لم يكن اللّه ليعلن أن الناس سيكتشفون ما سيحدث في الأرحام وفقا للآية التي ذكرناها آنفا في مبحث«التحدي»: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53].و هذا يعني أن علمهم سيكون محدودا وفقا لما حدده الحديث الذي أوردناه سابقا.0.

ص: 227


1- كتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب،د.حامد أحمد حامد،ص 100.

مرحلة الغيض تأتي بعد مرحلة تلقيح النطفة و انقسامها و مرحلة الحرث، و بالتالي فإن الناس لن يعلموا تفاصيل تلقيح النطفة و إلى ما ذا سيؤدي.فلو علم العلماء مواصفات النطفة الملقحة بعد التلقيح لعلموا ما ذا يدخل في بطانة الرحم.أما ما يجري من عمليات لتخصيب النطفة خارج الرحم،لإجراء التجارب عليها و معرفة تكوينها،فهذه العمليات لا تندرج تحت القاعدة التي أرساها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(أ لا و هي قاعدة الانطمار و الاختفاء عن الأنظار)ذلك لأنهم كسروا هذه القاعدة بإخراج النطفة من مكانها،فمتى أخرجوها استحضروها،و متى استحضروها،فهي حاضرة لا غيب فيها.و كذلك،و للسبب نفسه،لا تندرج النطفة التي تلقّح داخل الرحم تحت عملية الغيض و تلك التي تستخرج من الرحم لإجراء التجارب عليها و إعادتها ثانية إلى الرحم.

إن النطفة الملقحة التي انقسمت إلى عدة خلايا و التي تغور في الرحم لا يزيد حجمها حينئذ(أي في اليوم الثامن)عن 7,0 ملم.هذه النطفة تفقد شكلها تدريجيا و تخرج عن كونها نطفة عند انغرازها في بطانة الرّحم.فالحاصل أن مجموعة الخلايا التي تتألف منها و التي نجمت عن الانشطارات و الانقسامات المتوالية التي حدثت بداخلها تتمايز في بادئ الأمر إلى مجموعتين:كتلة خلايا داخلية،و كتلة خلايا خارجية،حيث إن كتلة الخلايا الخارجية تحيط بكتلة الخلايا الداخلية من كل جانب،و هي بذلك ما زالت تحتفظ بمظهر القطرة.و لكن ما تلبث أن تتحد كتلة الخلايا الخارجية ببطانة الرّحم و تفقد النطفة عندئذ هيكلها الخارجي بالكامل،فتخرج عن كونها نطفة،و تبقى الكتلة الداخلية هي الجزء الأساسي الذي سيتألف منه الجنين.و إذا علمنا أن كتلة الخلايا الداخلية هي مجموعة هائلة من الخلايا(يقدر عددها بألفين في اليوم الثاني عشر)توجد في حيّز من المكان لا يزيد طوله في آخر يوم من مرحلة الغيض (1)عن 8,0 ملم (2)داخل بطانة الرحم،فكيف نتصور أن يكتشف ما بداخلها إذا لم تستخرج من الرحم؟ (3).ج-

ص: 228


1- أي في اليوم الرابع عشر و هو اليوم الذي يأتي قبل بداية مرحلة الازدياد أو قبل طور الذنب مباشرة(مرحلة رقم 7 عند اختصاصيي علم الأجنة)حيث يبدأ حجم الجنين بالتطاول و الظهور بشكل ملحوظ.
2- و هو أكبر طول سيبلغه الجنين في مرحلة الغيض.
3- نشير هنا إلى أن هناك عدة وسائل لتشخيص الحمل في رحم الأم و لمعرفة حدوث تشوهات خلقية للجنين، مثل الوسائل: PERCUTANEOUS UMBILICAL CORD,FETOSCOPY,DIAGNOSTIC AMNIOCENTESIS,ALPHA FETOPROTEIN ASSAY,AMNIOGRAPHY AND FETOGRAPHY, BLOOD SAMPLING ...إلخ،غير أن هذه الوسائل لا تتيح معرفة خصائص الجنين كاملة،و قد ينتج-

