مصدر الفهرسة: KaPLI ara IQ-KaPLI rda
رقم التصنيف: 2017 BP22.2.I2 M308
المؤلف الشخصي: الماجدي، شاكر هولة.
العنوان: صورة الإمام علي عليه السلام) في كتاب السيرة النبوية لابن هشام/
بيان المسؤولية : تأليف شاكر هولة الماجدي، تقديم السيد نبيل قدوري الحسني.
بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.
بيانات النشر كربلاء، العراق، العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة. 1438 - 2017 م
الوصف المادي: 552 صفحة:
سلسلة النشر: سلسلة الرسائل الجامعية - العراق/ وحدة الدراسات القرآنية.
تبصرة عامة: أصل الكتاب رسالة جامعية لنيل شهادة الماجستير.
تبصرة ببليوغرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر: الصفحات ( 521 - 546 ).
موضوع شخصي: محمد (صلى الله عليه وآله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة- 11 للهجرة.
موضوع شخصي: ابن هشام، عبد الملك، توفي 218 للهجرة، السيرة النبوية - النقد والتفسير
موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سيرة.
موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حروب.
موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - فضائل.
مصطلح موضوعي: الإسلام - تاريخ - عصر صدر الإسلام.
مصطلح موضوعي: الخلفاء.
مصطلح موضوعي: الصحابة والتابعون.
مصطلح موضوعي: السيرة النبوية.
مصطلح موضوعي: أحاديث - رواية
مدخل اضافي اسم شخص: السيد نبيل قدوري الحسني مقدم.
مدخل إضافي اسم شخص: ابن هشام، عبد الملك، توفي 218 للهجرة، السيرة النبوية.
عنوان إضافي: السيرة النبوية.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة
ص: 1
ص: 2
صورة الإمام علي عليه السلام)
في كتاب السيرة النبوية لابن هشام
تأليف : شاكر هولة الماجدي
جميع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولى
م2017 ه- --1439
العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة
- مجاور مقام علي الكبر(عليه السلام)
موؤسسة علوم نهج البلاغة
هاتف: 7728243600
0781501633
الموقع ا الكتروني: www.inahj.org
ايميل: Inahj.org@gmail.com
تنويه: إن الأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عنوجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة
ص: 4
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »
«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)»«وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ »
المائدة: 55-56
صدق الله العلي العظيم
ص: 5
ص: 6
-إلى سييد المتكلمين وإمام الزاهدين سييدي ومولاي أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)
- إلى أرواح الذيين ضحيوا من أجل الدين والوطن واضعین نصب أعينهيم ألم
العراق وجراحه، متسلقین أعواد المشانق، هاتفین بشيجاعة وبسالة قيل نظيرها :كل للظلم والطغيان فكانوا بحق مصداق للآية الكريمة«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »(1)مستلهمین من مقولة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء: هيهات منا الذلة. مسطرين بذليك أروع معياني الإباء ورفض الظلم والذل.
شهداء العراق الأماجد الذين وقفوا بوجه أعتى طاغوت عرفته البشرية
حكم العراق بالحديد والنار في حقبة سوداء مظلمة وعلى رأسهم سيدهم مولاي أبو جعفر محمد باقر الصدر ذلك الطود الشامخ الذي غرس في نفوس المؤمنین حب الشهادة وعلمهم معناها الحقیقي وأخته العلوية بنت الدى(آمنية الصدر) اللذان وقفا في حضرة الطاغوت رافضينِ كل تهدييد ووعيد مردديِنِ كد كيدك واسعَ سعيك، فو الله لن تمحو ذكرنا. فسلام عليهيم يوم ولدا ويوم استشيهدا ويوم يبعثا حيیّن.
- إلى روح والديّ العزيزيين اللذيين ربياني صغيراً، فدعائي لهما بالرحمة والمغفرة والرضوان.
- إلى زوجتي العزيزة التي وقفت معي مساندة ومشجعة طيلة فترة إعداد هذه
الدراسية . .. إلى أولادي جميعاً داعياً ربي ليم بالحفظ والرعاية.
ص: 7
ص: 8
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين
أما بعد: فلم يزل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى:« مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (1) ، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى: « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ »(2)، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيها، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.
من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات الجامعية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه
ص: 9
السلام) و فكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب (سلسلة الرسائل الجامعية) التي يتم عبرها طباعة هذه الرسائل وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه، بغية إيصال هذه العلوم الأكاديمية الى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبيين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) و السير على هدیه و تقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.
وما هذه الدراسة الجامعية التي بين أيدينا لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الإسلامي إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك السيرة العلوية في الإثراء المعرفي والتأصيل العلمي وما هذه الدراسة إلا إحدى تلك الثمار فقد تناول الباحث فيها صورة أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب السيرة النبوية لابن هشام مبيناً فيها شخصية الإمام (عليه السلام) في مراحل حياته منذ ولادته في بطن مكة مروراً بحياته وجهاده مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده إلى حين استشهاده (عليه السلام) في محراب صلاته .
السيد نبيل قدوري الحسني
رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 10
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وأشرف خلق الله أجمعين أبي القاسم محمد رسول ربِّ العالمين وعلى آله الأطهار المنتجبين الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً...
إنَّ شخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الشخصيات الكبيرة والعظيمة في التاريخ، منها نستلهم الدروس والعبر، فهو معنا في كل حين وإن بعدت الشقة الزمنية بيننا وبينه...
فهو الحاضر في قلوبنا والحي في ضمائرنا وهو صوت الحق والعدالة الصادح في كل ساحات العزة والمجد والكرامة ولا يمكن لأيِّ حرٍ شریف مسح صورته الماثلة دائماً وأبداً مناديه في كل وقت لا للذل والهوان.
والملاحظ أن بطولاته وكراماته ومناقبه لم تقتصر على ساحات القتال فقط، بل كان في كل مجالات الحياة معلماً وهادياً ومرشداً وناصراً للمظلومين و مدافعاً دائماً قولاً وفعلاً عن الحق فهو مع الحق والحق معه وهو عنوان لمن أراد حياة كريمة يسودها العدل وتغمرها كرامة الإنسان.
ويستحيل على أي مؤرخ أو كاتب مهما بلغ من الفطنة والعبقرية أن يأتيك حتى بألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام کالحقبة التي عاشها، فالذي فكره وتأمله وقاله وعمله ذلك
ص: 11
العملاق بينه وبين نفسه وربه شيء لم تسمعه أذن ولم تبصره عين وهو أكثر بكثير مما عمله بيده أو أذاعه بلسانه. وإذ ذاك فكل صورة نرسمهاله هي صورة ناقصة لا محال(1).
وقد يتبادر إلى ذهن المتلقي عند ملاحظة عنوان هذه الدراسة أن الكلام فيها يدور حول شخصية الإمام علي (عليه السلام) إلا أن الأمر فيها يختلف كثيراً حيث إن محور بحثنا هو الكيفية التي تم بها تصوير الإمام علي بن أبي طالب من قبل ابن هشام في السيرة النبوية وهل أن ابن هشام نقل لنا حقائق صورة الإمام علي، فلذلك عمدنا إلى اختيار عنوان هذه الدراسة موسومٍ بصورة الإمام علي (عليه السلام) في كتاب السيرة النبوية لابن هشام المتوفي (218 ه).
منطلقين من فكرة أن المؤرخ کالمصور يحاول جهد إمكانه وقدر طاقته وعلمه وصف الشيء الذي يريد أن يحكيه وصفاً صادقاً مستمداً من المنابع والموارد الأساسية، وأن يبذل أقصى ما لديه من جهد للوصول إلى كنه الحادث الذي يبحث فيه(2).
شخصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ودوره البارز في أحداث السيرة النبوية بوصفه رجلها الأول بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد شارك في العديد من مفاصل الدعوة الإسلامية و احداث السيرة النبوية والتي كان لمشاركته بصمتها الواضحة فيها.
المكانة البارزة لكتاب السيرة النبوية لابن هشام بين كتب السيرة
ص: 12
والمغازي حيث يعد الكتاب الأول الذي يحمل أخبار السيرة وتفاصيلها على الرغم مما حصل بها من تهذیب، وإن أهمية هذا الكتاب جعلت الباحثين لا يستغنون عنه أو يتجاوزونه في عمليات البحث والدراسة، فلذلك لا بدَّ لنا من تسليط الضوء عليه، وكيف نقل صورة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهل أتصف صاحب السيرة ابن إسحاق و مهذبها ابن هشام تلك الشخصية وأبرزها إلى الأمة كقائد بذل كل ما يملك في سبيل الإسلام والمسلمين !؟
لذلك لا بدَّ من مناقشة ذلك الأمر بصورة جدية وواضحة لغرض بيان المؤثرات المذهبية والسياسية والفكرية ودورها في التأثير على ابن هشام في بيان صورة الإمام علي بن أبي طالب.
فالملاحظ أن كثيراً من الرواة والمؤرخين قام بحجب الصورة الحقيقية عن المتلقي بالقطع تارة و بالتشويش أو بقلب الحقائق تارةً أخرى، فتكوّنت هناك ضبابية كبيرة لا يستطيع الإنسان أن يتلمس المعالم الحقيقية لتلك الصورة.
فدورنا في هذه الدراسة هو بيان ذلك ورفع اللبس وما أراد المؤرخون وأصحاب السيرة من نقل أشياء غير حقيقية إلى الأمة لتنفيذ رغبات و میول سياسية أو مذهبية أو فكرية حسب المنطلقات التي ينطلق منها الراوي أو كاتب السيرة.
الفصل الأول وكان عنوانه (السيرة النبوية بين التطور والتهذيب) واحتوى هذا الفصل على ثلاثة مباحث، كان المبحث الأول يحمل عنوان مصادر السيرة النبوية حيث تم بيان المصادر الرئيسية للسيرة النبوية منها القرآن الكريم والسّنة النبوية المطهرة إضافة إلى مدونات الصحابة، وكان التركيز على قسم منهم حسب ما يتسع له
ص: 13
مجال البحث، وبيّنا بعد ذلك دور التابعين وتابعيهم في رفد السيرة النبوية بالروايات التاريخية، وقد تم إيضاح المؤثرات التي وقعت على الراوي منها الفكرية والسياسية والمذهبية ومدى تأثيرها في نقل الحقيقة، أما المبحث الثاني فكان مختصاً بیان صاحب السيرة الأساسي محمد بن إسحاق حيث التعرف على سيرة حياته والمؤثرات السياسية التي وقع تحتها في أثناء تدوينه للسيرة وإخراجها بشكل كتاب وفق منهجية واضحة المعالم .
أما المبحث الثالث فقط اختص بدراسة مهذب سيرة ابن إسحاق وهو ابن هشام وما هي الأسباب التي دعته إلى تهذيب السيرة النبوية.
وفي الفصل الثاني الذي كان تحت عنوان (الإمام علي (عليه السلام) من الولادة حتى الهجرة) حيث قسم على مبحثين تناولنا في الأول دراسة نسب الإمام علي (عليه السلام) ومآثر آبائه وكما ورد في السيرة النبوية لابن هشام، وفي الثاني درسنا ولادته المباركة وإسلامه ثم حدیث الدار ومبيته في فراش النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) .
وكان الفصل الثالث بعنوان (الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الهجرة حتى فتح مكة) حيث قسم هذا الفصل على ثلاثة مباحث كان المبحث الأول بعنوان هجرة الإمام علي وما تلاها من أحداث مثل المؤاخاة وزواجه من الزهراء (عليها السلام) ثم نكنيته بأبي تراب، أما المبحث الثاني فقد تناول فيه الباحث نقل صورة الإمام علي في معركتي بدر وأُحد، أما المبحث الثالث فقد تم التطرق فيه إلى الصورة الجهادية للإمام علي بن أبي طالب في المعارك التالية لأُحد مثل الخندق وغزوة بني قريظة وغزوة بني المصطلق، وقد تم التطرق إلى حادثة الإفك ثم غزوة خيبر.
وكان الفصل الرابع بعنوان (الإمام علي (عليه السلام) من الفتح حتى وفاة
ص: 14
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قسم على ثلاثة مباحث، ففي المبحث الأول تمت دراسة الإمام علي في فتح مكة، والمبحث الثاني سلط الضوء على الإمام علي (عليه السلام) بعد فتح مكة، أما المبحث الثالث الذي حمل عنوان الإمام علي في مرض الرسول وبعد وفاته حيث تم التطرق من خلال ذلك إلى ما حدث في سقيفة بني ساعدة حيث غيرت مجری تاريخ الإسلام يذهاب الخلافة إلى أبي بكر بن أبي قحافة.
وختمنا دراستنا بعرض سريع لأهم النتائج التي تم التوصل إليها من خلال البحث، وفي النهاية تم تثبيت قائمة المصادر والمراجع التي اعتمدنا عليها ومن أهمها:
لما لهذا الكتاب من قدسية حيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من الله تبارك وتعالى فيه قول الحق والصدق لذلك تم اعتماده أولاً لما في آبائه الكريمة من دلالة واضحة على إغناء موضوع دراستنا بالأدلة القطعية والمتفق عليها من الفريقين بحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهناك آيات كثيرة صدع بها القرآن يحكي مناقب علي بن أبي طالب وإن اختلف في تفسير و تأويل بعضها إلا أن الاتفاق على تأويل الكثير من حيث النزول والدلالة بحق علي بن أبي طالب وهذا ما سنلاحظه من خلال بحثناء.
أسهمت هذه المصادر إسهامة جادة وفاعلة في نقل الصورة الحقيقية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) على الرغم من محاولات البعض تشویشها إلا أن القسم الأكبر منها أجاد في نقل الحقائق وكثير من الآيات القرآنية الكريمة كانت نازلة بحق على
ص: 15
بن أبي طالب أو كان نزولها بمناسبة كان الإمام علي (عليه السلام) هو صاحبها مبينة فضله ومكانته، ومن هذه المصادر کتاب تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تأويل القرآن، لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 - 922م) وکتاب (تفسير القمي) لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمي (ت 329ه - 940م) وكتاب (تفسیر فرات الكوفي) الفرات بن إبراهيم الكوفي (ت:352ه - 963م) وکتاب (معالم التنزيل في تفسير القرآن) لأبي الحسين بن مسعود البغوي (ت 10 ده -1116م) وكتاب (التفسير الكبير) لمحمد بن عمر الرازي (ت 606ه - 1209م)، وكتاب (الجامع لأحكام القرآن) لمحمد بن أحمد القرطبي (ت 671 ه - 1272م) وغيرها من التفاسير الهامة في هذا المجال.
أما كتب الحديث و الصحاح التي حملت بين طياتها وفي ثناياها الكثير من الشواهد التي تبين مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و تؤكد من خلال ما ورد فيها من أحادیث و روایات الفضل والمنزلة الرفيعة لعلي (عليه السلام) منها كتاب (المسند) لأحمد بن حنبل (ت: 240ه -869م)، وكتاب (صحيح البخاري) المحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256ه-869م)، وكتاب (صحیح مسلم) لمسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261ه - 874م) وکتاب (سنن الترمذي) لأبي عیسی محمد ابن عيسى الترمذي (ت 279 هے - 892م)، وكتاب (السنن الكبرى) لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 - 915م) و کتاب (أصول الكافي) لمحمد بن يعقوب الكليني (ت 329ه -940 م)، وكتاب (المستدرك على الصحيحين) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله، الحاكم النيسابوري (ت 405ه- 1114م).
ص: 16
نظراً لأهمية تلك المصادر فقد أغنت دراستنا بمعلومات قيمة فكان في مقدمتها کتاب (السير والمغازي)، لمحمد بن إسحاق (ت 151ه-768م)، وكتاب (السيرة النبوية)، لابن هشام محمد بن عبد الملك بن أيوب (ت 218ه- 833م)، وكتاب
عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) لابن سيد الناس أبي الفتح محمد بن محمد (ت 4 73ه- 1333 م).
أما كتب المغازي فکتاب (المغازي) لمحمد بن عمر بن واقد، الواقدي (ت 207ه - 822م).
أما كتب الطبقات التي اعتمدت عليها الدراسة كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد محمد بن منيع (ت 230ه - 844م).
أما كتب التراجم التي زودت دراستنا بمعلومات قيمة وذات أهمية كبيرة لتراجم العديد من الشخصيات منها كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البر عمر يوسف بن عبد الله (ت 463 ه -1070م)، وكتاب (أسد الغابة في معرفة الصحابة) لابن الأثير عز الدين أبي الحسن علي بن محمد (ت 630ه - 1232م) وكتاب (سير أعلام النبلاء) لشمس الدين محمد بن أحمد للذهبي (ت 748ه - 1374م)، وكتاب (تهذيب الكمال) لجمال الدين يوسف المزي (ت 742ه - 1341م).
من المصادر المهمة والأساسية التي استقيت منها معلومات هامة في هذه الدراسة كتاب (أنساب الأشراف) و (جل أنساب الأشراف) لأحمد بن يحيى بن
ص: 17
جابر البلاذري (ت 279 ه-892م)، وكتاب (تاريخ اليعقوبي) لأحمد بن إسحاق بن جعفر اليعقوبي (ت 292ه - 895م)، وكتاب (تاريخ الأمم والملوك) للطبري، وكتاب (الإرشاد) لأبي عبد الله محمد بن النعمان المفيد (ت 413ه - 1032م)، وكتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، وكتاب (البداية والنهاية) لابن کثیر عماد الدين أبي الفداء إسماعيل (ت 774ه- 1372م).
الكتب الأدب مكانة هامة في جميع مفاصل البحث لما تتضمنه من معلومات مهمة وقيمة منها كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي أحمد بن محمد (ت 328ه - 939م)، وكتاب (معجم الأدباء) لشهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي (ت626ه - 1239م)، وكتاب (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد عبد الحميد بن هبة الله المعتزلي (ت 656ه - 1208م).
تعد كتب اللغة من المصادر الهامة جداً بالنسبة للباحث حيث يمكن من خلالها التعرف على المصطلحات والمفردات اللغوية التي تواجه الباحث عند دراسته منها كتاب (العين)، للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه-791م)، وكتاب (لسان العرب لابن منظور جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711ه -1311م)، و کتاب( القاموس المحیط) لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817ه - 1414م).
من المصادر المهمة التي لا يمكن للباحث في التاريخ الاستغناء عنها كتاب (معجم
ص: 18
ما استعجم) لعبد الله بن عبد العزيز البكري الاندلسي (ت 487 ه - 1094م)، وكتاب (معجم البلدان) الياقوت الحموي.
لا يمكن تجاهل الدور الكبير للدراسات والمراجع الحديثة حيث معلوماتها القيمة منها كتاب (المغازي الأولى ومؤلفوها) یوسف هوروفنتس، وكتاب (نشأة التدوين التاريخي عند العرب) لحسين نصار، وكتاب (تطور كتابة السيرة النبوية عند المؤرخين المسلمين) لعمار عبودي، وكتاب (نقد الرواية التاريخية) لعبد الجبار ناجي، وكتاب (السقيفة) لمحمد رضا المظفر، وكتاب (نشأة علم التاريخ عند العرب) لعبد العزيز الدوري، وكتاب (التاريخ العربي والمؤرخون) لشاكر مصطفی، وغيرها من الدراسات الحديثة والبحوث التي سوف نذكرها بشكل مفصل في قائمة المصادر .
وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت ما استطعت في إخراج الحقيقة التي غُيّبَت ولو بالشيء المتيسر وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الباحث
ص: 19
ص: 20
ص: 21
ص: 22
لا غنى للباحثين عن دراسة السيرة النبوية؛ لأنها تمثل نقطة التحول في حياة الأمة على المستوى الفكري والاجتماعي والديني؛ لأن حياة الرسول مليئة بالعظاة والمواقف التي لابد للإنسان أن يستفيد منها والنهل من علومها حيث يعتبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأسوة والقدوة لكل إنسان وقد قال تعالى :«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ »(1).
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يصف الرسول الكريم (صلى الله عليه و آله) في خطبته ((فهو إمام من اتفی و بصيرة من اهتدی، سراج لمع ضوؤه، و شهاب سطع نوره، وزندٌ برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، و حكمه العدل، أرسله على حين فترة من الرسل، وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم))(2).
وفي كلام آخر للإمام (عليه السلام) ((فتاس بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله) فإن فيه أسوة لمن تأسی، وعزاء لمن تعزى، أحب عباد الله المتأسي بنبيه و المقتفي الأثره، فضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً وأخمصهم من الدنيا بطناً، عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، و تعظیماً ما صغر الله ورسوله لكفى به شفاقاً لله ومحاداً عن أمر الله))(3).
ص: 23
هذه النصوص وغيرها سواء أكانت من كتاب الله أم من خطب الإمام علي (عليه السلام) أو من أقوال الصالحين من العباد ترشدنا إلى دراسة السيرة النبوية، فليس الغرض من دراسة السيرة الوقوف على الأحداث والوقائع التاريخية إنما الغرض الأساسي أن يرى المسلم المفاهيم الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته من خلال أقواله و تقاريره وممارساته اليومية لحياته الخاصة(1)، فلهذا لابدَّ أن تكون هناك مصادر يمكن لكائب السيرة أن ينهل منها عطاء هذهِ السيرة وخير ما يمكن الاعتماد عليه في ذلك كتاب الله ليكون هو المصدر الأول الذي يمكن الاعتماد عليه في كتابة السيرة النبوية .
هو كتاب الله المُنزَّل على رسوله الكريم (صلى الله عليه و آله و سلم) عن طريق الوحي لفظاً ومعنى بلسان عربي ونقل إلينا نقلاً متواتراً، حيث يحوي على مئة وأربع وعشرة سورة مكية ومدنية احتواها ثلاثون جزءاً(2).
ومن المعلوم أن القرآن هو المصدر الأول لفهم الملامح العامة لحياة الرسول الكريم (صلى الله عليه و آله وسلم) وأن أهم ما في سيرته (صلى الله عليه و آله و سلم) وأوثقها وأكثرها صحة هو ما اقتبس من القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزیز حميد، إلا أن معرفة تفسير الآيات القرآنية ومواضع نزولها والحوادث التي تشير إليها استدعی بروز مفسرين أسهموا إسهاماً فعالاً في
ص: 24
فهم النص القرآني ومن ثم اعتبروا عاملاً مهماً من العوامل التي دفعت إلى عملية كتابة السيرة التي تعتمد على القرآن كمصدر أساسي لها(1).
وعليه فالقرآن مصدر أساسي نستمد منه ملامح السيرة النبوية، فقد جاء في ثنايا القرآن الكريم الكثير من الآيات القرآنية التي تعرضت لحياة الرسول (صلی الله عليه و آله و سلم) قبل البعثة وبعدها من ولادته ونشأته إلى حين التحاقه بالرفيق الأعلى(2) حيث يتضمن ذلك الإشارات الواضحة للبعثة النبوية المباركة وما لقيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أذى من قريش وعنت في سبيل دعوته وكانت هناك آیات قرآنية تتحدث عن سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في طفولته المباركة ومنها على سبيل المثال «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى »(3) بيان حالة اليتم للنبي الأكرم، وكما هو معروف فقده لأبويه وبعد ذلك جده عبد المطلب إلى أن ضمه أبو طالب عمه(4) فكان خير كافل له، وفي آية أخرى في نفس السياق «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى »(5)، يذكر أصحاب التفاسير أن لهذه الآية وجوهاً عدة منها على سبيل المثال: وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه، بأن نصب إليك الأدلة وأرشدك إليها حتى عرفه الحق وذلك من نعم الله(6) ، ومنها هدى
ص: 25
قوماً لا يعرفونك حتى عرفوك(1)، ومنها بأنك ضال عما أنت عليه فهداك للتوحيد وللنبوة وقد تعبر الضلالة في هذه الآية عن معالم النبوة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها(2).
وفي رأي آخر وجد قومك في ضلالة فهداك إلى إرشادهم ، ورأي آخر وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها، أو وجدك طالباً إلى الهجرة فهداك إليها، ورأي آخر أيضاً ضالاً في شعاب مكة فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب، وذكرت الرواية عن ابن عباس ((ضل النبي صلى الله عليه و آله وسلم وهو صغير في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفاً عن أغنامه فرده إلى جده عبد المطلب، فمَنَّ الله عليه بذلك حيث رده إلى جده على يدي عدوه))(3)
وغيرها من الآيات القرآنية الكريمة التي تبين حياة الرسول الأكرم في مرحلة الصبا والشباب وهي حياة مليئة بالعظاة والعبر، فقد بينها الله في كتابه المجيد لتكون منهجاً وعبرة للناس ونحن نورد الآيات وتفاسيرها أعلاه فقط لمحمل الشاهد وليس لبيان تفسيرها لأن هناك اختلافاً كبيراً في ذلك من قبل المفسرين في تفسير كل آبة، إضافة إلى أن المشرکین نعتوا الرسول بالسحر والجنون وغيرها للصد عن دین الله تعالى، إضافة إلى أن القرآن تطرّق للهجرة المباركة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان ما لاقي قبل الهجرة وفي أثناء هجرته المباركة حيث تطرّق إلى
ص: 26
مؤامرة قتل الرسول من قبل قریش «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ »(1).
وكذلك تطرّق إلى أهم المعارك الحربية التي خاضها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هجرته المباركة فتكلم عن معركة بدر وأشار إلى النصر في تلك المعركة: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »(2)، وكذلك عن معركة أحد حيث نزلت في ذلك ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومهم ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم، فقال تعالى «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(3).(4)
وكذلك ما نزل من القرآن في حوادث عديدة مثل معركة الخندق و صلح الحديبية وفتح مكة وحنين وتحدث عن معاجز الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) کالأسراء والمعراج (5).
كذلك حدثنا القرآن عن حياة النبي الخاصة في كثير من المواطن وكيف بعيش حالة التقشف والزهد مع إقبال الدنيا عليه حتى أن أزواجه طالبنه بمزيد من النفقة وخرجن إليه جهرة وكنَّ يومنذ تسع نسوة فنزل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا
ص: 27
جَمِيلًا »«وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا »(1) وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي تدخل في تفاصيل سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله وسلم).
وبشكل عام ففي القرآن هيكل السيرة كاملاً وأساسياتها، وعدد غير قليل من التفصيلات والأحداث الجزئية وإن كانت تخلو من الأرقام والأعلام)(2).
وقد ذكر أحد الباحثين (3) الذي وضع مصنفاً للسيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة المطهرة ((أن من نافلة القول أن نقول: إن المرجع الأول في دراسة السيرة النبوية هو القرآن الكريم ؛ لأنه القرآن المتواتر الذي يفيد القطع واليقين، ولا یتطرق إلى الشك والارتياب، فهو أوثق المصادر وأولاها بالقبول))؛ ولأن القرآن الكريم عن الخالق جل وعلا، كان خير مصور لشخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس هناك أصدق ولا أوفي بالكلام منه، وتأتي أهمية القرآن الكريم بوصفه المصدر الأول للسيرة النبوية والأوثق ؛ لأنه الكتاب الموصوف «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ »(4)، وقد دونه المسلمون واعتنوا به كثيرة سواء أكان ذلك حفظاً أم تدويناً لأنه دستورهم في دينهم ودنياهم.
ص: 28
المصدر الآخر لمصادر السيرة النبوية هي سنة الرسول بكل ما تحتويه من أقوال وهي الأحاديث الشريفة أو أفعال وتقارير نقلت إلينا من خلال الأحاديث وقد قسمت السنة المطهرة من حيث ماهيتها على ثلاثة أقسام
السنة القولية: ويراد بها أقوال الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) و أقوال الأئمة عليهم السلام من آل البيت وما نطق به هؤلاء من نصائح وإرشادات وخطب ومواعظ في مناسبات معينة وفي أماكن متعددة وهي تعتبر مرادفة للحديث.
السنة الفعلية؛ ويراد بها أفعال الرسول وما فعله الأئمة الأطهار (عليه السلام) كأداء الفرائض، وإصدار الأحكام، وتهيئة الجيوش للجهاد، و تنظيم شؤون الدولة المالية والإدارية و غيرها حيث أصبح ما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ابتداء، وعرفت صفته الشرعية من وجوب وندب وإباحة تشريعاً للأمية فيثبت حکم ما فعله بحق المكلفين.
السنة التقريرية: يراد بها سکوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار عن إنكار قول أو فعل صدر في حضرته، أو في غيابه و علم به، فهذا السكوت يدل على جواز الفعل وإباحته؛ لأن الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) لا يسكت عن باطل أو منكر(1).
هذا توضيح بسيط لمعنى السنة والذي يهمنا هنا إيراد الأحاديث وأهميتها بوصفها الجامع لتلك السنة المطهرة، فإن الأحاديث الرسول الأثر الواضح في تدوين السيرة النبوية المطهرة إذ عني المسلمون بجمع الأحاديث ليفسروا بها القرآن ويستنبطوا منها
ص: 29
أحكام الدين، وكان من هذه الأحاديث جمل وافرة تتعلق بحياة الناس والصحابة فجمعت فيها جمع، وكانت أساس كتب السير والمغازي فيما بعد(1).
إضافة إلى ذلك يمكن الاعتماد على الحديث النبوي في الجوانب الإدارية البناء الدولة الإسلامية كما أشرنا في أعلاه وفي شؤون الحياة الأخرى حيث يعتبر ذلك ضرورة مباشرة وطبيعية لدى أهل العلم، كما أن مغازي الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) وغزوات أصحابه کانت مصدر اهتمام واعتزاز لدى المسلمين ؛ لأنها تحمل إليهم روح الجهاد والكفاح في سبيل إعلاء كلمة الإسلام لتصبح هي العليا والقضاء على الشرك والكفر حينما كان، كل ذلك كان من المواضيع المحبة في مجالس السمر، وكانت المشاركة في مغازي الرسول وفعالياته الأخرى عاملاً في رفع المنزلة الاجتماعية وعنصراً في تحديد العطاء في الديوان مما قوى الاهتمام بها، وسرعان ما صار الصحابة أنفسهم قدوة لمن بعدهم في أقوالهم وأعمالهم ، فأصبحت هذه مشمولة بالحديث (2).
وذكر أحد الباحثين (3) عن أهمية الحديث في كتابة السير (لاشكَّ أن مادة السير في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روایات کتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً و متناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث لم تحظ به الكتب التاريخية، ولكن ينبغي التفطن إلى أن كتب الحديث بحكم عدم تخصصها لانورد تفاصيل المغازي وأصحاب السير بل تقتصر
ص: 30
على بعض ذلك، مما ينضوي تحت شرط المؤلف أو وقعت له روايته، ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث، وينبغي اکمال الصورة من كتب السيرة المختصة وإلا فقد يؤدي ذلك إلى لبس كبير)، ولعل الملاحظ أن هناك اختلافاً واضحاً بين أهل الحديث الذين اختصوا بنقل الحديث النبوي وبين غيرهم من رواة الأخبار التاريخية، فإن أهل الحديث ينقلون المتن الواحد بالإسناد الواحد أو المتن الواحد بأسانيد عدّة، أو المتون العديدة بإسناد واحد وهم في كل ذلك يميزون بين الإسناد والإسناد وبين المتن والمتن فلا يدخلون حديث رجل في حديث رجلٍ آخر، ولا يدمجون الألفاظ بعضها ببعض فيمكنهم التحقق من نسبة الكلمة الواحدة إلى قائلها، وعزوا الحرف الواحد إلى صاحب الرواية.
أما المؤرخون وأصحاب الرواية التاريخية فالخبر عندهم هو الأصل، ولذلك عرفوا بالأخباريين، والخبر إما أن يكون بسيطاً كنظيره عند المحدثين أو مركباً من متون عديدة بأسانيد مختلفة وفي هذا الخبر المركب قد يقع الاختلاف بين المنهجين وهم يتوصلون إلى هذا الخبر بجمع شتات الروايات المتعددة المتعلقة بالواقعة المعينة وصهرها في قالب واحد و متن منفرد مكتمل المعالم، ويجمعون مصادرهم وأسانديهم في أول الخبر ثم يدمجون المتون ويخرجونها ويستكملون بألفاظهم أحياناً لما تقتضيه طبيعة الخير التاريخي من الاتصال وترابط الأجزاء، ويسمى بعض المحدثين هذا بالإسناد الجمعي ومن ميزاته التاريخ المتسلسل للحوادث وترتيبها ترتيب زمنياً(1).
ص: 31
إن العمل الذي ولد الرواية التاريخية التي تقوم على الإسناد الجمعي يعدّ خطوة تقدم جريئة في الوصف التاريخي استخدمه المؤرخون في غربلة الرواية التاريخية ووضع خلاصتها في قالب واحد، وإن كان العمل هذا فتحاً للعابثين الذين لا يوثق برواياتهم باباً من أبواب العبث، على أن الحوادث برهنت فيما بعد على أنه مهما اعترض عليها المعترضون في مقدمتهم أصحاب الحديث فإنها خطوة لابد منها، إذ أُثبتت التجارب أنه لا يمكن الاستمرار إلى الأبد في عرض التاريخ بأسلوب أهل الحديث وتجزئة الحادثة التاريخية إلى أجزاء وأشلاء متناثرة بحيث يكون كل جزء من الرواية في مكان أو تكریس عدد كبير من النصوص دون ترتيب أو تنظيم أو مناقشة أو إبداء رأي(1).
وفي نهاية الحديث عن هذا المورد يمكن أن نستنتج أنه يمكن الاستفادة من الحديث کادة أولية أو مصدر أساسي يعتمد عليه في كتابة السيرة النبوية دون الذهاب إلى الطريفة التي يعتمدها أصحاب الحديث، فبذلك تولد لدينا روایات تاريخية متناسقة وحسب السياق الزمني الذي يريده كاتب السيرة عندما كتبت السيرة بشكلها المدون(2).
وهناك مورد آخر صادر عن الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) يمكن إضافته إلى هذا الباب من المصادر وهو المدونات الصادرة من الرسول في إدارة دولة المدينة وهي (الوثائق التبوية)، فقد استفاد العلماء المسلمون من هذه الوثائق وقد اعتمدوها في مصنفاتهم بحسب اختصاصهم واهتماهم لتكون رافداً مهماً إضافة إلى القرآن والحديث التي اعتمدت کمصادر أساسية من مصادر السيرة النبوية؛ وذلك لأنها شملت جوانب عدة من حوادث عصر الرسالة، إذ ضمت هذه الوثائق:
ص: 32
1. المعاهدات الجديدة أو تجديد ما سبق من معاهدات.
2. الدعوة إلى الإسلام.
3. تولية العمال وذكر واجباتهم وكيف ينبغي لهم أن يتصرفوا في أمر من الأمور. ، 4.العطايا من الأراضي والمحلات وغيرها.
5.استثناء بعض الأوامر في حق أُناس معينين.
6.كتب الأمان والتوصية.
7. المتفرقات التي جاءت جواباً عما كتبه النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) (1).
إلا أنه لابدَّ من الإشارة إلى أن هذه الوثائق يجب أن لا تؤخذ جميعها من المسلمات الأكيدة وأن الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) قد أقر بكتابتها، فلابدَّ وأن لعبت بها الأبدي و ظهر معظمها مزيفاً وموضوعاً، وقد أشار لذلك حمید الله ((و نظن بوجه عام أن كتب الأمان التي كتبها النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) للقبائل المسلمة أو الخاضعة له والتي لم تتضمن إلا مطالبتهم بأداء الفرائض الدينية صحيحة؛ لأنه لا يوجد فيها ما عسى أن يكون موضوعاً إذ لا حاجة إلى أحد لوضعها، ولو كانت بعض هذه الكتب وضعت لتكون مفخرة لقبيلة على أخرى، فإنَّ مثل هذا الوضع يترك طابعاً في أسلوبها، ولكن مثل هذه الوثائق لا تحوي إلا على إعطاء الأمان والأمر بإقامة الفرائض.
أما الوثائق التي لا تشمل إلا الحقوق دون الواجبات أو التي تذكر أشياء لم توجد في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتبها للأنصار واليهود والمجوس... وفوق هذا نجد أن الوثائق الطويلة أكثر تتعرض للتحريف، إذ كان المعتمد في الرواية السماع، ولذا نجد أن أطول النصوص أكثرها اختلافاً)(2).
ص: 33
سوف نتطرق من خلال دراستنا لهذه الفقرة إلى الذين دونوا الأحداث التاريخية واعتنوا بها كثيراً سواء أكانوا من الصحابة أم من التابعين ونعرض ماهي إنجازاتهم في مجال كتابة السيرة أو رفدهم إلى من كتب السيرة النبوية بالنصوص التاريخية المدونة أو بالمعلومات، وبذلك شكلوا مصدراً آخر من مصادر السيرة النبوية.
ابن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، وأمه ريطة بنت مينة بن الحجاج بن عامر ابن حذيفة بن سعيد بن سهم، وكنيته أبو محمد، وذكر الواقدي أنه أسلم قبل أبيه(1).
وقد استأذن النبي حسب الرواية المسندة إليه في كتابة ما سمعه منه، قال فأذن لي فكتبته، وكان عبد الله يسمى ما كتبه من أحاديث عن النبي في صحيفة تسمى الصادقة) حيث قال عنها: ((هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله (صلى الله علیه و آله و سلم) وليس بيني وبينه فيها أحد))(2).
حدث عنه أنس بن مالك وأبو أمامة بن سهل، وسعيد بن المسيب (3) وعروة، ومجاهد، وغيرهم كثيرون (4)
وذكر أنه حفظ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف مثل، وأنه كان
ص: 34
بدون ما يقوله رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)(1).
وقد اختلف في قتاله إلى جنب معاوية يوم صفين فمنهم من أيد ذلك(2)، ومنهم من رفضه بالقول عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ((مالي ولصفين مالي ولقتال المسلمين لو وددت لو أتي مبُّ قبلها بعشرين، أو قال بعشر سنين، أما والله على ذلك ما ضربت بسيف ولا رمیت بسهم)(3).
إلا أن هناك ما يؤيد اشتراكه في حرب صفين وذكر أنه كان في جیش معاوية بن أبي سفيان وكان علی الميمنة، وأن مقولته المذكورة أعلاه كانت بعد اشتراكه في الحرب بعد ذلك فقال تلك المقولة، وهذا أقرب إلى الواقع ؛ لأنه كان مع أبيه في فتح الشام ويوم اليرموك وكذلك في صفين وذكر ((قال له أبوه: يا عبد الله، اخرج فقائل. فقال: يا أبتاه، أتأمرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يعهد إلي ما عهد ؟ قال: إني اشهدك الله يا عبد الله، ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أن أخذ بيدك فوضعها في يدي، وقال: ((أطع أباك) قال اللهم بلى، قال: فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل. فخرج فقاتل وتقلد سيفين، وندم بعد ذلك))(4).
ص: 35
وقد ذكر أحد الباحثين(1) حفظ الزمن لمدونة عبد الله بن عمرو فقط ل 436 حدیث وأورد الإمام أحمد بن حنبل نصفها في مسنده، إذ كان المدونة عبد الله بن عمرو دور مهم في رفد کتاب السيرة بروایات هامة عن حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد كان من أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد كانت مدونته إلى الحديث أقرب منها إلى السيرة ولكن محتوياتها من بعض الأحاديث التي وثقت بعض المواقف والأحداث التي حصلت في عصر الرسالة جعلتنا نوردها ضمن مدونات الصحابة للسيرة(2).
وإن أهميتها الكبرى جعلت عبد الله بن عمرو كثير الاعتزاز بها، ففي رواية مجاهد
قال: ((دخلت على عبد الله بن عمر، فتناولت صحيفة تحت رأسه فتمنع عليّ، فقلت: تمنعي شيئاً من كتبك ؟ فقال: هذه الصحيفة الصادقة سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ليس بيني وبينه أحد فإذا سلم لي
كتاب الله وهذه الصحيفة والوهط(3)، لم أبالي ما ضيعت الدنيا))(4).
ص: 36
ابن عبد المطلب، و یکنی أبا العباس، ولد في الشّعب قبل خروج بني هاشم منه، وذلك قبل الهجرة النبوية المباركة بثلاث سنين، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث (1).
كان ابن عباس عالماً بأحاديث الرسول فقال:((دعالي رسول الله، أن يؤتيني الله الحكمة)(2)، وفي حديث آخر قال: ((دعالي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمسح على ناصيتي وقال: اللهم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب))(3)، وقد تیغ ابن عباس في علوم القرآن وتفسيره، وكان يقول إن الرسول دعا له أيضاً: ((وقال: اللهم فقّهُ في الدين وعلمه التأويل))(4)، وقد ذُكر بأنه ترجمان القرآن(5)، وكان من الذين يجتهدون في آرائهم الفقهية عندما لم يجدوا شيئاً عنه في القرآن و حدیث الرسول أو أيّ حديث من الصحابة وهذه ظاهرة تدل على مكنون عِلم صاحبها، وقد ذكر أنه كان يسمى البحر لسعة علمه ومعرفته (6). وقد اهتم ابن عباس اهتماماً كبيراً بتدوين السيرة وذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي رواية
ص: 37
أخرى عن محمد بن عمر قال: ((رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع(1) شيئاً من فضل رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم))(2). وذُكر عن این عباس قوله إنه كان يلزم الأكابر من الصحابة من المهاجرين والأنصار فيسألهم عن مغازي رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) وما نزل من قرآن في ذلك(3).
يتضح مما تقدم أنَّ ابن عباس كان يهتم كثيراً بالعلم وتدوينه وبالذات بذكر أحاديث الرسول وسيرته المباركة ومانزل في ذلك من قرآن، وبذلك برزت مكانته العلمية الكبيرة، فعن ابن عباس قوله: ((وجدت عامة حديث رسول الله عند الأنصار، فإن كنت لأتي الرجل منهم فأجده نائماً ولو أشاء أن يوقظ لي أوقظ، فأجلس على بابه تسفي الريح على وجهي التراب حتى يستيقظ متى استيقظ، فاسله عما أريد ثم أنصرف))(4). وقد كانت لابن عباس اهتمامات كثيرة في تدوين العلم وسؤال الصحابة عن سيرة الرسول وأحاديثه حيث ذكر ((لما توفي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قلت لرجل من الأنصار: هلما نسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثر، فقال واعجباً لك يابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي ما ترى ؟ فتركت ذلك وأقبلت على المسألة فكان ليبلغني
ص: 38
الحديث عن الرجل، فآتیه وهو نائم فأتوسد ردائي على بابه، فتفي علي التراب فيخرج فيراني، فيقول: يابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فأتيك ؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسالك. قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع عليه الناس، فقال: هذا الفتى أعقل مني))(1)، وذكر ابن عباس أهمية العلم فيقول: ((مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة))(2) من خلال ذلك يتضح الاهتمامات الكبيرة لابن عباس في العلم وفي تدوينه حيث كانت لديه مدونات على شكل ألواح كما أوضحنا انتقی منها من بعده المؤرخون، وذكر أن ابن عباس جعل تلك المدونات کتاباً خاصاً أعطاه اسماً معيناً ((وهي في غالب الظن بعض مجالسه التي كان يفسر فيها القرآن ويتعرض لمختلف المعارف العربية دونها أحد تلاميذه أو أبناؤه))(3).
وقد حدّث ابن عباس عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن جملة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووالده العباس بن عبد المطلب وأبو ذر.
ص: 39
وتتلمذ على يديه مجاهد(1)، وسعيد بن جبير(2) ، وغيرهم الكثير من أهل العلم منهم أنس بن مالك(3)، وكريب(4)، وأبو إمامة (5).(6)
ومن المناسب أن تذكر في نهاية الحديث عن ابن عباس الرواية الأتية التي نقلها لنا ابن سعد(7) وفيها ملخص كامل لمكانته العلمية لتكون خائمة الحديث عنه حيث ذکر عن عبد الله بن عتبة عند حديثه عن ابن عباس وكيف كان يجلس في مسجد المدينة ويكوّن حلقات للدرس (لقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه الفقه، و یوماً للتأويل،
ص: 40
ويوماً للمغازي، ويوم للتفسير، ويوماً لأيام العرب، وما رأیت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، ولا رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً ).
ابن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن کعب ويكنى أبا عبد الله، وأمه نسبية ابنة عطية بن سنان بن نابي بن عمرو(1)، شهد جابر بن عبد الله بيعة العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، وكان أصغرهم يومئذ ولم يشهد بدراً بطلب من أبيه أن يتخلف لرعاية أخوانه التسعة، وكذلك في أحد، وشهد بعد ذلك المشاهد كلها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، روى عن رسول الله أحاديث كثيرة(3)، وقد حدّث عنه سعيد بن المسيب والحسن بن محمد بن الحنفية وغيرهم كثيرون(4). وقد كانت له اهتمامات كبيرة في رواية الحديث، و كذلك تلقي الأحاديث فقد رحل إلى مكة یروي أحاديث سمعها ثم عاد إلى المدينة (5). ويروى أن جابر بن عبد الله رحل في حديث القصاص (6) إلى مصر يسمعه من____________________________ عبد الله بن
ص: 41
أنيس(1)، وقد كانت له ميزة الإكثار في الحديث و حفظ الست (2).
أما موقف جابر بن عبد الله الأنصاري من الحكام الأمويين فكان معارضاً لهم ولولاتهم وقد ذكر عن عوف بن الحارث ((أنه دخل على عبد الملك بالمدينة، فرحب به عبد الملك وقربه، فقال جابر: يا أمير المؤمنين، إن هذه حيث تری وهي طيبة سماها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهلها مجهدون فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل أرحامهم ويعرف حقهم فَعَلَ، قال فكره ذلك عبد الملك و أعرض عنه وجعل جابر یلحّ عليه حتى أومأ قبيصة(3) إلى ابنه وهو قائده، وكان جابر ذهب بصره أن اسكته قال فجعل اینه بسکته، قال جابر: ويحك ما تصنع بي ؟ قال اسکت فسکت جابر، حتى خرج أخذ قبيصة بيده فقال: يا أبا عبد الله إن هؤلاء القوم صاروا ملوكاً،
ص: 42
فقال له جابر: أبلی الله بلاء حسناً فإنه لا عذر لك وصاحبك يسمع منك، قال بسمع ولا يسمع إلا ما وافقه وقد أمر لك أمير المؤمنين بخمسة آلاف درهم، فاستعن بها على زمانك فأخذها جابر )(1)
ويذكر أنه كان لا يصلي خلف الحجاج(2) حينما كان بالعراق(3). وذكر الذهبي(4) أنه كان من فقهاء المدينة ومفتيها في زمانه، وكانت له حلقة درس في مسجد المدينة ويؤخذ عنه العلم(5). وذكر ابن حجر(6) أن هناك صحيفة لجابر كتبها عنه سلیمان بن قيس اليشكري(7)، وقد توفي سليمان في وقت مبكر فاحتفظت زوجته بهذه الصحيفة ولم يكن ثمة إجازة بها، أما ما روي عن هذه الصحيفة فإن روايته كانت عن طريق (الوجادة )(8) ولم تكن بالإجازة .
ص: 43
وقد طعن في رواية من روی عن صحيفة جابر دون إجازة وأقاد معمر بن راشد من هذه الصحيفة مستخدماً لذلك العبارة (قال في صحيفة جابر بن عبد الله ) ويبدو أن أحمد بن حنبل نقل أيضاً من الصحيفة في المستند(1).
ابن دليم بن حارثة بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طریف بن الخزرج، وأمه غرابة بنت سعد بن خليفة بن الأشرف بن أبي خزيمة، أدرك النبي وفي بعض الروايات أنه سمع منه، وكان ثقة قليل الحديث (2).
روي عن سعيد ابنه شرحبيل وأبو إمامة بن سهل بن حنيف، وصحبنه صحيحة، وكان والياً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) في اليمن أيام خلافته(3).
وذكر أحد الكتاب(4) أن قسماً مما كتب وصل إلينا في كتب المساند مثل مسند ابن حنبله(5) وغيرها، كما وردت إشارات لروايات ابن سعد في تاريخ الطبري(6).
ص: 44
غير أن أحد الباحثين ذكر ولادته قبل وفاة النبي، وكتب شيئاً عن حياة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) علماً أنَّ أباه سعد بن عبادة كان يحتفظ بصحف كتبها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ولعله من أوائل من دوّن أشياء عن حياة الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ربما كان هذا العمل من أبيه ثم جاء من بعده ابنه سعيد فعدله وكانت النسخة الأصلية من تصنيفه موجودة عند حفيده سعید بن عمرو بن سعيد بن سعد توفي في أوائل العصر العباسي، ولم تجد تاریخاً لوفاة سعيد بن سعد(1).
این ساعدة بن عامر بن عدي بن جشم الخزرجي، وأمه أم الربيع بنت أسلم ابن جريس، وبکنی أبا محمد ولد سنة (3ه - 624م) وقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن ثماني سنوات، وقد حفظ عنه(2).
وقد كتب بدوره شيئاً عن حياة الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) ومغازيه بقي في حوزة حفيده محمد بن یحیی بن سهل وقد روى عنه الواقدي (3) كثيراً من الروايات، وكان محمد حين يروي عن كتاب جده يقول: ((وجدت في كتاب آبائي))(4). وقد
ص: 45
بقيت شذرات من هذا الكتاب الذي البلاذري في أنساب الأشراف(1). ولم يستطع الزهري أن يروي عنه روایات مباشرة فقد كانت رواياته عنه من المراسل.
وقد كانت مدونة سهل أوفر حظاً من سابقاتها لوجود شخص قد روی بعض متضمناتها من الروايات التي وثقت بعض حوادث السيرة(2).
وتوفي سهل بن حتمة في عهد معاوية بين ستة (41-661م، 60- 679)(3).
هذه هي المدونات التي تناولت بعض أحداث السيرة وقد اتفقت المصادر القديمة على قيام أصحابها بتدوينها، وإن لم تكن هي نهاية جهود الصحابة في توثيق أخبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل توجد هناك مدونات أخرى لا ترقى إلى مصاف سابقاتها، إذ لم يتعدَّ توثيقها حادثة محددة أو كتابة بعض الأحاديث النبوية(4).
بعد أن تعرفنا إلى قسم من مدونات الصحابة الذين اهتموا بتدوين أحاديث وسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف نتعرف في دراسة هذه الفقرة على طبقتين من التابعين وهما الطبقة الأولى أو كما يسميها أحد الكتاب (5) بالطبقة
ص: 46
الوسطى، وهذه الطبقة هي طبقة الجمع والتصنيف، والتي نحن بصدد الحديث عن قسم من أعلامها هي بمنزلة الواسطة بين طبقة الصحابة والطبقة الثانية التي جاءت بعدهم والتي يمكن أن نطلق عليهم أتباع التابعين وهؤلاء أصحاب الكتب المؤلفة المختصة في السيرة.
((فقد شرع الناس في الجيل التالي للصحابة جيل التابعين، يجمعون روایات أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله التي كانت شائعة في عصرهم وإذا کانت مادة أحاديث عدد من الصحابة المدونة في الصحائف والكتب مشكوكاً في صحتها وقيمتها، فإنه لا يوجد شك في أنه مثل هذه المدونات كانت نادرة في جبل التابعين الذين أخذوا معارفهم من الصحابة، و وجِد بين التابعين أُناس يعتبرون علماء بالمغازي) (1)، وسوف نتكلم فيما يأتي عن بعض هؤلاء العلماء:
ابن العوام بن خویلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، اختلف في ولادته فمنهم من يذكر أنه ولد سنة (23ه - 643م)، وفي رواية أخرى أنه ولد لست سنين خلت من خلافة عثمان (2).
قبل الحديث عن آثار عروة في مجال كتابة السيرة لابدَّ من إلقاء نظرة ولو بشكل بسيط على حياته بشكل عام لنرى المؤثرات التي ساعدت على بلورة فكرة كتابة الرواية التاريخية لدى عروة بن الزبير وهل أثّرت تلك الظروف التي مربها عروة
ص: 47
بشكل خاص وحياة المسلمين بشكل عام على نتاجات عروة على مستوى الرواية التاريخية والحديث النبوي الشريف، فمن ناحية الأسرة التي ولدبها عروة فهي اسرة ارستقراطية كما عبر عنها أحد الباحثين(1)، فأبوه كما ذكرنا الزبير بن العوام وهو أحد الصحابة البارزين وأمه أيضاً بنت خليفة الأولى أبي بكر، وقد تزوج عروة عدداً من الزوجات(2) ، فقد كانت حياته الشخصية مليئة بالأحداث والمفارقات فمنذُ بدايتها وعندما كان صبياً حصلت ثورة أهل المدينة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان (24ه - 35ه) (644م - 655م) ففي رواية محمد بن الضحاك ((قال عروة: وقفت وأنا غلام أنظر إلى الذين حاصروا عثمان... وقد مشى أحدهم إلى الخشبة ليدخل على عثمان فلقيه عليها أخي [عبد الله بن الزبير](3)، فضربه ضربة طاح قتيلاً على البلاط فقلت لصبيان معي قتله أخي، فوثب عليّ الذين حضروا عثمان فكشفوني فوجدوني لم أنبت فخلوني))(4) ثم حصلت حرب الجمل التي قادتها خالته عائشة بنت أبي بكر زوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبوه الزبير بن
ص: 48
العوام، وطلحة بن عبيد الله ضد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يشترك فيها حيث ردّ لاستصغار(1).
نشأَ عروة في جو مليء بالتوترات والحروب الداخلية داخل الدولة الإسلامية حيث انتهت حرب الجمل بمقتل أبيه الزبير بن العوام(2) وطلحة بن عبيد الله(3) ثم انتقلت الخلافة إلى الأمويين بعد الصلح مع الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) (4).
والجميع يعلم العداء المستحكم بين الأمويين و العلويين إضافة إلى بروز حركة معارضة كبيرة من قبل المسلمين للدولة الأموية الناشئة، وفي تلك الأجواء عاش عروة بن الزبير حياته في بداياتها.
أما على المستوى الديني فقد وجدت هناك إشارات تاريخية لمخالفات عروة بن
ص: 49
الزبير لتعاليم الدين الإسلامي منها لبسه رداءً معصفراً(1).(2)، إذ تذكر الرواية عن یحیی بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه ((انه كان يعصفر له الملحقة بدينار، وكان آخر ثوب لبسه ثوب العصفر له بدينار))(3). وكان يلبس الطيلسان المزيّن بالديباج فيه وجوه الرجال وهو محرم ولايزره عليه(4)، وكان يلبس في الحرقباء سندس مبطن بالحرير(5). وهناك مخالفات أخرى لعروة لتعاليم الدين الإسلامي، فروي عن مالك بن أنس عن هشام بن عروة ((كنا نسافر مع عروة فنصوم ونفطر فلا يأمرنا بالصيام ولايفطر هو))(6). من خلال الرواية تظهر المخالفة الواضحة النص القرآن الكريم « فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ »(7).
أما ميوله السياسية فلم تذكر المصادر التاريخية مشاركته الفعلية في الثورة التي تزعمها أخوه عبد الله في مكة حيث لم يتسنم أيَّ منصبٍ أو قيادة فيها، وتذكر المصادر
ص: 50
إقامته مع أخيه في مكة أثناء ثورته تسع سنين(1).
وبعد أن فشلت الثورة وتم القضاء عليها من قبل عبد الملك بن مروان سنة (72ه - 691 م) بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي(2)، استطاع عروة بن الزبير أن يتصل بعبد الملك بن مروان، وكان خروجه من مكة إلى المدينة وكانت معه أموال استودعها وسار إلى عبد الملك فقدم عليه قبل أن يصله خبر مقتل عبد الله بن الزبير فاستأذن فدخل على عبد الملك بن مروان، فلما رآه زال عن موضعه، وجعل یسأله عن حال أخيه عبد الله، فقال: له قتل (رحمه الله)، فنزل عبد الملك عن السرير وسجد لله شكراً، وكتب إليه الحجاج بشأن أمر عروة وخروجة والأموال معه إلا أن عبد الملك أمر الحجاج بترك أمر عروة(3).
ويتضح مما ورد أن عروة بن الزبير سارع إلى ترميم العلاقة مع الخلافة الأموية التي أطاحت بآل الزبير وقتلت من قتلت منهم، وقد استمر التواصل بين عروة بن الزبير والخلفاء الأمويين، وقد وفد في خلافة الوليد بن عبد الملك إلى دمشق لغرض علاج رجله التي اصيبت بقرحة، وعندما كان في دمشق وافت المنية ابنه محمداً الذي سقط في اسطبل الدواب العائد إلى الخليفة ومات على إثرها، بعد ذلك قطعت ساقه نتيجة لانتشار القرحة فيها، ولم تدم حياة عروة طويلاً بعد تلك الحادثة فقد توفي في سنة (94ه - 712 م)(4).