من الأمثلة التي تدل على أن مراحل النطفة قبل أن تغور في الرحم هي أسرار إلهية الأمر التالي:تنقسم النطفة الأنثوية كما أسلفنا القول إلى عدة خلايا بعد أن تلقح من قبل الحيوان المنوي،هذه الخلايا تكون متشابهة تماما إلى أن يصبح عددها ثماني خلايا،أي إلى أن تصبح البويضة الملقحة في مرحلة ما يسمى(بالتوتة MORULA )،و من ثم تتمايز الخلايا شيئا فشيئا و تستمر بالانفلاق إلى أن يقارب عددها الخمسين،عندئذ تنقسم مجموعة الخلايا(و هي مستمرة بالانفلاق)إلى جزءين:واحد سوف يؤدي إلى تخلق الجنين(و يسمى:كتلة الخلايا الداخلية)،و الثاني إلى تخلق(المشيمة PLACENTA ) (و يسمى:كتلة الخلايا الخارجية).و من ثم تتمايز كتلة الخلايا الداخلية(التي ستؤلف الجنين فيما بعد)إلى ثلاث طبقات من الخلايا:أ-الطبقة الخارجية و تدعى:

الأكتودرم،ب-الطبقة المتوسطة و تدعى:الميزودرم،ج-الطبقة الداخلية و تدعى:الأنتودرم.أما كيف تعلم كل خلية إلى أي فريق تنضم إلى كتلة الخلايا الداخلية أم إلى كتلة الخلايا الخارجية؟إلى طبقة الأكتودرم أم إلى طبقة الميز و درم أم إلى طبقة الأنتودرم؟و أي عضو ستساهم في تخليقه؟،فهذا الأمر ما زال مبهما إلى الآن.يقول الدكتور لارس هامبرغر شاهدا على هذه المسائل:«إن هذا هو أحد أسرار الحياة الذي ما زال يحيّرنا،و هو محط أبحاث علمية واسعة» (1)(2).ص-

ص: 229


1- كتاب ولد طفل،د.لارس هامبرغر،ص 66.و انظر كتاب علم الأجنة الإنساني،ص 196.
2- نتوقف هنا عند النصوص الشرعية الثلاثة،لكي نستنبط أبعاد دلالاتها وفق القواعد اللغوية.و النصوص-

ص: 230

ص: 231

ص: 232

غيض النطفة في الرحم يرافقه انتشار واسع(للخلايا الآكلة SYNCYTIOTROPHOBLAST )(للكتلة الخارجية THROPHOBLAST )في ظاهر بطانة الرحم،مما يساعدها على الاستقرار فيه:فهي من جهة محاطة من كل الجهات بجدار الرحم،و من جهة أخرى تداخلت خلاياها بالأوعية الدموية التابعة لهذا الرحم.لذلك كانت مرحلة الغيض مرحلة استقرار للنطفة.و قد أشير إلى هذا الاستقرار في الحديث الشريف:«إن النطفة إذا استقرت في الرّحم أحضرها اللّه تعالى كل نسب بينها و بين آدم»[أخرجه الطبراني ح 63].(انظر الصورة رقم:62).

خلال هذه المرحلة تتميز مجموعة(الكتلة الداخلية INNER CELL MASS )إلى طبقتين:(طبقة خلايا داخلية،و طبقة خلايا خارجية HYPOBLAST EPIBLAST ).

كما أن الأرومة الغازية تتصل في هذه الفترة بأوعية بطانة الرحم.

أما عن معنى الازدياد الوارد في الآية اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ... [الرعد:8]،و الذي يأتي بعد مرحلة الغيض،فهو الزيادة الواضحة في حجم النطفة بعد أن تغيض في بطانة الرحم،و الزيادة في حجم و وزن الجنين بعد ما تتحول النطفة إلى أنبوب عصبي(فعلقة،فمضغة...إلخ)كما سنرى في النصوص التي ستأتي في المباحث اللاحقة.

و حديث«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم»[أخرجه الطبراني ح 63]يتكلم عن النطفة المخصبة،لأن النطفة غير المخصبة لا سبيل لها أن تتخلق(حيث إن عدد أعضائها غير مكتمل لعدم تخصيبها من قبلف.