ص: 51
إن هذه الإطلالة البسيطة على حياة عروة جاءت من أجل التعرف على شخصيته قبل الولوج إلى موضوعنا وهي قضية تدوين السيرة النبوية باعتبار عروة أحد الركائز الأساسية التي اعتمد عليها كتاب السيرة النبوية بالرجوع إلى مروياته التاريخية، وقد اشتهر عروة بغزارة مروياته في السير والمغازي النبوية، وبالنتيجة لابدَّ أن يكون له دور في إرساء قواعدها المنهجية وبناء هيكلها الأولي بغض النظر عن سلامة مروياته، وهذا يتطلب دراسة كيفية نشأة الاهتمامات لدى عروة في مضمار السيرة النبوية وكيف تبلورت لديه تلك الفكرة(1)، وهذا يرجعنا إلى النظر إلى البيئة العلمية التي نشا بها عروة وهي المدينة المنورة، ذلك المركز العلمي الهام آنذاك، فقد ذكر الذهبي(2) عن قبيصة بن ذؤيب قال: ((كنَّا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إلى آخرها نجتمع في حلقة المسجد بالليل، أنا، ومصعب(3) وعروة أبناء الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن(4)، وعبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن المسور(5)، وإبراهيم بن عبد
ص: 52
الرحمن بن عوف(1)، وعبيد الله بن عتبة(2)، وكنا نتفرق في النهار فكنت أنا أجالس زید بن ثابت وهو مترأس في المدينة القضاء والفتوى والقراءة والفرائض، في عهد عمر وعثمان وعلي، ثم كنت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن نجالس أبا هريرة، وكان عروة يغلينا في دخوله على عائشة)).
إذا كانت البداية العلمية لعروة من مسجد المدينة إضافة إلى أن عائشة خالته كان لها الدور البارز في نشأة عروة نشأة علمية في مجال السيرة النبوية وهذا ما اتضح من الرواية أعلاه.
وعن المبارك بن فضالة عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول لنا ونحن شباب: ((ما لكم لا تعلمون أن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني من الصحابي الحديث فآتيه، فأجده قد قال، فأجلس على بابه ثم أسأله عنه))(3).
ص: 53
لقد جمعت القرابة القريبة عروة وعائشة لتنمية قدراته العلمية في مجال الحديث والسيرة وإن المتتبع لأغلب الروايات التي سندها عروة بن الزبير بنتهي بها ذلك السند إلى عائشة بنت أبي بكر زوج الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ولكن لابدَّ لنا أن نری کیف صيغت تلك الروايات و هل خضعت إلى ميول ورغبات من نقلها ومن مصدرها الأول وهو عائشة وعروة، فعائشة بنت أبي بكر لم تكن على وئام مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) - وذكر ذلك لأنه في صميم دراستنا - فقد ذُكرت الرواية الثالية في سيرة ابن هشام(1) عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتية عن محمد ابن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عتبة عن عائشة زوج النبي (قالت: فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - هذه الحالة في بداية مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) - يمشي بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس، ورجل آخر عاصباً رأسه... ) قال عبيد الله فحدثت هذا الحديث عبد الله بن عباس (فقال هل تدري من الرجل الأخر ؟ قلت: لا؟ قال: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إن عدم ذکر اسم علي بن أبي طالب على لسان عائشة يعني أن هناك بعضاً لعلي (عليه السلام) بحيث لا نستطيع التفوه باسمه، وفي رواية أخرى ذكرها ابن اعثم الكوفي(2) قال: ((قدمَت عائشة من مكة بعد أن قضت حجها - هذه الحادثة بعد مقتل عثمان وتولي الإمام علي (عليه السلام) الخلافة - ثم صارت قريباً من المدينة استقبلها عبيد الله ابن أبي سلمة الليثي وكان يقال له ابن أم الكلاب، فقالت عائشة: ويحك لنا أم علينا؟ فقال: قتل عثمان بن عفان، فقالت: ثم ماذا ؟ فقال: بايع الناس علي بن أبي طالب، ثم قالت عائشة: وددت أن هذه وقعت على قتل - والله - عثمان مظلوماً وأنا مطالية
ص: 54
بدمه، والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله، فقال لها عبيد الله بن أم كلاب: ولِمَ تقولين ذلك ؟ فوالله ما أظن أن أحداً بين السماء والأرض في هذا اليوم أكرم من علي ابن أبي طالب على الله عز وجل فلِمَ تكرهين ولايته ؟ ألَم تكوني تحرضين الناس على قتله ؟ ثم إنَّك أظهرتِ عيبه وقلتِ اقتلوا نعثلاً لقد كفر، فقالت عائشة: لعمري لقد قلت ذلك، ثم رجعت عما قالت لما عرفت خبره من أوله)).
هذا مثال آخر ونحن لسنا بصدد إيراد الأمثلة لإثبات بعض عائشة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولكن نورد الشواهد لتعزيز ما تذهب إليه وقد ختمت ذلك يتأليفها جيشاً وقيادته وخروجها على شرعية الخلافة وحاربت عليَّا في معركة الجمل الشهيرة عام (36ه - 656 م)(1).
في وضع كهذا من البغض والكراهية يكون الخصم هو مصدر لكتابة السيرة النبوية التي حصة سيرة الإمام علي (عليه السلام) منها الحصة الكبرى بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لذلك نرى من وجهة نظرنا أن الموقف السلبي لعروة من علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان هو الجامع لعروة مع عائشة مستغلة بذلك المكانة القريبة من الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله و سلم) ونظرة المسلمين إلى القداسة التي يتمتع بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكونها زوجته، إلا إنه ذكر أن القرابة النسبية هي الوازع الذي مكن عروة من استغلاله في أخذ الأحاديث عن عائشة، وقد أُضيف سبب آخر وهو رغبة السيدة عائشة في تحفيظ عروة بن الزبير لمروياتها كفيل ببقاء شهرتها وشهرة عروة ابن أختها وهذا رأي وجيه، وهو ما ذهبنا إليه لكونه أقرب إلى الواقع(2).
ص: 55
هذا من جانب أما جانب الناقل الرواية وهو عروة بن الزبير فواقع الأحداث يشهد على موقفه من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد حرب الجمل وما جاءت به من نتائج مغايرة لما يريده آل الزبير من استرجاع مصالحهم الاقتصادية التي حازت عليها الأسرة في زمن الخلفاء الذين سبقوا عليَّا (عليه السلام)، حيث عمد الإمام إلى إعادة حقوق الدولة إلى بيت المال و تجریدمن استحوذ عليها بدون وجهة شرعية مما أغاض الكثيرين ومنهم آل الزبير، وقد ناقش ذلك أحد الباحثين مناقشة مستفيضة(1).
إضافة إلى ذلك فإن هناك علاقة طيبة بين عروة ومعاوية بن أبي سفيان، فقد كانت هناك وفادة من عروة إلى معاوية بن أبي سفيان في أثناء توليه الحكم(2)، مما يدل على أن هناك تقارياً كبيراً بين عروة بن الزبير والأمويين الأعداء التقليدين للعلويين على مرِّ زمن الرسالة وما بعدها، وكذلك ذكرنا وفادته على عبد الملك بن مروان لغرض إصلاح ما أضره أخوه عبد الله بن الزبير.
ويمكن ربط ذلك وما ذكره أبو جعفر الإسكافي (3) ((أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام)، تقضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً، یرغب في مثله فاختلقواما
ص: 56
أرضاه منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة ابن الزبير))(1).
ولابدَّ أن نذكر أحد الموضوعات کمحل لشاهد الحديث، روی الزهري أن عروة حدثه قال حدثتنی عائشة ((قالت: كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي، فقال يا عائشة: إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال ديني))(2).
وفي حديث آخر أيضاً عن عروة عن عائشة حدثته ((قالت: كنت عند النبي إذ أقبل العباس وعلي، فقال: يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا فنظرت، فإذا العباس وعلي بن أبي طالب))(3).
هذا مثال بسيط تذكره للإيضاح، فبالعقلية هذه وبأدوات كهذه كتبت السيرة النبوية ومصدر مهم من مصادرها روايات عروة عن عائشة، فعليه لابدَّ للمتتبع والدارس للسيرة أن يركز على المنطلقات التي ينطلق منها الراوي، وهذا لا يقدح بما قدمه عروة من إنجازات روائية على مستوى كتابة السيرة النبوية.
ولم تكن إنجازاته في حقل السيرة فقط بل برز في مجال الحدیث، فعن الزهري قال: ((كان عروة يتألف الناس على حديثه، وعن هشام يقصد بن عروة عن أبيه قال: رب كلمة قال احتملها أورثتنی عزاً طويلاً))(4).
ص: 57
وفي رواية ابن الزناد ((فقهاء المدينة اربعة سعد، وعروة، وقبيصة، وعبد الملك این مروان))(1).
وقد حدث عن أمه أسماء بنت أبي بكر وخالته عائشة كما ذكرنا وسهل بن أبي حتمة وزيد بن ثابت و أسامة بن زيد وعبد الله بن عباس وغيرهم(2)، وقد حدث عنه الزهري، وأبو زناد(3) وسليمان بن يسار، وصالح بن کیسان(4) وغيرهم(5).
إذاً تستطيع القول من خلال ما أوردنا أعلاه إن عروة بن الزبير من المحدثين والفقهاء، ففي رواية معمر عن هشام بن عروة قال: ((أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له قال: فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي))(6).
إن مجهود عروة لا يمكن إنكاره إذ جعل للدراسة التاريخية بداية قائمة بذاتها
ص: 58
حيث جمع الكثير من الأحاديث التاريخية في المغازي ورسم بعض الأسس لهذه الدراسة(1)، فقد أشارت بعض المصادر التأخرة إلى أن أول من صنف في المغازي عروة بن الزبير (2). إلا أنه لم يوجد ما يؤيد ذلك على ارض الواقع من كتاب موسوم باسم عروة بن الزبير، وقد ذكر أحد الكتاب ((كل الذي وصلنا من المدونات عبارة عن رسائل متبادلة بين عروة والخليفة عبد الملك بن مروان))(3).
وقد ذكرت هذه الرسائل في تاريخ الطبري، ففي رسالته الأولى إلى عبد الملك بن مروان بتناول فيها الهجرة إلى الحبة(4)، وفي رسالته الثانية تناول فيها وقعة بدر بكل تفاصيلها(5)، أما الرسالة الثالثة تخص فتح مكة(6)، وغيرها من الرسائل المدونة وقد اعتبرت كتابات عروة أعلاه أقدم المدونات التي وصلت إلينا عن بعض الحوادث الخاصة بحياة النبي كما تمثل أقدم آثار الكتابة التاريخية العربية(7).
تمتاز كتابات عروة بن الزبير بأنها لا تهمل الإسناد إهمالاً تاماً كما أنه لایعنی به
ص: 59
عناية مشددة(1)، وتساهله في تلك الحالة متأتٍ من أن النظرة إلى الأسانيد في عصره لا تزال مرنة، ولم تكن القواعد الدقيقة للإسناد قد ظهرت بعد، ومما يلحظ على استخدامه للأسانيد في روايات الحوادث المهمة من بدء الوحي والهجرة(2)، ومثال ذلك ما ذكره الطبري في رواية ابتداء تزول الوحي حيث يذكر سندها إلى أن ينتهي بعروة عن عائشة(3).
أما المثال الآخر الذي بنقله لنا الطبري فيشل تساهل عروة بن الزبير في ذکر السند حيث ينقل الرواية حتى ينتهي سندها الى عروة فقط فلا يوجد سند بعد عروة (4).
الأستشهاد بالآيات القرآنية في توثيق الرواية ؛ وذلك لأن قسماً من مروياته تعرض أسباب النزول(5)، ومثال ذلك عندما يتحدث عن نزول الآية ويذكر الرواية حيث يقول والحديث عن لسائه ثم كان أول ما نزل عليه (صلی الله عليه و آله و سلم) من القرآن بعد إقرأ «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ *وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ »(6).(7).
هناك إشارات شعرية أوردها عروة في مناسبات معينة تدل على أنه كان یورد
ص: 60
بعض الأشعار(1) مثال ذلك لما عاد من الشام بعد وفوده على عبد الملك بن مروان وفي قصة أوردناها سابقاً بعد أن قتل أخوه استأمن أموالاً له في المدينة عند طلحة بن عبید الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان المال لمصعب بن الزبير أخيه فبلغ عروة أن المال الذي استودعه عند طلحة استخدمه طلحة في عملية بيع وشراء الرقيق والإبل، ولكن بعد عودته إلى المدينة أخبره طلحة بوجود المال وسلمه إليه فتمثل بالأبيات التالية:
فمَا استخباتَ في رجلٍ خبيثاً*** کَمثلِ الدينِ أو حسب عتيقِ
ذوو الأحسَابِ أكرَمُ مَا تراثوا*** أصبرُ عندَ نائبةِ الحقوقِ(2)
وقد ذكر حسين نصار أن عروة بالرغم من تدينه وفقهه إلا أنه لم يكن خصماً للشعر (3) وهذا تعليل بعيد عن الواقع ، فإن الشعر في صدر الإسلام لا يختص بغير المتدينين وإنما الشعر للجميع، وكلما كان الإنسان شاعراً أو بحفظ الأشعار كان أكثر التصاقاً بالمجتمع، أما قضية تدینه فلدينا علامات استفهام على ذلك أوردناها في بداية الحديث، إلا أن الحديث هنا عن الرواية التاريخية بصورة عامة، فقد كانت إسهامائه في رفد كتابة السيرة بتلك الروايات تمثل التدوين الجزئي للسيرة النبوية وقد كان عروة أبرز رواة هذه المرحلة المهمة من مرحلة التدوين، ويمكن ملاحظة دور عروة البارز من خلال الرسائل المتبادلة بينه وبين عبد الملك بن مروان وبصورة موثقة تعتبر جزءاً مهماً وحيوياً من عملية التدوين، وكذلك اعتبار علاقته بالسلطة الأموية وبذلها
ص: 61
الأموال له لكتابة السيرة وفق رويتها مکَّن عروة من البروز في هذا المجال.
وقد ذكر أن علاقة عروة بتصنيف المغازي والسير تعدُّ المصدر الأهم للرواية التاريخية ولعصور عدة قبل عصره حيث تمثل تلك أحداثاً تاريخية مهمة في سيرة الرسول ومغازيه، وقد أعطاها بعض الملامح المنهجية، ونحن نتفق مع من يقول بانفراد عروة بتلك المرويات التاريخية وبصورة أكثر نضوجاً ومنهجية من غيره(1).
این عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبوه ثالث خليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمه أم عمرو بنت جندب بن عمرو، ویکنی أبا سعيد(2)، لم تكن له علاقة وثيقة بالأمويين إلا أنه هناك رواية تفيد بأنه أصبح والياً على المدينة أيام خلافة عبد الملك بن مروان (65ه-684م) (86ه- 705م) وكانت ولايته من باب المصادفة حيث خرج الوالي الأموي آنذاك یحیی بن الحكم بن العاص (3) وافداً إلى دمشق دون علم الخليفة وقد ترك أبان بن عثمان والياً محله لحين عودته إلا أن عبد الملك بن مروان أظهر عدم رضاه ورفضه لتصرف الوالي بدون علمه فأقر عبد الملك أبان بن عثمان والياً على المدينة لمدة سبع سنوات وقد أجرى بعض التغييرات الإدارية في المدينة منها عزل القاضي وغيرها(4). أما دوره في تدوين
ص: 62
السيرة النبوية فقد ذكر أنه سمع الحديث من أبيه، وزيد بن ثابت(1) وغيرهما من الصحابة، وكان يعد من فقهاء المدينة العشرة(2).
ويمكن أن تتلمس دوره في تدوين السيرة النبوية وبشكل فاعل من خلال الرواية الآنية التي تخص المغيرة بن عبد الرحمن(3) الذي ترجم له ابن سعد، حيث ذکر عن محمد بن عمر الواقدي ((خرج المغيرة بن عبد الرحمن مرة غازياً و كان في جيش مسلمة الذين احتبسوا في أرض الروم حتى أقفلهم عمر بن عبد العزيز، وذهبت عينه. .. وكان ثقة قليل الحديث إلا مغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذها من أبان بن عثمان فكان كثير ما نقرأ عليه ويأمرنا بتعلمها))(4).
الرواية أعلاه تبين أن هناك مدونة للسيرة النبوية عن طريق أبان بن عثمان أخذها عنه المغيرة وهو بدوره أخذ يقرأها على تلاميذه لغرض تعلمها وبذلك إن صحت الرواية تلك يمكن اعتبار أبان من الطبقة الأولى من كتّاب السير والمغازي، وما يعضد القول بصحة اشتغاله واهتمامه بتدوين السيرة النبوية ما أورده الزبير بن
ص: 63
بکار (1) روآية مفادها أن سلیمان بن عبد الملك (96ه-714م) (99ه- 717م) لما قدم إلى المدينة حاجاً سنة (82ه -558 م) وعندما كان ولياً للعهد (أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومغازيه فقال أبان: (هي عندي قد أخذتها مصححة من أثق به) فأمر بشخها إلى عدة نسخ فلما قرأهابيّن له فضل الأنصار في العقبتين وذكرهم في معركة بدر (فقال ما كنت أرى هؤلاء القوم هنا الفضل، فأما أن يكون أهل بيتي غمضوا عليهم، وأما أن يكون ليس هكذا).
وقد ذكر الراوي أيضاً أنه أخبر أباه عبد الملك بذلك فلم يرضَ عبد الملك وأمر بحرق النسخ لأن فيها فضائل الأنصار وهذا يتعارض مع ثوابت بني أمية(2)
توجد لدى أبان بن عثمان مدونة عن سيرة الرسول ومغازيه مما يدل على الأهتمام الواضح والكبير في تدوين السيرة النبوية ومغازي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ العصر الإسلامي الأول فلابدَّ أن أباناً قد أخذ تلك المدونة عن أحد الصحابة وتلقاها منه ودوّنها.
التعتيم المتعمد من قبل الأمويين على أمر كهذا لأنَّ فيه مناقب غيرهم من الأنصار كما ذكرت الرواية لاسيما العلويين بالأخص الإمام علي بن أبي طالب وهو العدو التقليدي لهم وهذا ما نلاحظه من خلال سير البحث، فلذلك حرصوا كل الحرص على حجب أي معلومة قد تصل إلى الناس فيها بيان لمناقب هؤلاء بحيث أصبح الناس في جهل تام بأحداث سيرة ومغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 64
والدليل هو أن ابن الخليفة الأموي - سليمان بن عبد الملك - لا يعلم من ذلك الأمر شيئاً وعندما علم عبد الملك بالأمر أصدر أوامره بإحراق النسخ؛ لأن فيها قضائل الأنصار.
إذاً أبان بن عثمان لديه مدونة من خلال ما ذكر الزبير بن بكار إن صحت روايته وقد احترقت نسخها ولم يذكر لنا الراوي مصير النسخة الأصلية ولكن يعتقد أنها ذهبت حيث لم يرد اسمه في كتب السيرة على خلاف ورود اسمه كثيراً في كتب الحديث(1).
وقد ذكر أحد الباحثين(2) أن أبان بن عثمان يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي، وقد قطع بعدم وصول شيء إليه من هذه المدونة التي ذكرنا ورودها في الرواية أعلاه في المصنفات التي اعتمدت مرويات أقرانه من التابعين عند حديثهم عن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحواله، إذ أن مدونة أبان لم تصل إلينا لعدم وجود نقول عنها في الكتب المتأخرة.
من الأبناء(1)، وكنيته أبو عبد الله الصنعاني(2)، كان مهتماً برواية الأخبار وصاحب قصص (3)، وقد اعتبر من الثقات في رواية الأخبار وقد روي عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري(4) وجابر بن عبد الله الأنصاري وغيرهم وذكر أنه كان يروي یسيراً عن أبي هريرة(5).
وقد كان كثير النقل من الكتب القديمة ونقل این قتيبة(6) ((كان وهب يقول قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتاباً))، وقد ((صنف کتاب القدر ثم ندم على تصنيفه وقد علل ندمه على ذلك بعد أن عرف أنه من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة
ص: 66
فقد كفر))(1).
أما عن علاقته بالدولة الأموية فقد كانت له علاقات طيبة مع الحكام الأمويين فقد ولي القضاء في زمن عمر بن عبد العزيز(2). وقد وجه إليه الوليد بن عبد الملك الأموي لوحاً من حجارة فيه كتابات يونانية لغرض قراءته بعد أن عجز جماعة من أهل الكتاب عن قراءة ما مکتوب به، وقد رد وهب على الخليفة، هذا مكتوب أيام سلیمان بن داود عليهما السلام، فقرأه فاذا فيه ((بسم الله الرحمن الرحیم، یابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلتك وإنما تلقي ندمك ، إذا زلت بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تدعي فلا نجيب، فلا انت إلى أهلك عائد ولا في عملك زائد فاغتنم الحياة قبل الموت، والقول قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكظم، ويحال بينك وبين العمل، وكتب زمن سليمان ابن داود، ..))(3).
وقد اختلف في عدّ وهب من الذين كتبوا في المغازي والسير، فذكر حاجي خليفة (4) أن لوهب مؤلفاً بعنوان (الفتوح). وذكر المستشرق هوروفنتس (5) أن فتوح وهب التي يذكرها حاجي خليفة غير معروفة عند المؤرخين، وكان على معرفة
ص: 67
وثيقة بمأثور أهل الكتاب ومن خلال ذلك برزت معارفه حول خلق العالم وتاريخ الأنبياء، وبني إسرائيل (1).
والذي نريد أن نصل إليه في هذه الفقرة هو إسهامات وهب بن منبه في مجال السيرة وهل له ما يعزز ذلك؟ فقد ذكر الأصفهاني(2) في حلية الأولياء توجد له قطعتان الأولى حول مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته و أيضاً عن طريق حفيده عبد المنعم بن إدريس(3) عن أبيه عن وهب بن منبه عن جابر بن عبد الله الأنصاري وابن عباس يتناول تفاصيل مرض الرسول إلى وفاته. ونحن هنا لسنا بصدد إثبات أو نفي محتواها بقدر ما أننا يمكن أن نعتبر هذه القطعة واحدة من إسهامات وهب بن منبه في كتابه السيرة النبوية وقد وردت إشكالات عليها حول الأسلوب الغريب الذي جاءت به وهو يبتعد عن أساليب تلك الفترة، إضافة إلى أن الخبال أدى دوراً مميزاً فيها لذلك يقول: ((إذا صحت نسبتها إلى وهب، فإننا لا تستطيع أن نطلق عليه لفظة مؤرخ)(4).
أما القطعة الثانية فتحدث عن ((فتح مكة وأمر رسول (صلى الله عليه وآله
ص: 68
وسلم) عمر بن الخطاب بأن يأتي الكعبة ويمحو الصور على جدرانها))(1).
إلا أن الملاحظ أن إسهامات وهب بن منبه التاريخية جاءت بشيء جديد لم یکن مألوفاً ومعروفاً في مدرسة المدينة من قبله هو عنايته بأخبار أهل الكتاب، و تاریخ وطنه اليمن(2).
إلا أنه هناك شكوكاً كثيرة تحوم حول صحة كتابات وهب للمغازي، إذ ذكر أحد الباحثين (3) (أننا لم نجد أثناء تصفحنا للكتب التي تتحدث عن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رواية ينتهي سندها إلى وهب أو يكون هو أحد طرقها) لكن القطعة التي ذكرها الأصفهاني في حلية الأولياء حول فتح مكة قد يضعف رأي الباحث إذا اعتبرنا أن القطعة الأولى حول وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي شكك فيها الباحث حسين نصار، إلا أنَّ الرواية حول فتح مكة يمكن اعتبارها إحدى روافد وهب بن منبه للسيرة النبوية).
وهناك رواية يوردها ابن سعد أيضاً بسندها إلى وهب بن منبه بيّن فيها أعداد المسلمين يوم الحديبية(4)، لا يمكنا من خلال إيراد تلك الأمثلة أن نجزم بأنَّ وهب ابن منبه لم يرفد السيرة النبوية بروایات ولكن يمكن القول إن معظم الروايات التي وصلت إلينا عن وهب بن منبه تتضمن عرضاً لأخبار الأنبياء والرسل والأمم والأقوام السالفة، ويمكن القول إن إسهامات وهب بن منبه التاريخية في مجال الأنبياء
ص: 69
والأمم السابقة مدخلاً مهماً لسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن تركيز وهب على كتابات وطنه اليمن حيث توجد رسالة خاصة تسمى ((كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم...)(1) ، لكن هذا الكتاب لم يصل إلينا والذي وصل كتاب التيجان في ملوك حمير، وهو مهذب من قبل ابن هشام كما تصرف يسيرة ابن إسحاق.
ابن النعمان بن زید بن عامر بن سواد بن کعب الأنصاري(2)، كانت له رواية للعلم إذ اعتبر من الثقات(3)، ويعد من علماء عصره في المغازي والسير(4)، وكانت علاقته بالأمويين في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (199ه - 101ه) (717م- 719م)
حيث وفد إلى دمشق طالباً مساعدة الخليفة نتيجة دين كان عليه(5)، ويتضح من ذلك أن حالته المادية لم تكن میسورة ولم يتسنم أيّ منصب إداري في زمن الدولة الأموية هو أو أحد أفراد عائلته.
إنَّ وقادته على عمر بن عبد العزيز مكنته من نقل روایات السيرة إلى قصر الخلافة في دمشق حيث أمره الخليفة أن يجلس في مسجد دمشق یحدث الناس بمغازي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و مناقب أصحابه على الرغم كراهة الحكام الأمويين الذين
ص: 70
سبقوا عمر بن عبد العزيز، وكرههم إلى أحاديث كهذه وينهون عنها في مجالسهم(1)؛ لأنها ترفع شأن بعض الصحابة الذين لا يروق للحكام الأمويين أن تصل إلى الناس مناقبهم وبلاؤهم في الجهاد لحمل راية الإسلام، فقد روي عن أبيه وعن جابر بن عبد الله الأنصاري وعن أنس بن مالك وغيرهم(2). إضافة إلى روايته عن الحسن بن محمد بن الحنفية وعن الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)(3).
وقد روى عنه كثيرون (4) إلا أن الذي يهمنا هنا هو اعتماد محمد بن إسحاق كثيراً علی رواية عاصم بن عمر بن قتادة(5).
وبالعودة إلى علاقته مع الحكام الأمويين فقد تذكر الروايات أنه عاد إلى المدينة بعد وفاة عمر بن عبد العزيز وبقي فيها إلى أن توفي سنة (120ه - 737م)(6).
وعند التتبع لسيرته ومكانة عائلته فإن جده قتادة بن النعمان هو الذي رد رسول الله عينه بعد أن قلعت في معركة بدر وذلك ببركة دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (7). أما منهجيته في كتابة رواية السيرة فلم تشر المصادر إلى أن له مدونة أو كتاباً في المغازي والسير بل إن النقولات الكثيرة عنه من قبل صاحب السيرة محمد بن إسحاق والواقدي تدل على أنه عني بتفاصيل قصة شباب النبي والفترة المكية عامة
ص: 71
کما یلاحظ ذلك من خلال السيرة النبوية لابن هشام(1).
وقد تجاهل بعض الأسانيد على الرغم من ذكره لكثير منها إلا أنه كمن سبقه من الرواة في تلك الحقبة ينساهل كثيراً في تلك الأسانيد(2). كما أنه يدخل في الأخبار التي يرويها أشعاراً(3) لأصحابها الأساسيين (4).
إلا أن هناك مجموعة من النقاط التي تميز روايته فمنها على سبيل المثال:
إبرازه الاتجاه القبلي في روايته الأحداث السيرة وقد ركز كثيراً على المرحلة المدنية من الدعوة الإسلامية وبرّز دور الأنصار في ذلك.
وصفه للمعارك وصفاً دقيقاً من أول حادثة إلى آخرها، وإيراده المعجزات ودلائل النبوة التي بدرت من الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم).
الاستقلالية في رواية الحوادث دون قطعها ما إن استمرت هذه الحادثة مدة طويلة وقد اعتبر ذلك بداية المنهج الموضوعي(5)، وترك المنهج الحولي القائم.
تمثل نقلة نوعية في بروز الاتجاه النقدي والتعليق على الروايات التي ترد على مسامعه، وبذلك يعدّ عاصم ممن قد أضاف إضافات جديدة.
ص: 72
أبو سعد الخطمي المدني مولى الأنصار(1)، يعد من الرعيل الأول في كتابة المغازي(2)، وكان أيضاً من المحدثين حيث أخذ الأحاديث من الصحابة زيد بن ثابت، وأبي رافع، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وعویم بن ساعدة(3)، وابن عباس وغيرهم.
وكذلك روى عنه الكثيرون من أصحاب الحديث والمغازي(4)، وقد ذكر شرحبيل نفسه إقامته في أرض زید بن ثابت في الأسواف(5) في المدين(6)، ومن الجدير بالذكر أن كتب التراجم لم تتطرق إلى سيرته بصورة مفصلة فقد أورد ابن سعد ترجمة مختصرة له جداً فلم يتحدث عن إسهاماته في تدوين السيرة، إلا أنه ذكر عن سفيان بن عيينة(7)
ص: 73
كان من أئمة المغازي ولم يكن من هو أعلم منه بالمغازي(1).
وقد كانت اهتماماته منصبة على تدوين أسماء المشتركين في معركة بدر (البدريين)، وأنه في نهاية حياته احتاج فخشي الذين لا يلبون طلبه وهم يسألونه عن الذين اشتركوا في بدر يقول للذي يسأله أبوك لم يشهد بدراً، وهذا يدل على أن لديه معرفة واسعة بأسماء من شهد بدراً وهذا ما يؤيده النص المنقول عن إبراهيم بن المنذر الحزامي(2) ((حدثنا سفيان بن عيينة قال کان بالمدينة شيخ يقال له: شرحبيل أبو سعد و كان من أعلم الناس بالمغازي، فاتهموه أن يكون يجعل لمن لا سابقة له سابقة، وكان قد احتاج فأسقطوا مغازيه وعلمه، قال إبراهيم: فذكرت هذا المحمد بن طلحة بن الطويل(3)، ولم يكن أحد أعلم بالمغازي منه، فقال لي كان شرحبيل أبو سعد عالماً بالمغازي، فاتهموه أن يكون يدخل فيهم من لم يشهد بدراً ومن قتل يوم أحد، وآلهجرة ومن لم یکن منهم، وكان قد احتاج، فسقط عند الناس، فسمع بذلك موسى بن عقبة، فقال: إن الناس قد اجترؤوا على هذا ؟ فدب على كبر السن، وقيد من شهد بدراً واحداً ومن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وكتب ذلك))(4)، من خلال
ص: 74
النص أعلاه يمكن ملاحظة الآتي:
الرواية تدل بشكل قاطع إلى أن شرحبیل بن سعد كان من أعلم الناس بالمغازي ولديه مدونة بأسماء البدريين ومن قتل يوم أحد وأسماء المهاجرين إلى المدينة وهذه الحالة مشهورة وموثوقة.
الظرف الذي مر به شرحبيل بن سعد في نهاية حياته جعلت المهتمين بالموضوع يتجهون إلى موسى بن عقبة لحفظ ذلك المدون من الضياع، فإن صحّت الرواية فم قام به موسی بن عقبة هو حفظ لوثيقة شرحبيل بن سعد من الضياع وفقدان ثقة الناس بها، وقد ورد أن ابن إسحاق سُئل عن رأيه يحدیث شرحبيل فقال: ((واحد يحدث عن شرحبيل))(1)، ولكن من خلال البحث وجدنا أن هذا القول ما ينقصه إذ أن هناك رواية نقلها الحاكم النيسابوري(2) عن يونس بن بکیر عن ابن إسحاق قال حدثني شرحبیل بن سعد حول نزول آية «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا »(3) ورواية أخرى نقلها البيهقي(4) عن ابن إسحاق قال حدثنا أبو سعد شرحبیل بن سعد حول حوادث حصلت في غزوة بني النظير.
من خلال ذلك نرى تناقضاً واضحاً فيما ينقله ابن حجر عن رأي ابن إسحاق في شرحبیل بن سعد مع ما ذكره غيره من نقل ابن إسحاق لرواية شرحبیل بن سعد
ص: 75
وهم متقدمون على ابن حجر كثيراً.
إلا أن ابن حبّان يذكره من الثقات فيما ضعفه آخرون(1)، وذكر السخاوي(2) عن ابن عينة (أنه كان يفتي ولم يكن أعلم بالمغازي منه ثم احتاج فكأنهم اتهموه) وكأن الأمر من خلال ما يورده السخاوي تهمة الصقت به ولیس واقعاً صائراً، المهم نحن نعتقد أن الرواية التاريخية عندما أصبحت بشكل منهجي ومبوب تحكمت بها وأخرجتها بصور متعددة أمزجة سياسية ومذهبية.
وعند العودة إلى الرواية التي أوردناها وفيها تدخل موسى بن عقبة وتقيده من شهد بدراً ليس من باب الحرص على ضياع هذه اللائحة حسب اعتقاد الباحث وإنما كانت الرواية التاريخية في زمن عقبة حكراً على فريق الزبيريين كما سنلاحظ ذلك في دراستنا لموسى بن عقبة وقرابته القريبة من آل الزبير(3).
وقد نختلف مع الباحث عمار عبودي (4) الذي ذكر أنه استنتج من خلال دراسته الشرحبيل بن سعد أن العزوف عن المرويات لهذا الراوي يدل على وجود حس نقدي مبكر للرواية والرواة، وهذا به شيء من المجانية للواقع فقد ذكرت الروايات أن خط شرحبیل بن سعد وميوله إلى التيار المعارض لآل الزبير هو الذي أحدث ما أحدث المروياته التاريخية واتهامه باتهامات كثيرة، فقد ذكر الطوسي(5) أنه من أصحاب الإمام
ص: 76
السجاد (عليه السلام) وقد أيده عدد من الكتاب والباحثين المتأخرين(1).
ابن شهاب بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، ويكنى أبا بكر(2) ، اختلف في تاريخ ولادته منهم من ذكر أنه ولد سنة ( 50 ه۔ 670م)(3)، ومنهم من قال: ((58ه - 677م)(4) وغيرها.
جده عبد الله بن شهاب كان مع المشركين ضد الرسول وأصحابه في معركة بدر وقد تعاهد مع نفر من قريش على قتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) یوم أحد(5). وقد علل أحد المستشرقين ذلك بأنه السبب في إحجام الزهري عن ذكر اي تفاصيل لجده في تلك الأحداث ومنها معركة بدر وأحد(6)، ففي رواية أبي سعيد الخدري ((أن عتبة بن أبي وقاص رمی رسول الله يومئذٍ فکسر رباعيته اليمنى،
ص: 77
وجرح شفته السفلی وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته))(1). وكان أبوه مسلم بن عبيد الله مع ابن الزبير في أثناء ثورته ضد الحكم الأموي آنذاك.
وقد نشأ الزهري غلاماً لا مال له، مقطعاً من الديوان، ولكنه كان يجب مجالسة العلماء فقد تعلم نسب قومه من عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي(2)، وفي أثناء تواجده مع عبد الله تمكن من التعرف على سعيد بن المسيب بوصفه من فقهاء و علماء المدينة وبعد ذلك تتلمذ على يد عروة بن الزبير وغيرهم حتى تفقه(3)، فروي عن ابن عمر حديثين و عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب و أبي أمامة بن سهل وغيرهم، وروى عنه صالح بن کیسان، ومعمر والليث بن سعد(4)، وابن إسحاق وغيرهم.
وقد التحق بالشام حيث دمشق مركز الخلافة الأموية وكانت بداية لقائه بمجلس قبيصة بن ذويب الذي توصل من خلاله إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان(5)، وكان قد لازم الخلفاء الأمويين بعد وفاة عبد الملك بن مروان وجعله عمر بن عبد العزيز على قضائه، ثم بعد ذلك لزم هشام بن عبد الملك حيث اتخذه معلماً لولده(6).
ص: 78
أما حياته العلمية فذكرنا أنه تفقه على يد سعيد بن المسيب حيث جالسه عشر سنوات(1) ، فكانت تلك انطلاقته العلمية وكان بعد ذلك دوره المميز في رفد السيرة النبوية و كتابها من بعده بكثير من الروایات معتمداً في أغلبها على أستاذه عروة بن الزبير(2) ، وكانت لشخصية الزهري الدور المميز بالانتقال من الرواية الشفوية إلى الرواية المدونة (3)، وقد تميز بحفظ الأحاديث حيث يقول: ((ما استعدت حديثاً قط ولا شككت في حديث إلا حديث واحد فسألت صاحبي فإذا هو کما حقظته))(4)، وقد جمع أحاديث كثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد كانت للزهري اتجاهات علمية مختلفة ليست في مجال السيرة فحسب فقد كان يحدث في الترغيب فإذا سمعه المتلقي يقول لا يحسن إلا هذا، وقد برع أيضاً في القرآن والسنة وقد نال كل ذلك من صبره على التعلم وطلب العلم(5)، فقد ورد عن عمر بن عبد العزيز ((لم يبق أحد أعلم بسنة ماضيه من الزهري ))(6) إلا أن من المآخذ الكبرى التي تؤخذ عليه اتصاله و میله الشديد للحكام الأمويين حيث كان من الملتصقين بهم حاکم بعد حاکماً، ومن لم يبخل عليه الأمويون بالعطاء والرعاية طيلة حياته، وللمرء أن يتصور ماذا يعني رضا الأمويين عن راوية يسطر بقلمه الخطوط العامة للسيرة النبوية والتي ينبغي أن تتوافق مع مناهجهم وسيرتهم و سیاستهم المعادية لكل من لم
ص: 79
يسر في ركبهم وبالخصوص خصومهم التقليدين علي بن أبي طالب وبنوه ومريدوه(1).
وعلى الرغم من ذلك فقد نعته ابن حبان من الثقات(2)، فهو من المهتمين في تدوین ما يتلقاه من علم فقد ذکر این الزناد ((كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الالواح والصحف یکتب کلما سمع))(3).
إن اهتماماته بالتدوين تشير إلى مرحلة جديدة من مراحل جمع التراث الإسلامي، والانتقال بالرواية التاريخية نقلة جديدة كما ذكرنا، وإن بروز الزهري كظاهرة علمية على مستوى الحديث والمغازي جعل الناس في حاجة إلى علمه وكان من بين من احتاج إليه الحكام الأمويون کما تمت الإشارة في بداية الفقرة، حيث توطدت تلك العلاقة حتى أضحى الزهري بمثابة المستشار التاريخي والثقافي للبلاط الأموي(4)، فقد كانت لديه مدونات كثيرة لكنها لم تكن مبوبة بعد، ففي الرواية التالية عن معمر ((كنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر التي حملت على الدواب من خزانته یعني من علم الزهري))(5).
وكان إذا جلس في بيته ووضع الكتب حوله، فيشتغل عن كل الأمور الأخرى،
ص: 80
فقالت له امرأته يوماً: ((والله هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر))(1).
وكان الزهري ملتزماً بقواعد مدرسة المدينة ومفضلاً لها على سواها من المدارس حيث كان ينظر باتهام إلى مدرسة العراق في الحديث، فقد روي عنه في هذا الصدد ((نخرج الحديث شبراً - يقصد من المدينة - فيرجع ذراعاً، يعني من العراق وأشار بيده إذا وغل الحديث هناك فرويداً به))(2)، وهذا الموقف متأتٍ من ميوله إلى الحكام الأمويين وبغضهم لأهل العراق لمواقفهم من العلوين وآل البيت، وكان أكثر تساهلاً في إجازة الرواية، فقد روي عن أنس بن عیاض عن عبيد الله بن عمر قال: ((رأيت ابن شهاب يأتي بالكتاب من كتبه فيقال له يا أبا بكر هذا كتابك وحديثك نرویه عنك فيقول: نعم - ما قرأه ولا قري عليه -))(3)
وقد ذهب أحد الباحثين(4) إلى أن الزهري هو الذي وضع لمدرسة المدينة أسساً راسخة ورسم منهجها الذي سنشير إليه فيما بعد، فهو حين قام بجمع مواد أخبار المغازي لم يقتصر على المواد التي كان جمعها عروة بن الزبير، بل تعدى إلى رواية أهل المدينة الأخرى ولم يقتصر عمله على الجمع بل زاد ذلك بالتنسيق والترتيب والتمحيص.
وكذلك يضيف أن الزهري هو أول من أعطى السيرة النبوية هيكلاً محدداً ورسم خطوطها بجلاء ووضوح.
ص: 81
وقد ذكر حاجي خليفة أن هناك كتاب المغازي وهو مؤلف عائد إلى محمد بن شهاب الزهري(1)، إلا أن من تقدم على حاجي خليفة ذكر أنه ((لم يكن للزهري كتاب إلا كتاب نسب قومه))(2)، ويتضح من ذلك أن الزهري لم يملك كتاباً مدون بالمنهجية الصحيحة مختصاً بالمغازي، وذكر هوروفنتس(3) ((لم يصل إلينا کتاب مستقل له، وإنما يوجد في مجموعة الأحاديث التي رواها وجمعها المتأخرون))، ويعضد هذا الرأي الرواية المذكورة أعلاه التي ينفي كاتبها أي كتاب للزهري سوی کتاب نسب قومه.
إلا أن هناك باحثاً(4) آخر يذكر أن كتاب المصنف لعبد الرزاق الصنعاني هو کتاب الزهري (ولدى تفحص هذا القسم تبين لي أنه يحوي كتاب الزهري في المغازي، مع زيادات طفيفة، وقد روى الإمام عبد الرزاق هذا القسم عن الإمام معمر بن راشد تلميذ الزهري و راوية علمه)) وخلاصة القول وحسب ما ذكرنا نعتقد انه لم يوجد کتاب للزهري خاص، وأن الذي ذكره الباحث أعلاه هو مجرد مجموعة من الروايات استطاع عبد الرزاق الصنعاني جمعها باعتبارها من مصدر واحد وتبويبها تحت عنوان واحد وهو المغازي(5).
فمهما يكن الأمر فإن الزهري أسهم إسهامة كبيرة أكثر من غيره من الرواة في رفد كتب السيرة النبوية بروایات وافية تتسم بالشمولية والغزارة المعرفية، وكان له
ص: 82
الفضل في الحركة التاريخية(1).
وقد استطاع الزهري إيصال علمه إلى الجمهور في الرواية الأتية تأیید لذلك، إذ ذکر یونس قال الزهري: ((إياك وغلوا الكتب، قلت: ما غلوها؟ قال: حبسها عن أهلها))(2)، وكان الزهري يحرص على أن يكون ما يؤخذ من العلم من قبل المتعلمين لابدَّ أن بدوَّن حيث يقول: ((حضور المجلس بلا نسخة ذل))(3)، وقد ذكر في ذلك السياق عن الليث بن سعد قال: قال الزهري ((ما صبر أحد على العلم صبري ولانشره نشري))(4).
وإضافة إلى ما تقدم فإن الزهري عني عناية تامة بالأسانيد فعن الوليد بن مسلم قال: ((خرج الزهري من الخضراء فجلس ذلك العمود من عند عبد الملك بن مروان، فقال: يا أيها الناس إنّا قد كنّا منعناکم شیئاً قد بذلناه هؤلاء فتعالوا حتى أحدثكم. قال: نسمعه يقولون قال رسول الله ((قال، فقال: يا أهل الشام مالي لا أری أحاديثكم ليس لها أزمة ولا خطم ؟ قال الوليد وقبض بده: تمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ))(5)، فهو أول من أسند الحديث وهو أول من دون الحديث ((ويتضح من خلال فحص سلسلة الأحاديث أن اسم الزهري يحتل عند معظمهم في الورد المكان الثاني بعد اسم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا يجعلنا نقرر له دوراً كبيراً في تاريخ الحديث، ولم يكن الإسناد معروفاً عند من درس
ص: 83
عليهم الزهري، إلا أنه اهتم بسلاسل الأسانيد لعدد كبير من الأحاديث التي لم يكن إسنادها ضرورياً قبل ذلك))(1).
أما منهجیته في سرد الروايات التاريخية الخاصة بالسيرة النبوية فقد كانت تعتمد على الإسناد الجمعي وذلك يقوم على ذكر عدد من الروايات في قصة سهله متسلسله يتقدمها رجال الإسناد، وهو بذلك خطی خطوة في عملية تطور الكتابة التاريخية(2).
وبعد ذلك فإن الزهري يكثر من الآيات القرآنية التي تتصل بما یورده من أخبار حيث تظهر روايات الوافدي (3) عن الزهري ورود تلك الأيات كمحل شاهد للرواية التاريخية أو كانت الحادثة التاريخية هي سبب نزول تلك الآية حيث كانت عاملاً آخر من عوامل الكتابة التاريخية كما ذكرنا في صدر البحث (4).
وقد اهتم الزهري بالشعر حيث كان يورد ما قيل من شعر في الحوادث التي عرضها في أخبار السير(5)، وهذا راجع إلى اهتمام الزهري الكبير بالشعر فعن حماد بن زيد قال: ((كان الزهري يحدث ثم يقول: هاتوا أشعاركم وأحادیثکم کم فإن الأذن مجاجة وللنفس حمضة))(6). وهذا يدل على أن الشعر كان من العناصر المهمة في الثقافة السائدة آنذاك، وما تدل الرواية إلا أن الزهري نفسه كان مولعاً بالشعر ومع هذا فإن مقدار الشعر في مغازيه محدود(7).
ص: 84
ولعل المناسب أن نذكر رأي أحد الباحثين(1) في الزهري حيث يقول: ((كان الزهري أكثر انصافاً لحقائق التاريخ من عروة، ومرة أخرى بيدو الزهري أكثر انصافاً من الآخرين ممن عاصروه حیث بوجه الطعن للتاريخ الذي كان يكتب على عيون بني أمية))، ففي رواية معمر قال سألت الزهري: ((عن كاتب الكتاب يوم الحديبية؟ فضحك وقال علي بن أبي طالب ولو سألت هولاء - يعني بني أمية - لقالوا: عثمان))(2)، ومن ذلك يتضح حسب رأينا أن الزهري کتب رواياته في السيرة حسب ما طلبت منه سلطات البلاط الأموي إلا أنه كان يضمر الحقائق المهمة ولا يظهرها للرأي العام ؛ لأنها تصطدم مع مصلحته القائمة على الاعتباش الدنيوي داخل البلاط الأموي حيث أعرض عن ذكر سيرة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومناقبه إرضاءً لبني أمية وهذه منقبة حفظها له بنو أمية، أو ربما يظن أنه سلك مسلكاً وسطاً لكن هذه الوسطية التي انتهجها الزهري إن صحت فإنها أهدرت كثيراً من حقائق التاريخ، و في الرواية الآتية التي تبين بها طلب الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري من این شهاب ما يلي: ((قال لي خالد بن عبد الله القسري اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر فمكثت أياماً وما اتمته فقال اقطعه - قطعه الله مع اصولهم - واكتب لي السيرة، فقلت له إنه يمر به شيء من سيرة علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأذكره قال لا، ألا تراه في قعر الجحيم. ..))(3).
ص: 85
يتضح من الرواية أعلاه مدى تأثير البلاط الأموي والولاة الأمويين في توجيه الزهري حسب ما تتطلبه میولهم ورغباتهم في كتابة السيرة، حسب ما تقتضيه الأمانة العلمية والمصلحة الإسلامية فتصوره الرواية وكأنه آلة كتابة بيد خالد القسري لا كعالم کما تصفه روایات من ترجم له وذكرناها في صدر الفقرة.
ونتيجة للتحريف الذي صدر من محمد بن مسلم الزهري وإخفائه حقائق الأمور وإغماضه للحق وطمسه لسيرة الإمام علي (عليه السلام) فقد وجه إليه الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) كتاب يعظه فيه ويوصيه أن لا يتبادی کثيرة في تزیيف حقائق التاريخ وكان الحق فللضرورة نورد جزءاً من تلك الرسالة ((كفانا الله و إياك من الفتن ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك فقد أثقلتك نعم الله بما أصح من بدنك وأطال من عمرك وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه و فقهك فيه من دينه وعرفك من سنة نبيه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)، فرضي لك في كل نعمة أنعم الله في ذلك عليك وكل حجة احتج بها عليك الفرض بما قضى، فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك و أبدى فيه فضله عليك فقال:« لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ »(1)، فانظر أي رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمة عليك كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها ؟ ولا تحسبن الله قابلاً منك بالتعذير ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه « لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ »(2)، واعلم أن أدنی ماکتمت و أخف ما احتملت أن أنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغي بدنواك منه حين دنوت وإجابتك له حين دعاك، فما أخوفي أن
ص: 86
تكون تبوء باثمك غداً مع الخونة، وأن تسأل عما أخذت بأمانتك على ظلم الظلمة، إنك ما ليس ممن أعطاك ودنوت ممن لم يرد على أحد حقاً ولم ترد باطلاً حين أدناك وأحببت من حاد الله أو ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك من مظالمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلماً إلى ظلالتهم، داعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم یبلغ أخص ورائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمروا لك، فكيف ما خربوا عليك...))(1).
وهي رسالة طويلة اخترنا منها هذا المقطع البیان وعظ الإمام السجاد عليه السلام) للزهري دعوته إلى ترك ما أقدم عليه من تزوير لحقائق التاريخ وتدليس للروايات وحسب ما يريده الحكام الذين يعمل هو في فلكهم.
والذي تريد قوله هو أن الزهري كان يعلم الحق ولا يصرح به بل يصرح بخلافه ولعل لديه أعذاره التي يعتبرها مناسبة لمقامه ومكانته العلمية، ومن خلال الرواية الأتية يمكن ملاحظة ذلك، فعن عبد الرزاق الصنعاني عن معمر قال: ((كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي (عليه السلام) فسألته عنهما يوماً، ، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما الله أعلم بما أني لا أتهمهما في بني هاشم))(2)
وقد ذكرناهما في الفقرة الخاصة عن عروة بن الزبير في هذا البحث، ولا بأس من إيراد أحدهما أن عروة زعم أن عائشة حذشته، قالت: ((كنت عند النبي (صلى الله
ص: 87
عليه و آله و سلم) إذ اقبل العباس وعلي، فقال يا عائشة: إن سركِ أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب))(1)، وهذا دليل آخر على إخفاء عروة الكثير من حقائق التاريخ وتحريفها.
وقد امتدح الإمام زين العابدین (عليه السلام) حيث ذكر سفيان بن عيينة ((قلت للزهري لقيت علي بن الحسين (عليه السلام) ؟ قال: نعم لقیته ومالقيت أحداً أفضل منه والله ما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية فقيل له كيف ذلك ؟ قال لأني لم أرَ أحداً كان يبغضه لا وهو لشدة مدارانه له یداریه))(2).
وكان الزهري إذا حدث عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: ((حدثني زين العابدين علي بن الحسين، فقال له سفيان بن عيينة: أولم تقل له زین العابدين؟ قال: لأني سمعت سعید بن المسيب يحدث عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ این زین العابدين فكاني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطو بين الصفوف))(3)، ومن خلال عرضنا ولو بشكل مبسط لأثر الزهري في كتابة السيرة النبوية وكذلك ميوله السياسية للحكام الأمويين جعل من تعامله مع السيرة النبوية يثير كثيراً من الشكوك حول عدم ذكره للحقائق التاريخية وإغفالها وقد صنّفه البعض في قائمة أعداء أهل البيت (عليهم السلام) والبعض الآخر أعاب عليه مكوثه في البلاط الأموي، والآخر ركز
ص: 88
على دوره العلمي في المدينة(1).
بعد أن درسنا عدداً من التابعين الذين كان لهم الدور في نقل الرواية التاريخية وإنضاجها بشكل جيد وكانت لهم مجموعة من المدونات وكما لاحظنا أسهمت في كتابة السيرة النبوية الأن نتطرق إلى قسم من رواة السيرة وكتابها في مرحلة ما بعد التابعين أو يمكن أن نسميهم اتباع التابعين.
ابن محمد بن عمرو بن حزم من بني نجار(2)، وهو من أصحاب المغازي ومن شيوخ ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية(3). والدور المميز والبارز لشخصيته وما يحمل من إمكانات جعلته من أبرز علماء المدينة من التابعين في مجال السيرة النبوية، ويمكن عده من الجيل الثاني بعد ما ذكرنا الجيل الأول.
والحديث عن شخصية عبد الله بن أبي بكر يأتي من ثقله المعرفي وإسهاماته الكبيرة في رفد من كتب السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بالروايات المهمة وقد عُدّ من قبل المؤرخين وأصحاب الحديث بأنه من الثقات (4).
وقبل الولوج في موضوع عطائه المعرفي في السيرة النبوية نعرج على خلقينه العائلية لما يتميز به من مميزات أعطته الذاقع الكبير للاهتمام بالرواية التاريخية. فجده
ص: 89
الأكبر عمرو بن حزم من أصحاب الرسول (صلى الله علیه و آله و سلم) ، وقد أرسله الرسول إلى نجران في اليمن جابياً للصدقات وعاملاً عنه وهو في السابعة عشرة من العمر(1)، وهذا يعطي دافعاً قوياً إلى أحفاده على اعتباره رمزاً يقتدى به، وبالفعل فقد نقل حفيده عبد الله الذي نُعنى الآن بدراسته تفاصيل العهد من قبل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى بني الحارث بن كعب ليكون عمرو بن حزم ممثلاً للرسول هناك لنقل تعاليم الإسلام وتبليغهم الأمور الفقهية وتعليمهم الصلاة وقراءة القرآن إضافة لكونه جابياً للصدقات.
إن تلك المكانة التي حظي بها عبد الله بن أبي بكر جاءت من مكانة جده وصحبته للرسول الأكرم فقد جعلته مهتماً كثيراً بتدوين السيرة النبوية، فقد عمد إلى حفظ عهود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسائله إلى الأمراء وزعماء القبائل(2)، ومن ضمن ذلك العهد المذكور، أما جده الثاني وهو محمد بن عمر بن حزم فقد قتل يوم الحرة(3).(4) (1367)، حيث كان من ضمن المدافعين عن المدينة آنذاك إلا أن أباه أبا بکر بن محمد كان من المقربين للأمويين فكان أميراً للمدينة ثم قاضيها، إضافة إلى ذلك فقد كان أحد أئمة الإثبات في زمانه وله معرفة ودراية بالحديث والرواية وقد
ص: 90
أخذ عنه ابنه عبد الله وغيرهم، ولم يكن في المدينة أمير أنصاري سواه، توفي سنة (120ه- 737م)(1).
فكانت رواية عبد الله عن أبيه، وخالة أبيه عمرة بنت عبد الرحمن(2)، وأنس بن مالك وغيرهم، وروى عنه الزهري، وابن إسحاق صاحب السيرة النبوية وغيرهم كثيرون، وقد كان معاصراً لأبيه ومكانته العلمية وروايته للحديث لم تكن شائعة في أثناء معاصرته لأبيه لأن ذكر أبيه كان هو الطاغي(3).
لم تقتصر أقوال ومرويات عبد الله بن أبي بكر على المغازي بالمعنى الخاص للكلمة بل عني أيضاً بإيراد الروايات التي تحكي عن شباب النبي وأعوامه الأولى(4).
لكن الملاحظ أن اسمه ظهر في ذكره بجملة من مغازي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أجملها بست وعشرين غزوة وأولها غزوة الأبواء(5) ثم ذكر بعد ذلك إحصاءً كاملاً لتلك الغزوات إضافة إلى ذكره تفاصيل الوفود التي وفدت على النبي حبث روی وفد زبید و تفاصيله وذكر كذلك أشعاراً لعمرو بن معد یکرب(6).
وقد احتفظ بتفاصيل المراسلات بين الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم)
ص: 91
وعماله ومنها على سبيل المثال الرسالة التي أرسلها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني الحارث بن کعب بعد أن أوفد إليهم جده الأكبر عمرو بن حزم الأنصاري (1).
إن مروياته التاريخية أسهمت في اغناء الساحة العلمية في مجال كتابة السيرة منها: لم تقتصر روانه على جميع الأخبار التي وصل إليها فقط بل حاول أيضاً في ذلك الزمن المبكر أن يبتكر الترتيب السنوي للحوادث فجمع قائمة بغزوات النبي مرئية الترتيب السنوي وقد اعتمدها ابن إسحاق في سيرته ونقلها الطبري(2).
تساهله الكبير في إسناد روايته وإغفاله لرواتها الأوائل فقد ذكر بأنه إذا حدث كأنه شاهد عيان، ولكن في أحيان أخرى يذكر السند(3). حيث علل أحد المستشرقين تساهله في الأسانيد بأنه لم يكن يرى إن الإسناد واجب في روايته التاريخية (4).
إن روايات عبد الله بن أبي بكر لم تقتصر على مغازي الرسول والحقبة المدنية وإنما تجاوزت إلى مدن أخرى من عمره ومرحلة الدعوة في مكة(5).
استشهاده بالآيات القرآنية للحوادث التي نزلت فيها حيث تطرق إلى الآيات القرآنية التي نزلت في معركة الخندق عندما أورد حديثها(6).
ص: 92
ابن أبي عياش القرشي المطرفي، كنيته أبو محمد المدني(1) مولى آل الزبير بن العوام این خويلد(2)، لم يذكر خبر صحيح عن تاريخ ولادته(3)، شأنه شأن بقية العلماء إلا ما قيل على لسان موسى بن عقبة إنه حج و این عمر بمكة(4)، وعلى كل حال ذكر أنه كان ثقة قليل الحديث(5) ، وذكر الواقدي أنه كان مفتياً وفقيهاً(6).
وقد روى عن كثير من علماء عصره الذين اختصوا برواية الحديث والمغازي منهم عروة بن الزبير والزهري وغيرهم(7). وقد استفاد كثيراً في بداية حياته العلمية من مخطوطات وكتب عبد الله بن عباس حيث يشير إلى ذلك ((ووضع عندنا کریب عدل بعير من كتب ابن عباس))(8).
وكان لموسى بن عقبة وأخويه إبراهيم ومحمد بن عقبة حلقة في مسجد رسول الله حيث كان لهم علم في الحديث وكذلك في الفقه فكان موسى من الفقهاء الموجودين في المدينة آنذاك ولعل إسهامات موسى بن عقبة واضحة من خلال تدوينه لمغازي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويوجد كتاب خاص بمغازي موسى بن عقبة
ص: 93
یسمى المغازي النبوية، وهو كتاب جامع ومدون للسيرة النبوية، وقد ذكر في كتابه أخبار عن الخلفاء الأوائل والأمويين ويحتمل أن يكون سبب اشتهار كتابه هذا هو إعداده قائمة بأسماء الصحابة الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة والذين هاجروا إلى الحبشة والمقاتلين في الحروب في معركتي بدر وأحد(1).
وقد ذكر ابن عبد البر (2) أنه قام بتأليف كتابه الدرر في اختصار المغازي والسير باعتماده على كتاب موسی بن عقبة وبذلك يكون موسی من الذين أسهموا في تصنيف الكتب التي تتحدث عن مغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولعل من المناسب أن نذكر اهتمام موسی بن عقبة في تدوين المغازي حيث تطرقنا في أثناء حديثنا عن شرحبیل بن سعد، وانه كان أعلم الناس بالمغازي وقد اتهموه أنه يجعل لمن لا سابقة له سابقة وقد مرت عليه ظروف منها تدهور صحته آخر أيام حياته، وكذلك حاجته المادية التي اضطرته وحسب ما ذكرت رواية سفيان بن عيينة -التي ذكرناها في مورد الحديث- عن شرحبيل إلى أن يدخل فيهم من لم يشهد بدراً، ومن قتل يوم أحد، وآلهجرة ولم يكن منهم وقد وصل خبره إلى موسى بن عقبة بأنَّ الناس أسقطوا رواية شرحبیل بن سعد، فعمد هو مبادراً على الرغم من كبر سنه وقيد من شهد بدراً و أُحداً ومن هاجر إلى الحبشة والمدينة وكتب ذلك (3).
وقد ناقشنا ذلك في محله إلا أن الذي تريد ذكره هنا أن الأمور السياسية والمذهبية قد أدت دوراً مميزاً في التأثير على كتابة السيرة في هذه الحقبة بالذات فلذلك عمد من
ص: 94
لهم میول سیاسية معينة أو ميول مذهبية في توجيه بوصلة الكتابة إلى حيث يريدون فالملاحظ من خلال ذلك تأیید مالك بن أنس إلى ما قام به موسی من عمل في تدوين السيرة النبوية ومغازي الرسول، فعن محمد بن الضحاك قال: ((كان مالك إذا سئل عن المغازي، قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي))(1).
وقال أيضاً سمعت محمد بن طلحة أن مالكاً يقول: ((عليكم بمغازي موسى فإنه رجل ثقة، طلبها على كبر سن ؛ ليقيد من شهد مع رسول الله ولم يكثر كما أكثر غيره، قلت: هذا تعریف بابن إسحاق، ولا ريب أن ابن إسحاق كثّر وطوّل بأنساب مسئوفاة اختصارها املح، باشعار غير طائلة حذفها أرجح وبآثار لم تصحح، مع أنه فاته شيء من الصحيح، لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح، ورواية ما فاته، أما مغازي موسى بن عقبة، فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح، ومرسل جيد لكنها مختصر تحتاج إلى زيادة بسيان وتتمة))(2).
من خلال ما أوردنا يتضح أن مالك بن أنس ومريديه كان تأييدهم واضحاً لمغازي موسى بن عقبة، وكذلك يتضح أن لموسى كتاباً خاصاً بالمغازي يضاهي بالأهمية والمكانة العلمية كتاب ابن إسحاق في المغازي والسير - وسوف نتطرق بشكل مفصل إلى ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل – وأن رأي مالك بن أنس في مغازي موسى بن عقبة محل تحفظ و تدبر کما یذكر أحد الباحثين (3) ((إذ أنه لم يطلق كلاماً جزافاً - الإمام مالك - بل أراد منه إيجاد مصنف في سيرة الرسول (صلى الله
ص: 95
عليه وآله وسلم) ومغازيه يقف نداً للسيرة التي كتبها محمد بن إسحاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما ذلك إلا لتعاظم العداء الشخصي بين الإمام مالك وبين ابن إسحاق الذي وصل حداً أن تقاذف الاثنان التهم بينهما، فأراد مالك بمقالته هذه أن يسقط المغازي التي كتبها ابن إسحاق من أعين الناس ويجعل مغازي موسى بن عقبة أفضل منها بشحذ همم الناس على
قراءتها) وقد نالت معازي موسی بن عقبة التأييد من أحمد بن حنبل (240ه -854م) حيث قال: ((عليكم پمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة))(1).
وقد اعتمد ابن عقبة في كتابه المغازي على مشايخه الذين أشرنا إليهم لاسيما الزهري الذي يعدّ أستاذه الأول حيث استفاد من المواد المكتوبة إضافة إلى الروايات الشفهية ويعد - الزهري واضع أركان قواعد السيرة(2)، ويرجع أساس مغازي موسی بن عقبة إلى روايات عروة والزهري وإن روی عن غير هما إلا أن البعض أنكروا سماع ابن عقبة رواياته من أستاذه الزهري مباشرة(3)، إلا أن أحد المستشرقين (4) قال: ((ويجب أن لانصدق الإدعاء الذي لانعرف رواية له... وأن هذا الكلام غير مقبول إلا أن موسى لم يسمع أخباره من الزهري مباشرة وإنما أخذها عن طريق تلاميذ الزهري أو عن طريق مدوناته))، قد يكون هذا بعيداً عن الواقع حيث إن المتتبع للمدة الزمنية التي عاش بها الاثنان تدل على المقاربة الزمنية ومعاصرة كل واحد منهم للآخر، فعليه لم توجد أي حواجز حسب المعطيات المتوفرة تدل على منع موسى بن عقبة من
ص: 96
أستاذه وأخذ الرواية منه مباشرة وإن كانت مدونات الزهري عاملاً مساعداً جعل الأمور أكثر مرونة لأخذ رواياته بسهولة أكثر(1) .
وقد تميزت مغازي موسى بفكر تاريخي منهجي حيث وضع مادته التاريخية في تسلسل زمني حولي منظم(2).
إضافة إلى ذلك لم يفصل السند وإيراده مع الرواية، وإن أغفله أحياناً، ویعنی بالأخذ من مدونات من سبقه، وكذلك يقتبس بعض الأشعار إضافة إلى أنه يمتاز برواية أخبار الزبيريين، ويسير مع ميولهم ورغباتهم المذهبية والسياسية(3).
وذكر أنه كان من العُبَّاد(1)، وروي عن أنس بن مالك و الحسن بن علي عليه السلام، وكان مقدماً في العلم والعمل(2)، وعلى ضوء ذلك عدّه ابن قتيبة من رجال الشيعة(3). وقد حدث عنه أبو إسحاق السبيعي، وابنه معتمر، وشعبة(4)، وحماد بن سلمة(5) وغيرهم كثيرون، وذكر المدائني ت (225ه-839م) له نحو مائتي حديث، وذكر ابن حنبل أنه ثقة، وكذلك النسائي(6) ، وقد كان من المهتمين بكتابة السير والمغازي ويؤكد ذلك الإجازة التي حصل عليها این خير الاشبيلي(7) بالمغازي التي كتبها سليمان بن طرخان، وقد تميزت مروياته بالدقة، ومن آثاره (کتاب المغازي)(8).
إن المصادر القديمة لم تذكر أنه ألف كتاباً ولكن المستشرق فون کریمر وجد مخطوطاً يحوي على مغازي الواقدي التي لا تصل إلى إجلاء بني النظير من المدينة ثم
ص: 98
تكمل من مغازي أبي معتمر سليمان بن طرخان التميمي المسماة (السيرة الصحيحة كما يقول الناسخ)(1).
إلا أن هناك رأي آخر يذكر أن هناك كتاباً باسم المغازي السليمان بن طرفان التميمي رواه عنه ولده المعتمر بن سليمان وعن المعتمر محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ت (245ه - 859م) وذكر أن هذا الكتاب لم يكن من المصادر المشهورة عند المتقدمين (2). وذكر أن الأخبار التي يوردها سلمان في كتاباته للسيرة النبوية موجزة مضغوطة مشقة لاتكثر خلالها الفواصل، إضافة إلى أنه لا يعني بالأسانید ویعنی بالروايات المتعددة، ويمتاز وصفه بالقوة ويشعر القارئ بأنه مشرف على معركة يرى الأبطال ويشاركهم احاسيسهم وأفعالهم، وقد يأتي بروايات غریبة في الغزوات الكبيرة المعروفة، تخالف ما أجمع عليه المؤرخون الآخرون.
ويورد سليمان أخبار عن العباس لا نجدها عند غيره من المؤرخين، كلها من جانب العباس ما يقرن المرء بالقول إنها من وحي العباسيين.
إضافة إلى عنايته بإيراد الآيات القرآنية وشرح مناسباتها التاريخية کما یعنی بالشعر إلا أنه قليل قياساً إلى غيره من الرواة، وإن أسلویه سهلٌ نسبياً.
ص: 99
الأزدي الحداني(1)، ویکنی أبا عروة، وكان من أهل البصرة فانتقل فتزل اليمن(2)، كانت ولادته سنة (95ه -13 7م) أو (96-714م)، طلب العلم وهو حدث (3) وكانت بدايات تتلمذه عل ید قتادة(4) وهو في الرابعة عشرة من عمره حيث برز تقدمه ونبوغه العلمي آنذاك(5)، ثم بعد ذلك انتقل إلى اليمن وسكن فيها ويعد بعد توطنه اليمن من أعلامها(6)، وحدّث عن قتادة والزهري وابي إسحاق السبيعي(7) وغيرهم(8).
إن انتقاله إلى اليمن يمثل حلقة الوصل بين مدرستين؛ مدرسة العراق واليمن ولم ينتقل قبله أحد من المحدثين فكان استقراره النهائي في صنعاء ليكون واحداً من
ص: 100
أبرز علماء المدرسة فيها(1).
وكان من العلماء الذين يعدون من أوعية العلم وكان صادق الحديث دقيق التحري إضافة إلى ورعه وحسن تصنيفه(2) إلا أنَّ هناك ملاحظات على حديثه في البصرة ((وحدث فيه بالبصرة فقيه اغاليط))(3) .
وقد كان أكثر حديثه عن الزهري ويعد من أكثر المتحدثين رواية عنه(4)، وقد حدث عنه الكثيرون منهم الواقدي و عبد الرزاق الصنعاني وغيرهم(5)، وقد وصف في الفهرست لابن النديم(6) بأنَّ له كتاباً مدوناً لكن تلميذه عبد الرزاق الصنعاني نقل لنا في المصنف وفي القسم الخاص بالمغازي جزءاً كبيراً من مغازي معمر ونقلها بدوره عن رواية أستاذه الزهري(7).
وقد ذكر أحمد بن حنبل وثافة حديث معمر حيث قال: ((ليس نظم معمر إلى أحد إلى وجدته فوقه)) (8) وقد قال عنه این جریح ت (150ه-767م): ((عليكم
ص: 101
بهذا الرجل - معمر - فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه اعلم منه))(1).
ولم يلتزم معمر بالمغازي النبوية بوجه خاص بل وجه عنايته كذلك إلى تاريخ أهل الكتاب وعن الرسل السابقين وكذلك تاريخ النبي قبل الهجرة(2)، وكأنما يحكي من خلال ذلك واقع مدرسة اليمن وكما ذكرنا في حديثنا عن وهب بن منبه أن رواياته لم تقتصر على ذكر مغازي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث روى عن الأنبياء السابقين وروى حياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في صباه وشبابه قبل البعثة.
إن ما تمیز به معمر في تدوينه السيرة النبوية أنه لم يرتب مادته ترتیباً زمنياً كما فعل معاصره موسی بن عتبة، بل رتبها ترتیباً موضوعياً على نحو ما فعله في علم الحديث (3)، فهو يعدّ من أوائل المحدثين الذين رتبوا الأحاديث في أبواب ومواضيع(4).
وذكر ((قد وصلتنا قطعة من كتاب معمر بن راشد على رق شديد القدم محفوظة في المعهد الشرقي شيكاغو ونشرت النص الباحثة نبيهة عبود، کما وصلتنا قطع أخرى من الكتاب ما تزال محفوظة في اسطنبول والرباط ودمشق، ونسخة اسطنبول على رق الغزال نسخت في طليطلة سنة (363ه - 973م)))(5).
وقد اهتم معمر في إيراد سند للحديث أو الرواية وكذلك إثبات الآيات القرآنية التي نزلت في الحوادث التي تطرق إلى ذكرها، وقد أغفل ما قيل في تلك الحوادث (6).
ص: 102
ابن يسار بن خیار، وقيل بن کوثان(1)، ويقال بن کومان(2)، ويلقب بأبي بکر (3))، وقيل أبو عبد الله(4)، وكان جده يسار من سبي عين تمر(5) حيث عد أول سبي دخل المدينة(6) سنة (12ه - 633 م) من قبل خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر (11م۔ 13ه) (632م - 634م) بعد أن فتحت عنوة(7)، ويكنیسة عين التمر وجد خالد بن الوليد يسار جد ابن إسحاق بين الأغلمة الذين كانوا رهناً على
ص: 103
ید کسری(1).
أما عن أصله فيذكر الخطيب البغدادي أنه من أصول فارسية(2)، إلا أنه هناك من بؤید کونه من أسرة عربية مسيحية(3)، ولا توجد إشارات في المصادر التاريخية غير ما ذكره الخطيب البغدادي تؤيد أصوله الفارسية، وكان ليسار ثلاثة أولاد تزوج أحدهم المسمى إسحاق من ابنة مولى يسمی صبیح فأنجبت له محمد بن إسحاق موضوع بحثناً(4)، أما بشأن ولادته فتشير المصادر إلى أنه ولد سنة (80ه- 699م)(5) في المدينة المنورة، وفي مورد آخر ذكر الذهبي أنه ولد سنة نيف وثمانين(6)، إلا بعض الباحثين المتأخرين ذكر ولادته سنة (85ه - 4 70م)(7).
وذكر ابن النديم(8) أنه كان حسن الوجه والشعر فقد((رقي إلى أمير المؤمنين أن محمداً يغازل النساء فأمر باحضاره و ضربه أسواطاً ونهاه عن الجلوس في مؤخرة المسجد))، وقد كان ابن إسحاق من مصنفي المغازي(9)، فقد واظب على طلب العلم وكثرت عنايته واهتمامه به (10)، وكان بحق من علماء المغازي آنذاك، وقد حدث عن
ص: 104
مجموعة من أصحاب العلم منهم أبوه إسحاق بن يسار، وعمه موسی بن يسار، وعن أبان بن عثمان، والإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، والزهري، وفاطمة بنت المنذر(1) وغيرهم كثيرون(2)، ويعتبر ابن إسحاق أول من دون العلم في المدينة وفق منهج صحيح وكان ذلك قبل مدونة مالك بن أنس(3).
وقد أدرك ابن إسحاق أنس بن مالك ففي رواية سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق قال: ((رأيت أنس بن مالك عليه عمامة سوداء، والصبيان ينشدون ويقولون: هذا رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لايموت حتى يلقى الدجال))(4).
وقد حدث عنه إبراهيم بن سعد(5)، وزياد بن عبد الله البكائي وسلمة بن الفضل الأبرش و محمد بن سلمة الحراني، ويونس بن بکیر وغيرهم(6).
إن نشأة ابن إسحاق في المدينة المنورة أثرت عليه كثيراً، إذ كانت المدينة مركزاً
ص: 105
مهما من المراكز العلمية في الدولة الإسلامية آنذاك حيث تطور الحركة العلمية وتناقل الروايات من الصحابة إلى التابعين أسهم مساهمة فاعلة في التطور العلمي الذي حازه ابن إسحاق وعد من العلماء البارزين في السير والمغازي وأيام الناس وأخبار المبتدأ والخبر وقصص الأنبياء(1)، إضافة إلى هذا لا يمكن إغفال دور الأسرة التي نشأ فيها ابن إسحاق فقد كان والده من المهتمين برواية الحديث وكذلك عمه موسی بن يسار وعمه الآخر عبد الرحمن اللذان رويا أحاديث عن أبي هريرة وشكّل ذلك دافعاً معرفياً لدى ابن إسحاق الذي روى كثيراً عن أبيه وعمّیه(2).
وتعد الجذور المعرفية والكتابية لدى عائلة ابن إسحاق قديمة منذ صبا جده يسار الذي أسر من الدير في عين التمر کما ذکرنا، فقد كان يدرس مع الفتيان هناك، فكل ذلك أعطاه دافعاً قوياً للتحصيل المعرفي ويتضح ذلك أكثر من خلال القصص والروايات التي ينقلها عن عصور ما قبل البعثة النبوية المباركة، ويبدو أنه كان يعرف السريانية فربما ظلت تلك اللغة متوارثة في اسرته (3).
تشير المصادر إلى أن ابن إسحاق اشتهر بعد عودته من مصر سنة ( 123ه- 729م) بالقول بالقدر وجلد على ذلك في المدينة(4)، إلا أن الإشارات الثابتة تقريباً عن الكثير
ص: 106
من المؤرخين هي تشیعه، فقد ذكر الخطيب البغدادي ((أنه كان يتشبع، وينسب إلى القدر))(1) وعد من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)(2).
وقد ذكر المدائني كان محمد بن إسحاق يتشیع ويقدم علياً علي عثمان وقال الشاذكاني ت (234ه - 848م) ((كان محمد بن إسحاق یتشیع وكان قدرياً)(3)، أما ابن أبي الدنيا(4) فذكر أنه رمي بالتشيع، وقد ذكر الذهبي إمساك غير واحد من العلماء عن روایات ابن إسحاق لأشياء منها تشیعه ونسب إلى القدر ثم يكمل روايته عنه ((ویدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه))(5) من خلال ذلك يتبين أن العلة في الإشكال على روايته من البعض الذين يختلفون معه مذهبياً إن صحت الرواية أعلاه جعلته يرمى بالتدليس في أحاديثه.
إن ما وصلنا من نتاجات علمية لابن إسحاق باعتبارها باكورة التدوين التاريخي يعطي انطباعاً واضحاً لما تتمتع به شخصيته من مكانة علمية بارزة في وقته وقد دفعت تلك المكانة العلمية إلى الإشادة به وبمكانته من قبل العلماء المعاصرين له والذين لم يعاصروه والآن نورد آراء العلماء الذين أشادوا بابن إسحاق:
ص: 107
فأستاذه الزهري قال لايزال بالمدينة علمٌ جمٌ ما كان فيها محمد بن إسحاق أما شيخه الأخر عاصم بن قتادة فكان رأيه فيه لا يختلف عن الزهري(1).
وروي عن الشافعي (204ه - 820م) (قال من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال علی ابن إسحاق))(2) أما يزيد بن هارون ت (206ه - 821م) (قال لو كان لي سلطان لأمّرت ابن إسحاق على المحدثين))(3)
وقال يحيى بن کثیرت (234ه - 848م) سمعنا شعبة يقول: ((ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث) وقال أيضاً ((هو صدوق))(4)، وقال العجلي ت (261ه - 874م) مدني ثقة، وعن المفضل الغلابي ت (246ه-860م) قال سألت یحیی بن معين(5) عن ابن إسحاق فقال: ((كان ثقة، من الحديث، فقلت انهم يزعمون انه رأی سعيد بن المسيب فقال انه قديم)(6).
وقد كانت من خصاله العلمية المميزة هي حفظه للحديث حيث ذكر هارون بن معروف ت (231ه - 845م) عن أبي معاوية يقول: ((كان ابن إسحاق من أحفظ الناس وإذا كان عند رجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء واستودعها محمد بن إسحاق
ص: 108
وقال احفظها عني فإن نسيتها حفظتها علي))(1).
وقد روي أن أستاذه الزهري سمح بالدخول عليه بأي وقت يشاء تعظيماً لقدره ومكانته العلمية حيث أمر حاجبه بأن لا يعترضه مطلقاً(2).
وذكر ابن حبان (3) ((عني بعلم السنن وواظب على تعاهد العلم وكثرت عنايته فيه وجمعه له على الصدق والاتقان يروي عن مشايخ قد رآهم ويروي عن مشایخ عن أولئك ربما روى عن أقوام رووا عن مشايخ يرون عن مشايخه، پذل ما وصفت من توقيه على صدقة))
وقد ذكر أبو يحيى الساجي ت (307ه - 1919م) بإسناد له عن الزهري أنه خرج إلى قريته فخرج إليه طلاب الحديث فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول أوقد خلفت فيكم الغلام الأحول يعني ابن إسحاق ؟ وذكر الساجي أيضاً قال: كان أصحاب الزهري يلجأون إلى محمد بن إسحاق فيما شكوا فيه من حديث الزهري ثقة منهم بحفظه(4).
إن المكانة العلمية لابن إسحاق جعلته شيخ كتّاب السيرة وصاروا من بعده عيالاً عليه كما ذكرنا وهذا يقتضي المحافظة على مكانة كهذه كمثل هذا المنجز العلمي، فقد وعي ذلك ابن سيد الناس وأدرك أن سيرة النبي نفسها وقيمتها التاريخية تتعرضان
ص: 109
للخطر إن تعرضت الثقة بابن إسحاق للتساؤل، لذا فقد رأی واجباً عليه أن يعقد في مطلع سيرته - عيون الأثر(1) - فصلاً للدفاع عن ابن إسحاق في وجه ناقديه(2).
لم يكتفِ ابن إسحاق في تحصيل علمه على المدينة المنورة فقط بوصفها قلب المجتمع الإسلامي النابض والمكان الذي تبنّي الإسلام وأحاطه، ولذلك كانت لها أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي، وطبعت بحكم هذا المركز بطابع خاص في الحديث والرواية(3)، وعلى الرغم من المكانة العلمية للمدينة التي غذت ابن إسحاق بمعلوماته المعرفية، والجو الأسري الذي عاشه شجعه على الكتابة والتعلم إلا أنه فکر في الرحيل خارج المدينة ليطلع بصورة أكبر على العلم والمعرفة الموجودة في الأمصار والمدن الإسلامية.
وكانت أولى رحلاته العلمية إلى الأسكندرية سنة (115ه-733م) وقد التقى هناك بعلماء مصر وروى عنهم منهم يزيد بن حبيب ت (128ه - 745م) وآخرون.
إضافة إلى نقله لأحاديث اهل المدينة إلى هناك(4)، ولم يرحل ابن إسحاق من مصر إلى العراق مباشرة كما يظن البعض من عامة الناس حيث رجع إلى المدينة والتفی
ص: 110
أستاذه الزهري وقد برزه من علماء السير(1).
ثم بدأت بعد ذلك رحلاته خارج المدينة نتيجة للخلافات الحاصلة مع علماء المدينة و منهم مالك بن أنس وهشام بن عروة(2) - کما سنورد ذلك لاحقاً - حيث كانت رحلته إلى الجزيرة ثم أتی أبو جعفر المنصور (136ه - 158 ه) (753م - 774م) بالحيرة وأتى الري فسمع منه أهل الري، قرواته من هؤلاء البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة(3)
على الرغم مما ذكرنا من ثناء العلماء على ابن إسحاق إلا أن هذا لا يعني عدم وجود قادحين له، وقد بنشا الخلاف لأسباب متعددة وبحسب علمنا أن ابن إسحاق لديه ميول عقائدية مغايرة إلى عقائد كثير من العلماء الذين كانوا في المدينة، إضافة إلى سطوع نجمه كعالم في المغازي والسير وسوف نتطرق في هذه الفقرة إلى خلافه مع أبرز علماء المدينة آنذاك وهما مالك بن أنس ت (179ه-795م) عالم الحديث وهشام بن عروة بن الزبيرت (46اه-763م) عالم السيرة.
فقد ذكر المؤرخون والكتاب عدة أسباب لخلافه مع مالك بن أنس منها وكما هو معلوم الخلاف العقائدي إذ علمنا أنه رماه بالقدر(4)، إضافة إلى تشیعه، فهذا كان سبباً جوهرياً ومباشراً للخلاف إن صحت تلك التهم لابن إسحاق، وقد أعزى بعض
ص: 111
المؤرخين إلى أن الخلاف جاء من اتباع این إسحاق المنهجية جديدة في رواية السيرة وهو اعتماده بشكل مباشر على رواية غزوة خيبر على أبناء اليهود الذين حفظوا قصة خيبر على الرغم من إسلامهم(1).
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى اعتبار الخلاف نتيجة لعوامل مجتمعة منها علمي التخصص ابن إسحاق بكتابة السيرة والمغازي على خلاف ما يريده مالك على اعتباره أحد المحدثين المشهورين آنذاك إضافة إلى كونه متهماً بالقول بالقدر وتشیعه(2).
الا أن أحد الباحثين أرجع السبب إلى طعن ابن إسحاق بنسب الإمام مالك الذي اعتبره من موالي (ذي أصبح) و كان مالك يزعم أنه من نفسها(3).
إلا أنَّنا نميل إلى أن الخلاف ناتج عن خلافات عقائدية في الدرجة الأولى وبعد ذلك ألقي هذا الخلاف بظلاله على مسيرة الرجلين العلمية التي أدت إلى تنافر واختلاف واضح وكبير حيث صرح ابن إسحاق عن عدم رضاه على علم مالك حيث قال: ((أعرضوا عليّ علم مالك فأنا بیطاره))(4)، مما أدى إلى رد مالك بقوة حيث قال: ((انظروا إلى دجال من الدجاجلة)) (5) فكانت هذه ردة فعل من قبل مالك ونعت
ص: 112
ابن إسحاق بالكذب والدجل، إلا أن هناك من ذكر بأنَّ الرجلين اصطلحا قبل مغادرة ابن إسحاق المدينة وأعطاه مالك مبلغاً قدره خمسين دينار ونصف ثمرة تلك السنة وعاد الود فيما بينهم(1)، إلا أنَّنا نشك في أمر الصلح بين الرجلين لقول مالك عندما ورده نعت ابن إسحاق له بأنه بیطار علمه قال بعد أن نعته بالكذب کما بینا أعلاه: ((نحن نفیناه من المدينة))(2)، ومايؤيد ذلك أكثر عدم عودة ابن إسحاق إلى المدينة حتى وفاته سنة (151ه - 768م) أو سنة (150ه - 767م) في بغداد ودفنه في مقابر الخيزران(3).
أما خلافه مع هشام بن عروة وهو من رواة السيرة المعروفين فقد اتهمه الأخير بالكذب(4). وذلك لأنه كان يأخذ الأحاديث من زوجته فاطمة بنت المنذر، وقد شك هشام بن عروة في حديث ابن إسحاق لأخذه الحديث من زوجته حيث يقول: ((كيف يدخل على امرأتي ؟))(5) مستغرباً دخوله عليها وأخذه الحديث منها حيث يقول: ((عدو الله الكذاب يروي عن امرأتي من این رآها)(6).
إلا أن ابن إسحاق یذكر أنه أخذ الحديث منها، فقد ذكر سفيان بن عيينة عن ابن إسحاق أنه جالس فاطمة بنت المنذر وحدّث عنها وقد حدثته ودخل عليها إلا أن زوجها هشام أنكر ذلك حيث يقول: ((ودخلت بها وهي بنت تسع سنين وما رآها
ص: 113
مخلوق حتى لقيت الله عز وجل))(1).
ولكن هذه المسألة فيها وجهات نظر كثيرة، على سبيل المثال ما یذكره ابن حجر(2) معللاً إذا كانت التهمة لابن إسحاق متأتية من حرجية التحدث عن النساء في رواية الحديث والسيرة فهناك ما يرقع تلك الشبهة أو اخرج لقوله: ((إن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة والستر بینهما مسبل)).
وعند مناقشة تلك الحالة نرى أن فاطمة بنت المنذر أكبر من ابن إسحاق ب 30 إلى 40 سنة فقد كان مولدها سنة (48 ه -668م) وهي أكبر من هشام بن عروة(3) بثلاث عشرة سنة(4)، وهذا ما يفند رواية هشام الذي يذكر أنه دخل بها وعمرها تسع سنين، ولعل من المناسب إيراد الرواية التالية عن العقيلي الذي قال حدثني الفضل بن جعفر عن عبد الله بن محمد عن سليمان بن داود قال لي يحيى القطان ((أشهد أن محمد بن إسحاق كذاب. قلت وما يدريك ؟ قال لي وهيب، فقلت لوهيب: ما يدريك ؟ قال: قال لي مالك بن أنس، فقلت لمالك ما يدريك ؟ فقال: قال لي هشام بن عروة، قلت لهشام: مايدريك ؟ قال: حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، ودخلت عليها وهي ابنة تسع سنين، وما رآها حتى لقيت الله. ..، قلت: معاذ الله أن يكون یحیی وهؤلاء بدا منهم هذا بناء على أصل فاسد واهٍ، ولكن هذه الخرافة صنعها سليمان، وهو الشاذكاني - لا صبحه الله بالخير - فإنه مع تقدمه بالحفظ متهم
ص: 114
عندهم بالكذب، وانظر كيف سلسل الحكاية وبين على بطلانها أن فاطمة بنت المنذر لما كانت بنت تسع سنين لم يكن زوجها هشام خلق، فهي أكبر من نيف وعشر سنين وأسند منه فإنها أوردت عن... اسماء بنت أبي بكر، وصح أن ابن إسحاق سمع منها، وما عرف بذلك هشام. أفبمثل هذا القول الواهي يكذب الصادق))(1)..
من الرواية أعلاه يظهر أن الخلاف بين ابن إسحاق وهشام لم يكن يقوم على خلافات علمية وإنما يمكن إرجاعها إلى الخلاف العقائدي.
وقد كان هذا الخلاف الأثر الواضح على آراء بقية العلما، حيث قال يعقوب بن شيبه ت (262ه-875م): ((سمعت این تمير - وذكر ابن إسحاق - فقال: إذا
حدث عمن سمع من المعروفين، فهو من الحديث صدوق، وإنما أوتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة))(2).
أما الدار قطني فذكر ((أنه صالح الحديث، ماله عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة والمتقطعة والأشعار المكذوبة)) (3).
أما النسائي قال عنه: ((ليس بالقوي)) ولعل أبرز الإشكالات على ابن إسحاق التي ساقها عنه معاصروه هي حديثه عن أهل الكتاب(4)
إن المادة التاريخية التي استطاع ابن إسحاق جمعها كانت اعتماداً على ما يمتلکه من مؤهلات وكذلك عن طريق أسفاره و مشاهداته إلا أن ذلك غير كافٍ فلابدَّ أن
ص: 115
يكون له شيوخ أكفاء استطاعوا أن يغرسوا في نفس ابن إسحاق حب العلم فقد ذكر أحد الباحثين (1)
أن ابن إسحاق أخذ علومه عن جماعة من المشايخ بلغ عددهم 114 شیخاً، وليس هذا العدد بشيء كبير. .. بالنسبة لمألوف ذلك الزمان كان فيه العلم شعبياً مشاعاً، فقد كان من عادة رجال العلم الإكباب على الدراسة، فهذا الكم من المشايخ الذين تتلمذ على أيديهم ابن إسحاق لم يكن في المدينة فقط فقد سمع من أهل العراق والجزيرة والري(2)، وروي عن أبيه، وعمه موسی بن يسار، وعن أبان بن عثمان، وعن الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام)، والزهري، وعاصم بن عمرو بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم الكثير إلا أنَّنا سوف نسلط الضوء على مجموعة من هؤلاء المشايخ:
يعد من رواة الحديث المدنيين، وقد عاصر معاوية بن أبي سفيان في بداية الدولة الأموية وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعروة بن الزبير والمغيرة بن عبد الرحمن (3). وروى عنه ابنه محمد بن إسحاق، وعدّه ابن حبان من الثقات(4)، وقد وثقه أيضاً عدد من العلماء مثل أبي زرعة ت (281ه-894م)، ويحيى بن معين (5).
أما الدار قطني فقد قال لايحتج به(6)، فهو من الرواة الذين تركوا بصمات
ص: 116
واضحة في كتابة الحديث والسيرة النبوية حيث نقل عنه ابنه محمد كثيراً من الروايات في السيرة النبوية(1).
القرشي المطلبي المدني(2) ، من رواة الحديث المدنيين روي عن أبي هريرة(3)، وقد روى عنه ابن أخيه محمد بن إسحاق(4) ، وذكره ابن حبان(5) من الثقات، وكذلك ابن معين(6)، وأبو حاتم الرازي، وقد روى عنه أصحاب الحديث الستة(7).(8)، وروی عنه ابن إسحاق حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جرحي أحد(9).
ص: 117
ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب(1) ويكنى أبا جعفر(2)، واشتهر بأبي جعفر الباقر، والباقر من بقر العلم أي شقه فعرف أصله وخفيه، وكان إماماً مجتهداً تالياً لكتاب الله كبير الشأن(3).
إن هذه العجالة لاتسع إلى ذكر ما يليق بالإمام الباقر لكن لابدَّ من الإشارة إلى مكانته العلمية ؛ لكونه أحد شيوخ ابن إسحاق موضوع بحثنا؛ ليكون المتلقي بالصورة، فالمكانة العلمية للإمام الباقر واضحة المعالم ولا تحتاج إلى عناء بحث ؛ لكونه إماماً معصوماً.
فعن جابر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((أنه قال له: یا جابر إنك ستعيش حتی تدرك رجلاً من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقراً فإذا رايته فاقرأه عني السلام، فلما دخل محمد الباقر (عليه السلام) وسأله عن نسبه وأخبره، فقام إليه واعتنقه وقال جدك رسول الله يقرأ عليك السلام))(4)، وبلا شكَّ أن إمكانيات الإمام الباقر العلمية متأتية من كونه من أهل البيت وهم أهل علم ومعرفة ودراية، وذكر الذهبي أنه روى الحديث عن جديه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) (5)، وكذلك عن جذيه الحسن بن علي والحسين بن
ص: 118
علي (عليه السلام)(1)، إلا أن كثيراً من المؤرخين ذكروا إلى جانب أجداده وأبيه خلقاً كثيراً قد أخذ العلم منهم وهذا منافِ للواقع إذ لم يحدثنا التاريخ بانَّ الإمام الباقر حدث يوماً ما عن أحد غير أجداده.
أما من أخذ الحديث عن الإمام الباقر فهم خلق كثير منهم ابنه الإمام الصادق وأبو إسحاق السبيعي والزهري وغيرهم(2)، وقد اشتهر بالوثاقة حيث وثقه النسائي عندما عدّه من الفقهاء التابعين في المدينة واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر (3).
وذكر ابن سعد(4) أنه كان ثقة كثير الحديث، وعدّه ابن حبان من أفاضل أهل البيت وأمرائهم(5)، وذكره العجلي بأنه مدني، تابعي، ثقة(6). وذكر سفيان بن عيينة أنه كان خير محمدي على وجه الأرض(7). وقد أخذ منه ابن إسحاق أحاديث منها على سبيل المثال اليوم الذي وقعت فيه معركة بدر(8)، وكذلك حديث الرسول عقب معركة بدر ((نصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراًة. ..))(9). وغيرها من الروايات المهمة التي نقلها ابن هشام عن ابن إسحاق في السيرة النبوية.
ص: 119
ابن العوام القرشي(1)، المدني (2)، كان من فقهاء أهل المدينة وقرائهم(3)، روی عن عمه عروة بن الزبير، وعن عباد بن عبد الله بن الزبير، وعن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (4)، وروى عنه محمد بن إسحاق وغيره كثيرون(5). وقد ذكر محمد بن سعد بأنه عالم وله أحاديث (6)، واعتبره ابن حبان(7) من الثقات، وذكره الدارقطني بأنه مدني ثقة(8)، كذلك اعتبره النسائي من الثقات (9)، وروی عنه ابن إسحاق عدداً كبيراً من الروايات (10).
كان لابن إسحاق الكثير من التلاميذ ذكر منهم ستين راوياً موزعين في مدن الكوفة، والبصرة، والمدينة، والري، وواسط، وحران وغيرها من مدن الدولة
ص: 120
الإسلامية، إلا أن المستشرق فول أعد ثبتاً ب 15 تلميذة لابن إسحاق معظمهم عراقيون وجزريون ومن أهل الري(1).
إلا أننا نقتصر في دراستنا على عدد منهم من كان له دور مميز في نقل السيرة النبوية إلينا:
الرازي، قاضي الري(2)، وقد روي عن الكثير لكن الذي يهمنا في هذا المورد هو روايته للمغازي عن ابن إسحاق حيث روى عنه المبتدأ والمغازي(3)، وحدث عنه الكثيرون منهم یحیی بن معین و محمد بن حميد(4).
وإن مؤلف السيرة محمد بن إسحاق كان قد كتب نسخة من السيرة في قراطيس ثم صيّرهن إلى سلمة بن الفضل وكان هذا الأمر بعدما طلب منه المنصور العباسي كتابة السيرة إلى ولده المهدي (5).
ولذلك يمكن الميل إلى أفضلية روايته عن ابن إسحاق المكانة تلك القراطيس (6) وقد اثنى عليه عدد من العلماء منهم يحيى بن معين الذي يقول عنه (ثقة كتبنا عنه کان کیّساً ليس في الكتب أتم من کتابه)(7).
ص: 121
وعن ابن معين أيضاً قال سمعت جريراً يقول: ((ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ
خراسان اثبت في ابن إسحاق من سلمة)(1).
إلا أن تشیع سلمة بن الفضل (2) جعله عرضة للنقد ليس على وثاقة حديثه ونقله عن ابن إسحاق وإنما تدخلت القضية العقائدية في النظر إلى تلك الشخصية من قبل العلماء والمؤرخين آنذاك فأصبح بين قادح ومادح وكان المادحون له كثراً، فقد عدّه ابن سعد ثقة (3). وقال عنه ابن حاتم: ((محله الصدق، في حديثه إنكار، لا يمكن أن أطلق لساني فيه أكثر من هذا))(4)، وقد ذكره ابن حبان من الثقات (وقال يخطئ ويخالف)، وذكر أبو داود (بأنه ثقة)، وذكر أن أحمد بن حنبل سُئل عنه فقال: لا أعلم منه إلا خيراً(5).
أما بالنسبة لمن قدح فيه فالبخاري قال عنه عنده مناكير(6)، وقد ذكره النسائي(7) من الضعفاء والمتروكين حيث قال: ((ضعيف يروي عن ابن إسحاق المغازي))، والملاحظ أن أصحاب الحديث هم الذين ضعفوه إلا أن أصحاب المغازي أخذوا بروايته ومنهم الطبري حيث أخذ منه كثيراً من الروايات في تاريخه عن طريق تلميذه محمد بن حميد(8).
ص: 122
وقد ذكر أحد الكتاب بأنَّ لسلمة بن الفضل نفسه كتاباً في المغازي قيل عنه ليس من الكتب أتم منه وقد علل ذلك بأنه قد يكون منتزعاً من سيرة ابن إسحاق وبرواية سلمة وقد اجريت عليه بعض التعديلات والتنقيحات فعرفه باسمه كما حدث في سيرة ابن هشام(1)، وفي الختام لابدَّ أن نذكر ما قاله الذهبي فيه (كان قوياً في المغازي توفي سنة (191ه - 806م) (2).
ابن واصل الشيباني(3) ، وهو الإمام الحافظ الصدوق، العالم المؤرخ من أهل الكوفة(4)، صاحب المغازي والسير (5)، ويكنى أبا بكر الجمال(6)، وكانت له أحاديث كثيرة عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية، وقد روى عنه يحيى بن معين وأبو كريب (7) وغيرهم كثير(8).
أما حياته غير العلمية فإنه يعمل لدى البلاط العباسي صاحب مظالم جعفر بن
ص: 123
يحيى البرمكي ت (187ه - 803م) وكان ميسور الحال(1).
وقد رمي بالزندقة إلا أن يحيى بن معين دافع عن ذلك وقال: ((رأيت ابني أبي
شيبة أتياه فأقصاهما وسألاه کتاباً فلم يعطهما فذهبا يتحاكمان فيه))(2).
أما حياته العلمية فكان لابن إسحاق دور مميز ومهم في ذلك حيث سمع منه المغازي في الري(3) وقد أجاز الكثير عن رواية المغازي عنه منهم على سبيل المثال أبو كريب وغيره من علماء الكوفة المعروفين آنذاك، وقد اختلف في تحديد عقيدته المذهبية فمنهم من ذهب ((إلى أنه مرجئ))(4)، ((وقال آخرون أنه شيعي))(5).
ومن الملاحظ أن الأحكام والنعوت المذهبية تطلق على المؤرخين والرواة والعلماء حسب التوجهات العقائدية للكاتب عن تلك الشخصية أو حسب الأهواء والمصالح، وكل شخص لا يتفق معه الآخر يرميه بشتى التهم وهذا واضح من رمي ابن بکیر بالزندقة کما بینا وكيف دافع عنه ابن معين عندمافند رأي من نعت ابن بكير بالزندقة، فإن التهمة جاهزة لمجرد الخلاف البسيط.
أما آراء العلماء في وثاقته وإمكاناته العلمية فقد اختلف في ذلك أيضاً بين من يوثقه وبين من يضعفه فأبو داود قال: ((ليس هو عندي بالحجة كان يأخذ من ابن
ص: 124
إسحاق فيوصله بالأحاديث))(1)، أما ابن حبان فقد وثقه(2)، وأما النسائي فقال : ليس بالقوي وقال مرة ضعيف(3)، وأبو حاتم الرازي فذكر بأنه ((محل الصدق))(4)، أما يحيى بن معين فذكر بأنه ثقة صدوق إلا أنه يعيب عليه اشتغاله مع جعفر بن یحیی البرمکی(5) ت (187 ه-803م).
وفيما يخص رواياته عن ابن إسحاق في السيرة النبوية فقد أكثر النقل عنه وكان الدور البارز للبيهقي في دلائل النبوة فقد نقل عن يونس أغلب موارد سيرته(6)، وذكر أحد الكتاب أن نسخة يونس بن بکیر عن ابن إسحاق تمثل النسخة الكوفية الأولى على كثير من النسخ الكوفية في مغازي ابن إسحاق فهي ذات شهرة وامتیاز على غيرها(7)، وهي أتم وأكمل من نسخة ابن هشام والرواية عنها مستفيضة في الكتب المتقدمة، وكانت أشهر عند المشارقة عنها عند المغاربة، وبقيت في أيدي أهل العلم والرواية زمناً طويلاً(8).
ص: 125
ابن طفيل بن عامر القيسي العامري من بني عامر بن صعصعة ثم من بني البكاء (1)، كوفي، كنيته أبو محمد(2)، أو أبو يزيد الكوفي، روى عن كثير من العلماء إلا أن أبرز رواياته كانت عن محمد بن إسحاق حيث روى عنه المغازي، وقدم بغداد ثم رجع إلى الكوفة(3) وحدث بها؟(4).
وروى عنه أحمد بن حنبل، وابن هشام الدوسي النحوي صاحب السيرة - الذي سيكون مورد کلامنا في المبحث القادم - وغيرهم الكثير، أما آراء العلماء فيه فقد عده النسائي من الضعفاء والمتروكين وليس بالقوي(5)، وقال فيه ابن حنبل قال: ((ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق))(6)، وعن يحيى بن معين حين سئل عن زیاد البكائي قال: إنه ضعيف (7).
وقد ورد أنه قوي الحديث في المغازي والسير ؛ لكونه أمليت عليه المغازي مرتين بالحيرة(8).
ص: 126
أما أبو داود السجستاني فذكر أنه ثقة في روايته للمغازي عن ابن إسحاق لكن يضعفه في غير ذلك (1)، أما المدائيني فقد ضعفه(2)، وقال في موضع آخر لا اروي عنه شيء(3). وذكر الترمذي أنه كثير المناكير، لكن غيره من أصحاب الحدیث کالبخاري خرّج عنه في كتاب الجهاد ومسلم في مواضيع من كتابه(4).
فمن خلال آراء العلماء وأصحاب الحديث لم يكن هناك جزم واضح في عدالة البكائي أو جرحه وإنما كل ذکر حسب ميوله واتجاهاته السياسية أو المذهبية وعليه لا يمكن اعتبار الجرح والتعديل لأي من العلماء الأوائل موضع ثقة مطلقة، ولكن الذي نريد أن نصل إليه في النهاية أن زياد البكائي هذا واحد من رواة السيرة الرئيسيين وقد عدت روايته بأنها تمثل الرواية الثانية للسيرة النبوية(5).
ولكن رواية البكائي لم تصل إلينا للأسف في شكلها الأول بل نالها تعديل ابن
هشام واختصاره(6).
ولم يهتم البكائي بتاريخ أهل الكتاب کما فعل شيخه ابن إسحاق، فقد ترك الحديث من آدم إلى إبراهيم ولم يذكر عن سلالة إسماعيل (عليه السلام) غير أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المباشرين وغيرها من المحذوفات الكثيرة(7).
ص: 127
يذكر ابن النديم في الفهرست لابن إسحاق كتابين أحدهما كتابه المشهور ویسمیه ((السيرة والمبتدأ والمغازي، وكتاب آخر باسم الخلفاء))(1)، إلا أن ابن سعد ذكر فقط جمعه المغازي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأليفها في كتاب ولا يذكر غيرها من مؤلفاته (2)، وقد أسماها بالمغازي خلافاً لابن النديم المتأخر عن ابن سعد كثيراً، إلا أن المستشرق سزكين (3) يضيف إلى المؤلفين السابقين لابن إسحاق مؤلفين اخرين هما کتاب الفتوح حيث يقول: ومن المرجح أن ابن إسحاق ألف كذلك کتاب بعنوان (کتاب الفتوح)، ثم يضيف أن له كتاباً آخر رابعاً بعنوان (أخبار کلیب وجساس) توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة آل سيد عيسى العطار ببغداد. إلا أن الكتاب الأهم لابن إسحاق هو کتاب المغازي أو ما يسمى السيرة النبوية (المبتدأ والمبعث و المغازي)، ولم يصل إلينا بصورته الأصلية ولكن وصل إلينا جزء كبير منه في السيرة النبوية لابن هشام(4)، فعليه لابد من تسليط الضوء على ذلك، ولكن قبل الذهاب إلى ذلك يمكن الإشارة إلى كتاب الخلفاء فقد ذكر المستشرق کب (5) ((أنه ضيق النطاق مختصر العبارة))، وذكر أحد الكتاب(6) بأنه ((كان عاقراً فلم ينل منه المؤرخون عناية تستحق الذكر ولم يكتسب الشهرة التي نالتها السيرة، وقد اقتبس منه الطبري في تاريخ الخلفاء وخلافة معاوية وصدر الدولة الأموية)).
ص: 128
وبالعودة إلى إنجازه العلمي الأبرز وهو السيرة النبوية (المبتدأ - المبعث - المغازي) يعد قمة عطائه المعرفي وخير ما وصل إلينا وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك محاولات سبقت ابن إسحاق في هذا المجال إلا أن تلك المحاولات وإن كانت ناجحة إلا أنها لم تكن بمستوى الإنجاز الذي جاد به ابن إسحاق في مجال التدوين التاريخي، فقد أوضحنا أن هناك مرويات لعروة بن الزبير ولكنها لا ترقى إلى مستوى الكتاب المبوب ثم مغازي ابن شهاب الزهري على الرغم من اهتمامه الكبير في تدوين مروياته التاريخية إلا أنها لا ترقى إلى مستوى التدوين وفق منهج خاص ومميز كما حصل في سيرة ابن إسحاق، إضافة إلى وجود کتاب المعاصره موسى بن عقبة إلا أن هذا الكتاب على الرغم من وصوله إلينا بشكل كامل إلا أنه لا يرقى إلى عمل ابن إسحاق(1).
وقد كانت هناك عوامل ساعدت ابن إسحاق على بروزه في تدوين السيرة ونتاجه العلمي بشكل كتاب خاص إضافة إلى مورثه، الأسري أيضاً البيئة المدنية التي كانت تحتضن العلم وتواجد حلقات للدرس في المسجد النبوي المبارك سواء على مستوى الرواية للأحاديث أم السيرة المطهرة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شکّلا الأرضية العلمية الصالحة لمحمد بن إسحاق كي ينطلق في تصنيف مصنفه العلمي في مجال السيرة النبوية (2).
إن كتاب ابن إسحاق في السيرة النبوية هو كتاب عام وشامل يحتوي كل الأخبار التاريخية من بداية حياة آدم (عليه السلام) حتى نهاية حياة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) لكنها لم تصل إلينا فقد نالها تهذیب ابن إسحاق أولاً بطلب
ص: 129
من المنصور کما سنلاحظ ذلك ثم تهذيب ابن هشام، وتجدر الإشارة إلى أن سيرة ابن إسحاق الأصلية كانت ذات نظرة تاريخية شاملة، إذ يقول المستشرق کب(1) في وصفه لسيرة ابن إسحاق: ((فقد كانت ثمرة تفكير أبعد أفقاً وأوسع نطاقاً من تفكير سابقيه ومعاصريه ؛ لأنه نزع فيها لا إلى تدوين تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب بل إلى تاريخ النبوة بذاتها أيضاً، وكان هذا الأسلوب يشمل ثلاثة أقسام (المبتدأ) وهو تاريخ العصور السابقة للإسلام منذ الخليقة وقد استمد أكثره من وهب بن منبه ومن المصادر العبرية، ثم (المبعث) وهو تاريخ حياة النبي حتى السنة الأولى للهجرة ثم (المغازي) وتناول هذا التاريخ إلى وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)).
أما سبب تأليف ابن إسحاق لكتابه موضوع بحثنا فقد ذكر الخطيب البغدادي(2) ((دخل محمد بن إسحاق على المنصور وبين يديه ابنه المهدي فقال له: أتعرف هذا یابن إسحاق قال: نعم هذا ابن أمير المؤمنين، قال: اذهب و صنف له كتاباً منذ خلق الله تعالى آدم إلى يومك هذا، فذهب وصنف له هذا الكتاب، فقال له: لقد طولته یابن إسحاق اذهب فاختصره فذهب فاختصره فهو هذا الكتاب المختصر))، وحفظ المنصور الكتاب الكبير في خزانته(3).
ولكن أحد الباحثين (4) ينقل لنا رأي أحد المستشرقين (فيك) أن ابن إسحاق لم يؤلف كتابه بأمر الخليفة ولا في الحيرة أو بغداد وإنما في المدينة قبل إقامته لدى
ص: 130
العباسيين ويستدل على ذلك بأنَّ رواته الذين أخذ عنهم جميعاً مدنيون ومصريون ولا يذكر فيهم أحد من العراقيين، إلا أن مستشرقاً (1) آخر يرى أن ابن إسحاق أجرى بعض التغييرات الإضافية لإرضاء الخليفة، أو أنه اختصر الفقرات التي لا ترضيه، منها على سبيل المثال دور العباس بن عبد المطلب جد الخليفة ووقوفه في معركة بدر إلى جانب المشركين، إلا أنه ابن إسحاق لطفه وذكر أنه حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغير رضاه، وربما أجرى ابن إسحاق بعض التغييرات الإضافية الطفيفة التي ترضي الخليفة العباسي المنصور مثل مناصرة العباس للإسلام اثر اعتناقه له سراً وغيرها من الأمور.
أما موارده في تأليف السيرة النبوية فقد مثل أهمها وجزءها الأعظم علماء المدينة المنورة وحفاظها وقد تطرقنا إلى قسم من شيوخه الذين أخذ منهم موارد مؤلفة، فقد ذكر أخذه عن عدد كبير من الشيوخ من بينهم أصحاب المغازي المتقدمين الذين أدركهم مثل أبان بن عثمان والزهري وموسى بن عقبة وعاصم بن قتادة وغيرهم، کما أخذ عن الإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وأخذ عن عبد الله بن الحسن المثنى وغيرهم كثير (2).
أما موارده التي انتقى منها الجزء الأول من مؤلفه وهو المبتدأ الذي تحدث فيه عن أخبار الأنبياء والملوك قبل الإسلام، فكان عن علماء أهل الكتاب، ووهب بن منبه - في أخبار اليمن خاصة - إضافة إلى الكتب السماوية القرآن والتوراة والانجيل (3) .
ص: 131
وعند النظر إلى محتويات السيرة (المبتدأ والمبعث والمغازي) لابن إسحاق نلاحظ أنه قسم مادته على ثلاثة أقسام مهمة ورئيسة القسم الأول وهو المبتدأ :
قسمه على أربعة فصول يتناول أولها تاريخ الرسالات السابقة للإسلام إلى
ظهور عیسی.
أما الفصل الثاني فيتناول فيه تاريخ اليمن في عصور الجاهلية، وقد شجع ابن إسحاق للعناية بهذا الفصل وجود الإشارات القرآنية إلى ذلك مثل إشارته إلى أصحاب الأخدود وأصحاب الفيل وغيرها.
أما الفصل الثالث من مادة المبتدأ فيتناول القبائل العربية وعبادة الأصنام.
والفصل الرابع يتناول فيه أجداد النبي المباشرين وديانات أهل مكة ولا يعني ابن
إسحاق في هذا الفصل كثيراً بالأسانيد إلا نادراً(1).
أما القسم الثاني فتناول فيه مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبتدءاً بحياته في مكة قبل البعثة ومراحل صباه وشبابه ثم معیشه و حاله وحال المسلمين في مكة قبل الهجرة إلى أن هاجر إلى المدينة وربما شمل أيضاً العام الأول من الهجرة، وإن ميزة هذا الجزء يأنه زداد فيه عدد الأسانید خلاف سابقه حيث يعتمد على روايات أساتذته المدنيين في إيراد رواياته المسندة إلى جانب القصص المسندة أو غير المسندة (2).
إضافة إلى ذكره لوثيقة المدينة ثم قوائم بأسماء المتوفين الأولين (3)، وقائمة بأسماء
ص: 132
المهاجرين إلى الحبشة(1)، وقائمة بأسماء أول من أسلم من الأنصار (2)، فضلاً عن قوائم أخرى(3).
أما القسم الثالث الذي يسمى المغازي يذكر به ابن إسحاق حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة حين بدأ فيها من حيث انتهى القسم الثاني إلى التحاق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى سنة (11ه-632 م) إضافة إلى بعض الأحداث التي ترتبت بعد وفاة النبي مثل أحداث سقيفة بني ساعدة إضافة إلى ما شهدته وفاته ودفنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والملاحظ في هذا القسم تفاصيل كثيرة عن الأمور التي قام بها الرسول بالمدينة بدءاً من المؤاخاة ومروراً ببناء المسجد ثم وثيقة المدينة التي تعتبر دستورها ثم أخبار غزوات الرسول وسراياه إضافة إلى التشريعات الصادرة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكذلك أخباره الشخصية وذكر أزواجه وعلاقاته بهن(4) .
الشمول والاستيعاب لما يتصل بالسيرة النبوية المباركة، فقد جمع بين آي القرآن، والحديث النبوي، والوثائق، والأخبار الهامة، فقدم تاريخاً للنبوة وليس تاريخ للنبي (5).
ص: 133
لم يقتصر في تدوين السيرة النبوية على علماء المسلمين بل ذهب إلى أخذ الرواية من غيرهم وذلك في الأخبار التي تخص مجتمعاتهم وديانتهم، فنراه يذكر بين رواته أهل العلم من أهل الكتاب الأول و أهل التوراة أو من يسوق الأحاديث عن الأعاجم، حيث يعد هذا تحولاً مهماً في مدرسة المدينة التي كانت مغلقة ولم تتقبل أخباراً مثل هذه ولا رواة کهؤلاء فهو أول من اقترب بمدرسة المدينة من مدرسة اليمن في قبول هذه الأخبار (1) حيث تنوع المصادر المعتمدة وتعددها مما أظهر آثاره في سعة الكتاب، واستيعاب ودقة وصفه وتحديده للأحداث(2).
إن تعامل ابن إسحاق مع الأسانيد ليس على منهجية واحدة، فأحياناً رواياته من دون أسانید و كان ذلك في روايات المبعث مثل ذكره الأول من أسلم وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث ذكر حديثه هنا بدون إسناد(3)، وقد يستخدم أحياناً الأسلوب القصصي في رواياته(4).
ويعتمد في رواياته عن المغازي على الإسناد والتسلسل دون انقطاع مثل قال ابن إسحاق حدثني يزيد بن حبيب عن بکیر بن عبد الله بن الأشجع عن سليمان بن يسار عن أبي إسحاق الدوسي عن أبي هريرة ثم يسرد الرواية الخاصة وفي هذا المورد يذكر بعث الرسول لسرية لتعقب أحد المطلوبين (5).