ص: 233

> CS <

الحيوان المنوي)،و لا أن تستقر في الرّحم(حيث أن الاستقرار يتطلب تخلّق كتلة مخلاوية آكلة تمكّن النطفة من التعلّق بظاهر بطانة الرحم)،و لا أن يحضر اللّه لها نسبها(كما سنراه في طور«الذنب»).

فإذا قارنّا بين الحديثين:الحديث السابق رقم 63،و الحديث«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثمّ أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم»[أخرجه الطبراني ح 21]استنتجنا أن الحديث الثاني يتحدث هو أيضا عن النطفة المخصبة،

ص: 234

و ذلك أن كلا الحديثين يتكلم عن نفس العملية-عملية الإحضار-و قد ورد في الحديث الأول لفظ النطفة.

كذلك فإن الحديث الثاني تدور وقائعه في مرحلة الاستقرار؛و ذلك أن كلاّ من الحديثين يتكلم عن نفس العملية-عملية الإحضار-و قد جاء ذكر الاستقرار في الحديث الأول.

و جمعا بين التفاسير السابقة نفهم أن وقائع كل من الحديثين:رقم 63،و رقم 21،تدور حول استقرار النطفة المخصبة في الرّحم.

و استقرار النطفة المخصبة يحدث عند-أو قبل بقليل من-عملية الإحضار وفقا للحديث الأول«إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه...»لأن معنى الحديث هو كالتالي:عند ما يحين استقرار النطفة يحضرها اللّه...،و عملية جمع الجنين أيضا تحدث مباشرة قبل عملية الإحضار حسبما جاء في الحديث الثاني«فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثمّ أحضر له كل عرق»،و بالتالي فإن عملية الاستقرار تحصل في نفس الفترة الزمنية التي تحصل فيها عملية الجمع(و سوف نتحدث عن عملية الجمع في مبحث«جمع خلايا الجنين»).و بما أن عملية الجمع تبدأ بعد اليوم السابع فهذا يعني أن عملية الاستقرار تبدأ هي أيضا في حوالي اليوم السابع من خلال غيض النطفة في الرّحم حسب المعطيات الشرعية،و كما أقره العلم تماما.

و إنه لمن الإعجاز حقا أن يبيّن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بدقة وقت استقرار النطفة في الرحم (1)!نظرا إلى المدة الطويلة التي يستغرقها الحمل(تسعة أشهر)،و نظرا لكثرةض.

ص: 235


1- و الحديث رقم 63 ضعيف جدّا(راجع«قسم تخريج الأحاديث وصلتها بالإعجاز العلمي»)،فلا يجب نسبته للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم(راجع مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»)،و إن أوردناه هنا فذلك بغية التفسير لأنه واضح الدلالة،و يستعاض عنه بالحديث رقم 33.فلفظ الاستقرار وارد فيه،و معنى التخلّق(أي التركيب)(الذي يستوجب معنى الإحضار)كذلك،و هو«النطفة إذا استقرّت في الرّحم جاءها ملك،فأخذها بكفّه فقال:أي ربّ:مخلّقة أم غير مخلّقة؟،فإن قيل:غير مخلّقة،لم تكن نسمة،و قذفتها الأرحام دما»[أخرجه ابن أبي حاتم ح 33].و قد نحتاج أحيانا للاستئناس بالأحاديث الضعيفة جدا لتفسير أحاديث أخرى،و لبيان بعض أبعادها المتخفية،و لكن ضمن شروط مثل:أن تتعدد الأحاديث حول الموضوع الواحد،و أن نجد بينها أحاديث مقبولة الإسناد تشير إلى نفس المعنى،بحيث تؤلف مجموعة -لا ريب-صحيحة.في هذه الحالة يذكر الحديث الضعيف مع بيان ضعفه(حتى لا ينسب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم)، خصوصا إذا تناول حقائق علمية غيبية في غاية الدقة غير مألوفة لدى العلماء إبان التنزيل و قبله،و لا مجال لإدراكها من قبل العلماء إلا بوسائل ذات تقنية عالية.و هذا الكلام يطبّق على كل الأحاديث الضعيفة جدّا التي أوردناها في هذا البحث و التي تنضبط بهذه الشروط.و قد أشرنا في«قسم تخريج الأحاديث وصلتها بالإعجاز العلمي»إلى الأحاديث التي لها نفس المعاني حتى يتسنّى للقارئ أن يقابل بعضها ببعض.