ويعتمد أحياناً الجمع بين الأسانيد وتوحيد الخبر - أو ما يسمى بالإسناد الجمعي
ص: 134
- ينتقل بذلك الخبر إلى المتلقي ويقدم الحدث التاريخي بصورة واحدة متكاملة جمعها من عدة روایات مختلفة، فقد لا تعطي الواحدة منها الحدث بتمامه، ويمكن اعتبار ذلك من الإنجازات الكبيرة والمهمة في العمل التاريخي حيث يحسب لابن إسحاق إجادته في تلك المواضيع ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن هشام(1) في بداية ذكره المعركة أُحد حيث أعطى مجموعة من الأسانيد المتداخلة ليخرج بمحصلة واحدة وهي سرد حادثة المعركة بكل تفاصيلها ودقائقها - مثال على ذلك - (وكان من حديث أحد، کما حدثني محمد بن مسلم الزهري و محمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد) وهناك مجموعة من التعابير التي تتقدم رواياته دون ذكر الإسناد، أو أن يكتفي بذكر العبارة فقط مثل ((حدثني بعض أهل العلم))(2)، و((حدثني من لا أتهم))(3)، و ((فيما بلغني عن...))(4)، وبعض الأحيان يذكر ((وحدثني رجل من أسلم، كان واعية))(5) ويذكر تعبيراً آخر في إسناد روايته ((فحدثني من يسوق الأحاديث عن الاعاجم من توارثوا من علمه))(6) وغيرها من العبارات التي يضعها أمام روایاته الغير مسندة، والذي نريد أن نصل إليه أن ابن إسحاق لم يتقيد بالإسناد مطلقاً بل يورد الحادثة حسب ما حصل عليها وبذلك يمكن القول بأنَّ أسانید ابن إسحاق بعضها موصول وبعضها منقطع
ص: 135
أو منفصل وهناك أخبار يوردها دون إسناد(1).
انفرد ابن إسحاق عن باقي الرواة بكثرة الأشعار التي ادخلها في كتابه، حيث افزعت كثرتها معاصريه ومن بعدهم، إذ لم يكن يتحقق من صحة الشعر بل يدخل ما يحصل عليه دون تحقيق، وعدّت هذه الحالة من المآخذ على ابن إسحاق في تدوينه السيرة النبوية، حيث ذكر الحموي(2) ((كانت تعمل له أشعار فيضعها في كتب المغازي فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار)).
لكن أحد المستشرقين (3) اعتذر عنه بأنه اقتبس بعض الأشعار لتزيين تاريخه لا لصحتها عنده فهو ما كان يتمسك بأنها صحيحة لو ثبت غير ذلك، لكن فن الكتابة التاريخية اعتاد إدخال الشعر للتحلية منذ الجاهلية، وحتى ابن إسحاق نفسه یورد عدم تأكده من تلك الأشعار التي ينقلها مثال ذلك في سرية حمزة آل سيف البحر وعبيدة حيث كانا معاً، وذكر قد زعموا أن حمزة قال شعراً يذكر فيه أن رايته هي أول راية عقدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يقول إن كان حمزة قال ذلك - يقصد الشعر - فقد صدق إن شاء الله(4) ... من خلال ذلك يظهر أن سوقه للشعر كان كمحل للشاهد وليس للبعد التاريخي للرواية وبيان مدى صحتها.
اخترق في كتابه هيمنة الاتجاه الثقافي الأموي من خلال فكه للحصار الثقافي الذي قام به الأمويون على ذكر علي وآل علي وعامة بني هاشم والأنصار حيث فاقَ أستاذه الزهري الذي كان يدور في فلك الحكام الأمويين ولكنه لم يستطع التجرد بالكامل
ص: 136
من آثار ذلك الحصار، وكانت بصمات الأمويين واضحة في تغذية الفكر المعادي لبني هاشم والأنصار حيث اعتبر أحد الباحثين(1) من الأمثلة على ذلك ((اسقاط ذكر خطبة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدیر خم، عن طريق عودته من حجة الوداع وهو حق هام لا ينبغي أن يغيب عن كتاب جمع من تفاصيل السيرة ما جمعه هذا الكتاب)). إلا أن الباحث یری من وجهة نظره أن إسقاط تلك الخطبة ليس خشية من الأمويين إنما من ضمن التهذيبات والتلطيفات التي عملها ابن إسحاق في السيرة بعد أن طلب منه المنصور تهذيبها لأن قضية خلافة الإمام علي لا تريح العباسيين وهذا ما سنناقشه في مورده إن شاء الله.
اهتمامه بإيراد الأنساب وأسماء القبائل التي ينتمي إليها الشخوص الذين يعرض لهم ولأعمالهم ولدورهم في أحداث عصرهم عند حديثه عن حوادث عصر الرسالة(2)، وذلك يرجع إلى الشأن الكبير للنسب عند العرب حيث اهتم العرب كثيراً بالأنساب لا سيما عرب البادية فيذكر أحد الكتاب (3) ((فعلى نسب المرء في البداية تقوم حقوق الإنسان بل حياته في الغلب، فنسب الإنسان هو الذي يحميه)) فلذلك كان التأثير واضحاً على ابن إسحاق عند كتابة السيرة، فإسقاطات المرحلة كانت واضحة على سيرة ابن إسحاق.
ص: 137
لقد أشرنا إلى أن ولادة ابن إسحاق كانت سنة (80ه- 699م) أو على رأي آخر سنة (85ه-704م) ومن ذلك يتضح أن ولادته كانت زمن خلافة عبد الملك ابن مروان (65ه -86ه) (684م - 705م) إلا أن ابن إسحاق بلغ السن الذي يؤهله للدراسة والتعلم زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99ه - 101ه) (717م -719م)، وقبل الخوض في المؤثرات السياسية في حياة ابن إسحاق العلمية لابد لنا من إلقاء نظرة ولو بشكل مبسط على نهج آل أمية السياسي وكيف كان تعاملهم مع معارضيهم آنذاك لتتضح الصورة أكثر، فسياسة الأمويين هي سياسة العداء المستحکم لخصومهم السياسيين ومنهم العلويون وكل أتباعهم ومريديهم، حيث عمدوا إلى محاربتهم بكل ما أُوتوا من قوة بدءاً من مؤسس دولتهم معاوية بن أبي سفيان (41ه - 60ه) (661م - 671 م) مروراً بالحكام من بعده ولا بأس أن نذكر الرواية الآتية كمحل شاهد على ذلك العداء وجذوره ((لما مات الحسن ابن علي (عليه السلام) حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن علياً على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل له إن هنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخذ برأيه، فأرسل إليه وذكر له ذلك، فقال: إن فعلت لأخرجن من المسجد ثم لا أعود إليه فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد، فلما مات لعنه على المنبر وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا، فكتبت أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى معاوية أنكم تلعنون الله ورسوله على منابر کم، وذلك تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله))(1).
ص: 138
من خلال الرواية يتضح العداء المستحکم والبغض لعلي وآل علي ونحن هنا لا نريد مناقشة تفاصيل ذلك لكن الذي يهمنا لبيان النهج السياسي الأموي إزاء خصومهم، وقد كتب المقريزي(1) (وهو أحد المتأخرين) مؤلفاً في هذا الصدد أسماه (النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم) لبيان العداء الأموي للهاشميين وبالخصوص علي وآل علي، يذكر فيه مثالب بني أمية وما فعلوه بالمسلمين وكيف وضعوا الأمور بأكملها إلى صالحهم من أجل مصالحهم السياسية رغم ماضيهم البعيد كل البعد عن الدين ونصرته.
وقد يتصور المرء تاريخ عصابة كهذه وهو تاريخ قائم على الحقد والكراهية لكل من عارضهم - وهم الذين أخذوا الخلافة دون وجه حق - كيف يكون تأثيرهم على مناحي الفكر الإسلامي وعلى التاريخ الحقيقي للإسلام والمسلمين.
إن القاعدة لدى السلاطين في الدولة الأموية أصبحت تقوم على أن أي شخص مالم يترضَ على خصوم الإمام علي (عليه السلام) لا يعد من أهل السنة، وأن مجرد التشيع لعلي وآل بيته (عليهم السلام) يوجب الطعن في قائله ووضعه موضع التهمة والشك (2).
وقد كان الأمويون ممن وضعوا الأساس النظري والعملي لهذه القاعدة حيث كل من انتهج غير سياسة الأمويين المعادية لأعدائهم بالخصوص للعلويين يعد من الذين لا يمكن الاحتجاج بروايته وضعّف حديثه مهما كانت درجته العلمية وقد كان
ص: 139
واضحاً ذلك المقياس الذي وضعه الأمويون حيث استمر فيما بعد وأصبح كقاعدة ملزمة للجميع من الذين أعقبوا بني أمية، فذكر ابن حجر(1) في مقدمة كتاب فتح الباري عندما يعد من يوالي علياً وآل علي بأنه شيعي مطعون بصحة أقوآله حيث يقول: ((والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غالٍ في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فقال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو)).
هذه المنطلقات الفكرية التي يحكم على كل من يعتقد غير اعتقادهم، ببطلان حديثه وضعفه حيث طعن الأمويون وعلماء الدين الذين يدورون في فلكهم السياسي بكل العلماء والحفاظ والأئمة لا لشيء إلا لطعنهم في معاوية، ولم يشفع لهم حتى القول بأفضلية الشيخين على علي (عليه السلام)، وقد أخذ الكثير من الكتاب تطبيق تلك القاعدة في مصنفاتهم وكتبهم(2). وبما أن ابن إسحاق نشأ وترعرع في هذه الأجواء الفكرية المسيطرة عليها السياسة بدرجة كبيرة جداً فلا شك تكون هناك مردودات على سلوكه العلمي بشكل خاص وحياته بشكل عام سواء أكان سلباً أم إيجاباً .
وهذا الوضع السياسي المأزوم رافقته مواقف سلبية للأمويين من تدوين السيرة النبوية حيث كانت بداية التدوين للسيرة في خلافة عبد الملك وقد أشرنا إلى ذلك من خلال حديثنا عن أبان بن عثمان وطلب سلیمان بن عبد الملك من أبان تدوين السيرة ومغازي النبي سنة (83ه-702م) وقد بيّنا ذلك فيما مر سابقاً.
وكانت المحاولة الأخرى أيضاً هي طلب خالد بن عبد الله القسري من الزهري
ص: 140
تدوين السيرة النبوية فلما أخبره الزهري إن ذلك سوف يمر على ذكر علي بن أبي طالب ولا يمكن تجاوزه رفض خالد وطلب منه الكف عن التدوین کما بینا سابقاً.
إذا ابن إسحاق نشأ في جوٍ كهذا رافض لكل حقيقة تقال مهما كان أمرها إلا أن هناك فتوراً حصل في حدة تلك السياسة خلال خلافة عمر بن عبد العزيز. بعد أن كان حصاراً أموي شاملاً على رواية الحديث والسيرة إلا أنه رُفع شيءٌ من ذلك الحصار خلال مدّة خلافة عمر وهي مدّة قصيرة من عمر الدولة الأموية، ولكن سرعان ما عادت تلك السياسة إلى ممارسة أفعالها السابقة نفسها في خلافة يزيد بن عبد الملك (101ه - 105 ه) (717م - 721م) وبعده هشام بن عبد الملك (105ه - 125 ه) (721م – 742م) الذي استمر بسياسة أسلافه نفسها، وقد حصلت في عهده ثورة زيد بن علي في الكوفة التي أدت إلى استشهاده على يد هشام بن عبد الملك سنة (121ه - 738م)(1).
من خلال ما تقدم يتضح لنا الوضع السياسي العام الذي عاش فيه محمد بن إسحاق وبدأ باكورة حياته العلمية فقد بقي في المدينة لم يغادرها مطلقاً إلا مرة واحدة (115 ه-733م) وعاد إليها بعد مدّة من الزمن ومن الملاحظ أن ابن اسحاق لم تكن له علاقة ودية مع الحكام الأمويين، فلم نسمع أنه قام بزيارة إلى عاصمتهم دمشق وذلك عکس استاذه الزهري الذي كانت له علاقات مميزة وواضحة ووثيقة مع الأمويين، ولعل موقف ابن سحاق من الأمويين يمكن أن نعزوه إلى تشیعه أو کما علل أحد الباحثين(2) للموقف السلبي الذي اتخذه أهل المدينة من الأمويين بعد
ص: 141
واقعة الحرة سنة (63 ه - 682م)، وقد قتل الكثير من أهل المدينة نتيجة تلك الحادثة المشهورة(1).
إلا أنَّنا نميل إلى السبب الأول على الرغم من عدم جزمنا بتشیعه حيث كانت تهمة التشيع تلصق بكل شخص يكتب عن علي بن أبي طالب و آل علي وابن إسحاق واحد من هؤلاء ؛ لأن كاتب السيرة النبوية لايمكن له إغفال دور الإمام علي المحوري فيها. فالمؤثرات السياسية القائمة في أي عصر ومنها عصر ابن إسحاق لابدَّ أن تلقي بظلالها وتأثيرها على أوجه الحياة المختلفة ومنها الحركة العلمية بشكل خاص، وأن رضا رجال السياسة عن العلماء كان يعطيهم فرصة كبيرة في حرية الحركة والتجوال في البلاد وزيارة المراكز الهامة آنذاك.
إلا أن المتغيرات السياسية التي تحصل تساعد على تغير واقع الحال، فبعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية (132 ه - 749م) وتولي أبي العباس السفاح الحكم (132ه - 136 ه) (749م - 753م) ، دخل ابن إسحاق في مرحلة جديدة من حياته فقد رحل فور حصول ذلك التغير الذي مكن ابن إسحاق من إظهار ما كتبه من مؤلف عن السيرة النبوية إلى العلن وتمكن من ممارسة حياته العلمية والفكرية بشيء من الحرية وقد تطرقنا إلى ذلك في ذكر رحلاته العلمية المتعددة واستقراره النهائي في بغداد عاصمة العباسيين حيث توفي فيها هناك سنة (151ه - 768م)(2)، ولعل الموقف العباسي المناهض للعلويين أيضاً قد ألقي بظلاله على موقف ابن إسحاق من السيرة النبوية حيث اقتصرت سيرته على ذكر بعض فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد لا يروق للسلطات السياسية ذكر فضائل علي
ص: 142
بن أبي طالب كلها، فقد وقع ابن إسحاق مرة أخرى بين متناقضين المنهجية العلمية الصحيحة والرواية السليمة التي تعتمد على الصدق ورغبات وميول العباسيين القائمة على مصالحهم ورغباتهم السياسية.
وفي ذلك يقول ابن عدي ت (365ه- 976م): ((لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بکتب لا يحصل منها شيء إلا الاشتغال بمغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت الفضيلة سبق بها، ثم من بعده صنفها قوم آخرون فلم يبلغوا مبلغ ابن إسحاق منها، وقد فتشت أحاديثه كثيراً فلم أجد من أحاديثه ما أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو أوهم في الشك بعض الشيء كما يخطأ غيره ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به)).
ص: 143
ابن أيوب الحميري المعافري وقيل الذهلي(1)، العلامة النحوي الإخباري(2)،، وكنيته أبو محمد، إلا أن قسماً من الرواة من يرده إلى معافر بن يعفر (3)، وهم قبيلة کبری نزح إلى مصر منها جمهرة كبيرة، ومنهم من يرده إلى ذهل(4)، کما یرده آخرون إلى سدوس (5)، حيث لم يكن هناك رأي فاصل في هذا الشأن(6).، وهو من مشاهير حملة العلم، وكان له علم متقدم في علم النسب والنحو(7).
ص: 144
نشأ ابن هشام في البصرة ثم ارتحل إلى مصر وسكن فيها(1)، لكن المصادر لاتذكر سبب رحلته إلى مصر واكتفت بالإشارة إلى ذلك دون توضيح لهذا الانتقال وفي أي مرحلة من مراحل حياته، إذ لم يذكر له أنه عاش في غير هذين المصرين وقد علل بعض المهتمين(2) في دراسة شخصيته أن حياته لم تكن محصورة بين هذين المصرين وخاصة في عصر كان يأخذ العلم سماعاً، وكانت الرحلة في طلبه دیدن العلماء(3).
ولكن نستبعد ذلك من وجهة نظرنا؛ لأنه لو كان ذلك صائراً على الواقع لذكره من ترجم له وهذا متعارف عليه بذكر الرحلات العلمية لمن يترجم له من قبل العلماء، إلا أن الواضح من خلال دراسة سيرته أن ابن هشام لم يكن من ذوي الاختصاص في الرواية والتاريخ حيث كانت اهتماماته لغوية وقد أثر ذلك تأثيراً كبيراً في اختيار الأخبار وفي إيرادها، وقد ذهبت بعض اهتمامات ابن إسحاق التاريخية والإخبارية ضحية دقة ابن هشام اللغوية(4)، وقد اختلف في تاريخ وفاته فمنهم من ذكر ذلك في (213ه - 828م)(5) وآخر ذکر وفاته (218ه - 833م))(6).
ص: 145
أما آراء العلماء فيه فذكر القفطي(1) ((بصري، قدم مصر وحدث بها المغازي وغيرها روی المغازي عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق كان ثقة))، أما السهيلي (2) فذكر ((أما عبد الملك بن هشام فمشهور بحمل العلم، متقدم في علم النسب والنحو)) وقد ذكره ابن الجوزي (3) ((أنه كان ثقة))، وفي أثناء وفادته وإقامته فيها التقى الشافعي، حيث ذكر الدارقطني عن المزني قال: ((قدم علينا الشافعي وكان بمصر عبد الملك بن هشام صاحب المغازي، وكان علامة أهل مصر بالعربية والشعر. فقيل له في المصير إلى الشافعي، فتثاقل ثم ذهب إليه فقال ما ظننت أن الله يخلق مثل الشافعي))(4).
وقد تناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة(5)، حيث امتدح ابن هشام الشافعي بعد لقائها وكان يقول الشافعي حجة الله في اللغة(6)، وقد لاحظنا من خلال الإطلاع على مصادر ترجمة ابن هشام أنه كان من ذوي الاختصاص في اللغة والأدب وهذا واضح تماماً من خلال شهادته بأنَّ الشافعي حجة في اللغة والشافعي لم يكن علمه الأول في اللغة وإنما كما هو معروف أنه فقيه ومحدث (7).
ص: 146
فابن هشام بتهذيبه لسيرة ابن إسحاق التي بقيت مقترنة باسمه وكان صاحبها الحقيقي ابن إسحاق لم يكن هو من جمع تلك السيرة وأنجز ذلك الإنجاز فقد كان الغرام المصريين بها كما ذكر القفطي(1) ((وللمصريين بها فرط غرام وكثرة روايته وعن المصريين نقلت إلى سائر الآفاق)).
إن الاهتمام الواضح من قبل المصريين في مؤلفات كهذه من نتاج علمائهم جعل سيرة ابن هشام تصل إلينا وبهذه الكيفية، وإن إزدهار الحركة العلمية في مصر مع وجود ابن هشام أعطي دافعاً معرفياً كبيراً فبقي نتاج ابن هشام محفوظاً إلى أن قيض الله له الأستاذ فستفيلد فقام على تحقيقه وطبعه بمدينة جو نتجين بألمانيا سنة 1859م، ومنذ ذلك الوقت ظهر مطبوعاً وعرف الناس قيمته(2).
ذکر سزكين (3) آثار ابن هشام وهي سيرة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما يعرف بالسيرة النبوية وكانت بدايات تحقيقها على يد الأستاذ فستفیلد كما ذكرنا أعلاه غير أن سزكين يذكر أنها ترجمت إلى الألمانية وطبعت في اشتو نجارت سنة 1864 بينما ذكرنا أن أحد الباحثين ذكر أول طبعة لها على يد المحقق نفسه كان سنة 1859 فيعتقد أن سزكين ذكر هنا الطبعة الثانية لها، ولكن الذي قام بتحقيقها وطبعها هو فستفیلد لكي يظهرها إلى العلن بشکل کتاب مبوب و مطبوع ثم بعد ذلك نشر السيرة محمد محي الدين عبد الحميد من أربعة مجلدات في القاهرة 1937م
ص: 147
ثم نشرها مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري و عبد الحفيظ شلبي بالقاهرة 1955م، وقد أشار سزكين أيضاً إلى أن هناك قطعة تناولت بيعة العقبة الثانية من السيرة مدونة على جلد قدیم توجد في فينا ضمن مجموعة الدوق راینر وقد نشرتها نبيهة عبود في دراستها للبرديات العربية.
ولهذا الكتاب أهمية خاصة ؛ لأنه يجمع بين الحداثة التاريخية والقصص الديني، وبين الخرافة والاسطورة، والاهتمام به ليس الاهتمام بالتاريخ فقط فهو لا يشكل مرجع تاريخياً أو مصدراً علمياً وإنما يأتي الاهتمام به والحرص عليه من أنه كتاب فني يسجل میلاد فجر القصة العربية وطريقة روايتها.
وقد ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام (1337 ه - 1918م) بمجلس إدارة المعارف العثمانية في الهند ببلدة حیدر آباد، وقد تم العثور على النسخة الأصلية في صنعاء وهي نسخة قديمة يبلغ عمرها خمسمائة عام تقريباً، فقد انهی کاتبها کتابتها سنة (11034ه - 1624م)، أما النسخة الثانية التي قوبلت بها النسخة الأصلية فقد كانت محفوظة في المتحف البريطاني بلندن تحت رقم 2901، وقد فرغ ناسخها من کتابتها في غرة شهر شعبان (1031ه-1621م) وناسخها هو أحد أبناء اليمن، ويعد ما قام به عبد الملك بن هشام تهذيباً لرواية وهب بن منبه وقام بإخراجها بكتاب جديد أطلق عليها العنوان المذكور (1).
إلا أنَّنا سوف نسلط الضوء في دراستنا على كتابه الأول وهو السيرة النبوية
لنتعرف على أسباب التهذيب وغيرها من الأمور في الموارد القادمة.
ص: 148
إن قيام ابن هشام بعمل تهذيب السيرة لم يأت اعتباطاً أو ترفاً فكرياً وإنما جاء لأسباب وضرورات اعتقد ابن هشام أنها توجب القيام بذلك العمل الذي جعل السيرة النبوية تقترن باسمه حيث أصبح التلازم واضحاً بين الاسم والمهذب، أما ابن إسحاق صاحب السيرة الأصلي ومؤلفها الأول لم يذكر له اسم في هذا الكتاب سوى اسمه في رواياته المهذبة التي أتى بها ابن هشام، فقد ذكر محققو السيرة في مقدمتهم ((ثم قيض الله هذا المجهود - مجهود ابن إسحاق - رجلاً له شأن، هو ابن هشام فجمع هذه السيرة ودوّنها، وكان له فيها قلمٌ لم ينقطع عن تعقب ابن إسحاق في كثير مما أورده بالتحرير، والاختصار، والنقد، أو يذكر رواية أخرى فاتت ابن إسحاق ذكرها هذا إلى تكملة أصنافها وأخبار أتی بها))(1).
إنَّ ابن هشام لم يهذب السيرة فقط كما هو معلن بل أضاف إليها إضافات أخرى وذكر أسباب ذلك بالقول: ((وانا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل ابن إبراهيم، ومن ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل، على هذه الجهة الاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه ذكر، ولا تزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث بها، وبعض يسوء الناس
ص: 149
ذكره، والبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به))(1).
إن نظرة فاحصة لكلام ابن هشام يمكن أن نستدل منها على خمسة أسباب جوهرية حسب اعتقاده في تهذيب السيرة:
الاختصار حيث كان هدفه الأول المعلن للتهذيب والاختصار وترك كل شيء
ليس له صلة بنسب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
الزيادات في الأشعار حيث قدم على حذفها لم ير أحداً من أهل العلم بالشعر
يعرفها.
أشياء غير مقبولة الحديث بها ولم يبين لنا نوعية تلك الأشياء والأمثلة عليها
وماهي شناعة الحديث بتلك الأمور ؟
بعض الأمور كانت غير مقبولة لدى فئة معينة من الناس ولم يوضح من هؤلاء
الناس الذين لا يقبلون ما ورد في سيرة ابن إسحاق وهل تلك مستندة إلى أسانید صحيحة أو غير ذلك.
وبعض لم يروه البكائي لابن هشام ولكن ابن هشام تمكن من الحصول عليها من روايات أخرى، وفي تلك الفترة یبين ابن هشام أنه لم يقم بالتهذيب فقط بل أضاف إضافات أخرى.
وعند مناقشة أسباب ابن هشام وحسب ما تقتضيه متطلبات البحث، وبالعودة إلى السبب الأول من الأسباب المعلنة التي دعت ابن هشام إلى تهذيب السيرة فإن حذف
ص: 150
الزيادات في السيرة التي ذكرها ابن إسحاق وهي غير داخلة في موضوع السيرة أصلاً وهي الأمور المختصة بالأنبياء والرسل الذين ليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من أصلهم فبذلك تصبح السيرة كبيرة وواسعة وهذا خلاف المنهج الذي أريد له من التأليف إلا أنه هناك إشارات إلى أن السيرة التي تقدم بها ابن إسحاق بطلب المنصور هي مهذبة في الأصل حيث يذكر الخطيب البغدادي(1) أن سبب تأليف ابن إسحاق للسيرة كان بطلب المنصور وذكرنا ذلك في موضعه المناسب إلا أن المنصور کما رأى أن الكتاب كبير ومطول قال له: ((لقد طولته یا ابن إسحاق اذهب فاختصره فهو هذا الكتاب المختصر)) أما الكتاب المطول ألقي في خزانة المنصور. إذاً السيرة النبوية لابن إسحاق أصلاً هي مهذبة وأصبحت في شكل ارتضاه المنصور.
لكن هذا لا يعني أن ابن هشام أخطأ في عملية التهذيب للسيرة النبوية لابن إسحاق لكن هذه العملية اعتبرت كعملية جراحية مشوهة قام بها ابن هشام حيث اختصر المختصر وهذبه(2). وقد ذكر أحد الباحثين (3) ((أن الذين تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار ومنهم ابن هشام، إنما خفضوا من ثقل الكتاب بعض أخباره التي استبعدوها غير مؤمنين بصحتها، ناقلين من الأخبار ما يرون فيه القرب من الحق، ومستبعدين ما لايجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفندين إياه رادین له))، وهذه الفكرة الأساسية (حسب اعتقادنا) المستوحاة من عملية التهذيب للسيرة هي ترك كل ما لم يؤمن به أصحاب نظرية التهذيب من أفكار يعتبرونها بعيدة عقائدياً
ص: 151
وفكرياً عما يرون ويعتقدون به، وهذا الأمر فيه مجافاة للحقائق العلمية وبعيدة عن روح الحياد المطلوبة لمن يتناول أي حقل من حقول العلم.
إنَّ تهذیب ابن هشام لسيرة ابن إسحاق حذف ماسماه الزوائد وكل ما ليس له
صلة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا يتنافى مع منهج ابن إسحاق الذي اعتمده في السيرة حيث تعد أهم مزية له هي سبکه المنظم للمعلومات الواردة في السيرة التي لا يمكن أن تكون من بنات أفكاره وحدها، بل هي مزيج من عمل شيخه الزهري وسائر المصنفين الذين لهم باع في هذا العمل قبل ذلك (1).
ويمكننا القول إن السيرة النبوية لابن إسحاق هي عمل متكامل ومنظم أما التهذيب فهو أمر اريد به تسويق أمور معينة تكون متماشية مع الواقع السياسي والمذهبي آنذاك وهذا ما سيتضح من خلال مناقشاتنا لاحقا.
أما الرجوع إلى مناقشة النقطة الثانية التي دعت ابن هشام إلى التهذيب فهي رفع الأشعار التي تكون منحولة ودخيلة على الشعر مستخدماً في ذلك إمكاناته في هذا المجال على اعتباره إماماً في اللغة والنحو (2).
ولابدَّ لنا في البداية من إلقاء نظرة ولو بسيطة على أهمية ومكانة الشعر عند العرب سواء في الجاهلية أم بعد مجيء الإسلام، فقد ورد عن الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) : (( إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً))(3).
ص: 152
وفي الرواية الآتية عن الشعبي قال: ((أتی حسان بن ثابت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله: إن أبا سفيان بن الحارث(1) هجاك، وأسعده على ذلك نوفل بن الحارث (2) وكفار قريش، أفتأذن لي أن أهجوهم یا رسول الله ؟ فقال كيف تصنع بي ؟ فقال: أسلّك كما تُسلّ الشعرة من العجين ! قال له: اهجهم روح القدس معك))(3).
وفي مورد آخر قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((الشعر
کلام العرب جزل تتكلم به في نواديها، وتسل به الضغائن بينها))(4).
كان الشعر مهماً جداً عند العرب فقد وثق به أحداثهم ومآثرهم، وكان الوسيلة الإعلامية البارزة في توثيق الأحداث والذي يهمنا هنا هدف ابن هشام من تهذیب الأشعار فنذكر هنا الإشارات لتلك الأهداف من وراء تهذیب ابن هشام للشعر الوارد في السيرة.
إلا أن ابن هشام بإقدامه على تهذيب وحذف بعض الأشعار التي أوردها ابن إسحاق كمحل لشاهد الحدث التاريخي الذي يورده فقد ضعف الرواية التاريخية لاقتران تلك الأشعار بالأحداث التاريخية وسوف نورد على سبيل المثال أحد تلك
ص: 153
الشواهد وهي شك ابن هشام في القصيدة اللامية التي قالها أبو طالب حيث كان شکه ليس في نسبة قائلها بل قال فيها ((ويعض أهل العلم بالشعر ينكرون أكثرها))(1).
من غير أن يردف بقوله (له) مما يجعل الإنكار على أبيات القصيدة وليس على قائلها ويوحي من خلال طرحه لذلك أن الأبيات موضع الشك هي من وضع الوضاعين حيث وضعت لأسباب معينة، ولاسيما إن في القصيدة تعريضاً ببعض الشخصيات من زعماء قريش الذين كان لأبنائهم في ما بعد أثرهم السياسي في تولي دفة الحكم في العهدين الأموي والعباسي، فكان هؤلاء القلة من أهل العلم أسقطوا من الأبيات الشعرية في هذه القصيدة التي تسيء إلى مسامع سلطة الحاكم فحكموا عليها أنها موضوعة، وجاء من بعدهم تبع قال بقولهم، لما لهذه القصيدة من وقع خاص يعرفه ابن هشام وغيره وقد حرص ابن هشام على ذكر (أهل العلم) للأمانة العلمية وإن كان يخالف رأيه وقد خفض حدة الشك إلى أقل قدر ممكن، فأثبت ما اعتقد بصحته وإن خالفهم وهذا يدل على أن الشك في أبيات القصيدة ضعيف لا تؤيده أدلة قاطعة، حيث أبقي ابن هشام الشك بدرجة ترجيحية، وقد ذكر ابن أبي الحديد(2) رأيه في القصيدة اللامية لأبي طالب والذي شكك ابن هشام فيها معللاً ذلك لإنكار أهل العلم لها حيث يعتبر شهرتها کشهرة (قفا نبكي)(3) وإن جاز الشك
ص: 154
فيها أو في شيء من أبياتها جاز الشك في (قفا نبك) وفي بعض أبياتها.
ويذكر استشهاده على صحة القصيدة وهي حادثة المبارزة بين عبيد بن الحارث ابن عبد المطلب و عتبة بن ربيعة حيث جرح عبید بن الحارث و حمل وهو جريح قد قطع ساقه فألقي بين يدي رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فقال يا رسول لو كان أبو طالب حياً لعلم أنه قد صدق في قوله:
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً*** ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرّع حوله*** ونذهل عن أبنائنا والحلائل(1)
وقد وردت هذه القصيدة في ديوان أبي طالب مكونة من (2)110 أبيات من الشعر بينما ابن هشام أورد فيها 94 بيتاً فقط(3) يعني حذف 16 بيتاً لشك أهل العلم بالشعر حسب قول ابن هشام، إلا أن ابن كثير في رده على تشكيك ابن هشام في قصيدة أبي طالب اللامية ((إن هذه قصيدة عظيمة فصيحة بليغة جداً لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أجمل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعاً))(4).
وقد أوردنا في حديثنا عن منهجية ابن إسحاق في كتابة السيرة النبوية ذلك وقد علل أحد المستشرقين استشهاد ابن إسحاق بالأشعار يقول: ((ولكنه لم يقم بأبحاث خاصة عن صحتها لم يعتد العلماء المحترفون القيام بها ولا تمسه مسألة صحتها مساً
ص: 155
خاصاً، فهو استشهد بهذه الأشعار، على قدر ظهورها له جدير بالاستشهاد))(1) إلا أن نظرة ابن إسحاق الحيادية في نقل الحقيقة التاريخية ساقته إلى تثبيت بعض الأشعار الخاصة بهجاء المشركين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فاضطر ابن هشام إلى
حذفها للتلطيف من حدة هذه الأشعار.
حذف الأشعار المنحولة، إذ تمثل هذا الحذف بعبارته التي افتتح فيها كتابه والتي مفادها ((وتارك ذكر... أشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها))(2)، فمن خلال كلامه هذا يتبين أن لديه القناعة الخاصة المتأتية من علمه بأنَّ بعض الأشعار الموجودة في سيرة ابن إسحاق منحولة.
حذف الأشعار الرديئة وشملت هذه الأشعار ما لم يتكامل وزنه والتي في وزنها الشعري ركاكة والتي اختلفت قوافي أبياتها، إذ نراه قد طبق هذا المسمى في أماكن عديدة(3). وإن انتقائية ابن هشام في حذف الأشعار ليس لشكه في صحتها وصدورها من أفواه قائليها وإنما على أساس انتقائه وقناعته في تلك الأشعار سواء بالرفع أم بالإثبات(4).
حذف الأشعار المقذعة(5)، وقد شمل الحذف الأشعار من المسلمين والمشركين
ص: 156
على حد سواء(1). وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك (2).
أما فيما يخص مناقشة بقية أسباب تهذيب السيرة فالسبب الثالث هو ورود ذکر أمور غير مقبول الحديث فيها أو يتسع الحديث فيها على حد تعبيره فهو لم يوضح لنا تلك الأشياء وماهي الموارد التي قام بحذفها لشناعة الحديث بها، وهذا ما نركز عليه في بحثنا وبالأخص في الفصول القادمة ؛ لأنه سيكون محور حديثنا الأساسي، غير أني وجدت نفسي مضطراً لإيراد أحد الأمثلة وهي حديث الدار أو الإنذار بعد أن أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ »(3).
هذه الحادثة حذفها ابن هشام بالكامل غير أن ابن إسحاق أوردها بكل تفاصيلها(4)، وهذا ما سنناقشه في مورده وبتفصيل أكثر، إلا أن ذكرها هنا فقط لمحل الشاهد، فهل حذفه لأمر كهذا مهم هو لشناعة الحديث بها أم لأغراض أخرى...
أما ما يخص السبب الرابع للتهذيب هو أن بعض الأمور غير مقبولة لدى فئة معينة من الناس أو ما يسوء بعض الناس ذكره، وقد أبقى المتلقي في حالة مبهمة حيث لم نعرف ما هي تلك الأمور، فنلاحظ مما حذف من السيرة النبوية ولم يذكره ابن هشام هو تمثيل هند بنت عتبة(5) زوج أبي سفيان بجثة حمزة بن عبد المطلب
ص: 157
حيث (بقرت عن كبده فلاکتها) وكذلك فعلن بقية النسوة معها حيث مثلن بجثث الشهداء البقية(1).
أما السبب الخامس والأخير فهو ليس تهذيباً للسيرة وإنما أضاف إليها ابن هشام أشياء حسب قوله إن البكائي لم يروه إلى ابن هشام حيث أضاف إضافات ينتهي سند روایتها إليه هو كمايلي ((قال ابن هشام(2) : حدثنا عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عمر مولى غفرة.. ثم يسرد الرواية التي لم يكن لابن إسحاق فيها أي ذكر ..)).
إلا أن هناك الكثير من الإيجابيات والمحاسن التي أطرت السيرة النبوية المهذبة
بأطر علمية توضيحية منها:
إيضاحه لمعاني الآيات القرآنية التي وردت کشواهد في حوادث السيرة وتفسيرها لغوية وإعطاء معاني كلماتها والأمثلة كثيرة على ذلك منها عندما يذكر الآية الكريمة التي نزلت في أثناء هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المباركة «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » (3) فهنا ابن هشام يفسر كلماتها بإعطائه المعنى اللغوي لمن غمض منها حيث يذكر المنون: الموت وريب المنون: ما يريب ويعرض منه(4).
كذلك إيضاح معاني الكلمات الصعبة في الأشعار الواردة في السيرة النبوية وبيان معانيها اللغوية إضافة إلى القصدية المستوحاة من إيراد تلك الأشعاره)(5).
ص: 158
إيضاح ابن هشام للكثير من الأمور التي ترد في روايات ابن إسحاق وكذلك قيامه بتصحيح الكثير من الهفوات والأخطاء التي وقع فيها ابن إسحاق في السيرة النبوية(1).
التعريف بالأعلام الذين ترد اسماؤهم في الروايات واسماء قبائلهم وأنسابهم ولم يكن هذا التعريف يقتصر على الأعلام فقط بل أيضاً كان هناك تعريف بأسماء الاماكن والبقاع التي ترد في سياق العرض بأخبار السيرة(2).
ذكر ابن هشام من أغفلهم ابن إسحاق من الذين استخلفهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على المدينة في أثناء غزواته على سبيل المثال ذكره استعمال الرسول لابن أم مكتوم على الصلاة بالناس عندما خرج إلى معركة أحد(3)، وكذلك ذكره لاستخلاف سباع بن عرقطة الغفاري (4) عندما خرج الرسول في غزوة دومة الجندل (5)، وكذلك استعمال الرسول لأبي ذر الغفاري أو لنميلة بن عبد الله الليثي(6) عند خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة بني المصطلق(7) .
ص: 159
من خلال ترجمتنا لابن هشام لاحظنا أن وفاته كانت (218ه - 833م) أو على قول آخر (213ه - 828م) والذي نريد قوله إنه توفي نهاية خلافة المأمون العباسي، وإن بدايات اهتماماته بالعلم كانت في ظل الدولة العباسية التي قامت بعد قضائهم على الأمويين سنة (132 ه- 749م)(1). وهذا يعني أن عصر المهدي العباسي (158ه-774م) (169 ه- 785م) ومن بعده الرشید (170 ه -786م) (193 ه 808م) برزت فيه إمكانات ابن هشام العلمية حيث روي أنه سمع الحديث من زیاد البكائي الذي توفي (183 ه - 799م)(2).
إلا أنَّنا لم نعرف كيف كانت تلك الرواية هل هي مشافهة ؟ أو هل اطلع ابن هشام على السيرة التي دوّنها البكائي ؟ هذا غير واضح ولم نتمكن من الوصول إليه لقلة المعلومات في هذا المورد ولكن بكل الأحوال فإن رواية البكائي للسيرة النبوية هي المعتمدة من قبل ابن هشام كما هو واضح وتم إيراده، وبالرجوع إلى أصل تدوین السيرة على شكل كتاب مدون وإهدائه إلى المنصور العباسي، والذي نريد أن نصل إليه هو ذكر العلاقة بين تدوين السيرة النبوية وبين الخلفاء العباسيين من زمن المنصور صعوداً وإن أمر المنصور لابن إسحاق ((اذهب والف كتاباً))(3)، هذا يوضح أن ابن إسحاق كان لديه الكتاب في قراطيس غير مبوبة جلبها معه عند خروجه من المدينة، وأن أصل السيرة توجد بها إشارات للعباس بن عبد المطلب جد العباسيين، الذي ظل على دين الوثنية طيلة مدّة الدعوة الإسلامية في مكة والمدينة ولم يسلم حتى
ص: 160
عام (8ه - 629م) بعد فتح مكة ولم توجد أي إشارات حول تقديم العباس بن عبد المطلب العون والمساعدة للنبي أو إلى المسلمين في تلك المرحلة(1).
إلا أن موقف العباس من الرسالة السماوية والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه لا يمكن أن يتماشى مع نظرية العباسيين للحكم والتي بيّنها أبو العباس السفاح في أول خطبة له حيث كانت دعواه قائمة على التدين وأنهم أهل بیت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ يذكر في خطبته التي كانت في بداية خلافته ((الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله و كهفه وحصنه والقوّام به والذابين عنه والناصرين له فألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قرابته وأنشأنا من آبائنا وأنبتنا من شجرته واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا حريصاً علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »(2)، وقال تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى »(3)، وقال «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(4)، وقال: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى »(5)، وقال:
ص: 161
«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى»(1). فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا وأجزل من والغنيمة نصيبنا وتكرمه لنا وفضله علينا والله ذو الفضل العظيم...))(2).
وكذلك يمكن أن نلاحظ ذلك من خلال رد المنصور العباسي على أحد خصومه العلويين في رسالة له ((وقد علمت أن المكرمة في الجاهلية - يقصد العباس بن عبد المطلب - سقاية الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعباس بين إخوته وقد نازعنا فيها أبوك - يقصد علي بن أبي طالب - فقضى لنا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلم نزل عليها في الجاهلية وفي الإسلام، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني عبد المطلب غير العباس وحده، فكان وارثه من بين إخوته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله الا ولده فالسقاية سقايتنا وميراث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) میراثنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فضل بالإسلام إلا والعباس وارثه ومورثه))(3).
من خلال هذين النصين اللذين أوردناهما نلاحظ تغير بوصلة السياسة
إلى الإدعاء بالقرابة النسبية من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك كل من له صلة ونسب بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالخصوص العلويين وهذا يستوجب تلميع صورة العباس بن عبد المطلب وإظهار مواقفه المشرفة مع الرسول والرسالة ويتطلب إدخال روایات مهمة في السيرةالغرض منها رفع منزلة العباس وإعلاء شأنه، ويتم ذلك من خلال إيراد الشواهد التاريخية في السيرة
ص: 162
النبوية، فعليه فإن المنصور وبعده هارون والمتوكل وغيرهم قد أولوا اهتماماً كبيراً في احتضان مؤلفي الفتوح والمغازي الكبار وأغدقوا عليهم الأموال والمناصب الإدارية لكي يقدموا رواية فيها منقبة للعباس بن عبد المطلب، وما يؤيد ذلك اهتمام المنصور بالأسمار والأخبار والاستماع إلى رواة المغازي، حيث ذكر ابن الفقية الهمذاني (1) أن المنصور جعل يدني من يقول بها ويجزيهم على انتاجاتهم تلك بالأموال فكان يقول عن أسامة بن معقل ((فلم يبق شيء من الأسعار والأشعار إلا حفظته طلباً للقرابة منه ومظفرة بها)) ويمكن ملاحظة ما كان يتطلع المنصور إلى تأسيسه فكرة (آل البيت) التي استثمرها العباسيون إبان تنظیم دعوتهم ثم ما بعد ثورتهم في الكوفة وخراسان وقد أوردنا جزءاً من رسالة المنصور أعلاه لتأكيد ذلك.
فيتضح من ذلك أن أمام المنصور عمل مجهد في تنقية تاريخ جد الأسرة العباسية وتطهيره من رجس الوثنية، كما فعل قبله معاوية تماماً، من صنع رواية محرفة أو معدلة للسيرة النبوية بما له علاقة بالعباس بن عبد المطلب و كانت الوسيلة الأساسية لذلك تكمن في إعادة النظر في كتابة السيرة النبوية بأقلام مؤيدة للبلاط العباسي (2).
وهذا ما سنلاحظ من خلال مايلي:
ذكر ابن هشام(3) في السيرة النبوية حول بيعة العقبة الثانية رواية ابن إسحاق عن معبد بن کعب بن مالك عن أخيه عبد الله بن کعب (وكان أعلم الأنصار) عن ابیه کعب (خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء
ص: 163
ابن معرور (1) سیدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا خرجنا من المدينة، قال البراء لنا یا هؤلاء: إني رأيت رأياً، فوالله ما أدري اتوافقوني عليه أم لا ؟ قال قلنا: ما ذلك ؟ قال: إني رأيت أن لا جعل هذه البينة مني بظهر -عني الكعبة - وأن أصلي إليها. قال والله ما بلغنا أن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه قال: فقال إني لمصلٍ إليها، قال فقلنا له: لكننا لا نفعل. قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة، قال: وكنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يابن أخي انطلق بنا
إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) حتى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي شيء منه، كما رأيت من خلافکم إياي فيه. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال: هل تعرفانه ؟ قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قال قلنا: نعم - قال: وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس: هل تعرف هذين الرجلين یا أبا الفضل ؟ قال: نعم هذا البراء بن معرور، سید قومه وهذا كعب بن مالك. قال: فوالله ما أنسی قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الشاعر ؟ قال: نعم،
ص: 164
فقال له البراء بن معرور. ... ثم روی رواية صلاته إلى الكعبة فأجابه الرسول.... كنت في قبلة لو صبرت عليها، قال فرجع البراء إلى قبلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))، إن الرواية الواردة أعلاه كأنما راويها صممها على مقياس معين وهو إظهار منقبة العباس بن عبد المطلب جد العباسيين حيث يمكن ملاحظة ذلك من خلال عدة أمور:
ذكر الراوي عبد الله بن کعب الذي هو السند الرئيس في الرواية بأنه أعلم الأنصار وذلك لبيان مكانة الرواية وقوتها؛ لأنها صادرة من أعلم إنسان في الأنصار ولم يذكر لنا الراوي ماهو العلم الذي تصدر عبد الله بن کعب.
الرواية جهلت تماماً دور مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة ليفقه أهلها بالدين ويعلمهم تعاليمه وكذلك يقرؤهم القرآن حيث كان يسمى المقرئ في المدينة(1). حيث ترك البراء بن معرور يعمل باجتهاداته الشخصية في ممارسة عباداته وكأن لم يكن هناك من يرشده إلى ذلك وكأن الرواية هيأت الأذهان إلى حتمية اللقاء برسول الله لطرح المسألة عليه.
مقدمات الرواية توحي وكأنها مخططة مسبقاً لغرض إظهار حدث مهم وإبرازه
بشكل ملفت للنظر حيث أعده ليكون اللقاء برسول الله واضحاً وبشكل علني.
الملاحظ أن الرواية تجاهلت تماماً السرية التامة التي أحاطت بتلك المرحلة الحاسمة من حياة الدعوة الإسلامية وهذا ما نلاحظه لاحقاً عند مناقشة تكملة الجزء الثاني من الرواية حيث السؤال العلني من قبل کعب والبراء عن مكان رسول الله لغرض الوصول إليه ومعرفة رأيه في تلك المسألة.
ص: 165
إرشادهم من قبل أحد المكيين حيث أرشدهم إلى المسجد و أشار لهم إلى العباس ابن عبد المطلب كنقطة دالة للوصول من خلالها إلى الرسول وكأن العباس هو الأساس في الموضوع(1).
وهنا إبراز واضح لدور العباس وقد علل الراوي سبب المعرفة بوفود العباس على أهل المدينة عندما كان تاجراً وقد بين الراوي مكانة العباس الاجتماعية حيث الجميع يعرف تلك الشخصية قياساً إلى شخصية الرسول التي تجاهلها الراوي قليلاً في سبيل رفع شخصية العباس ثم يذكر بعد ذلك دخولهم إلى المسجد ولقاءهم بالعباس ورسول الله جالس إلى جنبه وهذا أمر بعيد عن الواقع من وجهة نظرنا حيث رسول الله يجلس في مكان عام كهذا والرسالة تمر في احلك الظروف واصعبها حيث يبحث الرسول عن ملجأ له وللمسلمين ولو كان أمر العباس هكذا من مرافقته للرسول وحمايته فلماذا الرسول يبحث عن مكان يجعله منطلقاً لتبليغ دينه الجديد!؟ وإن كانت ستراتيجية الرسول في اختيار المدينة منطلقاً ليبلغ رسالته متأتية من عوامل عديدة لم تقتصر على توفير الحماية فحسب وهذا سوف نناقشه في محله.
رفع منزلة العباس أكثر حيث كناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بأبي
الفضل وهذا دال على علو مكانة ومنزلة الشخص المكنى من الذي كناه(2).
ثم نعود إلى تكملة الجزء الثاني من الرواية: ((ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العقبة من أواسط أيام التشريق، قال فما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله (صلى الله علیه و آله وسلم) لها، ومعنا
ص: 166
عبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر، سید ساداتنا وشريف أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نکتم من معنا من قومنا من المشركين، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيانا العقبة، قال فأسلم وشهد العقبة معنا. قال: فنمنا ثلث الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً... قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى جاءنا معه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دین قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويوثق له، فلما جلسنا كان أول متکلم العباس بن عبد المطلب، فقال يا معشر الخزرج، قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها: إن محمداً منا حيث علمتم وقد منعاه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، وإن کنتم ترون أنكم وافوه له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن کنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة في بلده، قال فقلت له: سمعنا ما قلت. فتکلم یا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال فتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم... الخ وتمت بيعة العقبة))(1). الملاحظ من خلال تكملة الرواية العقبة الثانية التي أوردها ابن هشام
ص: 167
في السيرة النبوية عن ابن إسحاق وعند التمعن في تلك الرواية نلاحظ النقاط الآتية :
السرية التامة في أي تحرك يتحركونه وهذا ما صرح به الراوي حيث كانت سرية الأمر حتى على مرافقيهم من مشركي المدينة والسرية مطلوبة بأمور كهذه، إلا أن الراوي أنكر المنسق لهذا اللقاء والذي يضع خطة اللقاء حيث تجاهل دوره بالكامل وهذا ما أشرنا إليه عند مناقشة القسم الأول من الروايةوهو مصعب بن عمير، ومما يدل على السرية هو تسللهم إلى لقاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
اختلاف واضح مع الطبري(1) في تاريخه في عدد الذين حضروا العقبة وهي الرواية نفسها والسند نفسه فذكر الطبري سبعين بينما ذكر ابن هشام اثنين وسبعين وهذا يدل على أن الرواية تعرضت للدس والتشويه(2).
بیان حضور العباس بن عبد المطلب تلك البيعة واعتبر أول المتكلمين قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكأن القضية يسودها الطابع القبلي والعباس يدافع عن ابن أخيه ومن وجهة نظرنا هذا الأمر بعيد عما يتصرف به الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بوصفه حامل الرسالة السماوية السمحاء ومن غير الجائز أن يحضر العباس وهو على دين قومه في أمر كهذا في غاية السرية والخطورة أي معناه خرق واضح للسرية التي أرادها الرسول، وربما سؤال يتبادر للذهن عند ابتداء العباس الكلام، ما هي الصفة التي يحملها للتكلم نيابة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هل هي القرابة ؟ وهذه ليس لها اعتبارات عند النبي فالقرابة بلا إيمان لا تعني لديه شيئاً، إضافة إلى أن النبي هو صاحب الشأن وصاحب الدعوة فلا داعي
ص: 168
لكلام العباس قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن حشر العباس في هذا المورد لإبراز شخصيته ؛ لأنه جد المنصور الأعلى لكي يبين للناس أنه من أهل بيت النبي وهو صاحب الشريعة والحكم، وهذا ما سنلاحظه من خلال سير البحث في الفصول اللاحقة إن شاء الله تعالى، وهناك خط آخر عمل عليه العباسيون هو طمس كل منقبة وفضيلة لعلي بن أبي طالب وآله وإبعاد صفة كونهم آل بيت الرسول وحجب صورتهم عن المتلقي وقد تجلى بشكل واضح من خلال رسالة المنصور إلى محمد ذي النفس الزكية التي أوردناها حيث أعلن المنصور فيها إعلاناً رسمياً بالوقوف ضد نهج علي وآل علي لغرض طمس مناقبه وفضائله زوراً وبهتاناً.
إن المنطلقات الفكرية لابن زیاد البكائي أو تلميذه ابن هشام هي ترجمة واضحة للواقع السياسي الذي فرضته الإدارة العباسية فقد كان من نتائج ذلك العداء هو تنكيل المنصور العباسي بعبد الله بن الحسن(1)، والقضاء على الثورة التي قام بها ولده محمد ذو النفس الزكية وإبراهيم في سنة 145ه(2)، واستمر القتل والتنكيل بالعلويين وكان من أبرز تلك الممارسات قضاء الهادي العباسي (169ه - 170 ه) (785م -
ص: 169
786م) على ثورة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1).
وبعد ذلك لما جاء الرشيد إلى الخلافة (170 ه - 193 ه) (786م - 808م)
واستمر على نهج أسلافه حيث التنكيل بالعلويين والقتل وكان أبرز أعماله التي نالت العلويين هي قتل الإمام موسی بن جعفر الكاظم (183 ه - 799م)(2). والكلام كثير جداً عن اضطهاد العلويين ولكن ذكرنا ما يمكن الاستشهاد به فمن المؤكد في ظل أجواء عدائية كهذه لابد من توجيه من يكتب التاريخ والسيرة أن يكون رأيه کرأي أصحاب الحل والعقد من الحكام.
ص: 170
ص: 171
ص: 172
أورد ابن هشام مجموعة من الروايات تتحدث عن نسب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) تناولت تفاصيل حياة آبائه ومآثرهم وشرفهم في قومهم فذكر في رواياته کيفية وفاة هاشم وتولي إخوته لوظائف الكعبة فقال: ((ثم هلك هاشم ابن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجراً، فولي السقاية والرفادة منبعده المطلب ابن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم وكان ذا شرف في قومه وفضل وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله))(1).
ثم تطرق بعد إيراده رواية وفاة هاشم بن عبد مناف بن قصي إلى عبد المطلب ابنه وكيف كانت ولادته ونشأته ((وكان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح ابن الحريش..... فولدت له عمر بن أحيحة، وكانت لا تنکح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلاً فارقته، فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة، فترکه هاشم عندها حتى كان وصيفاً أو فوق ذلك، ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت سلمى له: لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ، وهو غريب في قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا، نلي كثيراً من أمورهم، وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم أو كما قال وقال شيبة لعمه المطلب -
ص: 173
فيما يزعمون - لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له، ودفعته إليه، فاحتمله فدخل به مكة مردفه معه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه، فبها سمي شيبة عبد المطلب، فقال المطلب ويحكم! إنما هو ابن أخي هاشم، قدمت به من المدينة))(1).
من خلال ما أورده ابن هشام أعلاه تتبين المكانة السامية لبني هاشم في قومهم إلا أن ابن سعد(2) ذكر الكيفية التي وصل بها خبر شيبة بن هاشم إلى عمه المطلب حيث قال: ((وقدم ثابت بن المنذر بن حزام، وهو أبو الشاعر حسان بن ثابت الشاعر، مكة معتمراً فلقي المطلب وكان له خليلاً، فقال له لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالاً وهيبة وشرفاً...)).
وروى البلاذري(3) بسنده عن الواقدي رواية ابن هشام نفسها عن كيفية ولادة شيبة بن هاشم حيث سمي بذلك لوجود شيبة في رأسه أو يقال لوجود شيبتين حول ذؤابته ثم يكمل الرواية ((وقيل له عبد المطلب ؛ لأنه لما ترعرع بالمدينة، وأتت له سبع أو ثماني سنين، بلغ عمه المطلب بن عبد مناف خبره في لبسه ونظافته وشبهه هاشم أبيه، فاشتاق إليه وركب حتى أتى المدينة فوافاه وهو يرمي مع الصبيان، فلما أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فقال له من أنت يا غلام ؟ قال أنا شيبة بن عبد مناف قال: وأنا عمك، المطلب بن عبد مناف، وقد جئت لحملك إلى بلدك وقومك و منزل أبيك وجوار بيت الله إن طاوعتني، وجعل يشوقه إلى مكة فقال: ياعم أنا معك، وقال له رجل من بني نجار: قد علمنا أنك عمه فإن أحببت فاحمله الساعة قبل أن تعلم أمه، فتدعونا إلى منعك منه فنمنعك فانطلق به معه...))
ص: 174
ثم أورد تفاصيل الرواية نفسها التي أوردها ابن هشام إلا أن ما أورده في نهاية الرواية أعلاه يمكن أن يكون مجانباً للحقيقة ؛ لأنها ليست من صفة زعماء قريش وهي أخذ ابن أخيه بدون علم أمه ولكن الأقرب إلى الواقع ما أورده ابن هشام.
وقد اختلفت الروايات في كيفية تعرف المطلب على ابن أخيه شيبة الحمد - عبد المطلب - ولكن الذي يهمنا هو وصوله إلى مكة لينشأ ويترعرع في ربوعها، حيث قام المطلب بالإشراف عليه وتربيته وكفالته وقد اشتهر في مكة باسمه الجديد وهو عبد المطلب(1)، ولم يزل عبد المطلب مقيماً في مكة حتى بلغ مبلغ الرجال، ثم يكمل ابن هشام نقل الرواية عن المطلب ((ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن...))(2) وبعد وفاة المطلب آلت الأمور إلى عبد المطلب بن هاشم حيث ذكر ابن هشام(3) عن ابن إسحاق ((ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفاده بعد عمه المطلب فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم وشرف في قومه شرف لم يبلغه أحد من آبائه(4)، وأجله قومه وعظم خطره فيهم)).
ص: 175
ثم نقل ابن هشام(1) رواية ابن إسحاق التي ينتهي سندها إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) والتي تبين حفر عبد المطلب بئر زمزم قال: ((قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آتٍ فقال لي احفر طيبة، قال قلت: ما طيبة ؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر أبره. قال قلت: ما أبره ؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر المضمونة، قال قلت: وما المضمومة ؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم؟ قال قلت: وما زمزم؟ قال لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث و الدم، عند نقرت الغراب الأعصم، عند قرية النمل... - ثم يكمل - فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها)).