الأحداث المختلفة التي تتلاحق في هذه الفترة.و إنه لمن المدهش أن يشير إلى أنه ابتداء من هذا التاريخ تحدث عمليتان في نفس الوقت:«استقرار النطفة»،و«جمع الجنين»!و هذا يدلّ على أن علمه محيط بكل جوانب و تفاصيل الأحداث التي تحصل للنطفة سواء أ كانت تفاصيل خارجية(كاستقرار النطفة)،أو داخلية(كجمع الجنين)، و أنه يعلم تماما التاريخ الذي تحصل فيه هذه الأحداث،و هذا لا يكون إلا بمدد من الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة من علم في السموات أو في الأرض تأكيدا لما جاء في الآية: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس:61].

ص: 236

ملخص المعلومات عن النطف

اشارة

بعد أن اطلعنا على معظم الآيات و الأحاديث التي تتكلم عن النطف،لا بد من مراجعة مجمل المعلومات التي وردت في هذا المضمار لكي نتيقّن أنه من المستحيل أن يتكلم القرآن الكريم و الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن هذه الكمية من المعلومات الدقيقة بطريق الصدقة،و لا يمكن إلا أن تكون وحيا من الذي خلق الإنسان،و أنار رحلة الإنجاب.

إن مجموع الصفات و المعلومات التي نصت عليها الآيات الكريمة،و الأحاديث الشريفة هي:

بخصوص البويضة:

1-تخلق النطف في مرحلة مبكرة جدا.

2-اختزان البويضة في مستودع.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«مستودع النطف»).

3-صغر حجم البويضة كالقطرة من الماء الذاتية.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

4-تدفق ماء البويضة و قوة الدفع الذاتية لها.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء»).

5-انتزاع البويضة من الجريب و إخراجها منه في رفق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

6-المظهر الرقيق و قلة الكثافة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

7-اللون الأصفر.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).

8-الإخصاب.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«نطفة الأمشاج»).

9-السير السريع أو الدفق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

10-الخروج من الزحام.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

11-البويضة أكبر من الحيوان المنوي.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»).

ص: 237

12-احتواء البويضة على صبغيات.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).

13-تقدير النطفة لبنية الإنسان.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).

و بخصوص الحيوان المنوي:

1-تخلق النطف في مرحلة مبكرة جدا.

2-اختزان الحيوان المنوي في مستودع.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «مستودع النطف»).

4-تدفق المني و قوة الدفع الذاتية للحيوان المنوي.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).

5-انتزاع الحيوان المنوي من المني،و إخراجه منه في رفق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

6-شدة كثافة الحيوان المنوي.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

7-اللون الأبيض للمني(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).

8-مظهر و وظيفة السمكة الطويلة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «النطفة»).

9-الخروج من زحام و كثرة عدد الحيوانات المنوية.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

10-عبور مضيق الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

11-السير السريع.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).

12-وظيفة التلقيح.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«نطفة الأمشاج»).

13-احتواء الحيوان المنوي على صبغيات.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«اختلاط عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).

14-تقدير النطفة لبنية الإنسان.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).

ص: 238

15-الحيوان المنوي أصغر من البويضة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»).

16-سبب إذكار و إيناث الجنين.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).

و بخصوص البويضة الملقحة:

1-خلق البويضة الملقحة من النطفة الأنثوية و الذكرية.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«نطفة الأمشاج»).

2-تلقيح البويضة خارج مكان الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «مكان مستودع النطف و موقع الإخصاب»).

3-اضطراب صبغيات النطفة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اضطراب عروق النطفة»).

4-تداخل صبغيات البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»).

5-إحضار الشبه و النسب من البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«اضطراب عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).

6-انفلاق البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»و مبحث«جمع خلايا الجنين»).

7-خاصية الانسياب.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«اختلاط عروق النطفة»).

8-خروج البويضة الملقحة من مضيق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «النطفة»).

9-وقوع البويضة الملقحة في الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «وقوع النطفة في الرحم»).

10-استضافة البويضة الملقحة،و حماية نموّها.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«القرار المكين»).

11-انغراس البويضة الملقحة في الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «الحرث»).

ص: 239

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.