الرواية أعلاه تدل على منزلة عبد المطلب و مكانته الدينية والاجتماعية حيث جاءه الأمر بحفر زمزم لكي يسقي الحجاج منها.
وتطرق ابن هشام(2) إلى ذكر أولاد عبد المطلب فقال: ((فولد لعبد المطلب عشرة نفر وست نسوة، العباس وحمزة وعبدالله، و أبو طالب - واسمه عبد مناف - والزبير، والحارث وحجل، والمقوم، وضرار، وأبو لهب - واسمه عبد العزی - وصفية، وأم حکیم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة)) ثم ذكر تفاصيل أكثر
ص: 176
حول أولاد عبد المطلب ((فأم العباس وضرار نتيلة بنت الحارث بنت حباب بن کلیب... وأم حمزة والمقوم وحجل - كان يلقب بالغيداق لكثرة خيره وسعة ماله - وصفية، هالة بنت وهيب بن عبد مناة... وأم عبد الله و أبي طالب والزبير وجميع النساء غير صفية، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن مخزوم... وأم الحارث بن عبد المطلب، سمراء بنت جندب بن حجير بن رئاب، و أم أبي لهب، لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن خاطر...)).
ومن المناسب أن نورد هنا أن ابن هشام في سرده للنسب لم يلتزم التسلسل الموضوعي والزمني فهو أورد أولاد عبد المطلب قبل أن يتحدث عن ولادته ونشأته وغيرها من الموارد المختلفة، وأن القارئ للجزء الأول من السيرة وبالذات الموارد الخاصة بالنسب لم يكن لديه وضوح کامل، فقد تشكلت هناك ضبابية تامة وهذا بسبب التهذيب الذي أراده ابن هشام للسيرة.
أما مكانة عبد المطلب فقد برزها ابن هشام - وكذلك قبله ابن إسحاق حسب إطلاعنا - بشكل جيد وذكر مناقبه منها دفاعه عن مكة عندما غزاها أبرهة(1)، وحفره لبئر زمزم، ونذر عبد المطلب، وقصة ذبح ولده عبد الله(2) .
ولابد لنا أن نذكر بعض مواقف عبد المطلب التي ذكرها ابن هشام في الدفاع عن مكة وعن أهلها وقداستها - وأهمها حادثة الفيل، إذ قدم أبرهة صاحب الفيل ليهدم الكعبة - فذكر وفادة عبد المطلب إلى أبرهة - فعن ابن إسحاق قال: ((وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن
ص: 177
يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد الملك علي مئتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت اعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك،وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لاتكلمني فيه، قال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك))(1).
وقد انتهت قصة ابرهة بهزيمة منكرة بفضل بركة السماء وقد حكاها القرآن«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ »(2). وتعد تلك القصة معجزة سماوية تبين مدى إيمان عبد المطلب برب هذا البيت حيث كان عبد المطلب زعيم مكة بدون منازع وآلت هذه الزعامة من بعده إلى ابنه أبي طالب (3) .
وذكر ابن هشام(4) عن ابن إسحاق كفالة عبد المطلب للرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة والدته آمنة بنت وهب (5) ((فكان رسول الله
ص: 178
(صلى الله عليه وآله وسلم) مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه. لا يجلس عليه أحد من بنيه أجلالاً له. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي وهو غلام صغير حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخره عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأناً، ثم يجلس على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع)).
فيما تقدم ذكرنا نسب الإمام علي كما أورده ابن هشام في السيرة النبوية وكان ذكره للنسب لأنه نفس نسب النبي الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
لم يهتم ابن هشام بتفاصيل حياة أبي طالب فلم يذكر روایات تتعلق بولادته، وساق الحديث عنه بقدر ارتباط الأمر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال في بداية حديثه عن أبي طالب: ((فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب وكان عبد المطلب - فيما يزعمون - يوصي به عمه أبا طالب ؛ وذلك لأن عبد الله أبا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا طالب أخوان لأب وأم...))(1).
إلا أن البلاذري(2) ذكر ((قالوا: لما احتضر عبد المطلب جمع بنیه فأوصاهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان الزبير بن عبد المطلب وأبو طالب أخوا عبد
ص: 179
الله لأمه وأبيه، وكان الزبير أسنهما، فاقترح الزبير وأبو طالب أيهما يكفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصابت القرعة أبا طالب، فأخذه بيده. ويقال: بل اختاره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم على الزبير، وكان ألطف عميه به، ويقال: بل أوصاه عبد المطلب بأن يكفله من بعده...)).
عند التمعن في رواية ابن هشام الذي عزى سبب الكفالة من قبل أبي طالب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرابة القريبة بين عبد الله و أبي طالب ؛ لأنهما من أمٍّ واحدة وهذا قد يكون جزءاً من السبب وليس الكل لأن الزبير وكما ذكر البلاذري أيضاً أخوهما لأمهما وكان أسن من أبي طالب فلماذا لا يكفله ؟ وترك الكفالة لأبي طالب؟ إن ما ذكره البلاذري أكثر دقة وموضوعية مما ذكره ابن هشام من أن أبا طالب كان عطوفاً على رسول الله وهو كان في كفالة جده مما هيأ ذلك للرسول أن يختار أبا طالب لكفالته، وقد تكون الوصية هي تحصيل حاصل للكفالة له لتأكيد أهمية هذه الكفالة من قبل عبد المطلب لأبي طالب، إذ لاحظنا أن الرسول عند وفاة جده عبد المطلب كان له من العمر ثماني سنوات(1)، وهو يميز بشكل جيد من يعطف عليه ومن يوده ويرعاه من أعمامه.
إنَّ كفالة أبي طالب للرسول الأكرم تعني توفير الحماية والرعاية لشخصه الكريم وهو في بداية حياته حيث أورد ابن هشام مجموعة من الروايات تخص كفالة أبي طالب وسوف نحاول تسليط الضوء عليها، فقد ذكر ابن هشام(2) عن ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أنَّ أباه حدثه ((إنَّ رجلاً من لهب (3)... كان
ص: 180
عائفاً(1)، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم، قال: فأتاه به أبو طالب وهو غلام، مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام عليَّ به، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول ويلكم الغلام الذي رأيت آنفاً، فو الله ليكون له شأن قال فانطلق أبو طالب)).
أما بقية الرواة والمؤرخين فقد أوردوا روايات قريبة من هذا المعنى، فأورد ابن سعد(2) عن الواقدي رواية قال فيها: ((لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه فكا يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج معه، وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شبعوا، فكان إذا أراد أن يغذيهم قال کما انتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب إنك لمبارك ! وكان الصبيان يصبحون رمضاً شعثاً ويصبح رسول الله كحيلاً دهيناً)).
وهذه الرواية على الرغم من قصر محتواها إلا أن الواقدي أوجز فيها كيفيةكفالة
ص: 181
أبي طالب للرسول وعطفه عليه ومعرفته التامة به وبمؤهلاته على خلاف ما ذكر ابن هشام حيث اقتصرت روايته على مجيء العائف وفراسته برسول الله وكأنه يوحي للمتلقي بأن أمر الرسول ونباهته مخفية على أبي طالب، أما اليعقوبي(1) فذكر ((فكفل رسول الله بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه، فكان خير كافل، وكان أبو طالب سید شریفاً مطاعاً مهيباً مع إملاقه)).
کما أورد ابن هشام(2) عن ابن إسحاق رواية تبين اهتمام أبي طالب بالرسول وعدم مفارقته له وعطفه الكبير عليه حتى في رحلته إلى بلاد الشام لغرض التجارة((فلما تهيأ للرحيل - أبو طالب - وأجمع السير صب به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فيما يزعمون - فرقّ له أبو طالب، فقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً أو كما قال فخرج به معه. فلما نزل الركب بُصري من أرض الشام وبها راهب يقال له بحرى، في صومعة له وكان ذا علم من أهل النصرانية... ثم بين تفرسه بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعرفته له من خلال علاماته المميزة ثم قال الراهب لأبي: ما هذا الغلام منك ؟ قال ابني، فقال بحيري ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً، قال فإنه ابن أخي، قال ما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به قال صدقت ارجع إلى بلدك، واحذر عليه من اليهود، والله لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفت لیبغنه شراً، فإنه كائن له شأن عظيم، فاسرع به إلى بلدك فخرج به عمه سریعاً حتى أقدمه على مكة))(3).
ص: 182
هذا يظهر الاهتمام الواضح والاحتضان للرسول الأكرم وهو في مقتبل حياته من قبل عمه أبي طالب ولا بأس أن نلقي نظرة ولو بسيطة إلى أن معظم المستشرقين ينظرون إلى قصة بحيري على أنها اسطورة و قصة موضوعة ليس لها أهمية تاريخية بالنسبة إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما اتخذها البعض حجة لإثبات أن الرسول كان قد تعلم منه الدين، وأنه كان قد تلقن من علم اليهود والنصرانية فوضعه في الإسلام. أما بعض المؤرخين والرواة حاولوا أن يجعلوا من تلك الرحلة منقبة لأشخاص آخرين لكي يبرزوهم إلى واجهة الأحداث في الرسالة الإسلامية وقد ناقش ذلك أحد الباحثين مناقشة مستفيضة ووافية(1).
إن اهتمام أبي طالب بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في أثناء تبنيه عندما كان صغيراً وحرصه الكامل عليه وملازمته إياه ورعايته له، تؤكد أن أبا طالب يدرك عظم شأن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه لا يصرح بذلك من خشيته عليه ((ولما بلغ العشرين ظهرت فيه العلامات وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه، ويتذاكرون أمره، ويتوصفون حاله، ويقربون ظهوره، قال يوماً لأبي طالب عمه: یا عم إني أرى في المنام رجلاً يأتيني ومعه رجلان فيقولان هو هو، وإذ بلغ فشأنك به والرجل لا يتكلم. فوصف أبو طالب ما قاله لبعض من كان بمكة من أهل العلم. فلما نظر إلى رسول الله قال هذه الروح الطيبة: هذا والله النبي المطهر، فقال له أبو طالب: فاکتم على ابن أخي لا تغربه قومه فو الله إنما قلت لعلي ما قلت، ولقد نبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الأعداء))(2).
ص: 183
إن حديثنا عن أبي طالب في هذا المورد يندرج کونه والد الإمام علي (عليه السلام) فلابدَّ لنا من التعرف ولو بإيجاز على مانقله ابن هشام عن نسبه عليه السلام والملاحظ أن ابن هشام لم يعطِ أبا طالب حقه الكامل في سيرته، وقد اقتصر على روايات كانت من ورائها قصدية، فنراه يعزف عزوفاً تاماً عن ذكر أي رواية يرد بها دور أبي طالب خلال فترة احتضانه إلى الرسول حتى إذا بلغ سن الزواج وهي الخامسة والعشرون أورد ابن هشام(1)، عن ابن إسحاق الرواية الآتية ((بعثت خديجة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت له، فيما يزعمون: يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسلطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها... فلما قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب رحمه الله حتى دخل على خویلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها)).
1. إغفال دور أبي طالب بشكل تام في عملية زواج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة ولم يكن ابن هشام هو الذي أغفل ذلك الدور إنما الذي
أغفله ابن إسحاق (2).
2. على الرغم من كفالة أبي طالب للرسول ونشوءه في بيته ورعايته إلا أن الملاحظ من خلال الرواية بروز حمزة بن عبد المطلب وحمزة لم يبلغ مبلغ أبي طالب في
ص: 184
الوجاهة في قريش حيث كان أبو طالب هو صاحب الشأن وصاحب الزعامة ((وكان أبو طالب سیداً شریفاً مطاعاً مهيباً...))(1)، وقال علي بن أبي طالب: ((أبي ساد فقيراً وما ساد فقير قبله))(2)، فصاحب السيادة كان أبو طالب وليس حمزة بن عبد المطلب .
3. ولعل من المناسب ذكر أن القصدية من وراء حجب دور أبي طالب في عملية التزويج من قبل ابن إسحاق هو جزء من سياسة العباسيين في كتابة السيرة الرامية إلى طمس مناقب أعمام النبي عامة و أبي طالب بشكل خاص؛ كونه الأب المباشر لمنافسيهم العلويين وتسليط الضوء على العباس بن عبد المطلب، إلا أن هناك سؤالاً يتبادر إلى الذهن لماذا لم يورد اسم العباس في عملية التزويج ؟ فهذا شيء بعيد عن الواقع إذا علمنا أن عمر العباس كان قريباً من عمر النبي حيث یکبره بثلاث سنوات وقد تمت مناقشة ذلك في الفصل الأول من بحثنا عند مناقشة المؤثرات العباسية على كتابة سيرة ابن إسحاق، فبوجود أولاد عبد المطلب الأكبر سناً من العباس لا يمكن أن يكون ذلك، فكان بروز اسم حمزة لأنه أهون على السياسة العباسية من ذكر أبي طالب
جد العلويين المنافسين الحقيقيين للعباسيين في الحكم.
وبالعودة إلى رواية الزواج ذكر اليعقوبي (3) ((روی بعضهم عن عمار بن یاسر أنه
ص: 185
قال: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله من خديجة بنت خویلد: كنت صديقاً له، فإنا النمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة، فلما رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءتني هالة أختها فقالت: یا عمار: ما لصاحبك حاجة في خديجة ؟ قلت: والله ما أدري، فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها ووعدها يوماً نأتيها فيه. فقلت فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن سعد - عمها - وسقته ذلك اليوم ودهنت لحيته في دهن أصفر وطرحت عليه حبراً ثم جاء رسول الله في نفر من أعمامه تقدمهم أبو طالب فخطب أبو طالب فقال: الحمد الله الذي جعلنا من إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم أن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه، وإن كان في المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها رغبت و صداق ما سألتموه عاجله من مالي، وله والله خطبٌ عظيم ونبأ شائع))، هذه الخطبة تدل على معرفة تامة بشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيان واضح بمستقبله المشرق (1).
ص: 186
نشأ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في كنف عمه أبي طالب وقد أفاض عليه أبو طالب ما أفاض من عطف وحنان، فكان يؤثره على أولاده في كل شيء وقد خطب له خديجة زوجته الأولى، فكان بحق نعم الحافظ والكافل وقد استمرت هذه العناية بعد البعثة النبوية، حيث بعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أتم الأربعين(1)، وبقي أبو طالب يمارس الدور نفسه في حماية النبي وكان يدعمه ويحنو عليه.
وفي هذا الباب أورد ابن هشام(2) عن ابن إسحاق ((وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلاة فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم أن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال أي عم، هذا دين الله، ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم... بعثني الله به رسولاً للعباد، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه، أو كما قال: فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا استطيع أن أفارق دین آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقينا)) من خلال ما أورده ابن هشام في الرواية أعلاه عن ابن إسحاق يمكن ملاحظة مايلي:
ص: 187
أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب يصليان وهما متخفيان عن الأعين، ويتضح أن لا أحد يعلم بالرسول في بداية البعثة ولا يصلي معه إلا علي ابن أبي طالب وهذا ما سنناقشه في مورده الخاص.
إخبار الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) لعمه أبي طالب بأنَّ ما جاء به دین
أبيهم إبراهيم هذا يعني أن أبا طالب على معرفة تامة بديانة إبراهيم التوحيدية.
أن أبا طالب علم يقل للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه لا يستطيع مفارقة دین قومه بل قال لم أفارق دين آبائي ؛ لأن قومه يعبدون الأوثان، وآباؤه ومنهم عبد المطلب يعدون من الموحدين، حيث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ((والله يبعث جدي عبد المطلب أمة واحدة في هيأة الأنبياء وزي الملوك))(1).
في نهاية الرواية كان تأييد أبي طالب واضحاً للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا دليل على المؤازرة والاستمرار في الرعاية من لدنه إلى ابن أخيه في تبليغ رسالته.
بداية الدعوة بشكلها الاختياري الذي استمر على هذا الحال ثلاث سنوات ثم أمر الله تعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصدع بالدعوة وإعلانها(2): ((حيث أقام رسول الله بمكة ثلاث سنين يكتم أمره وهو يدعو إلى توحيد الله عز وجل وعبادته والإقرار بنبوته، فكان إذا مر بملأ قريش، قالوا:إن فتی ابن عبد المطلب یُكلم من السماء حتى عاب عليهم آلهتهم وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا
ص: 188
كفاراً ثم أمره الله عز وجل أن يصدع بما أرسله... وآذوه أشد الإيذاء))(1)، وأبرز من آذاه أبو لهب والحكم بن العاص (2) وغيرهم كثير من كبار مشركي قريش فكان أبو لهب یکذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل مناسبة عامة يقوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها بتبليغ رسالته حيث قام يوماً في سوق عكاظ وقال: ((أيها الناس قولوا لا اله الا الله تفلحوا وتنجحوا))(3). وقد انبرى للناس أبو لهب یکذّب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى طمع فيه من طمع من قریش وصبيانها وعبيدها فيلقون عليه ما لا يحب ((حتى أنهم نحروا جزوراً... ورسول الله قائم يصلي، فأمروا غلاماً هم فحمل السلى والفرث حتى وضعه على كتفه وهو ساجد))(4) .
إن إيراد أمور كهذه في هذا المورد هو لبيان إيذاء قریش لرسول الله ثم لبيان موقف أبي طالب من ذلك الموقف القرشي ضد الرسول وهل صور ابن هشام في سيرته تلك المواقف ؟ وعلى الرغم من أن المصادر الأولية التي اهتمت بالسيرة ذكرت هذه المواقف لأبي طالب نرى أن ابن هشام أغفل هذه الأموروقبله ابن إسحاق (5)
ص: 189
لم يذكرها أيضاً بينما نجد اليعقوبي(1) ذكر أن الرسول كان يلجأ إلى كافله وحاميه والسور المنيع ليحتمي به كلما اشتد أذى قريش له فقال: ((فأقبل أبو طالب مشتملاً على السيف يتبعه غلامٌ له فاخترط سيفه وقال: والله لا يتكلم رجلٌ منكم إلا ضربته، فأمرّ ذلك السلى والفرث على وجوههم واحداً واحداً)).
وهذه الصورة التي نقلها اليعقوبي واضحة وجلية، نرى فيها كيف دافع أبو طالب عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته حتى اضطره الأمر إلى مواجهة قريش بالسلاح، رغم مكانته الاجتماعية لكنه أبى إلا أن يحمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كيد المشركين.
وفي خضم تلك الأحداث من صدع رسول الله بدعوته وردّة فعل قريش القوية ضد الرسول والمسلمين، فقد روى ابن هشام(2) كيف تعاملت قريش مع الدعوة وموقف أبي طالب من هذا الأمر، فقال عن ابن إسحاق: ((وحدب (3) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أمره الله مظهراً لأمره لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه ... رأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه ولم يسلمه لهم، مشی رجالٌ من أشراف قريش إلى أبي طالب... فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافة فنکفیکه، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً وردهم رداً جمیلاً فانصرفوا عنه)) .
ص: 190
فهذا الوفد الأول من قريش إلى أبي طالب حيث أورد ابن هشام في السيرة تسلسل إرسال الوفود القريشية إلى أبي طالب لبيان موقفه من الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) حيث كانت نتائج هذا الوفد واضحة من خلال الرواية أعلاه أنه ردهم رداً جميلاً وقال لهم قولاً رفيقاً لكي لا يخسر قومه وبالمقابل يستمر في مناصرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والوقوف إلى جانبه اعتماداً على المكانة الاجتماعية التي يتمتع بها باعتباره أحد زعمائهم، وقد استمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر دعوته مستغلاً موقف أبي طالب إلى جانبه وأخذ يقوي شوكة المسلمين.
وبعد الوفد الأول نقل ابن هشام(1) الوفد الثاني الذي أرسلته قريش إلى أبي طالب بعد أن رأوا من قوة أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكاثر أعداد المسلمين ((ثم أنهم - أي كبار قریش - مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وسفه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنّا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين... ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطيب نفساً بإسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ولا خذلانه)).
ثم عاد ابن هشام(2)، لنقل رواية أخرى عن ابن إسحاق حيث استكمل ردة فعل أبي طالب بعد أن رأي موقف قريش المتشدد من الرسول والمسلمين فقال: ((إن قریشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يابن أخي، أن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا... فابق علي
ص: 191
و على نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق قال فظن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قد بدی لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) یا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهر أو أهلك فيه، ما تركته. قال ثم استعبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبکی ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يابن أخي. قال: فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: اذهب يابن أخي فافعل ما أحببت، فو الله لا أسلمك الشيء أبداً)).
من خلال هذه الرواية التي أوردناها عن ابن هشام نلاحظ أن أبا طالب اختار جانب الرسول والميل له وطمأنه بأنه سوف يكون ناصره ومعينه على ما هو عليه ولم يسلمه أبداً إلى الأعداء فقد كانت تلك المحاورة بين أبي طالب والرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثابة اختبار حقيقي لموقف الرسول الصلب في تبليغ ما حمل وبالمقابل تأیید واضح وصريح من أبي طالب إلى خطوات النبي التبليغية.
وقد نتلمس أن هناك شبه جفوة حصلت بين أبي طالب وقومه من خلال الوفادة الثانية وكانت الأمور تسير إلى غير ما كان يأمل أبو طالب من إبقاء جسور التواصل مستمرة بين الطرفين.
أما الوفد الثالث الذي نقل تفاصيله ابن هشام(1) في السيرة النبوية عن ابن إسحاق فهولاء يختلفون في اهدافهم عن الوفدين السابقين فقد ركزوا على سعي المشركين إلى إقناع أبي طالب بضرورة التخلي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 192
ولكن بطريقة أخرى ((ثم أن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب أبي خذلان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة(1)، فقالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد(2)، فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفّه أحلامهم فنقتله إنما هو رجل برجل، فقال والله لبئس ما تسومونني (3) اتعطوني ابنكم اغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلوه ! هذا والله لا يكون أبداً،قال فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه فما أراك، تريد ان تقبل منهم شيئاً، فقال أبو طالب للمطعم والله ما انصفتوني ولكنك اجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك)).
ويتضح من النص المتقدم أن الوفد الثالث لأبي طالب كان يحمل المقايضة التي لم يرضها أبو طالب أبداً كما يوكد ان أبا طالب التزم جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتعهد بحمايته والوقوف إلى جانب المسلمين وذلك من خلال رده على المطعم بن عدي، وهو من بني عمومته المقربين فكان رده عليه يحمل نبرة التحدي وعدم الاكتراث بما صنع القوم ؛ لأنه صمم على نصرة النبي محمد (صلى الله عليه
ص: 193
وآله وسلم) مهما كلفه الأمر، ثم ذكر ابن هشام(1) شعر أبي طالب في هذا الأمر الذي يرويه ابن إسحاق حيث يعرض بالمطعم بن عدي ويعمم من خذله من بني عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم*** ألا ليت حظي من حياضکم بکرُ
من الخور حبحاب كثير رغؤه*** يرُش على الساقين من بوله قطرُ
تخلف خلف الورد ليس بلاحقٍ*** إذا ما على الفيفاء قيل له وبر
أرى إخوينا من أبينا وأمنا*** إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهما الأمر ولكن تجرجما*** کما جرجمت من رأس ذي علق الصخر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً*** هما نابذانا من ينبذ الحجر
إن استعراضنا لمواقف أبي طالب مع الرسول وكيف صورها لنا ابن هشام لكي تبرز الصورة الحقيقية لأبي طالب و بنيه مع الرسول ووقوفهم المشرف إلى جانب تبليغ الرسالة حيث قوی موقف أبي طالب هذا من شوكة المسلمين وبدأ أمرهم يكبر وسبب الحرج إلى قريش الذين خابت كل مساعيهم عن ثني أبي طالب عن نصرة الرسول الأكرم، فقد رفض أن يمس أحدهم محمداً بأي سوء، وقد انتهجوا على إثر ذلك سياسة التعذيب والاضطهاد لمن دخل الإسلام من غير الهاشميين، وقد منع الرسول من أذى قريش بموقف عمه أبي طالب المساند والمقوي له، وقد قام أبو طالب بعدما رأى من أذى المسلمين فدعا بني هاشم وبني عبد المطلب إلى الالتفاف حول الرسول ومنع أي أحد من الوصول إليه ((فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه لما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون))(2).
ص: 194
وقد همت قريش بقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجمع ملأوها
على ذلك فلما بلغ أبا طالب قال:
والله لن يصلوا إليه بجمعهم*** حتى أغيب في التراب دفینا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحٌ*** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دیناً قد علمت بأنه*** من خير أديان البرية دينا(1)
إلا أن نصرة أبي طالب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تقتصر على المحاورة مع قریش والموقف الكلامي فقط بل هناك مواقف اضطرت بني هاشم بقيادة أبي طالب أن يحمل السلاح فيها للدفاع عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه المواقف أهملها ابن إسحاق ومن بعده ابن هشام تماماً ومنها على سبيل المثال ما ذكره ابن سعد(2) في الطبقات بعد أن يئست قریش من أبي طالب في تسليم محمد لهم ورأوا إصرار محمد علی تبلیغ دینه مهما كلفه الأمر، فقد غادروا مجلس أبي طالب ((وهم يقولون اصبروا على الهتكم إن هذا لشيء يراد، ويقال المتكلم بهذا عقبة بن أبي معيط، وقالوا: لا نعود إليه أبداً، وما خير أن يغُتال محمد، فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني عبد المطلب ثم قال: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد فلينظر كل فتى منكم فليجلس من عظمائهم فيهم ابن الحنيظلة - يعني أبا جهل- فإنه لم يغب عن شر إن
ص: 195
كان محمد قد قُتل، فقال الفتيان نفعل، فجاء زید بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال، فقال یا زید أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفاً، فقال أبو طالب: لا أدخل بيتي أبداً حتى أراه، فخرج زید سریعاً حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدثون، فأخبره الخبر، فجاء رسول الله إلى أبي طالب فقال یابن أخي أين كنت ؟ أكنت في خير ؟ قال: نعم. قال : ادخل بيتك فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلما أصبح أبو طالب غدا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأخذه بيده فوقف به على أندية قريش، ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون، فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به ؟ قالوا: لا فأخبرهم الخبر، وقال الفتيان: اکشفوا عما في أيديكم، فكشفوا، فاذا كل رجلِّ منهم معه حديدة صارمة، فقال والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً حتى نتفاني نحن وأنتم، فانكسر القوم وكان أشدهم انکساراً أبا جهل)).
تكشف لنا هذه الرواية أن أبا طالب لم یکن مدافعاً عن رسول الله بلسانه کما صوره لنا ابن هشام بل كان هناك تصرف مسلح لردع قریش عن رسول الله،ومن المواقف التي برزت فيها قوة أبي طالب المسلحة في الدفاع عن الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ((وفي الليلة التي أسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قریش قد اغتالته أو قتلته فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش وقال لهم: إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم وإلا فليقتل كل رجل منکم جلیسه و لا تنتظروني، فوجده على باب أم هاني(1)، فأتي به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان
ص: 196
منه فأعظموا ذلك وجل في صدورهم وعاهدوا وعاقدوا أنهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شيء يكرهه أبداً))(1).
لكن إغفال ابن إسحاق ومن بعده ابن هشام لتلك المواقف لعله من المحذورات السياسية لكي لا يفرط في ذكر آل أبي طالب ومناصرتهم للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا ما لا يروق لمن دون السيرة أو دونت السيرة في عهده وهو کما ذكرنا المنصور العباسي فقد اكتفى بإظهار نصف الحقيقة وحجب النصف الآخر.
تعد مرحلة المقاطعة مرحلة أخرى مهمة وحساسة في حياة الدعوة الإسلامية وهي مقاطعة قريش لبني هاشم بشكل عام وبني عبد المطلب بشكل خاص، لما عرفت قريش أن لا سبيل لها في الوصول إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما له من منعة من قبل عمه أبي طالب:
فقد نقل ابن هشام(2) في السيرة رواية ابن إسحاق التي قال فيها ((واجتمعوا - أي قريش - وأتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعون منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم ... فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو
ص: 197
هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب، عبد العزى بن عبد المطلب، إلى قريش فظاهرهم)).
ان إظهار العداوة لبني هاشم من قبل قریش وسعيهم لقتل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) سراً وعلانيةً، دعا أبا طالب للتفكير بأن يجعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مأمن من کیدهم وبذلك عمد إلى الدخول إلى الشعب للحفاظ على حياة الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله وسلم) (1). وفي ذلك قال أبو
طالب :
ألا أبلغا عني ذات بيننا***لؤياً وخص من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدا***نبياً کموسی خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبةً*** ولا خير في من خصه الله بالحب
وأن الذي اضفتم في كتابكم*** لكم كأن نحساً کراغية السقب
افيقوا افيقوا قبل أن تحضر الثري***ويصبح من لم يجد ذنباً كذي ذنب
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا *** أباصرنا بعدالمودة والقرب (2)
وقد أغفل ابن هشام في السيرة تفاصيل ما دار في الشعب وما لقي بنو هاشم من أذى، ودور أبي طالب المميز في توفير الحماية للرسول، إلا أن ابن إسحاق برز جانباً من ذلك الدور، ففي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق ((وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد مكراً به واغتياله، فإذا نوم الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو
ص: 198
بني عمه فاضطجع في فراش رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي بعض فراشهم فينام عليه))(1).
وعمد ابن هشام إلى إغفال تلك الرواية التي تبين حرص أبي طالب الشديد على حياة النبي وذلك لحجب أجزاء مهمة من الصورة الحقيقية لأبي طالب إرضاء الرغبات وميول العباسيين.
وقد أثرت المقاطعة في حياة بني هاشم حيث قطعت عنهم المياه والمؤن وكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغ بهم الجهد مبلغاً كبيراً وسمع أصوات صبيانهم وراء الشعب، فمن قریش من سره ذلك ومنهم أساءه (2).
فكانت هناك ردة فعل قوية داخل صفوف القرشيين وكان لهشام بن عمرو بن ربيعة (3) - ابن اخت بني هاشم - دور مميز في نقل المؤن والأرزاق إلى محمد وبني هاشم في الشعب وقد كانت له سعاية مميزة في تأليب الرأي العام القرشي ضد الحصار والصحيفة(4). وقد ذكر ابن هشام (5) عن بعض أهل العلم ((أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي طالب: یاعم إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو الله إلا أثبته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة
ص: 199
والبهتان، فقال أربك أخبرك بهذا ؟ قال: نعم. قال: فو الله ما يدخل إليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي فقال القوم رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فزادهم ذلك شراً...)).
ولابدَّ لنا ونحن نستعرض رواية ابن هشام أعلاه أن نثبت نقطة مهمة يمكن
الرجوع إليها عند مناقشة إيمان أبي طالب فيما بعد وهذه النقطة هي إخبار أبي طالب القريش قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أخبره به بشأن الصحيفة وأنه احتج على قريش بذلك وقد أعطاهم غاية ما سألوه، وهو تسلیم محمد لهم وهو طلبهم قبل المقاطعة، لكن أبا طالب على يقين صادق بأنَّ قول محمد هو الحق فلذلك ذهب هذا المذهب في الاحتجاج معهم ولكن قريشاً لما رأوا الحق وصدق الدعوة أصروا واستكبروا، والذي نريد أن نصل إليه هو إن دفاع أبي طالب عن النبي ومساندته إياه لم يكن مستنداً إلى القرابة القريبة فقط وإنما كان هناك دافع قوي آخر هو الإيمان بها يقول به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدق دعواه في كل ما يقول.
وبعد أن تبين الحق وصدق قول أبي طالب سقط ما بأيدي قريش ونكسوا رؤوسهم بعد أن بانت الحقيقة فقد خاطبهم أبو طالب (علام نحبس ونحصر وقد بأن الأمر ؟ ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا، واستحل ما يحرم منا ثم انصرفوا إلى الشعب))(1).
إلا أن القرشيين تلاوموا فيما بينهم على ما فعلوه في بني هاشم ولبسوا السلاح ثم
ص: 200
خرجوا إلى بني هاشم وأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا وبذلك انتهت المقاطعة الظالمة طويت صفحة سوداء من صفحات اضطهاد قریش ضد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبني هاشم، وكان الدور البارز والمحوري فيها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه أبي طالب الذي ضحى بكل ما يملك في سبيل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
ذكر ابن هشام(2) في سيرته نقلاً عن ابن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس بداية شكاية أبي طالب أن القرشيين ((مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة (3) وشيبة بن ربيعة(4) وأمية بن خلفه(5)، وأبو سفيان بن حرب(6) في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا
ص: 201
طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذله منا، وخذلنا منه، ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال: یابن أخي: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك ويأخذوا منك، قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم كلمة واحدة تعطونیها تملكون بها العرب وتدين معكم العجم، قال: فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر کلمات، قال تقولون لا إله الا الله وتخلعون ما تعبدون دونه، قال فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً! وإن أمرك لعجب، قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، قال ثم تفرقوا... فقال أبو طالب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : والله يابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططا)) بهذه العبارة أثني أبو طالب على طلب الرسول من قومه حيث يتضح من ذلك التأييد الواضح لما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه في حضرة عمه أبي طالب.
والرواية الواردة أعلاه التي تشير إلى وفادة قريش إلى أبي طالب وهي الرابعة وقد ذکرهن ابن هشام في السيرة النبوية بتسلسل واضح وقد أوردناهن إلا أن البلاذري في الأنساب يورد الروايات بصورة مبعثرة غير متسلسلة فأورد الرواية أعلاه، وعن ابن عباس ((لما رأت قريش إجابة من أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام، وأن نبي الله غير نازع عما يكرهون، مشوا إلى أبي طالب فقالوا له أنت سیدنا وأفضلنا في أنفسنا، وقد ترى ما يصنع ابن أخيك، وجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له أبو طالب: هؤلاء عمومتك وسادات قریش، فاسمع ما
ص: 202
يقولون، فتكلم الأخنس بن شريق الثقفي(1)، فقال: تدعنا و آلهتنا، وندعك وإلهك . قال أبو طالب قد أنصفك القوم، فاقبل منهم، فقال: (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه لابدَّ من نصحهم، وأنا أدعوهم إلى كلمة أضمن لهم بها الجنة فقال أبو جهل: إن هذه لكلمة مريحة، فقلها. قال: تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقاموا وهم يقولون امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يُراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة وكان الذي قال هذا الأخنس والملة الآخرة: النصرانية))(2). ان التلاعب بالألفاظ في الرواية التي أوردها البلاذري قد أثر بالفعل على المضمون حيث نلاحظ من الرواية كأن أبا طالب انجاز نحو قومه، وهذا خلاف رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن هشام في السيرة.
أما الطبري(3) في تاريخه فقد أورد رواية بسندها عن محمد بن الحسين عن أحمد بن المفضل عن اسباط عن السدي حيث ذكر فيها أن قريشاً لما رأوا أبا طالب في حالة مرضه الذي توفي على إثره فقد اجتمع وجهاؤهم ((فقال بعضهم لبعض: انطلقوا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا منه، فيأمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبده، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء فتعيرنا العرب، يقولون: ترکوه، حتى إذا مات عمه تناولوه)).
والذي يهمنا من إيراد هذه الرواية هي مقالة أبي طالب بعد أن عرض الرسول
ص: 203
على كبار قریش قول كلمة لا اله الا الله، إلا أن أبا طالب قال: ((ما رأيتك سألتهم شططا) يعني أنك مصيب في دعواك .
ثم يكمل ابن هشام(1) نقل رواية ابن إسحاق ((ولما قالها أبو طالب - يعني العبارة التي ذكرناها آنفاً - طمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إسلامه، فجعل يقول: أي عم، فأنت فقلها استحل لك بها شفاعتي يوم القيامة، قال فلما رأى حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه قال يابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني ابيك من بعدي وأن تظن قریش اني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا اقولها إلا لأسرك بها قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت، قال، نظر العباس إليه يحرك شفتيه، قال فأصغي إليه بإذنه، قال: فقال يابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم اسمع)). وبهذا انتهت حياة حامي رسول الله بعد عقود من الكفاح سواء أكان حاضناً أم مدافعاً بكل ما يملك من أجل الحفاظ على رسول الله وأن لا يصيبه أي مكروه الغرض ديمومة الدعوة إلى الله من خلال صاحب الرسالة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن القضية المهمة التي لابدَّ الوقوف عليها هي إسلام تلك الشخصية، فقد اختلف المؤرخون والرواة في إسلام وإيان أبي طالب وأصبحت قضية خلافية نابعة من مواقف سياسية ليس نكاية بأبي طالب ولكن نكاية بابن أبي طالب وهذا الموضوع سوف نناقشه في الفقرة اللاحقة وبقدر المتيسر، إذا بعد وفاة أبي طالب فقد الرسول الحامي والمدافع، فلما توفي أبو طالب نالت قريش من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأذى ما لم تكن نالته من قبل في حياة أبي طالب،
ص: 204
حتى اعترضه أحد سفهاء قریش فنثر على رأسه التراب(1).
وقد ذكر ابن هشام(2)، الرواية الآتية عن ابن إسحاق عن عروة بن الزبير قال : ((لما نثر ذلك السفيه التراب على رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بیته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لها: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع اباك، قال: ويقول بين ذلك ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب).
وذكر اليعقوبي (3) ((توفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة وقيل بل تسعون سنة، ولما قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل ومسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيراً وكفلت يتيماً ونصرت كبيراً فجزاك الله عني خيراً. ومشي بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول وصلتك رحم وجزيت خيراً)).
لقد اختلفت أقوال وأحاديث الرواة والمؤرخين في قضية إيمان أبي طالب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووالد الإمام علي ونحن هنا لا نريد الاستطراد بتلك القضية ولكن سنورد ونقارن مقارنة بسيطة ما استطعنا الحصول عليه من خلال نقل المؤرخين القدامى لروايات الرواة وهي شتی ومتنوعة ونحن الآن نبتدئ بما نقله
ص: 205
ابن هشام في السيرة من نهاية حياة أبي طالب وما كان عليه عند وفاته.
فقد ذكر ابن هشام(1) في سيرته رواية ابن إسحاق التي تتحدث عن وفاة أبي طالب وكما ذكرنا من خلال إيراد الرواية في صدر الفقرة السابقة حيث ينتهي سند الرواية إلى ابن عباس ((قال فلما تقارب من أبي طالب الموت، قال: نظر العباس إليه وهو يحرك شفتيه، قال فأصغي إليه بإذنه قال: فقال یابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال فقال رسول الله لم اسمع)).
الملاحظ إن ابن هشام في إيراده الرواية أعلاه دس اسم العباس بن عبد المطلب فيها من قبل ابن إسحاق ومن بعده ابن هشام وهذا فيه شيء من المجاملة للعباسيين؛ لأن العباس لم يسلم بعد وكان إسلامه كما هو معروف سنة (8ه - 629م)، أما رواية محمد بن الحسين الذي ينتهي سندها بالسدي فيقول في نهاية الرواية وهي أيضاً لما طلب الرسول من أبي طالب الشهادة فأعطى أبو طالب تعليلاً لذلك ((فقال: لولا أن تعيبكم بها العرب، يقولون: جزع من الموت، لأعطيتكها، ولكن على ملة الأشياخ))(2). وهنا الأشياخ حسب سياق الرواية المراد بها أبوه عبد المطلب وأجداده.
وفي رواية أبي بكر بن أبي ظاهر البزاز عن أبي محمد عن أبي عمر بن حيوية عن أحمد بن معروف عن الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد عن معمر بن راشد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ((لم حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجد عنده
ص: 206
عبد الله بن أبي أمية وأبا جهل بن هشام، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ياعم، قُل (لا اله إلا الله، كلمة اشهد لك بها عند الله) فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب قال فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرضها عليه، ويقول: (ياعم، قل: لا اله إلا الله اشهد لك بها عند الله ويقولان له: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، حتى قال آخر كلمة تكلم بها: أنا على ملة عبد المطلب، ثم مات))(1) إذ لم تشر المصادر إلى أن عبد المطلب كان يعبد الأصنام أو أنه على دين الشرك بل إشارة إلى أنه كان موحداً، وهناك إشارات تدل على ذلك منها حفر زمزم بأمر الله تعالى وفي رواية الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن مخرمة بن نوفل الزهري ذكر عبد المطلب قال: ((وكان أول من تحنث بحراء - والتحنث التأله والتبرر - وكان إذا هل هلال شهر رمضان، دخل بحراء فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المسكين، وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر الطواف بالبيت ))(2).
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله يبعث جدي
عبد المطلب أمة واحدة على هيأة الأنبياء وزي الملوك))(3).
فمن خلال ما تقدم يمكن القول إن لدينا ثلاث روایات نقلها المؤرخون حول وفاة أبي طالب وهذه الروايات لم تذكر أنه كان مشركاً وهذا ما أكده ابن أبي الحديد المعتزلي (4) في شرح النهج ((قال أكثر الناس من أهل الحديث والعامة من شيوخنا
ص: 207
البصريين وغيرهم - مات أبو طالب على دين قومه - ویرون في ذلك حديثاً مشهوراً أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له عند موته: قل ياعم كلمة أشهد لك بها غداً عند الله تعالى، فقال: لولا أن تقول العرب: إن أبا طالب جزع عن الموت الأقررت بها)).
لكن هذه الرواية غير مسندة ولا يمكن الركون إليها كثيراً إذ لم نجد بها تواتراً واضحاً وعند الطعن بها نلاحظ كأنها اقتطعت من رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن هشام في السيرة النبوية ولكن بانتقائه لأهداف خاصة اريدت لها، فلا يوجد نص حقيقي يبين كفر أبي طالب وأنه عبد الأوثان كما كانت تعبد قریش قبل البعثة النبوية وقد نوقش إيمان أبي طالب من قبل أحد الباحثين (1) مناقشة معمقة ومستفيضة ونحن الآن بصدد إيراد ما يخص بحثنا لكي نكمل الصورة التي نقلها ابن هشام عن الإمام علي (عليه السلام) . لقد أوردنا كثير من الروايات في أثناء كفالة أبي طالب للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تبين الاهتمام الواضح بصاحب الرسالة سواء أكان ذلك قبل البعثة النبوية أم بعد البعثة فكانت مواقف أبي طالب المناصرة والمساندة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث خلصنا إلى شيء مهم وهو كان موقف أبي طالب المساند لصاحب الرسالة جعل الرسول يتحرك بحرية تامة في تبلیغ رسالته وقد ذكر المفيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل فقيل له: ما تقول في عمك أبي طالب یا رسول الله ؟ قال: ((أرجوله كل خير من ربي))(2).
ص: 208
وروي أن رجلاً من رجال الشيعة وهو أبان بن محمود کتب إلى علي بن موسی الرضا (عليه السلام) ((جعلت فداك : إني شككت في إسلام أبي طالب: فكتب إليه «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا » (1) وبعدها أنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك النار))(2).
وقد روي عن علي بن محمد الباقر (عليه السلام) أنه سئل عما يقول الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار، ((فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه. ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان يأمر أن يحج عن عبد الله وأبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى وصيته بالحج عنهم))(3).
وعن عفان بن مسلم عن علي بن زید بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((بعثت ولي أربعة عمومة، فأما العباس فيكنى بأبي الفضل ولولده الفضل إلى يوم القيامة، وأما حمزة فيكنى بأبي يعلى فأعلى الله قدره في الدنيا والآخرة، وأما عبد العزي فيکني بأبي لهب، فأدخله الله النار، وألهبها عليه، وأما عبد مناف فيكنى بأبي طالب فله ولولده المطاولة والرفعة إلى يوم القيامة))(4).
ص: 209
ومما يؤيد ما ذكرنا من إيمان أبي طالب (عليه السلام) أنه لما قبض رحمه الله ((أتي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأذنه بموته فتوجع لذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقال امض يا علي، فتولَ غسله وتكفينه و تحنيطه، فإذا رفعته من سريره فأعلمني، ففعل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، وقال وصلتك رحم وجزيت خيراً، فقال: أما والله لأشفعن لعمي شفاعة يعجب منها الثقلان))(1)، والشواهد كثيرة ولكن الآن لنرى جانباً من أشعار أبي طالب التي تدل على إيمانه:
عن أبان بن تغلب عن جلهمة بن عرفطة أن قريشاً قصدوا إلى أبي طالب بعد أن أجدبت العباد يطلبون منه الاستسقاء ((يا أبا طالب قحط الوادي، وأجدب العباد فهلم فاستسق، فقال رویدکم زوال الشمس وهبوب الريح فلما زاغت الشمس أو کادت، خرج أبو طالب معه غلام كأنه شمس دجنة تجلت عنه سحابة قتماء وحوله اغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بأضبعة الغلام وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة (قطعة من الغيم) فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا فأغدق واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب الناي والبادي وفي ذلك يقول أبو طالب:
ص: 210
وأبيض يسقى الغمام بوجهه*** ثمال اليتامی عصمة للأرامل
يلوذُ به الهلاك من آل هاشم*** فهم عنده في نعمة وفواضل
و میزان عدل لا يخسُّ شعيرةٍ*** ودازن صدق وزنه غير عائل(1)
وذكر ابن هشام(2) عن ابن إسحاق قصيدة أبي طالب رداً على قومه لما طلبوا منه تسليمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرد عليهم بالشعر الآتي:
ولما رأيت القوم لا ود فيهمُ*** وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى***وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوماً علينا أظنةً*** يعضون غيضاً خلفنا بالأنامل
صبرتُ لهم نفسي بسمراء سمحة*** وأبيض غضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي*** وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياماً معاً مستقبلين رتاجه*** لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
ثم يقول:
أعوذ برب الناس من كل طاعنٍ*** علينا بسوء أو ملحٍ بباطل
ومن کاشح يسعى لنا بمعيبةٍ*** ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
ص: 211
وثور ومن أرسی ثبيراً مكانه***وراقٍ ليرقي في حراءَ ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة*** وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر المسود إذ يمسحونه***إذا اكتنفوه بالضحی والاصائل
وموطى إبراهيم في الصخر رطبة*** على قدميه حافياً غير ناعل
ثم يقول: كذبتم وبيت الله نترك مكةَ*** ونطعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبدي محمداً***ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ***ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم يقول: فأصبح فينا أحمد في أرومة***التُقصر عنه سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته***ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
فأيده رب العباد بنصره *** وأظهر دیناً حقه غير باطلِ
وذكر ابن هشام(1) أيضاً في قصيدة لأبي طالب لما اشتدت قريش في أذاها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمه وبني عمومته قال:
ألا أبلغاعني على ذات بيننا*** لؤياً وخُصا من لؤي بني كعب
الم تعلموا انا وجدنا محمداً*** نبياً كموسی خُط في أول الكتب
ص: 212
وأن عليه في العباد محبةً***ولا خير من خصه الله بالحب
وأن الذي ألصقتم من کتابکم***لكم كائن نحساً کراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى*** ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا*** أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حرباً عواناً وربما*** أمر على من ذاقه جلبُ الحرب
فلسنا ورب البيت نسلم أحمداً*** العزّاء من عض الزمان ولا كرب
وفي قصيدة له عندما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها، قال أبو طالب:
الا هل أتی بحرینا صنع ربنا*** على نأيهم والله بالناس أرودُ
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت*** وأن كل ما لم يرضه الله مُفسَد
تراوحها إفك و سحر مجمَّع*** ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
تداعي لها من ليس فيها بقرقر*** فطائرها في رأسها يتردد
ويظعن أهل المكتين فيهربوا*** فرائصهم من خشية الشر ترعد
ويترك حرَّاثٌ يقلب أمره*** أيتهمَ فيهم عند ذاك وينجد
وتصعد بين الأخشبين کتیبةٌ*** لها حُدُج سهم وقوس ومرهد
فمن ينس من حضّار مكة عزَّهُ*** فعز بنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائل*** فلم تفكك نزداد خیراً ونحمد
ونطعِمُ حتى ينزل الناس فضلهم*** إذا جعلت ايدي المفيضين ترعد
ثم يقول:
من الأكرمين من لؤي بن غالب*** إذا سیم خسفاً وجهه يتربدُ
ص: 213
طویل النجاد خارج نصف ساقه*** على وجهه يسقى الغمام ويسعد
عظيم الرماد سیّدٌ وابن سيّدٍ*** يحض على مقرى الضيوف ويحشدُ(1)
وقد قال أبو طالب شعراً بحق أبي جهل بن هشام حيث أراد أن يرمي رسول الله
بحجر وهو يصلي فلصق الحجر به وقال:
افيقوا بني عمنا وانتهوا*** عن الغي من بعض ذا المنطق
والا فإني إذا خائف*** يوائق في داركم تلتقي
کما ذاق من كان من قبلكم*** ثمود وعاد وماذا بقي
ومنها :
واعجب من ذاك في أمرکم*** کعجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من حينه*** إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه*** على رغمه الخائن الأحمق(2)
وقد ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي (3) أن المأمون كان يقول: أسلم والله أبوطالب بقوله:
نصرتُ الرسول رسولَ المليكِ*** ببيضٍ تلألئ كلمح البروق
ص: 214
اذب واحمي رسول الإله***حماية حامٍ علیه شفيق
وما إن أدب لأعدائه***دبيب البكار حذار الفنيق
ولكن أزير لهم سامیاً*** کما زار لیث بغيل مضيقِ
وفي شعر أبي طالب يخاطب اخاه حمزة، وكان يكنى أبا يعلى:
فصبراً أبا يعلى على دين أحمد*** وكن مظهراً للدين وُفّقت صابراً
وحطَّ من أتی بالحقِّ من عند ربّه*** بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمزُ کافراً
فقد سرني إذ قلت أنَّك مؤمنٌ*** فكن لرسول الله في الله ناصراً
وبادِ قريشاً بالذي قد أتيت به*** جهاراً وقل ما كان أحمد ساحراً(1)
إن أشعار أبي طالب في نصرة النبي ومدحه ومدح دينه الجديد والوقوف إلى جانبه قد ملئت بطون كتب السير وأجاد بها الرواة كثيراً(2)، غير أننا اخترنا شواهد من تلك الأشعار لغرض تعضيد قولنا حول إيمان أبي طالب. ولابدَّ لنا من إيراد مجموعة من الملاحظات عند مناقشة إيمان أبي طالب وكما هو معلوم وحسب المعطيات التي ذكرت من روایات و أشعار توحيدية تدل على إيمان أبي طالب رغم ذهاب البعض غير ذلك إلا أنه لابدَّ لنا من إيراد الأمور الآتية لنخرج بنتيجة حول إيمان هذا الرجل الذي دافع بكل ما أوتي من قوة في سبيل حماية رسول
ص: 215
الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
إن المكانة الاجتماعية لأبي طالب تجعله يأخذ حالة عدم الجهر بالإسلام أي إخفاؤه لأن قريشاً إذا علمت وأصبحت على يقين بأن أبا طالب زعيمها أصبح على دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لانقطعت عرى التواصل بين الفريقين و لا يمكن لأبي طالب دفع الأذى عن الرسول بشكل خاص وعموم المسلمين، فإن رؤية أبي طالب للأمور لغرض مسايرة الوضع والحفاظ على مكانته الاجتماعية ليس طمعاً فيها وإنما لكي ينطلق منها لحماية الرسول وبذلك حافظ بهذه الطريقة على الرسول طيلة حياته ولم ينل الرسول أي أذى حتى توفي ((وإنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن أبطن الإسلام)(1).
إن القرآن الكريم يصرح بواضح الكلام أن هناك شخصيات رسالية كتمت إيمانها، وعلى سبيل المثال لا الحصر إبراهيم (عليه السلام) وقصته مع قومه الذين يعبدون الأصنام وقد شاع فيما بينهم الكفر واستحكم الجهل في نفوسهم فما كان النبي الله إبراهيم (عليه السلام)، إلا أن يستعمل الأسلوب الحسي في تبليغ رسالته وكانت أساليبه (عليه السلام) كثيرة في مخادعة قومه منها تقديمه للطعام أمام الأصنام ويطلب منهم الأكل ويقول:«فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ *مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ »(2)،ومنها تحطيمه لأصنامهم «فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ »(3) . وهذا النوع من التبليغ أوقع في النفس من مخاطبة العقل ؛ لأن الجاهل لا يؤوب إلى
ص: 216
عقله بقدر ما يلتفت إلى ما حواليه من الأمور المحسوسة(1) حيث كان أسلوب نبي الله إبراهيم وحكمته وكيف جاری قومه حتى وصل بهم إلى إيقاظ ضمائرهم، ومع کونه نبياً ومن أولي العزم إلا أنه لا يستطيع العمل بطريقة التبليغ العلنية، وكان شأن أبي طالب مع قریش کإبراهيم الخليل كل منها كتم إيمانه(2)، وبعد ذلك من أخفى إيمانه مؤمن آل فرعون حيث يقول تعالى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ »(3).
وكذلك هناك مثل قرآني آخر وهم أصحاب الكهف وقد نزلت فيهم سورة كاملة حيث قال تعالى :«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا »(4).
أما قومهم فكانوا مشرکین یعبدون آلهة لا تسمع ولا تعي حيث آمن هؤلاء الفتية بالله فنبذهم قومهم بل سعوا إلى قتلهم فكتموا إيمانهم حتى ينجوا بأنفسهم وقصتهم مشهورة(5)، فقد ذكر ابن أبي الحديد(6) عن أبي عبد الله جعفر بن محمد
عليها السلام) أن رسول الله قال: ((إن أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان، وأظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أبا طالب، أسرّ الإيمان وأظهر الشرك، فآتاه
ص: 217
أجره مرتين)).
وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي (1) ((فأما الصلاة وكونه لم ينقل عنه أنه صلى، فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد فرضت، وإنما كانت نفلاً غير واجب، فمن شاء صلى، ومن شاء ترك، ولم تفرض إلا في المدينة))، وبهذا نكون قد ألقينا إطلالة بسيطة بقدر ما يتسع له مجال البحث حول إيمان أبي طالب عم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي علي بن أبي طالب موضوع دراستنا ثم نكمل النسب الطاهر بإلقاء الضوء على سيرة السيدة الطاهرة فاطمة بنت أسد.
فاطمة بنت أسد أم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
لقد أهمل ابن هشام في السيرة ذكر السيدة فاطمة بنت أسد أم الإمام علي على الرغم من كونها حضنت الرسول وحنت عليه وكانت تحبه أكثر من أبنائها، لذلك سنحاول عرض جزء من سيرتها بشكل مختصر، فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي(2) ، وأمها فاطمة بنت هرم بن رواحة من بني عامر بن لؤي(3)، وكانت ممن كفل النبي وربته بعد موت عبد المطلب (4)، وقد ولدت لأبي طالب، طالباً وعقيلاً وجعفراً وعلياً وأم هاني، وجمانة، وكان علي اصغر ولد أبي طالب (5).
ص: 218
وعن الزهري قال: ((كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يزورها ويقيل عندها في بيتها وهي أول امرأة بايعتالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة بعد خديجة))(1)، وقد كانت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة الأم ربته في حجرها وكانت من السابقات إلى الإيمان وهذه منزلة ومنقبة لم تسبقها إليها امرأة إلا خديجة(2). ونحن هنا لسنا بصدد إيراد تفاصيل عن حياة السيدة فاطمة بنت أسد بقدر ذكر ما يتعلق الأمر بإسلامها ومنزلتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعندما هاجر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من أوائل المهاجرات إلى المدينة على قدميها(3)، وقال ابن عباس وفيها نزلت«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ » (4)(5)، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) مایؤید ذلك ((كانت فاطمة بنت أسد من أبر الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعت رسول الله وهو يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا . فقالت: واسوأتاه فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإني أسال الله أن يبعثك كاسية))(6).
ص: 219
إن لفاطمة بنت أسد منزلة عظيمة ومكانة رفيعة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه بعد سماعه خبر موتها من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث قال له لقد ماتت أمي فاطمة(1)، فكانت ردة فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إزاء الخبر المحزن ((وأمي والله))(2).
ثم قام بعد ذلك مسرعاً حتى دخل إلى المكان الذي توفيت فيه (فنظر إليها
ویکی)(3) ثم جلس عند رأسها وقال: ((رحمكِ
الله يا أمي کنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسكِ طيب الطعام وتطعميني تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة))(4).
وقد روي عن سعيد بن المسيب عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عن أبيه عن جده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ((لما ماتت فاطمة بنت أسد ابن هاشم کفنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قميصه وصلى عليها وكبر عليها سبعين تكبيرة ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه عليها وخرج من قبرها وعيناه تذرفان وحثا في قبرها فلماذهب قال له عمر بن الخطاب ... یا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد؟ فقال: يا عمر إن هذه المرأة كانت كأمي التي ولدتني، إن أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة وكان يجمعنا على طعامه فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيبنا فأعود فيه. وإن
ص: 220
جبریل (عليه السلام) أخبرني عن ربي عز وجل أنها من أهل الجنة وأخبرني جبريل أن الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلون عليها))(1)
ص: 221
لقد أحجم ابن هشام ومن قبله ابن إسحاق عن أي ذكر للولادة الشريفة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على الرغم من مكانته الكبيرة ومنزلته الرفيعة من صاحب الرسالة وصاحب السيرة التي دونها ابن إسحاق وهذبها من بعده ابن هشام حيث قال الرسول الأعظم في ذلك: ((الناس من أشجار شتى وأنا و أنت يا علي من شجرة واحدة))(1).
ولابد لنا أن نذكر بعض الروايات التي تناولت الولادة الميمونة للإمام وماهيتها وكيف أوردها الرواة والمؤرخون، فقد ولد الإمام علي (عليه السلام) في البيت الحرام - الكعبة - لثلاث عشرة ليلة خلن من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل(2)،
ص: 222
وفي رواية أخرى ولد(عليه السلام) في ليلة الأحد الثالث والعشرين من شهر رجب وكانت ولادته بعد زواج الرسول من أم المؤمنين خديجة بثلاث سنين وعمر رسول الله يوم ولادته 28 سنة(1).
فكانت ولادته بمكة المشرفة داخل البيت الحرام ولم يولد في البيت الحرام قبله
أحد ولا بعده، وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالاً له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته(2).
إن قدسية الولادة متأتية من قدسية المكان، فالمكان هو الكعبة المكرمة حيث ذكر الله تعالى ذلك المكان المقدس في محكم كتابه الكريم و«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ »(3)، هذه بیان واضح من الله تبارك وتعالى على مكانة وقدسية هذا البيت الذي شيد بأمر الله لغرض عبادته وقد اختلف في بكة فقيل : ((بكة بطن الكعبة... وقيل: موضع البيت والمكان، ومكة اسم البلدة))(4).
وللكعبة مكانة سامية ومنزلة كبيرة في نفوس الناس حيث ذكر الواقدي ((رأيت قریشاً يفتحون البيت في الجاهلية يوم الاثنين والخميس وكان حجّابه يجلسون عند بابه... وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء ويعظمون ذلك))(5).
ص: 223
إذاً قدسية المكان هو الذي أعطى الولادة قدسية، والآن نلاحظ الروايات التي تشير إلى تلك الولادة المباركة، فعن المفضل بن عمر عن ثابت بن دینار عن سعید بن جبير قال: ((قال یزید بن قعنب: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب، وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام إذ اقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق فقالت: رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وکتب وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم، وإنه بنی البيت العتيق، فبحق النبي الذي بني البيت وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت عليه ولادتي. قال زید بن قعنب فرأينا البيت انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط فرمنا أن يفتح لنا قفل الباب فلم يفتح فعلمنا أن ذلك أمر الله عز وجل ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم قالت: إني فضلت على من تقدمتني من النساء ؛ لأن آسيا بنت مزاحم عبدت الله سراً في موضع لا يجب أن يعبد فيه الا اضطراراً؛ وأن مریم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت رطباً جنياً، وأني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج هتف هاتف: يا فاطمة سميه علياً، والله العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ووقفته على غامض علمي وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن في بيتي ويقدسني ويمجدني فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويلٌ لمن أبغضه وعصاه))(1).
ص: 224
وذكر ابن جبر(1) في نهج الإيمان لدى المقارنة بين يونس (عليه السلام) والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ((یونس عَبِدَ الله في مكان ما عبده بشر وعلي ولد في موضع ما ولد قبله ولا بعده أحد، ولد في جوف الكعبة)).
وذكر ابن المغازلي (2) عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: ((كنت جالساً مع أبي ونحن زائران قبر جدنا عليه السلام وهناك نساء كثيرة، إذ أقبلت امرأة منهن فقلت لها من أنت يرحمكِ الله ؟ قالت زيدة بنت قريبة من بني ساعدة، فقلت لها: هل عند شيء تحدثينا ؟ قالت إيه والله، حدثتني أمي أم عمارة بنت عباد بن نضلة بن مالك بن العجلان الساعدي أنها كانت ذات يوم في نساءالعرب إذ أقبل أبو طالب کئيباً حزيناً فقلت له: ما شأنك يا أبا طالب ؟ قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض، ثم وضع يديه على وجهه، فبينما هو كذلك إذ أقبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له ما شأنك ياعم، فقال: إن فاطمة بنت أسد تشتكي المخاض، فأخذ بيده وجاء وهي معه فجاء بها إلى الكعبة، فأجلسها في الكعبة، ثم قال أجلسي على اسم الله قال: فطلقت طلقة فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منظفاً لم أرَ كحسن وجهه فسماه أبو طالب علياً وحمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أواه إلى منزلها قال علي بن الحسين (عليه السلام) : فوالله ما سمعت بشيء قط إلا وهذا أحسن منه)).
ولعل من المناسب أن نورد إشارة إلى أن الروايتين أعلاه مختلفتان حول الكيفية التي حصلت بها ولادة الإمام علي بن أبي طالب داخل الكعبة فقد أوردنا الرواية
ص: 225
االأولى بسندها عن یزید بن قعنب والثانية الواردة أعلاه التي أوردها ابن المغازلي عن الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) فالاختلاف واضح بين الروايتين من حيث التفاصيل واتفاق في المضمون وهو ولادة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) داخل الكعبة إلا أن الناظر إلى الرواية التي ينتهي سندها إلى يزيد بن قعنب وعند التفحص في سند تلك الرواية نلاحظ أنها جاءت عن طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن عائشة بنت أبي بكر زوج الرسول أو في مورد آخر لسند الرواية فهي تنقل عن ابن شاذان ت (260ه - 873م) حيث ينتهي سندها إلى قتادة عن أنس بن مالك عن العباس بن عبد المطلب وابن شاذان أيضاً يورد الرواية عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عن آبائه عليهم السلام مما يعطي للرواية قوة أكثر لتعدد طرق إسنادها(1).
أما المسعودي (2) فذكر ولادته المباركة في الكعبة دون ذكر أي توضيحات تسند تفاصيل أخرى وكأن الأمر من المسلمات.
وقد وجدنا من الضروري استعراض ماذكر بعض المؤرخين الذين أوردوا رواية ولادة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بشيء من الانجاز وإن حصل فيها تکرار إتماماً للفائدة فقد ذكر السيد الحميري (3):
ولدته في حرم الإله وامنه*** والبيت حيث فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرةُ الثيابِ کریمةٌ*** طابت وطاب وليدُها والمولدُ
ص: 226
في ليلة غابت نحوس نجومها***وبدت مع القمر المنير الأسعد
ما لُفَّ في خرق القوابل مثلُهُ*** إلا ابن آمنةَ النبيُ محمدُ
وذكر محمد بن طلحة الشافعي(1): ((ولد عليه السلام ليلة الأحد الثالث والعشرين من شهر رجب. .. فقيل: ولد بالكعبة البيت الحرام وكان مولده بعد أن تزوج رسول الله خديجة بثلاث سنين وكان عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) یوم ولادته ثماناً وعشرين سنة)). وعن عتاب بن أسيد أنه قال: ((ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمكة في بيت الله الحرام يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمان وعشرون قبل النبوة باثني عشرة سنة))(2).
أما سبط بن الجوزي (3) فقد جاء عنده ((روي أن فاطمة بنت أسد كانت تطوف بالبيت وهي حامل بعلي (عليه السلام) فضربها الطلق ففتح لها باب الكعبة فدخلت فوضعته )).
وذكر الكنجي الشافعي (4): ((ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمكة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهررجب سنة
ص: 227
ثلاثين من عام الفيل ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه إكراماً له بذلك...)).
من خلال ما ذكرنا من روايات أعلاه يمكن ملاحظة أن منقبة ولادة أمير المؤمنين في الكعبة قد اختص بها دون غيره، وأن بعض المصادر ذكرت أن حکیم بن حزام(1) أيضاً ولد في الكعبة إلا أنها لا ترقى إلى تواتر روایات ولادة الإمام علي (عليه السلام).
كفالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ذكر ابن هشام(2) في السيرة النبوية نقلاً عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر قال: ((كان من نعمة الله علي بن أبي طالب، ومما صنع الله، و أراد به الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم: یا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه فقال العباس : نعم فانطلقا حتى أتیا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتها - قال ابن هشام - ويقال عقيلاً أو طالباً، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 228
علياً، فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبياً، فاتبعه علي (عليه السلام) و آمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغني عنه)).
هكذا أورد ابن هشام دافع كفالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب ولكن لنلاحظ بقية الروايات في هذا المورد ثم نناقش تلك الروايات:
أما الطبري (1) فذكر في تاريخه رواية ابن إسحاق نفسها التي أوردها ابن هشام وبالسند نفسه الذي ذكر فيها كفالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنها أكثر الروايات تواتراً في نقلها من قبل المؤرخين (2).
والبلاذري (3) ذکر ((قالوا: وكان أبو طالب قد افقر فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً ليخفف عنه مؤنته فنشأ عنده)).
ص: 229
إلا أن ابن شهرآشوب (1) في المناقب يذكر روايتين تدل على كفالته (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) منها رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام وذكرناها في صدر الفقرة ورواية أخرى عن أبي القاسم في أخبار أبي رافع ((أن النبي حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب إني أحب أن تدفع لي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني واشكر لك بلاءك عندي فقال أبو طالب: خذ أيهم شئت فأخذ علياً (عليه السلام)).
وهذه الرواية لا يمكن التسليم بصحتها إذ كيف يكون للنبي أخذه إليه حين تزوج خديجة في حين أن علياً لم يولد بعد، فقد ذكرنا أن ولادته كانت بعد الثلاثين من عام الفيل - على المشهور والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج خديجة قبل ذلك بخمس سنوات على المشهور أيضاً(2).
أما القاضي النعمان (3) المغربي فذكر أمراً آخر تحت عنوان اختصاص علي بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ((أما علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) فإن سببه في ذلك أن أشراف العرب وأهل السيادة منهم كان إذا شب لأحدهم ولد وأراد تقویمه وتأديبه دفعه إلى شريف من أشراف قومه ذلك منه ويستخدمه فيها يقومه به لئلا يدل في ذلك عليه دلالة الولد على الوالد، وكان لأبي طالب ثلاثة من الولد(4). أكبرهم سناً عقيل بن أبي طالب وأوسطهم جعفر، وبينه وبين عقیل عشر سنين فلما شب عقيل دفعه أبو طالب إلى العباس أخيه ولما شب جعفر دفعه إلى حمزة أخيه ولما شب
ص: 230
علي دفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وذكر في رواية أخرى أنه دفع جعفراً إلى العباس وعلي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبقى عقيلاً عنده))(1).
أما صاحب الشأن علي بن أبي طالب فقد بين كفالة الرسول له من خلال خطبته المشهورة بالقاصعة حيث ذكر ((وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ویمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجدلي كذبة في قول ولا خطلة في فعل. لقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طریق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به))(2).
هذا وصف واقعي على لسان أمير المؤمنين نفسه إلى تبنيه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ بداية ولادته ولم يفارقه أبداً خلاف ما ذكر الرواة وأصحاب السير فإن القرابة القريبة ووصفها الدقيق جداً من قبل الإمام يقطع الشك باليقين أن تبني علي من قبل الرسول ليس من بنات أفکار أحد من البشر بل هو تسديد وتوجيه وفعل سماوي لكي يصنع الظل لرسوله الأكرم والمساند والمدافع عن الإسلام ديناً وعقيدة، ولعل المتدبر جيداً إلى ذلك المقطع من الخطبة يتضح له و بجلاء غير قابل للشك أن اتصال الرسول بعلي لم يقتصر على مرحلة من مراحل حياته، بل حياة علي بأكملها كانت مع رسول الله من أول يوم ولد فيه حتى فارق الرسول دنيا الناس إلى
ص: 231
الملكوت الأعلى.
وعند مناقشة ما أورده الرواة والمؤرخون من كفالة الرسول لعلي وكيف ذهبت مشاربهم في تلك الحالة ووصفها، والذي يعنينا أكثر ويهمنا مناقشة ما أورده ابن إسحاق ونقله ابن هشام من رواية مسنودة ينتهي سندها بمجاهد بن جبر حيث صور لنا حالة الكفالة وكأنها أمر طبيعي يحصل نتيجة لظروف معينة فرضتها وقائع الحياة المعاشة، وعند المناقشة لتلك الرواية لابدَّ من تسجيل نقاط عدة:
إن إيراد الرواية الخاصة بكفالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي من قبل ابن هشام شيء طبيعي جداً ؛ لأنه لم يدخل عليها أي إضافة وحذف وإنما وجدها هكذا في مؤلف سلفه ابن إسحاق الذي نقل الرواية بسند واضح، ونحن ناقشنا الظروف والأوضاع السياسية التي دونت فيها سيرة ابن إسحاق بشكل كتاب ممنهج فقد تدخل العباسيون في كتابة السيرة وبالخصوص المنصور لأجل كتابة سيرة وفق ميولهم ورغباتهم خالية من صورة مشرقة للإمام علي بن أبي طالب ؛ لأن ذلك يخالف مبادئهم التي قامت عليها دولتهم وهي دعواهم بأنهم آل البيت، ولأجل ذلك جرى إبعاد منافسهم القوي لهذا الوصف وهو علي وآل علي ويتم ذلك بتشويه صورته وتسويق شخصيته إلى الناس بأنه كسائر الصحابة وأن عملية تبني الرسول له جاءت وفق ظروف و اعتبارات طبيعية تحدث في دنيا الناس وهذا التبني وليد المصادفة التي جعلت من علي بن أبي طالب من أوائل المؤمنين برسالة النبي، فاستطاع ابن إسحاق بهذا الأمر شراء رضا المنصور العباسي وقد نهج من بعده ابن هشام باقتباسه نفس معالم الصورة التي نقلها ابن إسحاق ووضعها بدون زيادة أو نقص، وقد سار من أتی بعدهما من الرواة والكتّاب فأخذوا تلك الرواية على أنها من المسلمات التاريخية وأخذت تتناقل بين المؤرخين وعلى مختلف مذاهبهم حتى من كان يحسب على علي وآل علي.
ص: 232
إن كفالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي بن أبي طالب کانت وفق إعداد إلهي منظم حالها كحال إعداد صاحب الرسالة الرسول الأكرم وتهيأت كل الظروف والأسباب لبناء شخصيته وإعدادها بالشكل الذي يليق بحمل رسالة السماء والدفاع عنها كذلك في إعداد شخصية الإمام علي بن أبي طالب، فقد تعد تربية أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيت الرسالة البداية لتفتح آفاقه الذهنية وقدرته على استيعاب حقائق وأسرار الكون، وكان عليهالسلام مخصوصاً بخلوات يخلو بها مع النبي فلا يطلع على ما يدور بينهما أحد(1)، وهذا ما لاحظنا التصريح به من قبل أمير المؤمنين نفسه فيما ورد من خطبته التي ذكرت أعلاه.
ناقش عدد من الباحثين (2) قضية مهمة وهي الحالة الاقتصادية في مكة واعتبروا قضية فقر أبي طالب مشكوكاً فيها إلا أنَّنا نختلف معهم في هذا المورد الخاص بفقر أبي طالب فهم يقولون بیسر حالة أبي طالب المادية، إلا أن ذلك يتعارض مع ما ذكره اليعقوبي عن الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: ((أبي ساد فقيراً وما ساد فقير قبله))(3)، أما بخصوص الوضع الاقتصادي العام بمكة وهل حصلت أزمة أم لا ؟ فإن الوضع الاقتصادي في مكة لم يكن بمستوى الاستقرار فكثيراً ما تتعرض مكة إلى أزمات اقتصادية (4)، إذا علمنا أن أكثر اعتیاد أهالي مكة على التجارة و مواسم
ص: 233
الحج، والتجارة كانت مهنة أبي طالب إلا أنَّنا نعتقد أن أبا طالب عزف عن ممارسة تلك المهنة لضرورات منها زعامة قريش وما يترتب عليها التواجد المستمر لرعاية شؤون القبيلة وشؤون البيت والحجيج، أبو طالب قد يكون في حالة فقر مادي لكن التناقض الواضح الذي يقودنا للاتفاق مع الباحثين حول أولاد أبي طالب حيث تذكر المصادر أنهم أربعة أبناء وهم طالب وعقيل وجعفر وعلي (عليه السلام) و بنت واحدة أخته (أم هاني) وبين كل واحد عشر سنين(1)، وهذا يعني إذا كان عليٌ عليه السلام عندما احتضنه الرسول عمره ست سنوات فإن جعفراً عمره آنذاك ست عشرة سنة وعقیل ست وعشرون سنة وطالب ست وثلاثون سنة وهذا يعني فقط علي وام هاني الذين هم بمستوى إعالة أبو طالب وفي ضوء هذا لا يمكن يطلق على أبي طالب كثير العيال (2).
أما من ناحية سند الرواية التي أوردها ابن هشام عن ابن إسحاق التي ينتهي سندها إلى مجاهد بن جبر الذي ولد سنة إحدى وعشرين للهجرة وتوفي سنة مائة وثلاثة للهجرة وهو من التابعين (3) حيث لم يسند روایته إلى أحد الصحابة وبذلك تكون روايته من المراسيل وهي موضع شك لدى الباحثين وذلك لوجود فاصل زمني كبير بين وقوع حادثة الكفالة للإمام علي من قبل الرسول وبين ولادة مجاهد ومن ثم تعلمه لرواية الحديث(4).
إن الأسباب المادية لكفالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي التي
ص: 234
ذهب إليها ابن إسحاق لا يمكن الاطمئنان لها وإنما يمكن اعتبار التخطيط السماوي لتلك الكفالة، وكما ذكرنا وما يعزز ذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((اخترت من اختار الله لي علیكم علياً))(1)، فمهما كانت الأسباب المادية والاقتصادية ودواعي التبني إلا أنها تبقى ضعيفة أمام خطط المولى تبارك وتعالى للنهوض بالرسالة المخطط لها على يد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
أورد ابن هشام (2) في السيرة النبوية رواية ابن إسحاق حول إسلام علي بن أبي طالب ((ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين)).
ثم أورد قصة انتقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى حجر النبي وكفالته له وقد تم تفصيل ذلك فيما تقدم، ثم المحاورة التي حصلت بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عمه أبي طالب حول دعوة النبي لعمه إلى الإيمان واعتذار أبي طالب عن ذلك حسب رواية ابن إسحاق التي ينقلها ابن هشام ثم يكمل تلك الرواية ((ذكروا أنه قال لعلي - يعني أبا طالب -: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ فقال : يا أبتي آمنت بالله وبرسول الله، وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته فزعموا أنه قال له: أما أنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه))(3).
ص: 235
وقد أورد ابن هشام(1)، عن ابن إسحاق ((ثم أسلم زید بن حارثة بن شرحبيل ابن کعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي مولى رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ، وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب)).
أما الإمام علي بن أبي طالب فذهب بقضية إسلامه إلى أبعد بكثير مما ذهب إليه ابن هشام ومن قبله ابن إسحاق فيقول في حديثه عن علاقته بالنبي الأكرم ((لقد كان يجاور كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ بالإسلام غیر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت یا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان قد يأس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير، وإنك على خير))(2) من خلال كلام الإمام علي (عليه السلام) يتبين أن إسلامه لم یکن کما صوره لنا الرواة والمؤرخون ومنهم ابن هشام أنه أتي عن شيء غير معلوم للإمام علي وبدعوة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) كي يؤمن بما جاء به الرسول الأكرم، وإنما الأمور معروفة لدى الإمام علي دون سابقة إنذار من خلال مرافقته للرسول ومعرفته المسبقة وملازمته له من خلال تعبده بحراء، فالأمر لا يحتاج إلى مفاتحة من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي فهو (عليه السلام) مهيأ من قبل الرسول ومعدٌّ إعداداً جيداً لأجل تقبل كل شيء يأتي به الرسول، ويبقى أمر واحد مهم هو استفهام علي عن أشياء لا يعرفها مما يدلل أن إيمان علي (عليه السلام) لم يكن إيماناً أعمی کما یسمی وإنما ناتج عن بينة
ص: 236
وعلم وذلك متأتٍ من سؤاله الاستفهامي للرسول حيث يقول: ((ولقد سمعت رنة الشيطان... فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة ؟...)) إلا أن الرواة والمؤرخين قد تناولوا مسألة إسلام علي بن أبي طالب بنقولات شتی و آراء مختلفة وروایات متباينة كل حسب ما تمليه عليه منطلقاته الفكرية سواء أكانت مذهبية أم سياسية لكي يصور لنا هذه القضية بطريقته وأسلوبه الخاص، والآن لنرى هذه الآراء وتلك الروايات:
ذكر أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن علي بإسناده إلى يونس بن بکیر عن ابن إسحاق قال: ((ثم أن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم - يعني بعد إسلام خديجة وصلاتها معه - قال فوجدهما يصليان، فقال علي: يا محمد، ما هذا ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (دين الله الذي اصطفاه لنفسه،وبعث به رسوله، فأدعوك إلى الله وإلى عبادته وكفر باللات والعزى). فقال له علي هذا أمر لم أسمع به من قبل، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفشيَ عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له يا علي: إن لم تسلم فاکتم فمكث علي تلك الليلة ثم أن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غادياً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى جاء فقال ماذا عرضت علي يا محمد ؟ فقال له (تشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد فقال علي وأسلم ومكث علي يأتيه سراً خوفاً من أبي طالب، وكتم علي إسلامه)) (1).
الرواية التي أوردناها عن ابن إسحاق لم يذكرها ابن هشام في السيرة ؛ لأن سندها يونس بن بکیر والمعلوم أن ابن هشام أخذ رواية ابن إسحاق عن طريق البكائي كما
ص: 237
بيّنا ذلك في الفصل الأول إلا أن الذي نريد إيضاحه هنا جملة أمور منها:
الرواية تصور الإمام علياً وكأنه يعيش بعيداً عن الرسول لم يجمعهما بيت واحد، وهذا خلاف للوقائع والروايات التاريخية التي نقلها لنا أصحاب السير والتاريخ ومنهم ابن إسحاق نفسه الذي نقل لنا ابن هشام عنه رواية تبني أو كفالة الرسول العلي بن أبي طالب منذ بداية حياته.
تأكيد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) حين عرض عليه قضية الإسلام وأمره وطلب منه كتمان الأمر وهو إيحاء إلى المتلقي بأنَّ علياً (عليه السلام) كان قد كتم إسلامه ولا يظهره لكي تكون الأفضلية إلى غيره کما سنرى من خلال سيرة البحث في هذه الفقرة.
المعلوم وبشكل قاطع أن الإمام علي بن أبي طالب لم يعبد الأوثان إطلاقاً إلا أن الرواية فيها طلب من الرسول لعلي أن يكفر باللات والعزى ويتبرأ من الأنداد وهذا الشيء أصلاً غير موجود في نفس الإمام علي (عليه السلام) ؛ لأنه لم يعبد الأصنام والأوثان وبذلك لا يطلب منه شيء وهو غير عامل به وهذا خلاف للمنطق.
إن أولية إسلام علي بن أبي طالب تناولتها كثير من الروايات التي نقلها المؤرخون مما جعلها بشكل متواتر غير قابل للشك وفي تفاصيل قد أحجم عن ذكرها ابن هشام في السيرة النبوية فقد اقتصر على إشارات بسيطة لم توضح بيان تلك الحالة.
فقد ذكر الطبري(1) في تاريخه عن محمد بن عبيد المحاربي عن سعيد بن خثيم عن
ص: 238
أسد بن عبدة البجلي عن يحيى بن عفيف قال: ((جئت في الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب. قال: فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمی ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة فقام فاستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام، فقام عن يمينه، قال: فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجداً فسجدا معه. فقلت: يا عباس، أمر عظيم ! فقال: أمر عظیم اتدري من هذا ؟ فقلت: لا، قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. أتدري من هذا معه ؟ قلت لا، قال هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن أخي، اتدري من هذه المرأة التي خلفهما ؟ قلت: لا، قال: هذه خديجة بنت خویلد زوجة ابن أخي، وهذا حدثني أن ربك ربُّ السماء، أمرهم بهذا الذي تراهم عليه، وأيم الله ما اعلم على ظهر الأرض كلها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة)).
وقد أورد الطبري(1) في موضع آخر الرواية أعلاه بسنده عن كريب عن يونس ابن بكير عن ابن إسحاق عن يحيى بن أبي الأشعث الكندي، من أهل الكوفة قال: حدثني إسماعيل بن یاس بن عفيف عن جده حيث يورد الرواية نفسها التي أوردناها أعلاه ولكن بألفاظ مختلفة لا تؤثر على المعنى العام حيث يذكر في نهاية الرواية قول
ص: 239
عفيف: ((فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت رابعاً)).
إن رواية عفيف أوردها ابن إسحاق ولم يوردها ابن هشام صاحب السيرة النبوية، وبذلك حجب جزءاً مهماً من الصورة الحقيقة لعلي بن أبي طالب المتأتية من خلال إيراد تلك الرواية التي تدل على أن إسلام علي بن أبي طالب كان قبل كل الناس.
وفي رواية عبد الله بن مسعود قال: ((إن أول شيء علمته من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني قدمت مكة مع مجموعة من عمومتي. فأرشدونا إلى العباس ابن عبد المطلب فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم فجلسنا إليه، فبينما نحن عنده، إذ اقبل رجل من باب الصفا تعلوه الحمره، له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين، كث اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفين، حسن الوجه معه مراهق أو محتلم، تقفوه امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه، ثم استلمه الغلام، ثم استلمته المرأة، ثم طافا بالبيت سبعاً، والمرأة والغلام يطوفان معه، فقلت: يا أبا الفضل إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم أو شيء حدث ؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خویلد ما على وجه الأرض أحد يعبد الله تعالى بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة))(1).
ص: 240
وهذه الروايات التي أوردتها المصادر التاريخية تجعلنا نسجل مايلي:
لم يكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية دعوته ملتزماً بالسرية كما ذكر المؤرخون وأن الدعوة بهذه الصفة التي ذكرناها في الروايات الواردة أعلاه منطلقة من بيت الله الحرام فاتخذا من الكعبة مكاناً للعبادة وأمام مرأى ومسمع الناس حيث أثارت استغراب من أتی لزيارة الكعبة أمثال ابن مسعود، وقام بتنفيذ أدوارها محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) حاملها و مبلغها وعلي بن أبي طالب أول من أسلم وآمن برسوله ونبوته وخديجة بنت خویلد، هذه الصورة غيبت بالكامل عن المتلقي؛ لأن فيها فضيلة السبق بالإسلام لعلي بن أبي طالب وبدأت تنسج أمامها قصص وأقاويل لغرض حجب الحقيقة وإعطاء الفضيلة إلى غير علي (عليه السلام).
الدلالة الأخرى التي يمكن أن نتلمسها من خلال الرواية أعلاه هي ممارسة الأمور العبادية وكما أرادها الله تعالى حيث الصلاة و تقبيل الحجر والطواف بالبيت وهو إعلان رسمي لإنطلاق العبادة وبصفة لم تكن مؤلفة من أهل مكة من قبل فالقضية ليست قضية عبادة الله في شعاب مكة بعيدة عن أنظار الناس لغرض تسويق مفاهيم التكتم والسرية لإيجاد أعذار مناسبة لمن لم يلتحق بالدعوة الإسلامية من بداياتها الأولى.
ثم أورد البلاذري(1) ((وصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم - يقصد علي بن أبي طالب - وهو ابن إحدى عشرة سنة وذلك الثبت ويقال ابن عشر، ويقال ابن تسع، ويقال ابن سبع)).
وعن إبراهيم بن المختار عن شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن میمون عن ابن
ص: 241
عباس قال: ((أول من صلى عليٌّ))(1).
وعن زکریا بن يحيى الضرير عن عبد الحميد بن بحر عن شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: ((بعث النبي يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء))(2).
وعن كريب عن وكيع عن شعبة عن عمرو بن حرة عن أبي حمزة مولى الأنصار عن زيد بن أرقم قال: ((أول من أسلم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام)))(3).
وفي رواية أحمد بن الحسن الترمذي التي ينتهي سندها إلى عباد بن عبد الله قال: ((سمعت علياً يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب، مفترٍ، صليت مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين))(4). .
وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب مجموعة من الروايات وبأسانيد مختلفة تبين أسبقية علي بن أبي طالب إلى الإسلام من غيره فذكر ((روي عن سلمان وأبي ذر والمقداد و خباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول من أسلم وفضله هؤلاء على غيره))(5).
وفي رواية أخرى عن المفضل بن صالح عن عكرمة عن ابن عباس ((قال لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره: هو أول عربي وأعجمي صلى مع رسول الله، وهو
ص: 242
الذي كان لواؤه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم فرّ غيره، وهو الذي غسله وأدخله قبره))(1).
وعن سلمان الفارسي عن النبي أنه قال: ((وأول هذه الأمة وروداً على الحوض
أولها إسلاماً علي بن أبي طالب))(2).
وعن أنس بن مالك يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين، وذلك أنه لم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله إلى السماء إلا مني ومن علي))(3).
وعن عمر بن الخطاب قال كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من الصحابة: إذ ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منكب علي فقال: ((يا علي أنت أول المؤمنين إيماناً وأول المسلمين إسلاماً وأنت منی بمنزلة هارون من موسی))(4).
وذكر ابن عقدة الكوفيه(5) عن أبي سخيلة قال: ((حججت أنا وسلمان فنزلنا بأبي ذر فكنا عنده ما شاء الله، فلما حان منا حفوف قلت يا أبا ذر إني أری أموراً قد حدثت
ص: 243
وإني أخاف أن يكون في الناس اختلاف فإن كان ذلك فيما تأمرني ؟ قال: إلزم کتاب الله عز وجل وعلي بن أبي طالب، فأشهد أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: عليٌّ أول مَن آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل)).
إن أولية إسلام علي بن أبي طالب لا تحتاج إلى عناء مناقشة واستحضار روایات ،فقد مر الذكر أن علياً (عليه السلام) تربي في حضن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهل من منهل علومه وتخلق بطيب أخلاقه فكان ذلك دافعاً قوياً أن يلتصق بالرسول ويصدق ما جاء به (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن عبد الرحمن بن عوف يذكر سبب نزول قوله تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ »(1) قال هم ستة من قريش أولهم إسلاماً علي بن أبي طالب (2)، وبذلك يمكن أن نخلص إلى أن أرجح الروايات تميل(3) إلى أولوية علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الإسلام، وإن ذهب بعض من الرواة والمؤرخين إلى جعل أبي بكر أولاً)(4)
ص: 244
والبعض الآخر جعل زید بن حارثة(1)، ولكن البغوي(2) في تفسيره يجمع بين هذه الأخبار فيقول: ((أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن الموالي زيد بن حارثة ومن العبيد بلال))(3)، وعلى الرغم من أن خديجة أول من أسلمت من النساء بوصفها زوج الرسول والقريبة منه كذلك تكون أولية إسلامه حیث القرابة المكانية من الرسول إضافة إلى ما ذكرنا من مقومات وتهيئة الرسول لعلي من أجل تقبل الإسلام والإيمان بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
إلا أن الملاحظ أن كثيراً من الرواة والمؤرخين حاولوا أن يسلبوا تلك الفضيلة من علي (عليه السلام) و جعلها إلى غيره فمنهم من كان متشدداً في ذلك ومنهم من حاول أن يجد مخرجاً لذلك الأمر، فقد نلاحظ المقريزي(4) في إمتاع الأسماع يجد تخريجة مناسبة للذين يقولون بسبق أبي بكر إلى الإسلام وليس علي بن أبي طالب حيث يقول إن علياً (عليه السلام) كان في بيت الرسول أما أبو بكر هو أول من أسلم لأنه له أهلية الذب عن رسول الله والحماية والمناصرة، ولم يحدثنا المقريزي عن تلك المناصرة وكيف تمت وما هو الذب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 245
إذا علمنا وبإجماع كل الرواة والمؤرخين أن تلك مهمة كانت من اختصاص أبي طالب وتم توضيح ذلك فيما تقدم، ثم أن المقريزي يجد مبرراً آخر يجعل من علي بن أبي طالب ليس أول من أسلم، حيث ذکر سئل محمد بن کعب القرظي (1) عن أول من أسلم، علي بن أبي طالب أو أبو بكر ؟ ((فقال: سبحان الله علي أولهما إسلاماً وإنما اشتبه على الناس لأن علياً أول من أسلم كان يخفي إسلامه من أبي طالب، وأسلم أبو بكر فأظهر إسلامه ! فكان أبو بكر أول من أظهر إسلامه وكان عليٌّ أولهما)، فإخفاء علي الإسلامه فيه مجانبة للحقيقة وقد ذكرنا روایات في أعلاه تدل على عدم إخفائه
الإسلامه وأنه كان یمارس عبادته على مرأى ومسمع الجميع.
إلا أن أبا جعفر الإسكافي المعتزلي يرد على كل من يقول بعدم أولوية إسلام علي ابن أبي طالب معتبراً ذلك إخفاءً متعمداً لمنقبة علي وهذا ما دأب عليه أهل الحكم والسلطان من أمويين وغيرهم، حيث ذكر ((فقد علم الناس كافة أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم وعرف كل واحد علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور کلمتهم، وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم والكرامة، والجائزة عن رؤى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر وما كان من تأكيد بني أمية على ذلك، وما ولّده المحدثون من الأحاديث طلباً لما في أيديهم فكانوا لا يألون في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي (عليه السلام) وولده، ويطفئوا نورهم ويكتموا فضاءلهم ومناقبهم وسوابقهم، ويحملون على شتمهم وسبهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم،مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فكانوا بين قتيل وأسير، وشريد،
ص: 246
وهارب، ومستخف ذليل، وخائف مترقب، حتى أن الفقيه والمحدث والقاضي والمتحكم يتقدم إليهم، ويتوعد بغاية الإبعاد وأشد العقوبات ألا يذكروا شيئاً من فضائلهم ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذکر حديثاً عن علي (عليه السلام) کنی عن ذكره، فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجلٌ من قريش، ولا يذكر علياً ولا يتفوّه باسمه))(1).
هذا واقع الحال الذي عليه الناس کما نقلها أبو جعفر الإسكافي فيما تقدم في ظل تلك الاوضاع لابدَّ أن يحرف التاريخ، ومن ضمن التحريف دس أحاديث وتشويه حقائق وإبراز أشخاص بأنَّ لهم مناقب والسبق بالإسلام على حساب صاحب المنقبة الفعلي وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان سبقه إلى الإسلام منقبة حاول المدلسون إعطاءها إلى أبي بكر في أحاديث مزيفة وبعيدة عن الواقع وفي إيراد حجج واهية منها على سبيل المثال لا الحصر احتجاجهم ومنهم الجاحظ الذي احتج بإمامة أبي بكر على الناس بكونه أول الناس إسلاماً ولكن رد عليه أبو جعفر الإسكافي ((لو كان هذا صحيحاً لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة وما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر وبيد عبيدة بن الجراح، وقال للناس: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين))(2).
وغيرها من الحجج والبراهين التي تفند ذلك الادعاء، نعم كان لعلي السبق إلى الإسلام رغم التضليل والتدليس حيث لاحظنا ذلك من خلال تواتر الروايات التي أوردناها في سياق بحثنا لهذه الفقرة ومنها رواية ابن هشام عن ابن إسحاق ونختم ذلك برواية الزهري التي تبين حقد الأمويين ((قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل - يعني علياً - ؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير
ص: 247
ويهرم فيه الكبير، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كفَّ عن شتمه، فقال الناس: ترك السنة))(1).
إن حديث الدار من الأحاديث المشهورة، إذ أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ينذر عشيرته الأقربين حيث قال: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (2) وعلى إثر هذا الأمر ترتب الصدع بالدعوة الإسلامية ليكون للرسول ناصر من بين عشيرته، إلا أن ابن هشام أغفل ذلك الحديث تماماً ولم يتطرق إليه فذكر عن ابن إسحاق ((ثم دخل الناس في الإسلام إرسالاً من الرجال والنساء، حتی فشی ذکر الإسلام بمكة وتُحدث به، ثم أن الله عز وجل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدع بما جاء منه، وأن يبادئ الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان من بین ما أخفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره واستتر به إلى أن أمره تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه ثم قال تعالى «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » ، و قال تعالی «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (214)«وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)» [الشعراء]).
بهذه الرواية المقتضبة جداً ذكر ابن هشام(3)، تلك القصة و قد حجب عن المتلقي كل الحقيقة التي ذكرها صاحب السيرة ابن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن
ص: 248
عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب قال: ((لما نزلت هذه الآية على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » دعاني فقال لي: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أبادؤهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال يا محمد: إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من الطعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لناعساً من اللبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب والحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته لهم. فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جذية(1) من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم والله والذي نفسي بيده كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لهم جميعاً، ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتی رووا جميعاً، وأيم والله كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكلمهم بادره أبو لهب إلى الكلام، فقال لهد(2) ماسحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الغديا علي : إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم لي.
ص: 249
قال: ففعلت، ثم جمعهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل کما فعل بالأمس فأكلوا حتى مالهم بشيء حاجة، ثم قال أسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً ثم تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم ؟ قال فأحجم القوم عنه جميعاً، وقلت: وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم(1) عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم (2) ساقاً، أنا یا نبي الله، أكون وزیرك عليه، فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع))(3).
إن حديث الإنذار أو حديث الدار من المفاصل المهمة والحيوية التي لا يمكن لأي راوٍ أو كاتب سيرة إغفال روايته ؛ لأن فيه انتقالة صريحة إلى مرحلة أكثر تطوراً في حياة الدعوة الإسلامية إلا أن ابن هشام أغفل إيراد تلك الرواية فيسيرته خشية من دلالات مضمونها الذي يبين وكما رأينا في رواية ابن إسحاق أعلاه على الخلافة والوصاية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهذا ما لا يروق لبعض الناس سماعه ومنهم العباسيون أصحاب السلطة في عصر ابن هشام ؛ لأن هذه الرواية تنسف ما بناه أولئك من تحريف وتزييف الحقائق التاريخ فبذلك حجب ابن هشام كل الحقيقة
ص: 250
بإخفائه لتلك الحادثة المشهورة تاريخياً کماسيمر علينا من خلال البحث والتي سوف نتناولها بشيء من الإيضاح، ولكن قبل ذلك لابدَّ أن نوضح أن دعوة عشيرته الأقربين نابعة من تكليف ألقاه الله تعالى على عاتق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن منظار اجتماعي من وحي الظروف السائدة في مكة ينبغي أن نقول كانت لدعوة العشيرة الأولوية التامة وللأسباب الآتية:
إن عشيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تشكل قوة في مكة ولها مكانتها في الداخل والخارج، فاذا دخلوا في الإسلام وناصروه يصبح مرهوب الجانب وفي منعة من أعدائه(1)، حيث كانت عشيرته مطلعة على أخلاقه وسلوكه عن قرب، فكانت تعتقد بنزاهته وصدقه أكثر من بقية العرب (2).
إيمان القبيلة يترجم شعورها القبلي العاطفي حياله ويضاف إلى ذلك أن بني عبد المطلب إلا من شذ مثل أبي لهب كانوا ينحازون إليه، فلو آمنوا به مع الشعور العاطفي الذي كانوا يحملونه إزاءه يشكلون قوة حماية ثابتة وقوية للرسول الأكرم وهذا ما لاحظناه في مواقف كثيرة بعد حديث الدار وبقيادة أبي طالب وتم التطرق إليها في المبحث السابق (3).
كانت عشيرته الأقربون يتوقعون منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطلعهم على رسالته في جلسة خاصة وهم رهطه وأبناء عمومته، ولو لم يفعل لاتهموه بعدم
ص: 251
الإعتناء بهم(1).
إن عشيرته الأقربين لو رضیت وآمنت به فالقبائل الأخرى لا تتهم دعوته بعدم الشرعية، وهذا ما حصل فيما بعد، فقد قال له المشركون مرة بعد أن دعا القبائل إلى الإسلام إلا أن أبا لهب عمه كان يفسد عليه ذلك الأمر حيث يقول من ورائه: ((لا تطيعوه فإنه كذاب))، فيردون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون له: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك(2)، وقال شیخ من عشيرة كلب خلال دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما أحسن ما يدعو إليه هذا الفتى، إلا أن قومه قد باعدوه ولو صالح قومه، لاتبعته العرب (3). فإن العشيرة هي المنطلق الأول لتبليغ الرسالة التي حمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بها(4).
ولابدَّ لنا من بیان واستعراض ما نقله لنا الرواة والمؤرخون والمفسرون عن تلك الحادثة التي احجم ابن هشام عن ذكرها في السيرة النبوية لبيان أهميتها إضافة إلى أن من ذكرها غير ابن هشام فقد ذكرها في ألفاظ مغايرة مما يؤثر على المضمون والمقصود الأساسي من تلك الدعوة التي قام بها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لعشيرته وإنذارهم.
وقد أورد الطبري(5) في تفسيره رواية ابن إسحاق نفسها والتي ذكرها في تاريخه
ص: 252
وأوردناها أعلاه، إلا أنه ذكر بعد أن عرض الرسول على عمومته وبني عمومته وطلب منهم المؤازرة على الأمر الذي جاء به ومن ثم خلافته من بعد، فقد تم التلاعب بالألفاظ التي تخص الفقرة الأخيرة فعلى سبيل المثال ((أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا))، وهذا خلاف ما ورد في التاريخ فنلاحظ التلاعب بالألفاظ وتوجيه الرواية إلى غير الوجه التي أريدت بها وتحريف كلام الرسول في هذا المحل من الرواية بكلام مبهم وغير واضح. مما يخلق ضبابية وعدم وضوح لدى القارئ عندما يطلع على ذلك، ثم يكمل الطبري المقطع الأخير للرواية التي ذكرها في التفسير منطلقاً في ذلك من قول الإمام علي (عليه السلام) وردّه على رسول الله بالإجابة على أن يكون وزیره ((فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا وأطيعوا، قال فقام القوم يضحكون... الخ))(1).
إن عبارة (كذا وكذا) حلت محل خليفتي ووصي من بعدي التي أوردها الطبري في أصل الرواية المذكورة في التاريخ، وبذلك فإن تحريف الرواية صدر من الطبري نفسه وليس من الراوي ابن إسحاق الذي أوضح الحقيقة في روايته.
وفي رواية الحسين بن عیسی بن میسر الحارثي عن عبد المطلب بن عبد القدوس عن الأعمش بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال: ((قال علي وذكر تفاصيل الرواية نفسها التي وردت في رواية ابن إسحاق إلا أنه عندما يصل إلى الفقرة التي تخص دعوة الرسول لهم بالمؤازرة ذكر ((فقال: أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال: فسكتوا أو سكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله... ثم قالها مرة أخرى: فسكت العباس قال: فلما رأيت ذلك، فقلت: أنا يا رسول، فقال أنت: قال :
ص: 253
وإني يومئذ لأسوأهم هيأة وإني لأعمش العينين، ضخم البطن، حمش الساقين))(1).
ولعل الوصف الأخير في هذه الرواية الهدف منه تشويه صورة الإمام علي وجعل المتلقي يشعر بأنَّ شخصيته فيها من العيوب الخلقية التي لا تؤهله لخلافة الرسول، وإلا فالواقع خلاف ذلك فلياقته البدنية وقدراته القتالية والعسكرية تشهد بها ساحات المعارك والأمر لا يحتاج إلى سياق الأدلة والبراهين...
کما روى عبد الله بن حنبل حادثة الإنذار فقال: حدثني يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: حدثنا شريك بن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي (عليه السلام) (قال لما نزلت آية «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » دعا رسول الله رجالاً من أهل بيته، فكان الرجل منهم ليأكل الجذعة (2) فإن كان شارباً فزقا، فقدم إليهم رجلاً فأكلوا حتى شبعوا، فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ فعرض ذلك على أهل بيته فقال: علي أنا))(3)، وذكر القمي (4) في تفسيره «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » ((قال: نزلت بمكة فجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني هاشم وهم أربعون رجلاً كل واحد يأكل منهم الجذعة ويشرب القربة فأتخذ لهم طعاماً يسيراً فأكلوا حتى شبعوا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من يكون وصيي ووزيري وخليفتي؟
ص: 254
فقال أبو لهب جزماً: سحركم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فتفرقوا فلما كان اليوم الثاني أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً، ففعل بهم مثل ما فعل بهم مثل ذلك ثم سقاهم لبناً حتی روو فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أيكم يكون وصيي ووزيري وخليفتي، فقال أبو لهب جزماً لقد سحركم فتفرقوا، فلما كان اليوم الثالث أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أيكم يكون وصيي ووزيري وينجز عدتي ويقضي ديني فقام علي (عليه السلام) وكان أصغرهم سناً وأحمشهم ساقاً وأقلهم مالاً فقال أنا یا رسول الله فقال: ((صلى الله عليه وآله وسلم) : أنت هو)).
أما فرات بن إبراهيم الكوفي(1) فذكر في تفسيره رواية جعفر بن محمد بن أحمد الأودي عن علي بن أبي طالب حيث يورد تفاصيل رواية ابن إسحاق نفسها المذكورة ولكن بألفاظ مختلفة لا تؤثر على المعنى العام للرواية وعندما يصل إلى حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قومه فيذكر ((فأيكم يكون وزیري على أمري هذا على أن يكون أخي وولي ؟ فأحجم القوم عنه، قال علي، فقلت... أنا أكون وزيرك على ذلك، فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنقي ثم قال: إن أخي هذا وولي فاسمعوا له، وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرت أن تسمع له وتطيع)). لم نلحظ أي ذكر لكلمة خليفتي في الرواية أعلاه فقد أهملها ابن فرات ولم يوردها.
أما ابن مردويه(2) في مناقب الإمام علي بن أبي طالب فيورد في حديث الإنذار أربع روایات و بثلاثة أسانید، ففي الحديث الأول عن ربيعة بن ناجذ ((إن رجلاً
ص: 255
قال لعلي: يا أمير المؤمنين بمَ ورثت ابن عمك دون عمك ؟ قال لما نزلت «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »، ثم ذكر الرواية التي هي مضمون رواية ابن إسحاق نفسها إلى أن يقول: ((فقال: يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من فضل الله الآيات ما رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم سناً قال: اجلس، ثم قال : ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه وهو يقول: اجلس، حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي ثم قال: أنت أخي وصاحبي ووزيري، فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي)).
وفي رواية أخرى عن الإمام علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »أيضاً يورد الرواية نفسها إلا أنه يذكر في نهايتها((ثم قال لهم - ومدَّيده - من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي، ووليکم من بعدي؟ فمددت يدي وقلت: أنا أبايعك - وأنا يومئذ أصغر القوم، عظيم البطن - فبايعني على ذلك ))(1).
أما الرواية الثالثة فيوردها عن الإمام علي (عليه السلام) بدون سند فيها تفاصيل رواية ابن إسحاق (2) نفسها، أما الرواية الرابعة عن البراء بن عازب فيسوق المحتوى نفس ما ذكرنا من رواية في حديث الإنذار ولكنه ينتهي إلى ((يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله والبشير قد جئتكم بما لم يجئ به أحد، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا))(3)، ولا يذكر بها أي تفاصيل لمحاورة علي (عليه
ص: 256
السلام) مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما البيهقي(1) في دلائل النبوة فيذكر رواية حديث الإنذار عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب ثم يذكر الحديث کاملاً إلا أنه يقطع الجزء الأخير من المتن فيذكره في الهامش من الصفحة ((ثم قال من يؤازرني على ما أنا عليه ؟ فقال علي: فقلت: أنا يا رسول الله وأني أحدثهم سناً، وسكت القوم ثم قالوا: يا أبا طالب ألا ترى ابنك، قال دعوه فلن يألوا ابن عمه خيراً))، وفي رواية جعفر بن عبد الله بن جعفر المحمدي عن عمر بن علي بن عمر ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) عن أبيه عن أبي رافع قال: ((كنت جالساً بعدما بايع الناس أبا بكر فسمعت أبا بكر يقول للعباس أنشدك الله هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بني عبد المطلب وأولادهم وأنت فيهم وجمعكم دون قریش، فقال: يا بني عبد المطلب أنه لم يبعث الله نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصياً و خليفة في أهله فلم يقم منكم أحد، فقال: يا بني عبد المطلب کونوا في الإسلام رؤوساً ولا تكونوا أذناباً و الله ليقومن قائمكم أو لتكونن في غيركم ثم لتدمن، فقام على من بینکم فبايعه على ما شرط له ودعاه إليه اتعلم هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: نعم))(2).
إن إيراد حديث الإنذار جاء بطرق وأسانید مختلفة ذكرت في كتب السير والتاريخ والحديث والتفسير إلا أن ابن هشام کما ذکرنا قطعه ولم يورده في السيرة النبوية وهذا يدل على حجب الجزء المهم والحيوي والحساس من مقاطع السيرة النبوية، نلاحظ من ذلك القطع القصدية الواضحة بما لا يقبل الشك للتماشي مع سياسة العصر
ص: 257
الذي دوّن فيه السيرة أو حجبه هذه الفضيلة والمنقبة لعلي بن أبي طالب، وإن صورت ألفاظها ووجهه غير الوجهة المطلوبة من قبل رواة الحديث ومدوّنیه، حيث وصف ذلك لغايات مرجوة، وعند الرجوع إلى الروايات التي أوردناها نرى أن هناك أكثر من عبارة وردت في نهاية الرواية منها على سبيل المثال ((فأيكم يؤازرني على أن يكون كذا وكذا))، و((أيكم يقضي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي))، و ((أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي)).
إن ابن هشام بإقدامه على عدم ذكر رواية حديث الإنذار في السيرة النبوية يدل بما لا يقبل الشك على عدم حياديته في تهذيب السيرة وأنه في ذلك كان يهدف إلى تشويه وحجب صورة الإمام علي (عليه السلام الحقيقية والناصعة التي ذكرها رواة السيرة لكي تكون سيرته مهذبة مقبولة لدى من كتب لأجلهم تلك السيرة.
ولابد لنا في نهاية الأمر من إيراد بعض الملاحظات المهمة حول حديث الإنذار
وأهميته:
إن حديث الإنذار له أهمية كبرى في مرحلة الدعوة الإسلامية حيث يعد الحد الفاصل بين مرحلتين من مراحل الدعوة من مرحلة اختيارية غير إجبارية ممهدة لنشر الإسلام إلى مرحلة أخرى هي مرحلة الاعلان الرسمي التكليفي لكل من يسمع الدعوة، فقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول الآية«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » على الصفاة ثم نادی یا صباحاها(1) فاجتمع الناس إليه، فقال: يا بني هاشم، یا بني عبد المطلب، یا بني فهر، وأخذ يعد بطون قريش، أريتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليکم صدقتموني ؟ قالوا نعم،
ص: 258
قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقال أبو لهب بن عبد المطلب عم الرسول ((تباً: لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا))، فنزلت «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ »(1)(2).
إن الإعلان الرسمي للدعوة الإسلامية وبشكل معلن ودعوة كل بطون العرب وبطون قريش وبني هاشم وبني عبد المطلب هو الانتقال إلى مرحلة الصدام المباشر مع طواغیت قريش ومشرکيها، إذا علمنا أن قومه في بداية الدعوة لم ينكروا ولم يبعدوا عنه ولكن ظهر من العداوة والعذاب للمسلمين والحرب على الرسول وأصحابه بعد ما عاب آلهتهم (3).
يمثل حديث الإنذار بمثابة الإعلان الرسمي أيضاً لاستیزار وخلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهذا ما أدى إلى اختلاف الرواة والمؤرخين والمفسرين فمنهم من أحجم عن ذكره كما هو حال ابن هشام مهذب السيرة ومنهم من ذکر مقدمته(4)، ومنهم من ذكر تفاصيله(5)، ومنهم من تلاعب بألفاظه(6) إلا أن قطعية
ص: 259
الحديث وتواتره جعلت من علي بن أبي طالب خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده ووزيراً له ووارثاً و وصياً وقائماً مقامه وولياً من بعده والناس كلهم مأمورون بأن يطيعوه ويسمعوه(1).
فلذلك كانت أهم قضية عمد المحرضون والمزورون والمدلسون إلى تحريفها وتزويرها وتغييرها هي (كلمة خليفتي) حيث اجتهد من اجتهد من إفراغها من معناها الحقيقي الذي أريد لها وإبدالها بكلمات أخرى أو إضافة إليها كلمة مثل (وخليفتي في أهلي) وبذلك ينحرف المسار الحقيقي للرواية من أصلها.
نقل ابن هشام(2) في السيرة النبوية الأسباب التي أدت إلى مبيت الإمام علي بن أبي طالب في فراش النبي، فعن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: ((ولما أجمعوا لذلك واتحدوا أن يدخلوا دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة(3)، فاعترضهم ابليس على هيأة شيخ جليل، عليه بتلة فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفاً على بابها قالوا من الشيخ ؟ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم يسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمکم منه رأياً، قالوا، أجل فادخل فدخل معهم، وقد اجتمع فيها
ص: 260
أشراف قریش(1)... فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فاجمعوا فيه رأياً. قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيراً والنابغة، ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتی یصیبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثر وکم حتی یغلبوكم على أمره، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره ثم تشاوروا... ثم تشاوروا في آراء مختلفة حتى قال أبو جهل بن هشام: والله إن لي منه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه، قالوا وما هو يا أبا الحكم ؟ قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباًة وسيطاً فتياً، ثم نعطي كل فتى منهم صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، ثم قال فقال الشيخ النجدي القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون)).
هذا واقع حال تحكيه الرواية؛ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهددة
ص: 261
حياته ولا يوجد من ناصر ینصره حيث غاب أبو طالب عن الوجود بوفاته وتخلى الجميع عن حامل الرسالة وأخذت قریش تضع الخطط للخلاص منه حتى استقر رأيهم بمباركة القوى الشريرة على الخلاص منه بالقتل وفق ما خطط وأصبح الأمر على وشك التنفيذ.
يكمل ابن هشام(1) روايته التي نقلها عن ابن إسحاق ((فأتی جبرائیل (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، قال فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متی بنام، فيثبتون عليه، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكانهم قال العلي بن أبي طالب: نم على فراشي وتسبح ببردي هذا الحضري الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينام في برده ذلك إذا نام)).
من خلال إيراد الرواية أعلاه لابدَّ لنا من تسجيل بعض الملاحظات ثم ننتقل إلى تكملتها لغرض بيان موقف الإمام علي من هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
إعلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل السماء بخطة قريش لاغتياله والخلاص منه وقد أتي هذا الإعلام بصفة التحذير لأخذ الاحتياط المناسب حيث لم تذكر الرواية أن الله تعالى هيّأ خطة للرسول لكي يخلص من ذلك الموقف إنها ترك الأمور إلى صاحب الرسالة ليخطط كيفية الخلاص علماً أن خلاصه لم يكن بمعجزة إنما الأمور تسير وفق القوانين الطبيعية ما عدا بعض المواقف التي تستدعي تدخل السماء في ذلك كما سنلاحظ من خلال سير البحث.
ص: 262
الخطة أحكمت إحكاماً جيداً وبدأ تنفيذها من قبل قریش وهدفها معلوم وأدوات التنفيذ معلومة والمكان معلوم أيضاً وهو بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
بدأت الخطة المقابلة من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لإفشالها والخلاص من القتل لإكمال مشروع السماء الذي كلف به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن كيف يتم إفشال هذه الخطة، الأمر يتطلب تضحية كبيرة وثباتاً راسخاً من قبل المنفذين للخطة المقابلة أو خطة الإفشال وهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وبالفعل ((حيث قال النبي لعلي: إن قريشاً لم يفقدوني ما رأوك، فاضطجع على فراشه وكانت قریش تنظر إلى فراشه فيظنون أنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)))(1).
إن التمويه الذي اعتمد في تلك الخطة يبرز الفداء والشجاعة لدى الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لكي يوحي إلى الأعداء أن الرسول موجود ولم يخرج ليكون هناك فسحة من الوقت ليتمكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبتعد كثيراً عن أنظار قریش لكي لا يتمكنوا من الوصول إليه أو اللحوق به بسرعة.
ورود عبارة (لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) فيها إيحاء إلى المتلقي بأنَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) حصل على تطمينات من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) أن بقي في فراشه فهو آمن، لن ينال منه الأعداء وهذه عبارة مجانية للحقيقة، لأن علياً (عليه السلام) لا يمكن أن يتبادر إلى ذهنه ایثار السلامة وكأن الراوي إن صحة روايته - لأن هناك تحريفاً كثيراً من قبل الناقلين كما رأينا في قضية حديث الإنذار في الفقرة السابقة - يريد من ذلك أن علياً لم يتصرف بهذا الموقف بشجاعة
ص: 263
تامة صادرة من ذاته بل حصل على تطمينات بالسلامة.
ثم يكمل ابن هشام(1) نقل رواية ابن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن کعب القرضي قال: ((وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ حفنة من تراب في يده...، وأخذ الله تعالى على ابصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينشر التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من سورة يس ویس* «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ »(2) إلى قوله تعالى: « فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ »(3)، ثم انصرف إلى حيث أراد يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون ها هنا ؟ قالوا محمد، قال قد خیبکم الله: قد والله اخرج علیکم محمد، ثم ما ترك رجلاً منكم إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق إلى حاجته، أفاترون ما بكم؟ قال فوضع كل رجلٌ منهم يده على رأسه، فإذا عليه التراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً نائما في الفراش منسجياً ببرد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم علیه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي (عليه السالم) من الفراش، قالوا: والله لقد صدقنا الذي حدثنا)).
إلا أن ابن هشام(4)، يعود ويورد رواية ثانية يصف بها هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة ويورد مقدمات تلك الهجرة فأورد ما يلي: عن ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين
ص: 264
قالت: ((كان لا يخطئ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي بها، قالت فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اخرج عني ما عندك، فقال يا رسول الله: إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي فقال: إن الله أذن لي في الخروج والهجرة قالت: فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة، قالت فوالله ما شعرت قبل ذلك اليوم أحد يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا... ثم يكمل الرواية ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) أحد حين خرج، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر وآل أبي بكر)).
الآن لدينا روايتان لا يمكن التصديق بهما مجتمعتين لأن حدوثهما في الوقت نفسه وهي بداية الهجرة فلذلك لابدَّ من إيراد بعض الملاحظات من أجل التحقق أي من الروايتين صحيح ويمكن الاستناد إليه وهو يمثل حقيقة الموضوع.
أما ما أورده بقية الرواة والمؤرخون الذين نقلوا حادثة مبيت الإمام علي في فراش النبي، فالطبري(1) يورد في تاريخه رواية ابن إسحاق نفسها بشقيها الأول والثاني، أما ابن سعد(2) فينقل رواية ليلة الهجرة في خمسة أسانید مختلفة تداخل بعضها ببعض.
ص: 265
((لما رأى المشركون أصحاب رسول الله حملوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج عرفوا أنها دار منعة وقوم أهل حلقة وبأس فخافوا خروج رسول الله فاجتمعوا في دار الندوة...)) ثم يذكر تفاصيل رواية ابن إسحاق نفسها التي ذكرها ابن هشام وهي الرواية الأولى ويضيف ((وجاء رسول الله إلى أبي بكر فقال: إن الله عز وجل قد اذن لي بالخروج، فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله: نعم، فقال: أبو بكر فخذ بأبي وأمي أحد الراحلتين هاتين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بالثمن، وكان أبو بكر قد اشتراها بثمانمائة درهم من نعم بني قشير، فأخذ أحدهما وهي القصوى، وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، فبات علي وتغشی برداً أحمر حضرمي كان رسول الله ينام فيه)).
ونلاحظ أن ابن سعد وقع في خطأ ابن هشام نفسه في نقل صورة الهجرة ومبيت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث دمج الروايتين في واحدة، وسوف نناقش صحة أي من الروايتين لتضح الصورة، ثم بعد ذلك يذكر تفاصيل خروج الرسول من داره کما رواها ابن إسحاق في روايته الأولى إلى أن ينتهي ((فلما أصبحوا قام علي من الفراش فسألوه عن رسول الله فقال لا علم لي به))(1).
أما البلاذري(2) وفي رواية غير مسندة يذكر تفاصيل اجتماع دار الندوة وقضية الشيخ النجدي وأخبار جبریل رسول الله بالأمر وتوجه رسول الله إلى منزل أبي بكر ((فأتی رسول الله منزل أبي بكر، وأمر علياً أن ينام على فراشه فلمادخلوا بيته وهم يرون أنه نائم على فراشه، فقام إليهم علي (عليه السلام) فقالوا له أين ابن عمك ؟ قال: لا علم لي به، ويقال: إنهم رموه وهم يظنون أنه نبي الله، فلما قام تركوه وسألوه
ص: 266
عن النبي فأخبرهم لا علم له به)).
وورد في رواية البلاذري قضية رمي الإمام علي بالحجارة وهو نائم مکان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ما أيده ابن أبي الحديد(1) ((فلما رأوا إنساناً مسجی بالبرد الأخضر الحضرمي- يعني بعد أن دخلوا الدار - لم يشكو أنه هو، وأتمروا في قتله فكان أبو جهل يذمرهم (يحضهم) عليه فهم يحجمون، ثم قال بعضهم البعض: ارموه بالحجارة فرموه، فجعل علي يتضور منها ويتقلب ويتأوه تأوهاً خفيفاً، فلم يزالوا كذلك في إقدام عليه وإحجام عنه، لما يريد الله تعالى سلامته ونجاته، حتى أصبح وهو وقيذ (مشرف على الهلاك) من رمي الحجارة)).
وقد أورد الطبري(2) في تاريخ إضافة إلى روایات ابن إسحاق في هذا المورد زيادة بسيطة ((وزاد بعضهم هذه القصة في هذا الموضع: وقال له - يعني الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) - إن أتاك ابن أبي قحافة،فأخبره أني متوجه إلى ثور، فمره فليلحق بي، وأرسل إليّ بطعام، واستأجر لي دليلاً يدلني على طريق المدينة واشترِلي راحلة)).
وذكر(3) في مورد آخر ((وزعم بعضهم أن أبا بكر أتى علياً فسأله عن نبي الله فأخبره أنه لحق بالغار من ثور، وقال: إن كان لك حاجة فالحقه، فخرج أبو بكر مسرعاً فلحق نبي الله في الطريق، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جرس أبي بكر في ظلمة الليل، فحسبه من المشركين، فأسرع رسول الله في المشي، فانقطع قبال نعله فعلق إبهامه حجر فكثر دمها، وأسرع السعي فخاف أبو بكر أن يشق على رسول
ص: 267
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرفع صوته وتكلم، فعرفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام حتى أتاه فانطلق ورجل رسول الله تستن دماً حتى انتهى إلى الغار مع الصبح فدخلاه، وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلوا الدار، وقام علي (عليه السلام) من فراشه، فلما دنوا منه عرفوه فقالوا له أين صاحبك ؟ قال لا أدري، أو رقیباً کنت عليه ؟ أمرتموه بالخروج فخرج، فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد، فحبسوه ساعة ثم تركوه)).
إن ما جاء في رواية الطبري أعلاه تكون أقرب إلى الواقع و تتماشى مع أحداث ليلة الهجرة وإن كانت هناك بعض المغالطات التي وردت فيها وهي رفع مكانة أبي بكر في قبالة الرسول حيث صور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكأنه خائف وابو بکر أكثر صلابة، إلا أن هذا لا يعني القدح بصحة الرواية ككل.
أما ابن حبان(1) فيورد تفاصيل اجتماع قريش في دار الندوة ووضع خطة قتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتدخل الشيخ النجدي وثناءه على خطة القتل وينهي روايته عندما يصل إلى مبيت علي بن أبي طالب (عليه السلام) في فراش النبي بالقول: ((فأمر النبي علياً فتغشی برداً له أحمر حضرمياً فبات في مضجعه واجتمعت قریش لرسول الله عند باب بيته يرصدونه، فخرج رسول الله وفي يده حفنة تراب فرماها في وجوههم، فأخذ الله أعينهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فباتوا رصداً على بابه وانطلق رسول الله لحاجته، فخرج عليهم من الدار خارج، فقال ما لكم ؟ قالوا: ننتظر محمداً قال وقد خرج علیکم فانصرفوا بائسين ينفض كل واحد منهم التراب عن رأسه)).
ص: 268
إن ما تقدم هو أهم ما حصلنا عليه من روایات تخص ليلة الهجرة إلا أن ابن هشام الذي نقل روایات ابن إسحاق نقلها بصورة مشوشة غير واضحة المعالم، أراد ابن إسحاق أن يوفق بين الرواية الصحيحة والرواية التي هدفها إرضاء البعض وتحقيق أهداف سياسية وغايات مذهبية أخرى.
إن رواية مبيت الإمام علي في فراش الرسول هي الأقرب إلى الواقع وفق
المعطيات الآتية:
لقد قال تعالى في تحذيره إلى الرسول الأكرم وأمره بالخروج من مكة بعد أن دبر له المشركون مو أمرة القتل حيث قال: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ »(1).
في هذه الآية دلالة واضحة إلى الإشارة إلى الرواية الأولى التي أوردها ابن إسحاق حيث ذكر عبد الرزاق الصنعاني(2) سبب نزول هذه الآية ((لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر إلى الغار أمر علي بن أبي طالب فنام في مضجعه وبات المشركون يحرسونه فإن رأوه نائما (صلى الله عليه وآله وسلم) حسبوا أنه النبي (صلى
ص: 269
الله عليه وآله وسلم) ، فتركوه فلما أصبحوا وثبوا إليه وهم يحسبونه أنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا هم بعلي، فقالوا أين صاحبك ؟ قال: لا أدري، قال: فركبوا الصعب والذلول في طلبه)).
أما في كتب الحديث فروى أحمد بن حنبل(1)، والحاكم النيسابوري عن ابن عباس ((وشری علي نفسه فلبس ثوب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء أبو بكر وعلي نائم قال: أبو بكر يحسب أنه النبي قال: فقال له علي (عليه السلام) : إن نبي الله انطلق نحو بئر ميمونة فأدرکه فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار قال وجعل علي يرمي بالحجارة کما کان یرمی نبي الله وهو يتضور وقد لف رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح ثم کشف رأسه فقالوا: إنك للئيم كان صاحبك نرميه فلا يتضور وقد استنكرنا ذلك)). من خلال ذلك يمكن اعتبار هجرة أبي بكر مع الرسول الأكرم هي صدفة وليس من باب التخطيط المسبق.
ذكرت كتب التفسير(2) أن أسباب نزول الآية الكريمة «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ »(3) کان بحق الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؛ لأنه فدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بات في فراشه.
ص: 270
هناك مواساة سماوية من قبل الملائكة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ذكرها اليعقوبي(1) في تاريخه، حيث يذكر اجتماع قريش على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنفس الخطة التي أوردها ابن هشام عن ابن إسحاق في روايته الأولى ثم يذكر ((فلما بلغ رسول الله أنهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي فيها خرج رسول الله لما اختلط الظلام ومعه أبو بكر، وأن الله تعالى أوحى في تلك الليلة إلى جبرائیل و میکائیل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة کلاهما، فأوحى أليهما هلاکنتما كعلي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد وجعلت عمر أحدهما أطول من الآخر فاختار علي الموت وآثر محمداً ونام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوه فهبط جبرائیل و میکائیل قعدا أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوه ويصرفان عنه الحجارة وجبرائيل يقول بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب من مثلك يباهي الله به ملائكة سبع سموات...))، وهذا يدل على صحة الرواية الأولى، وهي رواية مبيت الإمام علي في فراش الرسول؛ لكون هذه المواساة بمن نام في فراش النبي وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) مما يبعد التصديق بالرواية الثانية - رواية مجيء الرسول إلى بيت أبي بكر وهجرته منه- وقد ذكر ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب شعر ابن حماد(2):
باهی به الرحم أملاكَ العلى*** لما انثنى من فرش أحمد بهجع
یا جبرائیل و میکائیل فإنني*** أخيت بينكما وفضلي اوسع
أفإن بدا في واحد أمرى فمن*** يفدي اخاه من المنون ويقنع
فتوثقا كل يضمن بنفسه*** قال الإله أنا الاعزُ الأرفعُ
ص: 271
إن الوصي فدى اخاه بنفسه*** ولفعله زلفى لديّ وموضع
فلتهبطا ولتمنعا من رامه*** أم من لم بمكيده يتسرع
إن ابن هشام سلط الضوء أكثر على إبراز منقبة آل أبي بكر في رواية بعيدة عن الواقع من مجيء الرسول في الهاجرة كما ذكر إلى انطلاقها إلى إيجار أو شراء الدواب كلها تخرج عن السياق الحقيقي لتلك الحادثة، وكما بيّنا ذلك إلا أنه أغفل ذكر القرآن الذي نزل في تلك الحادثة فلم يورد الآية الخاصة بالإمام علي وهي «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ » في المقابل لم يتطرق إلى آية أخرى نزلت وهي « لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا »(1)؛ لأنها توضح حزن وغم أبي بكر على تحمل الصعاب على الرغم من أنه مستخفٍ بالغار، وابن هشام تناسی تمام ذكر علي بن أبي طالب، وما آلت إليه أموره وهو منفرد غیر متخفٍ أمام الأعداء يتربصون به الدوائر وأبو بكر متخفٍ بالغار وهو خائف ومعه رسول الله وهذا ما أكد عليه بعض المفسرين مثل ابن الجوزي(2) في زاد المسير والفخر الرازي (3) في تفسيره حيث يؤكد أن المقصود بذلك هو أبو بكر لأنه كان خائفاً قبل هذا القول فلما سمع هذا سكن.
في رواية ابن إسحاق الثانية التي نقلها ابن هشام ((ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر وآل أبي بكر))(4).
ص: 272
من المؤكد أن السرية لابدَّ أن تحيط عملاً كالذي أقدم عليه الرسول وهو الهجرة وهو يعلم علم اليقين أن القوم يطلبونه وقد تآمروا على قتله كما أخبر بذلك من السماء فعليه لابدَّ أن تكون هناك سرية تامة في الموضوع، إلا أن رواية ابن إسحاق الثانية إن صحت فهي بعيدة عن واقع السرية ؛ لأن رسول الله لم يخبر أحداً لكن إخباره لمقتضيات الحالة، حيث أخبر علي بن أبي طالب لأن الخطة والوضع تتطلب أمراً كهذا، وكان ذلك لتمويه الأعداء بالمبيت في فراشه و مخادعتهم ليروا أنه لم يبرح فلا يطلبوه، حتى تبعد المسافة بينهم وبينه، وإنه تخلف بمكة حتى يؤدي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الودائع التي عنده للناس، أما أبو بكر فكان رفيقه في الخروج(1). ولكن آل أبي بكر ما هو الداعي لإعلامهم بالأمر وإن علل ذلك ابن هشام لإيصال المؤن إليهم عندما كانا ف ي الغار، إلا أن ذلك يبتعد كثيراً عن السرية المطلوبة في وضع مثل هذا، ففي رواية محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن أبيه عن جده عن أبي رافع ((إن علياً كان يجهز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان في الغار فيأتيه بالطعام واستأجر له ثلاث رواحل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأبي بكر ودليلهم...))(2)،إذا علمنا أن قريشاً شددت من طلبها على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث خصصت مائة ناقة لمن رده عليهم(3). والرسول على علم بأنَّه لابدَّ أن يكون سره مأموناً ولا يزيد على أكثر من شخص واحد وهذا هو الحال التي تحكيه لنا رواية أبي رافع أعلاه وهي قريبة للواقع.
ص: 273
ص: 274
ص: 275
ص: 276
ذلك للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين مكاناً آمناً للهجرة وهو المدينة، وبالفعل أذن الله تعالى له وللمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان هو آخر المهاجرين إليها بعد أن ترك علياً (عليه السلام) في مكة، لإيهام قریش بأنه لم يغادر مكانه، ويؤدي الأمانات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهلها(1).
ذكر ابن هشام(2) في السيرة نقلا عن ابن إسحاق ((وأقام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل معه على کلثوم بن الهدم (3)، وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها، مسلمة، قال فرأت إنساناً يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه فتأخذه، قال فاستربت بشأنه، فقلت لها يا أمة الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة، فتخرجين إليه فيعطيك شيئاً، لا أدري ما هو، وأنتِ امرأة مسلمة لا زوج لكِ؟ قالت: سهل بن حنیف(4) بن وهب، قد عرف أني امرأة لا أحدلي، فإذا أمسى عدا
ص: 278
على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا، فكان علي (عليه السلام) يؤثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حتى هلك بالعراق.
ومن خلال قراءة الرواية المتقدمة يمكننا أن نسجل بعض الملاحظات قبل أن
نقارنها با ذکره مؤرخون آخرون:
إقامة الإمام علي (عليه السلام) بمكة لمدة ثلاثة أيام بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة لأداء الودائع، مع إغفال الرواية لذكر أسرة الرسول ومن اهتم بأمرها وكيف هاجرت
الرواية لم تذكر أي تفاصيل عن مسيرة الإمام علي في طريقه إلى المدينة مهاجراً بعد أدائه للودائع إلى أهلها، إذ لم يذكر في روايته كيف كان خروجه من مكة، علماً أنه آخر المسلمين الخارجين منها، والوضع العام كان مشحونا جدا ؛ لأن القرشيين كانوا يطلبون رسول الله من أجل منعه من الهجرة والالتحاق بالمدينة وقد جعلوا مئة ناقة لمن رد رسول الله عليهم(1). وإن قريشاً كانت مستعدة لتتبع أثر أي شخص من أصحاب النبي لغرض الوصول إليه، إذا ما علمنا أن رد الودائع لم يكن بشكل سري وإنما كان بشكل علني حسب طلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منه: ((أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوة وعشياً إلا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة فليأتِ إلى أمانته))(2).
ص: 279
أما بقية المؤرخين فقد نقل الطبري(1) رواية ابن إسحاق نفسها لكنه ذكر تفاصيل سند الرواية بشكل أشمل من ابن هشام فقال: ((عن ابن حميد عن سلمة قال: حدثني ابن سحاق قال حدثني هذا الحديث علي بن هند بن سعد بن سهل بن حنیف عن علي بن أبي طالب عليه السلام)).
وقد اختلف المؤرخون في نقلهم للواقعة فروى ابن سعد(2) عن محمد بن عمر عن عبد الله بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن رافع عن علي قال: ((لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة في الهجرة أمرني أن أقيم بعده حتى أؤدي ودائع كانت عنده للناس، ولذا كان يسمى الأمين فأقمت ثلاثاً فكنت أظهر ما تغيبت يوماً واحداً، ثم خرجت فجعلت أتبع طريق رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) حتى قدمت دار عمر بن عوف ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقیم فنزلت على کلثوم بن الهدم وهناك منزل رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم))).
أما البلاذري (3) فقد ذكر رواية غير مسندة ((وكانت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودائع، وإنما كان يسمى الأمين، فوكّل علياً (عليه السلام) بردها على أهلها، فلما وفاهم إياها شخص إلى المدينة حتى نزل على کلثوم بن الهدم ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))).
وذكر اليعقوبي (4) ((وقدم علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك قبل نکاحها إياه وكان يسير ليلاً ويكمن نهاراً حتى قدم
ص: 280
فنزل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)).
لقد أورد ابن هشام رواية ابن إسحاق نفسها عن هجرة الإمام علي (عليه السلام) من مكة إلى المدينة ونقل الصورة كما أوردها ابن إسحاق، إلا أن الملاحظ أن تلك الرواية فيها قطع واضح، إذ لم يخبرنا الراوي ماذا فعل علي (عليه السلام) بعد أن أدى الودائع وما هو مصير عائلة رسول الله هل بقيت في مكة؟ وما هو موقف القريشيين منها؟ في حين ذكر اليعقوبي أن الإمام علياً هاجر بالسيدة فاطمة إلى المدينة من دون أن يشير إلى تفاصيل أخرى، وهذا غير كافٍ لإكمال صورة الهجرة إذ أغفلت هذه الروايات تفاصيل كثيرة، لكن المفيد(1) ذكر تفاصيل وافية عن هجرة الإمام فقال : ((ومن ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أمين قريش على ودائعهم فلما جاءه الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتة، لم يجد في قومه وأهله من يأتمنه على ما كان مؤتمناً علیه سوى أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها، وقضاء ما عليه دين، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه و آلهجرة بهم إليه، ولم يرَ أن أحداً يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس، فوثق بأمانته، وعول على نجدته وشجاعته واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه، وعرف من ورعه وعصمته ما تسكن النفس معه على ائتمانه على ذلك، فقام (عليه السلام) بأحسن القيام، وردَّ كل وديعة إلى أهلها، وأعطى كل ذي حق حقه وحفظ بنات نبيه عليه السلام و آله وحرمه، وهاجر بهم ماشياً على قدميه، يحوطهم من الأعداء، ويكلؤهم من الخصماء، ويرفق بهم في السير حتى أوردهم عليه المدينة، على أتم صيانة وحراسة ورفق ورأفة وحسن تدبير، فأنزله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأحله قراره، ولم يميزه من خاصة نفسه ولا احتشمه في باطن أمره وسره)).
ص: 281
ونقل الطوسي(1) رواية أكثر تفصیلاً جاء فيها ((ثم كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) کتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم(2)، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي (3)، فلما أتاه کتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهيأ للخروج وآلهجرة فأذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم أن يتسللوا ويتخفوا إذا ملأ الليل بطن كل وادٍ إلى ذي طوى(4)، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمه فاطمة بنت أسد، و فاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب - وقد قيل هي ضباعة (5) - وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأبو واقد رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهن، فقال علي (عليه السلام) : ارفق بالنسوة يا أبا واقد، إنهن من الضعائف... وسار فلما شارف
ص: 282
ضجنان(1) أدركه الطلب، وعددهم سبعة فوارس مستلمئين (2)، وثامنهم مولى الحرب بن أمية يدعی جناحا، فأقبل علي (عليه السلام) على أيمن وأبي واقد، وقد تراءى إلى القوم، فقال لهما : انیخا الإبل واعقلاها، وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم (عليه السلام) منتظياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: أظننت أنك یا غادر ناج بالنسوة ؟! ارجع لا أبا لك. قال: فإن لم أفعل ؟ قالوا: لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً وأهون بك من أهلك، ودنا الفوارس من النسوةوالمطايا ليثورهما، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته وتختله علي (عليه السلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه حتی مس کاثبة فرسه (3)، فكان (عليه السلام) يشد على قدمه شد الفرس أو الفارس على فرسه فشد عليهم بسيفه وهو يقول:
خلو سبيل المجاهد الجاهد*** آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع عنه القوم وقالوا له: اغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليتعقبني أو فليدنُ مني، ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: اطلقا مطایكما)).
إن ما تقدم في روايتي المفيد والطوسي يكشف حقيقة هجرة الإمام علي إلى المدينة،
ص: 283
وتروي تفاصيل وافية لهذه الهجرة التي حاول من تقدم من المؤرخين إخفاءها، وهذه التفاصيل هي نفسها جعلت كتب السيرة تعزف عن ذكرها، ففيها مناقب لعلي (عليه السلام) وشجاعة بارزة لم يرغب الرواة إبرازها له؛ لأنه لا يروق لبعض الناس سماعه ويكون ثقيل الوقع على حكام عصره فهي منقبة عظيمة ((توحد بها عليه السلام من كافة أهل بيته وأصحابه ولم يشركه فيها أحد من أتباعه وأشياعه، ولم يحصل لغيره من الخلق فضل سواها يُعادلها عند السير))(1).
لكن التفاصيل الواردة في الروايتين والتي تحدثت عن رد الودائع واصطحاب العائلة ثم اللحاق برسول الله إلى قباء، تحتاج أكثر من الثلاثة أيام التي وردت في رواية ابن إسحاق؛ لأن رد الودائع وحده كان يحتاج إلى ثلاثة أيام فضلاً عن التحاق الإمام بالمدينة وبصحبته النساء، وفي هذا الباب ذكر الطبرسي (2) ((فبقي رسول الله خمسة عشر يوماً فجاءه أبو بكر فقال يا رسول الله تدخل المدينة ؟ فإن القوم متشوقون إلى نزولك عليهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا أريم (3) من هذا المكان حتى يوافي أخي علي... فقال أبو بكر: ما أحسب علياً يوافي، قال: بلى ما أسرعه إن شاء الله فبقى خمسة عشر يوماً فوافاه علي بعياله...)).
إلا أن ابن هشام ومن قبله ابن إسحاق أغفل تماماً تفاصيل لقاء النبي بعلي (عليه السلام) في المدينة كما أغفل من قبله تفاصيل الهجرة، ففي رواية عبيد الله بن الحسن قال: ((حدثني محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع، عن أبيه عن جده، عن أبي رافع حيث استقر في حديثه هجرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج علي في طلبه - يعني في طلب النبي - بعدما اخرج إليه أهله يمشي ليلاً ويكمن النهار،
ص: 284
حتى فتح مكة حتى قدم المدينة، فلما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ادعوالي علياً قیل یا رسول الله، لا يقدر أن يمشي. فأتاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلما رآه اعتنقه و بکی، رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً، فتفل النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) في يديه ومسح بهما رجليه، ودعا له بالعافية فلم يشتكهما حتى استشهد عليه السلام))(1).
إلا أن بعض المؤرخين(2) ذكر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا رافع وزيد بن حارثة مواليه إلى مكة لحمل فاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله وبقية العائلة، وقد علل أحد المتأخرين (3) ذلك الأمر بالقول: ((إلا أنه يقال يجوز أن يكون الكتاب الذي فيه استدعاء سيدنا علي عليه السلام للهجرة كان مع زيد وأبي رافع رضي الله عنهما وأنهما صحباه حيث لا يتنافي ذلك مما تقدم من تأخر علي (عليه السلام) بمكة ثلاث ليالٍ يؤدي الودائع، إلا أن تلك الليالي الثلاث كانت مدة تأدية الودائع ومكث بعدها إلى أن جاءه کتاب رسول الله وحينئذ يكون قدومه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بعد نزوله بقباء))، وهذا التعليل يبدو معقولاً ويتماشى مع السياق الذي ذكرناه.
ص: 285
ذكر ابن هشام(1) رواية عن ابن إسحاق تتحدث عن المؤاخاة فقال: ((آخی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا: ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سید المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير(2)، ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب، أسد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وزيد بن حارثة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حيث حضره القتال إن حدث به حادث الموت، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، الطيار في الجنة، ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة أخوين)). إلا أن ابن هشام قال: ((وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائباً بأرض الحبشة...)) ثم يورد بعد ذلك تفاصيل المؤاخاة.
هذه صورة المؤاخاة في المدينة بعد الهجرة التي نقلها ابن هشام برواية ابن إسحاق وقد أوضح فيها مدى أهمية تلك المؤاخاة المدنية موكداً أن التآخي كان يتضمن ضم الشخص إلى من يناظره في المكانة وقد أوضح منزلة الرسول ومكانته وبين أنه لا يوجد من يناظره علي بن أبي طالب (3).
ص: 286
إلا أن ابن هشام وكذلك ابن إسحاق أغفلا أن هناك مؤاخاة أخری سبقت مؤاخاة المدينة، وهي مؤاخاة مكة التي ذكرها ابن حبيب (1) في المحبر والتي أشار فيها إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آخى بين أصحابه المهاجرين قبل الهجرة ((وكان آخى بينهم على الحق والمواساة وذلك بمكة فآخي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين نفسه وبين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآخى بين حمزة بن عبد المطلب رحمه الله وبين زید بن حارثة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...)).
إلا أن ابن سيد الناس (2) في عيون الأثر ينقل تفاصيل رواية ابن حبيب نفسها ويضيف إليها رواية أخرى ينتهي سندها إلى جميح بن عمير (3) عن عبد الله بن عمر نصها (حتى بقي علي (عليه السلام) ، وكان رجلاً شجاعاً ماضياً على أمره إذا أراد شيئاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أما ترضى أن أكون أخاك ؟ قال : بلی یا رسول الله لقد رضيت، قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة)).
أما بقية المؤرخين فقد ذكروا المؤاخاة بكيفيات مختلفة فنقل ابن سعد(4) تفاصيل تلك الحادثة وبأسانید مختلفة ((لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة آخي بين المهاجرين بعضهم البعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمؤاساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام، وكانوا تسعين رجلاً،
ص: 287
خمسة وأربعون مهاجراً، وخمسة وأربعون من الأنصار، ويقال كانوا مئة، خمسون من المهاجرين وخمسون من الأنصار...)) ، وروايته هذه تخلو من ذكر مؤاخاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب، إلا أنه يعود في ترجمته للإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لينقل رواية عن محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله ابن محمد بن عمر بن علي بن علي عن أبيه قال فيها: ((فآخي بينه وبين علي بن أبي طالب)) (1).
والملاحظ على روايتي ابن سعد أنها خلتا من أي ذكر للمؤاخاة المكية، إذ يبدو أنه قد وقع في لبس في هذا الموضوع و خلط بين الأمرين فدمج بينهما وجعل المؤاخاة واحدة، فاستبعد الأولى التي فيها مؤاخاة الرسول والإمام علي وأبقى فقط مؤاخاة المدينة.
أما البلاذري(2) فقد أورد رواية غير مسندة غلب عليها الطابع السياسي المحابي للسلطات العباسية استبعد فيها مؤاخاة النبي مع الإمام علي فقال: ((وكان ممن آخی بينهم حمزة بن عبد المطلب وكلثوم بن الهدم - أو غيره - و علي بن أبي طالب وسهل ابن حنیف...)).
ولعل من المناسب أن نذكر أن المؤاخاة كانت من المناقب الكبرى للإمام علي بن أبي طالب فقد اجتهد البعض كما ذكرنا في إبعادها عن مسارها الحقيقي وجعل المؤاخاة بين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبين شخصية أخرى غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهناك من انكر المؤاخاة المكية، كما أن هناك من تبني أمراً
ص: 288
آخر وهو تصوير الإمام علي بن أبي طالب بصورة غير متزنة حيث عمل على تشويه صورة المؤاخاة من خلال تحريفها عن خطها الطبيعي ومن هذه الروايات الرواية الآتية: ((آخى النبي بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله أخيت بين أصحابك ولم تؤاخِ بيني وبين أحد، قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة))(1)، وهذه الرواية في ظاهرها مدح لأمير المؤمنين لكن باطنها لا يخلو من ذم لمقامه الشريف (2).
وقد عمل بعض الرواة على توظيف أحاديث وأقوال شائعة قالها الرسول الأعظم بحقه لیدسوا بعض العبارات التي كان فيها قصدية تشويه صورة المؤاخاة، فذكرت إحدى هذه الروايات اعتراض وعتب الإمام علي بن أبي طالب على رسول الله ((فقال علي بن أبي طالب: یا رسول الله ذهب روحي فانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، فإن كان من سخطك علي فلك العتبى والكرامة، قال : والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي وأنت مني بمنزلة هارون من موسی غیر أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي، قال: یا رسول الله ما أرث منك؟ قال: ما ورثه الأنبياء قبلي، قال: وما ورثه الأنبياء قبلك ؟ قال : كتاب الله وسنة نبيهم وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمةابنتي...))(3)..
بل ذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك حين صور الإمام علياً كأنه يستجدي المؤاخاة
فيذهب إلى فاطمة الزهراء شاكياً ما لاقاه من رسول الله بعدم المؤاخاة و ترکه، فنقلت
ص: 289
بعض المصادر رواية ينتهي سندها إلى أنس بن مالك ((لما كان يوم الإخاء فأخی النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار وعلي واقف يراه ويعرف مكانه ولم يؤاخِ بينه وبين أحد فانصرف علي باكي العين، فافتقده النبي وقال:ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين يا رسول الله. قال: يا بلال اذهب فأتني به، فمضى بلال إلى علي (عليه السلام)، وقد دخل منزله باكي العين، فقالت فاطمة : ما يبكيك لا أبكي الله لك عيناً. قال يا فاطمة: آخى النبي بين المهاجرين والأنصار وأنا واقف يراني ويعرف مكاني ولم يؤاخ بيني وبين أحد، قالت فاطمة (عليها السلام): لا يحزنك الله، لعله ادخرك لنفسه، فقال بلال: يا علي أجب النبي فأتى علي إلى النبي، فقال النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) : ما يبكيك يا أبا الحسن ؟ قال: آخيت بين المهاجرين والأنصار یا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخِ بيني وبين أحد، قال: إنما ادخرتك لنفسي أما يسرك أن تكون أخا نبيك ؟ قال: بلى يا رسول الله، أني لي بذلك وأخذ بيده وأرقاه المنبر فقال: اللهم إن هذا أخي مني وأنا منه، ألا أنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من کنت مولاه فهذا علي مولاه))(1).
لقد كانت المؤاخاة من الحقائق التاريخية التي لا يمكن إنكارها ولا نريد هنا نفيها أو إثباتها وقد نقلت بتواتر کبير، لكن الشيء المهم في الموضوع محاولة البعض تصویر الإمام علي بصورة لا تتلاءم مع طبيعة هذه الشخصية العظيمة، فقد نعتته الروايات بأوصاف لا تليق بمكانته السامية، وعليه يمكن اعتبار ذلك دساً وتحريفاً في المسيرة التاريخية الناصعة للإمام علي (عليه السلام)، إلا أن الملاحظ أن ابن هشام نقل حقيقة الأمر في المؤاخاة، وذلك يعود إلى التواتر الكبير لهذه الحادثة في مصادر المسلمين
ص: 290
المتقدمة وبأسانید مختلفة، فروي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الإمام علي: ((أنت أخي وصاحبي))، وأن النبي ((آخي بين علي بن أبي طالب ونفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: أنت أخي في الدنيا والآخرة))(1)، وعن سعد بن حذيفة عن أبيه حذيفة بن اليمان قال: ((آخی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الصحابة والأنصار والمهاجرين فكان يؤاخي بين الرجل ونظيره، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال له: هذا أخي، قال حذيفة: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سید المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير، وعلي بن أبي طالب اخوان))(2).
وذكر ابن الجوزي (3) بعد استعراضه لقائمة المتآخين أن الرسول ((آخي بين علي ابن أبي طالب ونفسه...)) بينما ذكر ابن الأثير (4) المؤاخاة المكية والمدنية ((وآخاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين فإن رسول الله آخي بين المهاجرين، ثم آخی بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة وقال لعلي في كل واحد منهما أنت أخي في الدنيا والآخرة)).
وروي أن الإمام علياً قال يوماً ((أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا مفترٍ على الله کاذب، وفي رواية لا يقولها بعدي إلا كاذب أو مجنون فقالها رجل فجن))(5)،
ص: 291
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت علي بن أبي طالب ينشد ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمع:
أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي*** ربّيت معاه وسبطاء هما ولدي
جدي وجد رسول الله منفرد*** وفاطم زوجتي لا قول ذي فند
صدقته وجميع الناس في بهم*** من الضلالة والاشراك والتلد
فالحمد لله شكراً لا شريك له*** البر بالعبد والباقي بلا أحد
فقال رسول الله : صدقت يا علي(1).
وعن أبي أمامة ((أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آخى بين الناس،
وآخي بينه وبين علي عليه )(2).
والشواهد كثيرة في هذا المورد التي تحكي تواتر الروايات في المؤاخاة بين الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) و نختم فقرتنا هذه بما قاله أبو جعفر الإسكافي (3): ((ثم فكروا في حديث المؤاخاة وما فيه من الدلائل الواضحة، إذ ميزهم على قدر منازلهم، ثم آخى بينهم حسب مفاضلتهم فلم يكن أحد أقرب من فضل أبي بكر من عمر، فلذلك آخی بینهما و أشبه طلحة والزبير وقرب منازلهما، لذلك آخى بينهما وكذلك فعل بعبد الرحمن بن عوف آخى بينه وبين عثمان... ثم قال لعلي: إنما أخرتك لنفسي أنت أخي وصاحبي فلم يكن أحد أشبه بالنبي من علي، ولا أولى بمؤاخاة النبي منه فاستحق بمؤاخاة النبي (عليه السلام)
ص: 292
لتقدمه على القوم، وكانت مؤاخاة علي أفضل من مؤاخاة غيره لفضله على غيره)).
قبل أن ندخل إلى موضوع الزواج المبارك لابدَّ لنا أن نذكر باختصار جزءاً من سيرة السيدة فاطمة الزهراء، وذلك من أجل التعرف على تلك الشخصية لا سيما إننا اطلعنا على شخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتعرفنا على ولادته ونشأته بوصفه صاحب الدراسة.
لقد فتحت الزهراء عينيها على الحياة وهي ترى وجه أبيها الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وترضع من أمها خديجة الكبرى اللبن الممزوج بالفضائل والكمال، وقد تربت في بيت الوحي ومهبط الرسالة، يزقها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العلوم الإلهية ويفيض عليها بالمعارف الربانية، ويعلمها أحسن دروس التوحيد، وأرقى علوم الإيمان وأجمل حقائق الإسلام(1).
وقد ولدت (عليها السلام) في مكة في العشرين من جمادى الآخرة سنة خمس من المبعث(2) إلا أن هناك من يذهب إلى أن ولادتها قبل النبوة بخمس سنوات (3) . وفي رأي آخر إن ولادتها قبل المبعث بقليل(4)، ولسنا بصدد التحقيق في ذلك بقدر ما يهمنا تاریخ ولادتها وبعدها فقدت أمها ولم تتجاوز الخمس سنوات من عمرها، وبقيت مع أبيها حتى هجرته إلى المدينة، فلحقته برفقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
ص: 293
أما زواجها بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد اختلفت المصادر أيضاً في هذا، فمنهم من ذكر أن ذلك تم بعد الهجرة بشهرين (1).
ومنهم من ذكر أن الزواج تم بعد مقدم النبي إلى المدينة بخمسة أشهر (2)، وعلى رأي آخر تم زواجهما سنة اثنين بعد وقعة بدر (3).
أما ما يخص موضوعنا فإن ابن هشام في السيرة النبوية أغفل ذكر حادثة الزواج على الرغم من أهميتها لأنه كما يبدو أراد حجب الصورة المشرقة لآل البيت والثمار التي انتجها هذا الزواج المبارك، إذ لاحظنا من خلال دراستنا لابن هشام والوضع السياسي الذي كان يعيشه في ظل السلطات العباسية، إذ رأينا أن العباسيين في بداية استلامهم للحكم سعوا جاهدين إلى صرف أنظار الناس عن أهل البيت الحقيقيين وتوجيه أنظار الناس إلى أن أهل البيت هم العباسيون، ومن خلال ذلك نلاحظ أن هناك قصداً واضحاً هو صرف أنظار الناس عن هذا الزواج ونتائجه، إلا أن ابن إسحاق(4) لم يغفل ذلك، فقد ذكر في روايته المسندة إلى عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن علي قال: ((خطبت فاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت لي مولاة لى هل سمعت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله ؟ فقلت: لا، قالت فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيزوجك، فقلت: وعندي شيء اتزوج ؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوّجك فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلال وهيبة، فلما قعدت
ص: 294
بين يديه افحمت، فو الله ما استطعت أن أتكلم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما جاء بك، ألك حاجة ؟ فسكتُّ فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة ؟ فقلت: نعم، فقال: هل عندك شيء تستحلها به ؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، فقال: ما فعلت درع اسلحتكها، فوالذي نفس علي بيده إنها لحطيمة ما ثمنها أربعة دراهم، فقلت: عندي، فقال: قد زوجتكما فابعث بها إليها فاستحلها بها، فإن كانت الصداق فاطمة ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))).
وهذه الرواية المختصرة هي ما اكتفى به ابن إسحاق في ما يتعلق بالزواج، بينما نقلت مصادر أخرى روايات فيها تفاصيل كثيرة لم ترد عند ابن إسحاق، وهذا ما سنلاحظه من خلال استعراض بقية الروايات، فابن سعد(1) نقل عن مسلم بن إبراهيم عن المنذر بن ثعلبة عن عِلباء بن أحمد اليشكري أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له: ((يا أبا بكر انتظر بها القضاء فذكر ذلك أبو بكر لعمر، فقال له عمر: ردك يا أبا بكر، ثم أن أبا بكر قال لعمر: اخطب فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخطبها، فقال له: مثل ما قال لأبي بكر انتظر بها القضاء، فجاء عمر إلى أبي بكر فأخبره، فقال له ردك يا عمر. ثم أن أهل علي قالوا لعلي: اخطب فاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال بعد أبي بكر وعمر ؟ فذكروا له قرابته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فخطبها فزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فباع علي بعيراً له وبعض متاعه فبلغ أربعمائة وثمانين، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : اجعل ثلثين في الطيب وثلثاً في المتاع)).
وفي رواية أخرى عن الفضل بن دكين عن موسى بن قیس الحضرمي قال:
ص: 295
سمعت حجر بن عنبس قال: وقد كان أكل الدم في الجاهلية وشهد مع علي الجمل وصفين: قال خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : هي لك يا علي، لستُ بدجال، يعني لستُ بكذاب. وذلك أنه قد كان وعد علياً بها قبل أن يخطب إليه أبو بكر وعمر))(1).
أما اليعقوبي(2) فذكر وصول علي بن أبي طالب والتحاقه بالرسول في المدينة ((ثم زوجها رسول الله من علي - يعني فاطمة - بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله، فلما زوجها علياً قالوا في ذلك، فقال رسول الله : ما أنا زوجته ولكن الله زوجه)).
أما الواقدي فذكر عن ابن أبي سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر ((أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بني بفاطمة (عليها السلام) في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهراً...))(3).
وفي رواية جویر بن سعيد عن الضحاك بن حزام قال: ((سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: أتاني أبو بكر وعمر فقالا: لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت له فاطمة، قال: فأتيته فلما رآني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضحك، ثم قال: ما جاء بك يا أبا الحسن وما حاجتك ؟ قال فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي فقال: صدقت، فأنت أفضل مما تذكر.
ص: 296
فقلت یا رسول الله فاطمة تزوجنيها؟ فقال: ياعلي، انه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك فدخل عليها فقامت إليه، فأخذت رداءه ونزعت نعليه، وأتته بالوضوء فوضأته بيدها وغسلت رجليه، فقال لها يا فاطمة. فقالت لبيك، حاجتك يا رسول الله ؟ قال: إن علي بن أبي طالب من قد عرفتِ قرابته وفضل إسلامه، وإني قد سألت ربي أن يزوجكِ خير خلقه وأحبهم إليه، وقد ذكرت من أمرك شيئاً فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها ولم ير فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كراهة، فقام وهو يقول: الله أكبر سکوتها إقرارها، فأتاه جبریل (عليه السلام) فقال: يا محمد، زوجها علي بن أبي طالب فإن الله رضيهاله ورضيه لها))(1).
إن تواتر الروايات في تزويج علي من فاطمة والطريقة التي تم بها لا يمكن إغفاله، لكن إحجام بعض المؤرخين عنه فيه قصدية واضحة، وابن هشام من هؤلاء الذين أحجموا عن ذكره وهو غير خاف عليه، وهذا أمر يطرح الكثير من علامات الاستفهام ؛ لأنه يخفي غايات ومقاصد كثيرة، منها أنه أراد إخفاء كل ما يتعلق بفضائل الإمام علي وأهل بيته، وحتى ذكر ابن إسحاق وغيره لحادثة الزواج فإننا نسجل عليه جملة من الملاحظات:
إن ابن إسحاق وإن أورد تلك الرواية في السيرة إلا أنه حجب الكثير من الحقائق فهو لم يذكر من خطبها قبل الإمام علي بن أبي طالب ولماذا خطبوها، فالملاحظ من خلال ما أوردنا من روايات أن عملية الخطبة والتزويج من فاطمة لم تكن من المسائل الطبيعية وإنما خاضعة للتدخل الإلهي، وهذا واضح في رواية ابن سعد بعد أن ردّ رسول الله أبا بكر قال له: ((انتظر بها القضاء)) بمعنى أن أمر تزويجها مرتبط بالسماء
ص: 297
بيد الله تعالى، وهذا ما حفز عمر بن الخطاب بعد أن قص أبو بكر عليه أمر الخطبة للذهاب إلى رسول الله لخطبة فاطمة لعله يظفر بتلك المنقبة ولكنه لم يفلح إلى أن خطبها الإمام علي (عليه السلام) وحصلت الموافقة.
جاء في رواية ابن إسحاق أن الذي حفّز الإمام علياً لخطبة الزهراء هي جارية عنده وهذا فيه تجنٍ كبير على الحقيقة؛ لأن أمر الزواج كان بيد السماء وهذا ما قاله النبي الأعظم لأبي بكر وعمر، لكن يبدو أن هناك تغييباً متعمداً لهذه الحقيقة حتى لا تنسب هذه المنقبة لأمير المؤمنين.
أراد ابن إسحاق من خلال إيراد رواية التزويج أن يوحي للقارئ أن الأمر طبيعي و تحاشی ذکر أبي بكر وعمر تجنباً للحرج الذي قد يقع فيه، فأراد أن يجعل الأمور مقبولة من كل الأطراف إذا عرفنا أن الظروف التي دونت بها السيرة، ومدى الضغط الذي تعرض له عندما كتب السيرة على مقاسات المنصور العباسي.
يؤكد ما ذهبنا إليه في النقاط الواردة أعلاه إيراد ابن المغازلي (1) رواية ينتهي سندها إلى أنس بن مالك: ((جاء أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وأني وأني... قال وما قال تزوجني فاطمة ؟ قال فسكت عنه أو قال:فأعرض عنه، قال: فرجع أبو بكر إلى عمر فقال هلكت وأهلكت قال: وما ذاك ؟ قال : خطبت فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعرض عني، قال: مكانك حتى آتي النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فأخطب منه مثل ما طلبت.
فأتى عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله
ص: 298
قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وأني وأني... قال : وما ذاك ؟ قال تزوجني فاطمة قال: فأعرض عنه، قال فرجع عمر إلى أبي بكر فقال: إنه ينتظر أمر الله بنا. فانطلق بنا إلى علي حتى نأمره بطلب الذي طلبنا.
قال علي فأتياني وأنا أعالج فسيلاً فقالا: ألا أتيت ابن عمك تخطب ابنته قال فنبهاني لأمر فقمت أجر ردائي طرفاً على عاتقي وطرفاً على الأرض حتى أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي وأني... قال: وما ذاك يا علي؟ قال: تزوجني فاطمة. قال: وما عندك ؟ قال: عندي فرسي ودرعي...)).
ولا نريد الاسترسال في ذكر روایات الزواج فقد تمت الموافقة على العقد کما ذکرنا وبمباركة الله سبحانه وتعالى حيث لم يكن الزواج باجتهاد شخصي من الرسول الأعظم، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: (أتاني ملك فقال یا محمد: ان الله يقرأ عليك السلام ويقول قد زوجت فاطمة من علي فزوجها منه)(1)، وروي عن أبي عبد الله الصادق انه قال: ((لولا أن الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة ما كان لها كفؤ على ظهر الأرض من آدم ومن دونه))(2).
وقد كان هذا الزواج المبارك بمباركة وحضور الرسول الأكرم، فقد روى الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بسنده إلى أنس بن مالك ((قال: لما زوج النبي فاطمة قال يا أم أنس زفي ابنتي إلى علي، ومريه أن لا يعجل إليها حتى أتيها، فلما صلى العشاء أقبل برکوة فيها ماء فتفل فيها بما شاء ثم قال: اشرب يا علي وتوضأ. واشربي وتوضئي
ص: 299
ثم أجاف عليهم الباب فبكت فاطمة فقال: ما يبكيك يا بنية قد زوجتكِ أقدمهم إسلاماً وأعظمهم حلماً، وأحسنهم خلقاً وأعلمهم بالله تعالى وفي رواية أنه قال لهما: اللهم بارك عليهما وبارك لهما في شبليهما)(1).
وقد خطب النبي على المنبر في تزويج السيدة فاطمة، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع في سلطانه، المرغوب إليه فيما عنده، المرهوب من عذابه، النافذ أمره في سمائه وأرضه، خلق الخلق بقدرته، و میزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد، إن الله تعالى جعل المصاهرة نسباً لاحقاً، وأمراً مفترضاً، وشبح بها الأرحام، وألزمها الأنام، قال تعالى : «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا »ثم أن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي...))(2).
وعن الإمام علي بن موسی الرضا (عليه السلام) عن آبائه عليهم السلام عن
علي قال: ((قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا علي: لقد عاتبتني قريش في أمر فاطمة وقالوا خطبناها إليك فمنعتنا وتزوجت علياً فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله منعکم وزوجه فهبط عليّ جبرائیل علیه السلام فقال: يا محمد إن الله جل جلاله يقول: لولم اخلق علياً (عليه السلام) لما كان لفاطمة ابنتك كفؤ على وجه الأرض من آدم فمن دونه))(3).
فكفاءة على لفاطمة ليست كفاءة نسبية فقط، ولا خلقية فقط وإنما هي كفاءة
ص: 300
سماوية إلهية في تعادلها بالقرآن وتساويهما في ميراث النبوة وفي الحكمة والهدى والرحمة وفي افتراض الولاء والطاعة على الناس اجمعين، فالزهراء (عليها السلام) وعلي كان أحدهما كفؤاً للآخر ولو أن النبي زوّج الزهراء من رجالات العرب الذين خطبوها إليه لكان حالها المادي يختلف عما كان عليه مع الإمام (عليه السلام) الذي لم يملك إلا درعه الذي ابتاعه وتزوج به(1).
أما ثمرة هذا الزواج المقدس فكانت الإمامة الطاهرة وامتدادها الطبيعي، إلا أن ابن هشام أغفل كل شيء يمت بصلة إلى زواج الإمام وثمرة ذلك الزواج المبارك، إلا أن ابن إسحاق أشار إلى ذلك في السيرة النبوية فذكر ((ولدت فاطمة لعلي الحسن والحسين و محسناً، فذهب صغيراً وولدت له أم كلثوم وزينب))(2).
بهذه الكلمات المقتضبة جداً انتهت إشارة ابن إسحاق إلى ثمرة زواج الإمام علي (عليه السلام) من فاطمة إلا أنه يعود وفي رواية مسنده إلى يونس بن عمرو عن أبيه عن هاني بن هاني عن علي قال: ((لما ولد الحسن سميته حربا قال فجاء الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أروني بني ماذا سميتموه؟ قلت: سميته حرباً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لله عليه، لا ولكن اسمه حسن، فلما ولدت حسيناً سميته حرباً، فقال: لا ولكن سمّه حسيناً، فلما ولدت الثالث سميته حرباً، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني ماذا سميتموه ؟ فقلنا سميناه حرباً، فقال لا ولكن سمه محسن، ثم قال إني سميتهم ببني هارون شبر و شبير، يقول: حسن وحسين))(3).
ص: 301
وقد ذكر الرواة والمؤرخون تفاصيل كثيرة عن ثمرة الزواج المبارك وسوف نستعرض بعضاً من رواياتهم، فروى محمد بن عمر الواقدي: ((ولد الحسن بن علي ابن أبي طالب في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة))(1)، وعن سفيان الثوري عن عاصم بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه: ((إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة))(2)، وعن سفيان أيضاً عن أيوب عن عكرمة: ((قال: ذبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً)(3).
أما البلاذري(4) فأورد رواية غير مسندة قال فيها: ((وسمی رسول الله كل واحد من الحسن والحسين يوم سابعه ووزنت فاطمة (عليها السلام) شعرهما فتصدقت بوزنه))، وقد أجادت كتب السير والتراجم في ذكرها لتفاصيل حياة الحسن والحسين وذكر مناقبهم وذكر قربهما من رسول الله ونحن في هذا المورد لا نريد أن نستعرض حياتهما وكيف كانت ولادتهما المباركة، ولكننا بحاجة إلى استعراض جزء من سيرتهما المباركة ولو بشيء من الايجاز.
لقد اهتم رسول الله بالحسنين منذ ولادتهما حيث اشرف على تسميتهما ومن ثم تابع خطوات اجراء السنة عليهما وغيرها من الأمور التي توحي بقربهم الكبير من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد رويت عنه الكثير من الأحاديث التي تبين مكانتها وقربهما منه، فنقل عنه أنه قال لعلي: (اوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد
ص: 302
ولا أنا، أوتیت صهراً مثلي ولم أوتَ أنا مثلك، وأوتيت زوجة صدّيقة مثل ابنتي، ولم أوتَ مثلها زوجة واوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوتي من صلبي مثلهما ولكنكم مني وأنا منكم... وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضا في مسنده وزيادة في لفظه، ياعلي - أعطيت ثلاثاً لم يجتمعن لغيرك - مصاهرتي وزوجك وولديك والرابعة لولاك لما عرف المؤمنون... وقوله لولاك لما عرف المؤمنون معناها مستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((من کنت مولاه فعلي مولاه))(1).
وروي عنه أيضاً أنه قال: ((يا علي لك أشياء ليس لي منها، إن لك زوجة مثل فاطمة وليس لي مثلها، ولك ولدين من صلبك وليس لي مثلهما من صلبي، ولك مثل خديجة أم أهلك وليس لي مثلها حماة، ولك صهر مثلي وليس لي صهر مثلك، ولك أخ في النسب مثل جعفر وليس لي مثله في النسب، ولك مثل فاطمة بنت أسد الهاشمية المهاجرة وليس لي مثلها ))(2).
وقد علق أحد الكتاب (3) على الحديث أعلاه قائلاً: ((وطبيعي أن لا يكون للنبي زوجة أبوها کمحمد سيد الأنبياء وخاتمهم، وطبيعي أيضاً أن لا تكون له زوجة کفاطمة سيدة نساء العالمين، ولكن من الطبيعي أن يكون له أبناء للصلب کالحسن والحسين، كما كان لإبراهيم وغير إبراهيم من الأنبياء (عليهم السلام)).
ص: 303
وقد اتفقت الفرق الإسلامية كلها على أن الحسنين هما ابنا رسول الله بنص القرآن الكريم وكما جاء في آية المباهلة: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ »(1).
وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الحسن والحسين هما ابنا رسول الله، أما نساؤه الوارد ذكرهن في الآية الكريمة يقصد بهن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أما أنفسنا فهو الإمام علي بن أبي طالب وقد أوضح ذلك الكثير من المفسرين(2).
أما الأحاديث الشريفة التي أشارت إلى أن الحسن والحسين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي كثيرة منها على سبيل المثال ((ابناي هذان إمامان إن قاما أو قعدا))(3)، كذلك الحديث الوارد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ((إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم، وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من
ص: 304
طینتي ويلٌ للمكذبين بفضلهم، من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)(1).
والروايات والأحاديث في هذا المورد كثيرة جداً ملأت بطون الكتب إلا أنَّنا نورد ما تيسر كمحل للشاهد على الأبوة من قبل النبي الأكرم للحسن والحسين (عليه السلام) اللذين أراد كتّاب السيرة ورواة الحديث حجب دورهما ومكانتهما من رسول الله حيث عمدوا إلى تجاهل ذلك علناً من خلال عدم ذكرهما في رواية السيرة النبوية کما لاحظنا ذلك من خلال تجاهل ابن هشام وحجبه هذه الصورة، فهو في تهذيبه للسيرة حاول حجب هذا الأمر وأحجم عن نقل رواية ابن إسحاق مع أن رواية الأخير كانت مقتضبة ولا تفي بشيء من مكانة الإمامين الحسن والحسين.
ص: 305
ذكر ابن هشام في السيرة النبوية روايتين في هذا المورد:
الأولى: عن ابن إسحاق بسنده عن عمار بن یاسر قال: ((كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العُشيرة(1)، فلما نزلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقام بها، رأينا أُناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل، فقال علي بن أبي طالب: يا أبا اليقظان، هل لك أن نأتي هؤلاء، فننظر كيف يعملون ؟ قال قلت: إن شئت، قال: فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في سور من النخل، وفيرقعاء من التراب فنمنا، فو الله ما أهبنا إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُحركنا برجله، وقد تتربنا من تلك الرقعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب: مالك يا أبا تراب، لمايري عليه التراب، ثم قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس ؟ قلنا بلی یا رسول الله، قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه – ووضع يده على قرنه - حتى يبل منها هذه، وأخذ بلحيته))(2).
الثانية: قال ابن إسحاق وقد حدثني بعض أهل العلم ((أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما سمّى علياً أبا تراب ؛ أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها ولم يقل لها شيئاً تكرهه، إلا أنه يأخذ التراب فيضعه على رأسه، قال فكان
ص: 306
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة، فيقول مالك يا أبا تراب))(1).
أما الطبري(2) فقد ذكر عن ابن إسحاق روايتي ابن هشام دون أي زيادةونقص وكذلك ذكرهما البيهقي(3) في دلائل النبوة، أما بقية الرواة والمؤرخين، فابن سعد(4) وفي أثناء كلامه عن غزوة ذي العشيرة يذكر ((کنی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب أبا تراب، وذلك أنه رآه نائماً متمرغاً في البوغاء فقال: اجلس یا أبا تراب، فجلس)).
أما أحمد بن حنبل(5) في المسند فروی رواية ابن إسحاق نفسها التي نقلها ابن هشام، أما البخاري(6) فنقل عن سهل بن سعد قوله: ((دخل عليٌ (عليه السلام) على فاطمة ثم خرج فاضطجع في المسجد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أين ابن عمكِ ؟ قالت: في المسجد فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط من على ظهره و خلص التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول اجلس یا أبا تراب)).
أما مسلم(7) في صحيحه نقل رواية البخاري نفسها ولكن زاد عليها قول السيدة
ص: 307
فاطمة الزهراء للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مكان زوجها: ((فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقم عندي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإنسان: انظر أين هو فجاءه ؟ فقال يا رسول الله : هو في المسجد راقد...)) ثم يكمل رواية البخاري نفسها.
وذكر أبو يعلى الرواية نفسها بسند ينتهي إلى الإمام علي باختلاف في المعنى والألفاظ فقال: ((طلبني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجدني في جدول نائماً، فقال: قم ما ألوم الناس يسمونك أبا تراب، قال: فرأى كأني وجدت في نفسي من ذلك، فقال: قم فوالله لأرضيك أنت أخي و أبو ولدي...))(1) ، أما ابن شهر آشوب (2) فقد ذكر الرواية بكيفية مختلفة بسنده عن عمار فقال: ((خرجنا مع النبي في غزوة العشيرة فلما نزلنا منزلاً نمنا فما نبهنا إلا كلام رسول الله لعلي: يا أبا تراب لما رآه ساجداً معفراً وجهه في التراب أتعلم من اشقى الناس؟...)).
ومن خلال ما تقدم من روایات متعددة ومتباينة يمكننا أن نخلص إلى مجموعة
من النتائج:
إن ما ذكره ابن هشام من أن كنية الإمام علي (أبو تراب) جاءت في غزوة ذي العشيرة نتيجة لنومه في التراب، وهذا أمر لا يمكن قبوله لعدم انسجامه مع سيرة
ص: 308
الإمام علي، فالرواية صورته على أنه كان يقضي وقته في غير طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومصلحة المسلمين، فقد صورته الرواية وقد خرج بمهمة جهادية فكيف به يقضي وقته بالنوم، كما أنه عرف بملازمته للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونحن نرى أن المقام الذي وضع فيه الإمام علي من خلال تلك الرواية لا يليق به إطلاقاً حيث ينام في أي مكان والرواية تصوره كأنه ليس بحالة جهاد وغزو في سبيل الإسلام ومن أجل الإسلام(1)، لذلك نستبعد أن يكون سبب الكنية هو ما ورد في الرواية؛ لأنها بعيدة عن الواقع وتقف ورائها دوافع وقصدية واضحة أراد رواتها تصوير الإمام بأنه غير مهتم وغير مكترث بأمور المسلمين، وذلك من أجل إسقاط صورته وتسويقه للناس بأنه شخص عادي تصدر منه أمور کا تصدر من غيره.
وعلى الرغم من استدراکات من وضع الرواية بوضع نبوءة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي في مقتله من قبل أشقى الناس في نهاية الرواية، إلا أن ذلك هدفه هو تقوية الرواية وعدم إضعافها، فالراوي أراد أن ينال من شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبالمقابل يبقي اهتمام الرسول به وسؤاله عنه.
أما الرواية الثانية التي ذكرها ابن هشام عن ابن إسحاق فلا تصمد كثيراً أمام
النقد حيث تتكلم عن شخصية الإمام علي بن أبي طالب بهذا المستوى من التصرف الذي لا يصدر من أبسط الناس، إذ أراد الراوي من خلالها إظهار الإمام علي (عليه السلام) وكأنه شخص غير مؤهل ليكون قريناً للزهراء (عليها السلام)، إذا علمنا أن
ص: 309
الزهراء تعلم علم اليقين من هو علي بن أبي طالب الذي قال فيه رسول الله: ((أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة من أحبك فقد أحبني ومن أبغضك فقد أبغضني وبغيضك بغيض الله والويل لمن أبغضك))(1)، وفي المقابل علي (عليه السلام) يعلم مكانة الزهراء من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث رُوي عن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة : ((إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاكِ))(2)، وهذا يعني أن الاثنين كانا على معرفة تامة بمكانة وقدر كل منهما، من حيث ماهيته وقربه من الله ورسوله، وإيراد روایات كهذه محاولة لتصوير علي وفاطمة بأنهم أناس عاديون وتحصل بينهما خلافات کما تحصل بين بقية الناس مما يرفع القدسية عن تلك العائلة الطاهرة الكريمة، وهذا ما سعى إليه الحكام الأمويون ومن بعدهم العباسيون في سعيهم الحثيث للتقليل من مكانة علي وآل علي (عليه السلام) .
أما رواية البخاري التي أوردناها فيما سبق وهي قريبة للواقع جداً حيث تبين خروج الإمام علي بن أبي طالب إلى المسجد واضطجاعه فيه بدون أي خلاف حصل بينه وبين الزهراء وسؤال النبي عنه وهو وضع طبيعي، إلا أن غير المقبول ما أورده مسلم في نهاية الرواية، إذ صور السيدة فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب في حالة خلاف، ويبدو أن من دس هذه التجنيات على حياة آل البيت كان يهدف إلى تبرير خلاف الزهراء (عليها السلام) مع الشيخين ونقمتها عليهما، وبذلك يحولوا خلافها مع أبي بكر إلى خلاف مع زوجها الإمام علي فيكون هو من كان يغضبها (3).
ص: 310
ورد في الروايات أن كنية أبي تراب كانت أحب کنى الإمام علي إلى قلبه فروي عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: ((أحب أسماء علي إليه أبو تراب. وأنه كان ليفرح أن يدعى بها، وماسماه بذلك إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
وعلى الرغم من ذلك فإن بني أمية وظفوا هذه الكنية للنيل من مكانة الإمام علي وكانوا لا ينادونه إلا بهذه الكنية، وهذا يؤكد أنهم وراء الدس في الروايات، وكان هدفهم التقليل من قيمة شخصية علي بن أبي طالب ونعته بأبي تراب لكي يظهروا إلى الناس أن هذه الكنية لم تأتِ من فضيلة لعلي وإنما جاءت نتيجة لخلافه مع الزهراء فجعلوا الكنية منقصة له(2).
ص: 311
تعد معركة بدر(1) من المعارك الحاسمة في التاريخ وهي تمثل نقطة التحول الحقيقية في مجرى أحداث التاريخ الإسلامي، فقد كانت من المعارك التي حددت مصير الدعوة الإسلامية (2)، إذ كان الانتصار على قريش بجبروتها وخیلائها وعدتها وعددها بداية لبروز القوة الإسلامية وأفول الشرك والطغيان المتمثل بقريش، ولهذه المعركة منزلة عظيمة في القرآن الكريم إذ خصها بمجموعة الآيات منها الآية التي سمى فيها معركة بدر بيوم الفرقان: « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ »(3).
وعند الحديث عن أسباب هذه المعركة المباشرة منها وغير المباشرة يأتي في مقدمتها العامل الاقتصادي الذي كان له الدور الواضح والمميز من حيث ازدیاد عدد المسلمين في المدينة والأزمة المالية التي كان يعاني منها المسلمون لاسيما المهاجرون منهم، وعلى الرغم من قوتهم وتماسكهم لكن الحالة الاقتصادية كانت متردية وكانت
ص: 312
عامل ضاغط ؛ لأن المهاجرينفروا بأنفسهم وعقيدتهم من مكة تارکين كل أموالهم هناك، والأنصار شاركوا المهاجرين في أرزاقهم القليلة، فلا عجب إذا رأينا المسلمين يفكرون جدياً في استخلاص أموالهم من قریش(1)، زيادة على أسباب أخرى منها عسكرية وسياسية وغيرها.
وقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة في السابع عشر من رمضان(2) أو في الثامن عشر منه(3)، وكان عدد المسلمين ثلاثمئة وثلاثة عشر (4) أو ثلاثمئة وأربعة عشر (5)، وكان سببها المباشر هو توجه أبي سفيان بعير قریش مقبلاً من الشام، وهذه العير كانت قد افلتت من المسلمين في ذهابها إلى الشام في غزوة العشيرة. وقد بعث الرسول عيونه وهم طلحة بن عبيد الله(6) وسعيد بن زيد(7) لغرض موافاته في تفاصيل رجوع أبي سفيان وقافلته (8).
ص: 313
وبالفعل عادت هذه العير قافلة إلى مكة وفيها أموال قريش حيث قال الرسول الأكرم مخاطباً المسلمين ويحثهم للخروج لاعتراضها ((اخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها))(1). وقد كان لموقع المدينة الاستراتيجي على الطريق الرابط بين مكة والشام الأثر الواضح في سيطرة المسلمين على طرق التجارة.
أما أبو سفيان فإنه حين دنا من الحجاز أخذ يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان حتى وصل إليه خبر خروج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة وأمره أن يخبرقریش بخبر محمد وأصحابه واعتراضهم للقافلة(2). ثم سار بالقافلة بطريق الساحل وابتعد عن بدر خوفاً من رصد المسلمين وقد سار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه حتى نزلوا قريباً من بدر (3).
وبعد أن نجا أبو سفيان بقافلته وأفلت من قبضة المسلمين أرسل إلى قريش يخبرهم (إنكم خرجتم لتمنعوا عيرکم ورجالكم وأموالكم، فنجاها الله، فارجعوا، فقال: أبو جهل بن هشام والله لا نرجع حتى نرد بدر فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر))(4).
ص: 314
ذكر ابن هشام(1) في السيرة النبوية عن ابن إسحاق ((ودفع اللواء(2) إلى مصعب ابن عمیر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار... قال ابن هشام: وكان أبيض..قال ابن إسحاق وكان أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رایتان سوداوان، إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها العقاب والأخرى مع بعض الأنصار)).
وذكر الواقدي (3) عن أبي إسماعيل بن عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أنيس عن أبيه : ((قال: فمن يومئذ عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الألوية وهي ثلاثة، وأظهر السلاح وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود)) ونحن لا نتفق مع ما ورد في هذه الرواية؛ لأنه من غير المعقول أن يخرج الرسول الأعظم إلى معركة مهمة من دون لواء معقود وهذا مخالف للأعراف العسكرية القائمة آنذاك.
وذكر ابن سعد(4) بسنده عن قتادة بن دعامة ((أن علي بن أبي طالب صاحب لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يوم بدر وفي كل مشهد)).
ص: 315
أما البلاذري (1) فذكر أن ((لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر مع مصعب بن عمير ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر...))، وهذه الرواية تحمل الارتباك نفسه الذي تحمله رواية الواقدي حيث إنه لم يميز بين الراية واللواء وخلط بينهما، زيادة على أنه أغفل تماماً حامل راية المهاجرين في معركة بدر.
أما الطبري(2) فقد ذكر رواية مسندة إلى ابن عباس قال فيها: ((وكان صاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) و صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة...)).
إن ابن هشام لم يحجب هذه الصورة عن الإمام علي، إذ نقل رواية ابن إسحاق التي أشارت إلى أنه كان حاملا للراية في معركة بدر، وهي راية القتال الأساسية على الرغم من صغر سنه قياساً بوجود من هم أكبر منه سناً من المهاجرين، ويؤيد ذلك الرواية التي ذكرها عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن سیار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دینار قال سألت سعید بن جبير فقلت: ((يا أبا عبد الله من كان حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ قال: فنظر الي، وقال: كأنك رخي البال فغضبت وشکوته إلى إخوانه من القراء، فقلت: ألا تعجبون من سعيد أني سألته من كان ح امل راية
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إلي وقال: إنك لرخي البال، قالوا: إنك سألته وهو خائف من الحجاج وقد لاذ بالبيت
ص: 316
فسله الآن فسألته، فقال: كان صاحبها علي (عليه السلام) هكذا سمعته من عبد الله بن عباس))(1)، وقد أيده في ذلك صاحب ذخائر العقبى(2) بأنّ علياً كان حامل راية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدر وفي المشاهد كلها.
إن عزوف بعض الرواة عن الإشارة إلى أن الإمام علياً كان حاملاً للراية يحمل عدة وجهات منها خوفهم من بطش السلطات الحاكمة آنذاك كما لاحظنا في الرواية السابقة عن سعيد بن جبير وخشيته من التصريح من الحجاج، والوجه الآخر هو ميولهم المذهبية والسياسية ومنطلقاتهم الفكرية التي ترفض كل منقبة لعلي بن أبي طالب.
من خلال الإطلاع على ما أوردناه أعلاه لم نجد من ينكر أن الإمام علياً كان هو حامل الراية في تلك المعركة، أو أن هناك شخصاً آخر من المهاجرين من قام بتلك المهمة بل الملاحظ هو تجاهل ذكر الإمام علي وإبعاده عن واجهة الأحداث للتقليل من دوره الكبير في تلك المعركة.
ذكر ابن هشام(3) عن ابن إسحاق ((وكانت إبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ سبعين بعيراً، فاعتقبوها، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله
ص: 317
وسلم) وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد(1) يعتقبون (2) بعيرة، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة وأبو كبشه، وأنس مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتقبون بعيراً، وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيراً)). وعند العودة إلى بقية الرواة والمؤرخين ونقلهم لتلك الرواية نجد أن الواقدي(3) قد نقل رواية ابن إسحاق التي أوردها ابن هشام نفسها غير أنه يقول إن المرافق الثالث للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي ومرثد زید بن حارثة، أما البلاذري(4) فذكر زید بن حارثة محل مرثد بن أبي مرثد.
ذکر ابن هشام(5) في السيرة النبوية رواية ابن إسحاق عن یزید بن رومان عن عروة بن الزبير ((ثم رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه - المقصود هنا عودة الرسول من رحلة استطلاعية في المنطقة قبل بدء المعركة - فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليها، فأصابوابراوية لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعریض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما إلى رسول الله (صلى الله عليه
ص: 318
وسلم) ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلي، فسألوهما، فقالا: من سقاة قريش، بعثونا لنسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما، فلما أذلقوهما(1) قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقال إذا صدقوكم ضربتموهما واذا كذبو کم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش ؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي تراه بالعدوة القصوى (والكثيب العقنفل)، فقال رسول الله لهما كم القوم ؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندري، قال كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القوم بين التسعمائة والألف...)).
أما الواقدي (2) فذكر رواية الاستطلاع التي ذكرها ابن هشام ولكن بألفاظ مختلفة وبمضمون واحد فقال: ((ونزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، فبعث علياً والزبير وسعد ابن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتحسسون على الماء...)) ثم أورد تفاصيل الرواية نفسها ولكنه تحول في روايته إلى وصف حال القرشيين وكيف أصابهم الاضطراب. كما أن أغلب مصادر السيرة النبوية(3) أشارت إلى رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن
ص: 319
هشام(1). وبناءً على ما تقدم يمكن القول:
جميع المصادر التي اطلعنا عليها والتي تختص بالسيرة النبوية ذكرت رواية ابن إسحاق نفسها، وإن الإمام علياً كان في مقدمة السرية التي أنفذها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لغرض الاستطلاع والتي تمكنت من أسر اثنين من رواة قريش والتحقيق معهم وانتزاع معلومات تخص عدد جيش المشركين واماكن تواجده.
إن انتداب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي على رأس السرية الاستطلاعية جاء نتيجة للمؤهلات التي يحملها الإمام علي والتي كان رسول الله على معرفة تامة بها، إذا علمنا من خلال الرواية أن المسلمين لا يعلمون مصير القافلة بعد أن غيرت وجهتها، ومن ثم قد تكون لديهم ردة فعل سلبية إذا ما عرفوا بنجاة القافلة، وهذا يعني أن الرسول الأعظم كان يريد أن يحافظ على سرية المعلومات، لذلك اختاره لأداء هذه المهمة، إلا أن الملاحظ في الرواية أن الذين قاموا بالتحقيق لم يكن بينهم الإمام علي لذلك نراهم لا يحسنون التصرف مع المعلومات المنتزعة الأمر الذي استدعى تدخل الرسول المباشر من أجل تدارك الأمر.
بعد أن أصبحت المعركة أمراً واقعاً لابدَّ منه تقابل الجيشان؛ المسلمون بقيادة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركون بقيادة مجموعة من الزعماء، حيث نقل ابن هشام(2) عن ابن إسحاق قوله: ((وخرج عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الولید بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج
ص: 320
إليه فتية من الأنصار ثلاثة وهم عوف(1) ومعوذ ابن الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر يقال له عبدالله بن رواحة(2)، فقالوا من أنتم ؟ قالوا: رهط من الأنصار ؛ قالوا مالنا بكم حاجة، ثم نادى مناديهم يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قم يا عبيد بن الحارث وقم یا حمزة، وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا من أنتم، قال عبيدة : عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاء کرام، فبارز عبيدة وكان أمن القوم، عُتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الولید بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذفقا عليه، واحتملا صاحبهما فجازاه إلى أصحابه)).
أما بقية الرواة والمؤرخين فقد نقلوا حادثة المبارزة بكيفيات مختلفة فذكر الواقدي(3) بداية المبارزة: ((فخرج عتبة وشيبة والوليد حتی فصلوا عن الصف، ثم دعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار، وهم بنو عفراء معاذ ومعوذ وعوف، بنو الحارث - ويقال ثالثهم عبد الله بن رواحة، ... فاستحى رسول الله
ص: 321
( صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك، وكره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين من الأنصار وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيراً، ثم نادى المشركون: يا محمد، أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، فقام حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف فمشوا إليهم، فقال عتبة تكلموا نعرفكم - وكان عليهم ابيض فأنكروهم - فإن کنتم اكفاء قاتلناكم، فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، قال: عتبة كفؤ کریم، ثم قال: عتبة أنا أسد الحلفاء، ومن هذان معك ؟ قال: علي بن أبي طالب و عبيدة بن الحارث. قال كفآن کریمان...)) ثم يروي تفاصيل رواية ابن هشام نفسها التي ذكرناها عن ابن إسحاق إلا أنه ينقل محاورة رسول الله مع عبيدة، فقال: عبيدة يا رسول الله، ألست شهیداً ؟ قال بلى، قال: أما والله لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بها قال منه حيث يقول:
كذبتم وبيت الله نخلي محمداً*** ولما نطاعن دونه ونناضلِ
ونسلمه حتی نصرّع حوله*** ونذهل عن ابنائنا والحلائل
ونزلت هذه الآية«هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ »(1) أما الطبري (2) فقد أورد رواية ابن إسحاق نفسها إلا أنه ينقل المحاورة التي جرت بين رسول الله وعبيدة وتمثل أبي عبيدة ببيت أبي طالب الوارد في الرواية التي ذكرناها .
ص: 322
إن رواية المبارزة التي أوردها ابن هشام عن ابن إسحاق واضحة متواترة ولا
یکاد أي كتاب من كتب السيرة يخلو منها؛ لأنها كانت فاتحة النصر في بدر.
الرواية واضحة المعالم وفيها دلالة قوية على بروز إمكانات الإمام علي (عليه السلام) القتالية وقدرته الكبيرة على صناعة النصر حيث كان ثبات علي وحمزة وعبيدة مفتاح النصر في بدر، وقد أعطت دافعاً معنوياً كبيراً للمسلمين رغم قلة العدد والعدة.
أورد البغوي(1) عن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري (رحمه الله) أنه كان يحلف بالله أن الآية الكريمة «هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ »نزلت في ستة نفر من قریش تبارزوا یوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث و عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وقال الإمام علي (عليه السلام) : ((أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة))، وفي هذه الرواية دلالة واضحة على مباركة السماء للمبارزة بين الإمام علي وحمزة وعبيدة وخصومهم من المشركين فتكريماً وتعظيماً من الله تعالى أنزل فيهم قرآن وقد تواترت كتب التفسير والحديث (2) في إيراد أسباب نزول تلك الآية في
ص: 323
تلك الحادثة وبحق الثلاثة المبارزين يوم بدر ومنهم علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ورود إشكالية واضحة بين رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن هشام وبين رواية الواقدي حول مقدمات المبارزة، إذ ذكر الواقدي أن الثلاثة من الأنصار عندما عرضوا أنفسهم للمبارزة: ((استحی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك وكره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين من الأنصار وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه...))، وهذا يخالف رواية ابن إسحاق التي ذكرنا تفاصيلها والتي جاء فيها أن الطلب كان من مشركي قريش بإبدال المبارزين بأكفائهم من قریش، وقد رجح ابن أبي الحديدالمعتزلي(1) رواية ابن إسحاق ؛ لأنها أشهر من رواية الواقدي فقال: ((إن منادي المشركين نادي: يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا، فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء وكلموهم وردوهم، لما نادى مناديهم بذلك، ويدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخرٍ به عليه: ((أنا من قوم لم یرضَ مشرکوهم أن يقتلوا مؤمني قومك)).
لقد أبلى الإمام علي بلاءً معروفاً في معركة بدر لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، ولا نبالغ إذا قلنا إن أحد عوامل النصر الرئيسة كان سيف الإمام علي وجهاده، وقد تناولت الروايات هذا الجهاد بصور مختلفة، وقبل أن ندخل في عدد القتلى الذين لقوا حتفهم بسيف الحق سیف علي لابدَّ أن نتعرض لما نقله ابن هشام في عدد قتلى بدر،
ص: 324
فقال(1): ((فجميع ما أحصي لنا من قتلى قريش يوم بدر خمسون رجلاً))، إلا أنه وفي المورد نفسه ذكر ((أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلاً، والأسرى كذلك، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وفي كتاب الله تبارك وتعالى «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا »(2) يقول لأصحاب أحد - وكان استشهد منهم سبعون رجلاً - يقول: قد أصبتم يوم بدر مثلما من استشهد يوم أحد))(3)، ثم ذكر من قتلهم الإمام علي في يوم بدر ((وقتل من المشركين يوم بدر من قريش ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: حنظلة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، قتله زید بن حارثة، مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيما قال ابن هشام؛ ويقال اشترك فيه حمزة وعلي وزيد، فيما قال ابن هشام... والعاص بن سعید بن العاص بن أمية قتله علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية ابن عبد شمس قتله عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح... قال ابن هشام ويقال: قتله علي بن أبي طالب... قال ابن إسحاق وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس قتله عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب... قال ابن هشام: اشترك فيه هو وحمزة وعلي... قال ابن إسحاق ... والولید بن عتبة بن ربيعة قتله علي بن أبي طالب وعامر بن عبد الله. .. قتله علي بن أبي طالب. ..)(4)، وهؤلاء جميعاً من بني أمية بن عبد شمس، ثم ذكر من قتل من بني نوفل بن عبد مناف فقال: ((وطعيمة بن عدي بن نوفل قتله علي ابن أبي طالب، ويقال حمزة بن عبد المطلب ... ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، قال ابن هشام: قتله ثابت بن الجذع، أخو بني
ص: 325
حرام، فيما قال ابن هشام ؛ ويقال: اشترك فيه حمزة وعلي بن أبي طالب وثابت... وعقيل بن الأسود بن المطلب، قتله حمزة وعلي، اشتركا فيه فيما قال ابن هشام... ونوفل بن خویلد بن أسد، وهو ابن العدوية، عُدي خزاعة، وهو الذي قرن أبا بكر الصديق، وطلحة بن عبيد الله حين أسلما بحبل، فكان يسميان القرينين لذلك، وكان من شياطين قريش وقتله علي بن أبي طالب.. ومن بني عبد الدار بن قصي: النظر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن مناف بن عبد الدار، قتله علي بن أبي طالب صبراً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصفراء فيما يذكرون... قال ابن إسحاق: ومن بني تيم بن مرة: عمیر بن عثمان بن عمرو بن کعب بن سعد بن تیم قال ابن هشام: قتله علي بن أبي طالب، ويقال عبد الرحمن بن عوف ... وحرملة بن عمرو - حليف بني تيم بن مرة - قال ابن هشام قتله خارقة بن زيد بن أبي زهير، أخو بحارث بن الخزرج؛ ويقال: بل علي بن أبي طالب، فيما قال ابن هشام... وقال ابن إسحاق ؛ و مسعود بن أبي أمية بن المغيرة قتله علي بن أبي طالب - فيما قال ابن هشام - وقال ابن إسحاق وابو الفاكه بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب، ويقال قتله عمار بن یاسر فيما قال ابن هشام... وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة بن عابد، قتله علي بن أبي طالب فيما قال ابن هشام... قال ابن إسحاق والذي قتل حاجب بن سائب علي ابن أبي طالب، ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن کعب بن لؤي... العاص ابن منبه بن الحجاج، قتله علي بن أبي طالب وأبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد ابن سهم - قال ابن هشام - قتله علي بن أبي طالب، ويقال النعمان بن مالك القولي ويقال أبو دجانة، وقال ابن إسحاق وأوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح، قتله علي بن أبي طالب. ومن بني عامر بن لؤي: معاوية بن عامر، حليف لهم من عبد القيس قتله علي بن أبي طالب، ويقال قتله عكاشة بن محصن، فيما قاله ابن هشام)).
ص: 326
ما أوردناه فقط الذي قُتل بسيف علي بن أبي طالب أو اشترك في قتله حيث كان عددهم واحداً وعشرين شخص من مجموع خمسين حسب ما ذكر ابن هشام في روايته التي أوردها في السيرة النبوية.
إلا أن ابن هشام بعد إيراده للقتلى ومن قتلهم يذكر أن رواية ابن إسحاق التي تقول سبعين قتيلاً من مشركي قريش يوم بدر ويكملهم بالتعداد فقط دون ذکر من قام بقتلهم ...
وقد ذكر الواقدي (1) قتلى بدر ((فجميع من أُحصي قتله تسعة وأربعون رجلاً منهم من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وشرك في قتل اثنين وعشرين رجلاً)).
أما البلاذري (2) فذكر أن عدد قتلى بدر من مشركي قريش تسعة وأربعون شخصاً، وقد قتل علي بن أبي طالب منهم واحداً وعشرين شخصاً.
وذكر القاضي النعمان المغربي (3) تفاصيل من قتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم بدر بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث بلغ عددهم ثلاثة وعشرين شخصاً فقال: ((فهؤلاء المعدودون من قتل قريش يوم بدر ممن ثبت أن علياً عليه السلام قتلهم وغير من لم يقف على صحيح قتله إياه ومن أثبتته جراحه، فمات...)).
أما المفيد(4) فيورد قائمة لمن قتلهم علي بن أبي طالب يوم بدر وعددهم خمسة
ص: 327
وثلاثون رجلاً، فيما ذكر الطبرسي(1) أن عددهم ستة وثلاثون شخصاً.
وبالعودة إلى ما ذكره ابن هشام عن الذين لقوا حتفهم على يد الإمام علي نسجل على روايته مجموعة من الملاحظات:
عند ملاحظة رواية ابن هشام في الذين قتلهم الإمام علي (عليه السلام) يوم بدر نراه لا يعتمد كلياً على رواية ابن إسحاق على عكس منهجه في السيرة، فكان له دور واضح في تغييرها وإضافة آرائه الشخصية، فمثلاً عندما ذکر قتل حنظلة بن أبي سفيان، قال: إن من قتله زید بن حارثة وبعد ذلك استدرك وقال اشترك فيه حمزة وعلي وزيد، لكنه لا يعطي سندا ولا يسند رأيه إلى أحد مجرد كلمة (يقال) ، وهذا يناقض رواية جابر عن الإمام الباقر عن أمير المؤمنين عليهما السلام قال: ((لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم وقد قتلت الولید بن عتبة، إذ أقبل إلي حنظلة بن أبي سفيان فلما دنا مني ضربته بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض قتيلا))(2).
الارتباك واضح في روايته فيذكر عدد القتلى من المشركين خمسين قتيلاً ثم في الصفحة نفسها ذكر عن أبي عبيدة عن أبي عمرو أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلاً، والأسرى كذلك ثم يورد قول ابن عباس وسعيد بن المسيب ولم يذكر أنه نقل له ذلك عن ابن إسحاق؛ لأنه المصدر الرئيس لرواية ابن هشام وبعد ذلك يوضح قائمة بأسماء الذين لم يذكرهم ابن إسحاق في روايته ليكون عدد قتلى المشركين سبعين رجلاً.
المهم عند قراءة ما أورده ابن هشام في هذا المورد نلاحظ عدم الوضوح والضبابية
ص: 328
في إيراد المعلومات، ولعل القصد كان واضحاً وهو التغطية على الصورة الحقيقية لأثر الإمام في تلك المعركة، وتسويق الأمر بأنه من الأمور الاعتيادية حيث لاحظنا كثيراً ما يشرك مع علي أشخاصاً عند روايته قتل أي شخص من دون أن يقدم لنا سندا لما يقوله.
وإن كانت رواية ابن هشام التي ذكرها لنا أقل الروايات حديثاً عن الذين قتلهم الإمام علي يوم بدر إلا أنه عند النظر إليها يبقى الإمام علي في مقدمة المقاتلين وأبرزهم وأكثرهم بلاءً.
إن وقفة علي بن أبي طالب يوم بدر وجهاده بين يدي رسول الله وإكثاره من القتل في صفوف المشركين، نتج عنه عدد من القتلى کما قدمنا توزع هؤلاء على بطون قريش ولم يبق بطن منهم إلا وناله سيف علي بن أبي طالب، وهذا ما أورثه عداوة أهل النفاق من قريش وغيرها من الذين قتل أولياءهم في ذات الله عز وجل، وقد دفع علي و آل علي تلك الضريبة من مواقعهم ومن دمائهم وغيرها من الأمور وبالمقابل نلاحظ أن كبار الصحابة ومن الذين اشتركوا في معركة بدر يخشون التصريح بذلك لكي لا تكون لهم عداوة مع عشيرتهم، فذكر ابن أبي الحديد المعتزلي(1) ((أن عثمان بن عفان وسعيد بن العاص حضرا عند عمر أيام خلافته، فجلس سعید بن العاص حجرة فنظر إليه عمر، فقال: مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ! إني لم اقتله، ولكن قتله أبو الحسن ! وكان علي (عليه السلام) حاضراً. فقال اللهم غفرا ! ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما قبله، فلماذا تهاج القلوب ! فسکت عمر، وقال سعيد: لقد قتله كفؤ کریم، وهو أحب إلي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف)).
ص: 329
الملاحظ إحجام المؤرخين ومنهم الطبري، وابن الجوزي، وابن الأثير وغيرهم
عن ذكر أي تفاصيل لقتلى بدر على الرغم من أن الطبري(1) أفرد لمعركة بدر أكثر من ثمانٍ وخمسين صفحة في تاريخه مما يدل على أهمية تلك المعركة وهذه هي القصدية التي نتحدث عنها في حذف أو التغاضي عن مناقب الإمام علي (عليه السلام) .
وقد ذكر ابن هشام(2) أبياتاً من الشعر للإمام علي قالها يوم بدر يرويها عن ابن
إسحاق إلا أنه قال: ((لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها ولا نقضها...))
ألم ترَ أن الله أبلی رسوله*** بلاء عزيزٍ ذي اقتدار وذي فضلِ
بما أنزل الكفار دار مذلة*** فلاقوا هواناً من إسار ومن قتلِ
فأمسى رسول الله قد عز نصره*** وكان رسول الله أرسل بالعدل
فجاء بفرقان من الله عز وجل*** مبينة آياته لذوي العقل
فآمن أقوامٌ بذاك وأيقنوا*** فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل
وأنكر أقوامٌ فزاغت قلوبهم*** فزادهم ذو العرش خبلاً إلى خبل
وأمكن منهم يوم بدرٍ رسوله*** وقوماً غضاباً فعلهم أحسن الفعل
بأيديهم بیضٌ خفافٌ عصوبها*** وقد حادثوا بالجلاء وبالصقل
فكم تركوا من ناشئ ذي حمية*** صريعاً ومن ذي نجدة منهم کھل
تبیت عيون النائحات عليهم*** تجود بإسبال الرشاش وبالوبل
نوائح تنعى عتبة الغي وابنه*** وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل
وذا الرجل تنعي وابن جدعان*** فيهم مسلبة حُري مبينة النكل
ص: 330
الإمام علیٌّ (علیه السلام) في معرکة أُحد(1)
لما أَصيب کفار قریش يوم بدر ورجع جيشهم المهزوم إلى مكة، وعاد أبو سفيان ابن حرب بالقافلة سالمة، ذهب عبد الله بن أبي ربيعة(2)، وعكرمة بن أبي جهل (3) وصفوان بن أمية(4) في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر(5) إلى أبي سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك القافلة تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد و ترکم وقتل رجالکم وخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصاب منا(6)، وبعد تلك المناشدات وافقت قریش کما ذكر الواقدي (7) ((قال أبو سفيان: قد طابت أنفس قريش بذلك ؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا الموتور الثائر قد قتل ابني حنظلة وأشراف قومي... فباعوا ما كان بذهب العين وتجهزوا به، وقال بعضهم: إنهم
ص: 331
تجهزوا بأرباح ما فيها، وكانوا يربحون للدينار دینار وبعثوا إلى أربعة نفر من قریش وهم عمرو بن العاص وهبيرة بن وهب(1) المخزومي، وابن الزبعرى(2)، وابو عزة الجمحي(3) ، فساروا في العرب يستنجدونهم ويستنصرونهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أبو العزة كنانياً، امتنع من النفوذ لما وجهوه، وقال كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فضل علياً حيث أطلقني يوم بدر بعد أن اسرت بلا
فداء (4).
فخرجوا يؤلبون القبائل لحرب المسلمين، وقد دعا جبير بن المطعم غلاماً له يقال له وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها فقال اخرج مع الناس فإن قتلت عم محمد فأنت عتيق (5)، وقد خرجت قريش وحلفاؤها وقد أخرجوا معهم الظعن(6) التماس الحفيظة وأن لا يفروا، وخرجت من قريش ثلاث آلاف بمن ضوى
ص: 332
إلى قريش، قادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمئة دارع ومعهم ثلاثة آلاف بعير))(1).
فلما سمع رسول الله والمسلمون أنهم قد نزلوا حيث نزلوا(2)، شكل مجلساً عسكرياً استطلع فيه آراء المسلمين في كيفية مجابهة العدو، وأعلنت الشخصيات البارزة وعدد من كبار الأنصار وعبد الله بن أبي أن الرأي هو البقاء في المدينة واتخاذ موقف دفاعي داخل المدينة، في حين كان رأي الشبان الذين لم يشهدوا بدراً وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار مثل حمزة هو أن تجري مجابهة العدو خارج المدينة (3) وقد اختلفت الآراء بين مؤيد للخروج ومن يريد البقاء داخل المدينة حيث قال عبد الله بن أبي وقومه یا رسول الله: ((لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في ازقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح فما أردانا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا وما خرجنا على أعدائنا قط إلا كان الظفر لهم، فقام سعد بن معاذ رحمه الله وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد ونحن مشرکون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا وأنت فينا، نخرج، إليهم فمن قتل منا شهيد))(4).
ص: 333
وفي النهاية أمر رسول الله بالخروج فقالوا: نرجع ولكن رد عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل))(1)، فكانوا ألف رجل فلما كانوا بعض الطريق انخذل عنهم عبد الله ابن أبي بثلث الناس(2). ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل الشعب في أُحد في عروة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد فقال لا يقاتل أحد حتی آمره بالقتال وقد تعبأ رسول الله وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة عبد الله ابن جبير(3) والرماة خمسون رجل وقال له انضح الخيل عنا بالنبل حتى لا يأتوننا من خلفنا إن كان لنا أو علينا(4).
ذكر ابن هشام(5) في السيرة النبوية وفي هذا المورد ثلاث روایات متسلسلة: الأولى عن ابن إسحاق قال فيها: ((وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى قتل وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمد، فلما قُتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله اللواء إلى علي بن أبي طالب، وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين)).
ص: 334
أما الرواية الثانية فينقلها ابن هشام عن مسلمة بن علقمة المازني ((لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت راية الأنصار وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن قدم الراية - فتقدم علي، فقال: أنا أبو الفصم ويقال أبو القصم(1) - فيما قال ابن هشام - فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم من البراز حاجة ؟ قال نعم فبرز بين الصفين، فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه، ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عنه الرحم وعرفت ان الله عز وجل قد قتله))(2).
والرواية الثالثة لم يسندها ابن هشام لأحد ((ويقال إن أبا أسعد بن أبي طلحة خرج بين الصفين فنادى أنا قاصم من يبارز برازاً، فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار، كذبتم واللات، لو تعلمون ذلك حقاً لخرج إلى بعضكم، فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا في ضربتين فضربه علي، فقتله))(3).
ومن خلال الروايات الثلاث نستطيع القول إن ابن هشام أورد روايته الأولى قبل إيراده أي شيء من بدء المعركة، فذكر روايته الأولى قبل أن يذكر بدايات المعركة فكان إيراده لتفاصيل المعركة يشوبه الارتباك وعدم الوضوح، وعندما أورد مبارزة الإمام
ص: 335
علي مع أبي أسعد بن أبي طلحة لم يذكر متى حصلت تلك المبارزة هل هي في بدايةالمعركة أو أي وقت منها ؟
وقد اختلف عن ابن إسحاق مؤلف السيرة النبوية الأصلي الذي تحدث عن بداية المعركة بالقول: ((فاقتل الناس حتی حمیت الحرب وقاتل أبو دجانة سماك بن خرشه حتى أمعن في العدو، وحمزة وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين فأنزل الله نصره وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتی کشفوهم، وكانت الهزيمة لا يشك فيها - يعني هزيمة المشركين ثم يكمل روايته – لقد رأيتني أنظر إلى حرم هند بنت عتبة وصويحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير...))(1) يعني بداية المعركة كان النصر والغلبة للمسلمين بفضل جهود الثلاثة المذكورين في الرواية أعلاه.
ومن أجل أن نتعرف على حقيقة الأمر وإكمال الصورة لابدَّ أن نطلع على ما كتبه بقية الرواة والمؤرخين عن أثر الإمام في المعركة، فذكر الواقدي (2) وهو يتحدث عن عقد الألوية ((ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير (3)، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب ابن المنذر بن الجموح(4) - ويقال إلى سعد بن عبادة - ودفع لواء المهاجرين إلى علي
ص: 336
ابن أبي طالب (عليه السلام) ، ويقال إلى مصعب بن عمير)).
ثم بعد ذلك ذكر مسیر رسول الله إلى أحد حتى ينتهي به المقام في المكان الذي حصلت به المعركة، وذكر أنه لما سوى الصفوف سأل من يحمل لواء المشركين ؟ قيل له بنو عبد الدار : ((قال: نحن أحق بالوفاء منهم. أين مصعب بن عمير ؟ قال: ها أنا ذا، قال: خذ اللواء، فأخذه مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)))(1).
ثم تعرض لتوزيع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للجيش إلى أن ينتهي بالقول: ((وصاح طلحة بن أبي طلحة، من يبارز ؟ فقال علي (عليه السلام) : هل لك في البراز ؟ قال طلحة: نعم فبرز بين الصفين، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس تحت الراية عليه مغفرة وبيضة، فالتقيا فبدره على فضربه على رأسه فمضى السيف حتى فلق هامته حتى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة وانصرف علي (عليه السلام) ، فقيل لعلي: ألا ذففت عليه ؟ قال: لما صرع استقبلني عورته فعطفني عليه الرحم، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى سيقتله - وهو كبش الكتيبة... ويقال: حمل عليه طلحة، فالتقاه علي بالدرقة فلم يصنع سيفه شيئاً وحمل عليه علي (عليه السلام) وعلى طلحة درعٌ مشمرة، فضرب ساقيه فقطع رجليه، ثم أراد أن يرفق عليه فلما قتل طلحة سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهر التكبير، وكبر المسلمون)).
ثم روى الواقدي کيفية مقتل أصحاب اللواء التسعة من بني عبد الدار واحداً
ص: 337
بعد الآخر ويختم روايته بأنَّ الإمام علياً قتل اثنين منهم (1)، وأورد ابن سعد(2) تفاصيل رواية الواقدي نفسها لكن بصورة مختصرة لا تؤثر على سياقها.
أما البلاذري (3) فقال في روايته: ((وسوّی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صفوف المسلمين وأقامها إقامة القدح، وحثهم على الصبر واليقين والجد والنشاط ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب ثم سأل عن لواء المشركين، فقيل دفع إلى طلحة بن أبي طلحة، فقال: نحن أحق بالوفاء، فدفعه إلى مصعب بن عمير العبدري...)) ولم يذكر مبارزة علي بن أبي طالب في بداية المعركة وقتل حملة الالوية .
وفي رواية أحمد بن المفضل عن اسباط عن السدي التي أوردها الطبري (4) ((ثم أن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين، قام فقال: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منك أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو تعجلني إلى الجنة)) ثم أورد قتل صاحب اللواء على يد الإمام علي کما وردت عند الواقدي. كما أورد الطبري(5) رواية ابن إسحاق نفسها التي أوردناها حول بداية المعركة التي يبين فيها فرار المشركين وكذلك فرار هند وصويحباتها.
ص: 338
أما موسی بن عقبة في روايته عن ابن شهاب الزهري التي نقلها البيهقي(1) قال: ((فلما عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه عهده في القتال وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة - يعني طلحة بن عثمان - هل لك يا عاصم في المبارزة ؟ قال: نعم، فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله... فلما صرع صاحب اللواء ابتشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة، فجاسوا العدو ضرباً حتى اجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلاً...)).
يبدو من هذه الرواية أن صاحبها تعمد إخفاء اسم الإمام علي كونه حامل راية المهاجرين واكتفى بالقول إنه رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وبعد استعراضنا لما ورد من روايات حول حمل الراية وبداية المعركة يتضح ما يلي:
ذكر ابن هشام من خلال روايته الواردة في صدر الفقرة بعد مقتل مصعب بن عمير أن الرسول أعطى الراية إلى علي بن أبي طالب، وهذا يتفق مع ما ذهب إليه بقية الرواة من أن راية المهاجرين كانت يومئذ مع مصعب بن عمير حيث لا يتعارض ذلك مع كون الراية كانت في البداية مع علي بن أبي طالب إلا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) دفع الراية إلى مصعب مراعياً بذلك الاعراف القبلية السائدة آنذاك، وهذا لا يختلف مع ما ذكر في مورد سابق بأنَّ راية رسول الله في كل المشاهد كانت مع علي
ص: 339
ابن أبي طالب ؛ لأنها عادت إليه ثانيةً، إلا أن رواية عبد الله بن مسعودالتي نقلها المفيد(1) ((قال: ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواء المهاجرين إلى علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وجاء وقام تحت لواء الأنصار)) إلا أنه لم يشر في روايته إلى تسليم الراية بعد ذلك إلى مصعب بن عمير ولعله أشار في ذلك إلى بدايات عقد الراية، إلا أن رسول الله بدا له أمر في إعطائها إلى مصعب وهذا لم يقلل من شأن علي ابن أبي طالب الذي عادت إليه الراية ثانية بعد استشهاد مصعب بن عمير.
لم يورد ابن هشام أي تفاصيل لبداية المعركة فقد ذكر تفاصيلها في تقديم وتأخير للرواية، بحيث ضاع التسلسل الزمني لروايات المعركة فتراه يبدأ برواية استشهاد مصعب بن عمير ثم ذكر روايات أخرى، غير أن ابن إسحاق صاحب السيرة ذكر تسلسلاً واضحاً للمعركة إذ بدأ بالرواية الآتية ((فاقتتل الناس حتى حميت الحرب وقتل أبو دجانة سماك بن خرشه حتى أمعن في العدو، وحمزة، وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين، فأنزل الله نصره وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى کشفوهم وكانت الهزيمة لا يشك فيها))(2).
إلا أن ابن هشام يورد الرواية أعلاه عن ابن إسحاق ((ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتی کشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها))(3). والملاحظ أن هناك فرقاً بين الروايتين لأن ابن هشام اقتطع الأسماء الواردة في الرواية وأوردها بصيغة العموم ولم يخص بها أحداً على خلاف ابن إسحاق صاحب الرواية الفعلي.
ص: 340
كما أن ابن إسحاق لم يذكر مبارزة الإمام علي في بداية المعركة التي ذكرها ابن هشام وغيره من الرواة أمثال الواقدي وغيره، وهذا يدعونا إلى الشك بأنَّ هناك قصداً واضحاً في هذه الضبابية بين الاثنين، فابن هشام من جهة أظهر الروايات التي تتحدث عن المعركة بصورة مرتبكة غير منظمة وابن إسحاق اقتطع أهم ما في المعركة وهو بدايتها بالمبارزة بين الإمام علي وبين حامل لواء المشركين الذي اختلف الرواة في ذكره.
ومن خلال ما تقدم نجد أن هناك ثلاث تسميات وردت في الروايات لحامل اللواء فابن هشام ذكر في السيرة انه أبو سعد بن أبي طلحة والواقدي ذكر طلحة بن أبي طلحة والطبري ذكر أن اسمه عثمان بن أبي طلحة، وكل هذه الروايات متفقة على أن الإمام علياً هو من قتل صاحب لواء المشركين، وهذا يدعونا إلى القول إن الإمام علياً لم يقم بقتل حامل لواء واحد، وإنما أكثر من واحد ويؤكد هذا رواية الطبري(1) التي نقلها بسند ينتهي إلى عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن جده التي قال فيها: ((لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله (صلى الله علیه و آله وسلم) جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: أحمل عليهم، فحمل عليهم، فتفرق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي... قال: ثم أبصر رسول الله جماعة من مشركي قریش، فقال لعلي: أحمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جماعتهم، وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي، فقال جبریل: یا رسول الله إن هذه المواساة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه مني وأنا منه، فقال جبریل: وأنا منکا، قال فسمعوا صوتاً: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)).
کما يؤيد ما ذهبنا إليه من قتل الإمام علي لأصحاب الألوية الرواية المنقولة عن
ص: 341
الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الباقر عن آبائه (عليهم السلام) ((وكان أصحاب اللواء يوم أحد تسعة قتلهم علي عن آخرهم، وانهزم القوم...))(1).
إن ما تقدم من ارتباك واضح في نقل رواية معركة أحد جعل الصورة مشوشة
بدرجة كبيرة، الأمر الذي يدعونا إلى القول إن القضية مقصودة، الهدف منها صرف الأنظار عن بطل المعركة الحقيقي الإمام علي، إذا علمنا أن كبار الصحابة لم يكن لهم أي نصيب من البطولة في ذلك اليوم، إلا أن هناك من يورد إشکالاً حول ذكر ابن هشام للمناداة التي ذكرها الطبري في الرواية أعلاه لكن الكيفية التي ذكرت فيها المناداة تختلف صورتها عما ذكرها الطبري، فقال ابن هشام(2) حدثني بعض أهل العلم عن عبد الله بن أبي نجيح ((قال: نادی منادٍ يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)) فهو هنا لم يورد المناسبة التي قيل بها كما ذكرها الطبري وبذلك يقتطع جزءاً مهماً من الصورة.
لقد كانت الغلبة للمسلمين في بداية المعركة لكن نزول الرماة الذين أمرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبقاء في موقعهم الذي حدده لهم وعدم ترکه مکّن خالد بن الوليد من الالتفاف على جيش المسلمين فضلاً عن انشغال المسلمين في جمع الغنائم(3)، وكذلك الإشاعة التي بثها المشركون بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل، هذه العوامل مجتمعة أسهمت في هزيمة المسلمين وتفرقهم عن
ص: 342
الرسول إلا مجموعة صغيرة منهم(1).
ومن خلال قراءتنا لسيرة ابن هشام وما يتعلق بالمورد الخاص بثبات المسلمين في معركة أحدنقل عن ابن إسحاق قوله(2) : ((و انکشف المسلمون، فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدُث(3) بالحجارة حتى وقع الشقة، فأصيبت رباعيته وشج في وجهه، وكلمت شفته وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص... ووقع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، وهم لا يعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بید رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً، ومسح مالك بن سنان وأبو أبي سعيد الخدري الدم عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...)).
روی ابن هشام(4) بسنده عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن کعب بن مالك لما شاع خبر مقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((نادیت بأعلى صوتي، يا معشر المسلمين هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما عرف المسلمون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر ... وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن
ص: 343
العوام رضوان الله عليهم، والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين... فلما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملا درقته ماءً من المهراس فجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم...)).
وذكر ابن هشام(1) عن ابن إسحاق بعد انصراف المشركين من المعركة ((ثم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب، فقال اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنَّهم. قال علي، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة)).
أما الواقدي(2) فقال: ((وثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو في عصابة صبروا معه، أربعة عشر رجلاً سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وابو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار الحباب بن المنذر وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنیف، و أسيد بن حضير، ويقال: ثبت سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة... وبايعه يومئذ ثمانية على الموت ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار: علي، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنیف، فلم يقتل منهم أحد)).
ص: 344
وذكر اليعقوبي(1) انهزام المسلمين في معركة أحد ((حتى بقي رسول الله وما معه إلا ثلاثة نفر: علي، والزبير، وطلحة...)).
أما البلاذري (2) فذكر الذين ثبتوا مع رسول الله بعد انهزام المسلمين يوم أحدهم أنفسهم الذين ذكرهم الواقدي في رواية أعلاه إلا أنه يضيف إليهم عمر بن الخطاب ليصبح عددهم خمسة عشر.
أما القاضي النعمان المغربي (3) فذكر ((وبقي علي صلوات الله عليه وحده بين يديه فقال له امض يا علي. فقال إلى أين أمضي يا رسول الله ؟ ارجع کافراً بعد أن أسلمت ؟ وكانت کرادیس المشركين تأتيهما فيحمل رسول الله صلوات الله عليه وآله على بعض ويقول لعلي: أحمل أنت على هؤلاء الآخرين، فيكشفان من أتاهما ويرداهم بعد أن يبليا فيهم، وكان منها صلوات الله عليها يومئذ ما لم يكن أحد قبلهما مثله حتی کشف الله عز وجل المشركين وهزمهم بهما وانصرف عامة المسلمين إلى المدينة يقولون: قتل محمد وعلي، وارجف الناس بذلك ولم يروا إلا أنه قد كان... ثم أقبل علي صلوات الله عليه على رسول الله صلوات الله عليه وآله فغسل وجهه مما به من دم، وأقبل معه)).
ونقلت بعض المصادر رواية عن محمد بن مروان عن عبارة عن عكرمة قال: ((سمعت علياً (عليه السلام) يقول: لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب
ص: 345
بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أرَه، فقلت: ما كان رسول الله ليفر، وما رأيتهُ في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سیفي، وقلت في نفسي لأقاتلنَّ به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه، فنظر إلي وقال ما صنع الناس يا علي ؟ فقلت: كفروا یا رسول الله، وولوا الدبر من العدو، وأسلموك. فنظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي: رُد عني يا علي هذهِ الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربهما يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار، فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما تسمع يا علي مديحك في السماء، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه وتعالى على نعمته))(1).
من خلال استعراض الروايات نلاحظ أنها أكدت على أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الثابت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد بعد أن فرَّ عنه الناس مع اختلاف الرواة فمن ثبت معه من المسلمين، ومسألة ثبات على مجمع عليها إلا أن الشيء المختلف هو صورة ذلك الثبات وكيفيته ولابد من مناقشة ذلك:
أورد ابن هشام مسألة ثبات علي بن أبي طالب لكن مع شيء من الضبابية وعدم الوضوح حيث لم ينقل لنا تفاصيل المعركة بشكل متسلسل و حسب سير أحداثها، فهو ينقل بقاء الرسول لوحده بعد إصابته وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه من الحفرة التي وقع فيها وبمساعدة طلحة بن عبيد الله، إلا أنه يعزف تماماً عن رواية المعركة وكيف كانت تفاصيلها، فيما ذكرت مصادر أخرى (2) أثر الإمام وبلاءه في
ص: 346
الدفاع عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمناداة الصادرة من السماء (لا سیف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي)، نعم هو ذكر المناداة ولكنه لم يذكرها في موردها الدال عليها إنما ذكرها في نهاية روايته المعركة أحد(1)، ويعد هذا جزءاً من اقتطاع ابن هشام للصورة الحقيقية لأثر الإمام علي يوم أحد، وهذا الأمر رواه مجموعة من الرواة والمؤرخين والمحدثين وهو مشهور جداً، وقد عبر ابن أبي الحديد المعتزلي (2) عن هذا الأمر بالقول: ((قد رواه جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة، ووقفت عليه بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق، ورأيت بعضها خالياً عنه وسألت شيخي عبد الوهاب بن سکينة ت (607ه - 1210م) رحمه الله عن هذا الخبر، فقال: خبر صحيح، فقلت: ما بال الصحاح لم تشتمل عليه ؟ قال : أوكلما كان صحيحاً تشتمل علیه کتب الصحاح ؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة)).
نقل ابن هشام حال الصحابة بعد فرارهم من المعركة وتركهم للقتال، ففي رواية
ص: 347
ابن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع التي رواها ابن هشام في السيرة ((انتهى أنس بن النظر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك))(1).
إن حال الصحابة کما تحكيه لنا هذه الرواية كان يتلخص بأن تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيداً في المعركة إلا علي بن أبي طالب الذي دافع عنه ونصره وردَّ عنه الأعداء کما بیّنا، بعدها رجع مجموعة من الصحابة إلى الرسول بعد انحيازه إلى الشعب لكنهم لم يشهدوا الدفاع عنه، وفي هذا الباب ذكر الطبري (2) ((وكان الناس انهزموا عن رسول الله حتى انتهى بعضهم إلى المنقى(3) الأعوص: موضع في المدينة على بضعة عشر ميلاً منها. ينظر البكري الاندلسي، معجم من استعجم، ج 1، ص 173.(4) دون الاعوص، وفر عثمان وعقبة بن عفان وسعد بن عثمان - رجلان من الأنصار - حتى بلغوا الجعلب (5) جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص - فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال لهم لقد
ص: 348
ذهبتم بها عريضة)).
إلا أن الطبري وفي تفسيره يسند الرواية أعلاه إلى ابن إسحاق عندما يأتي إلى تفسير الآية «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ...»(1) وهذا ما نناقشه لاحقاً.
وكذلك ذكر ابن الأثير(2) في أسد الغابة رواية فرار عثمان بن عفان أيضاً مسندة إلى محمد بن إسحاق ويروي تفاصيل رواية الطبري نفسها.
إذا فرار الصحابة وتركهم رسول الله أمر واقع وصائر إلا أن ذلك كان بصور مختلفة فمنهم من ترك القتال وتنحى جانباً كما جاء برواية ابن هشام التي ذكر فيها عمر بن الخطاب وغيره من المهاجرين والأنصار، ومنهم من ترك حدود المعركة وذهب إلى مناطق بعيدة جداً كما فعل عثمان بن عفان وغيره.
لكن لم تشر المصادر إلى تنحي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن القتال وترکه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما بقي ملازماً ومدافعة عنه.
وقد نزل القرآن في قضية هزيمة المسلمين وتركهم ساحة المعركة حيث قال
تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ »(3)، فقد ذكر المفسرون (4) أنها نزلت فيمن ترك المعركة يوم أحد وهو توبیخ سماوي لهؤلاء الذين تركوا المعركة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ص: 349
عند النظر إلى رواية ابن هشام التي ذكرناها والتي تبين نهاية المعركة وانصراف المشركين منها وطلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإمام علي تتبع أخبارهم ومن ثم إخباره بوجهتهم، نجد أنه أمر طبيعي جداً بعد هزيمة المسلمين ووقعها النفسي الكبير عليهم، إذ لم يستطع أي منهم أن يقوم بهذه المهمة إلا من ثبت في داخل الميدان ودافع عن الرسول، ففي رواية ابن إسحاق التي ذكرها الطبري(1) ((ثم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وماذا يريدون ؟ فإن كانوا اجتنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم فيها، ولأناجزنَّهم، قال علي فخرجت في آثارهم انظر ماذا يصنعون؟ فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أي ذلك كان فاخفهِ حتى تأتيني، قال علي (عليه السلام) : فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح، ما أستطيع اكتم الذي أمرني به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بي من الفرح، إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة)).
وعند المقارنة بين رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن هشام والتي ذكرها الطبري نلاحظ أن نهاية الرواية فيها دس غير مقبول وهو فرح الإمام علي الذي قاده إلى الصياح بصوت مرتفع مخالفاً ما قاله الرسول له من كتم الأمر، ولعل من روى عنه الطبري أراد من ذلك أن يظهر شخصية علي بن أبي طالب كحال المنهزمين الذين تركوا القتال وخالفوا رسول الله في كل شيء، فهو أيضاً أراد أن يظهر أن الإمام علياً (عليه السلام) مخالف لأوامر رسول الله في ذلك الموقف لكي يجعل هناك توازناً
ص: 350
لكتاباته التاريخية، وقد ناقش أحد الباحثين (1) هذا الموضوع ونقده للإضافة الواردة في نهاية الرواية حيث عد ذلك يتعارضاً مع تاریخ وسيرة الإمام علي بن أبي طالب وامتثاله للأوامر وقد أورد المواقف البطولية لعلي في الدفاع عن الإسلام ورسوله أو في تنفيذ أوامر الرسول الأكرم وفي مواقف صعبة جداً مثل المبيت في فراشه وغيرها، إلا أنَّنا نختلف مع الباحث في أمر تلك الإضافة من قبل الطبري فقد ذكر أن ابن هشام قد یکون اختصرها من ضمن ما اختصر وهذب من السيرة ولكن نعتقد أن الإضافة صدرت من الطبري نفسه ولم تكن موجودة أصلاً في السيرة لأن ابن هشام أقدم من الطبري وبذلك يمكن الميل إلى صحة رواية ابن هشام عن تلك الحادثة.
روی ابن هشام(2) عن ابن إسحاق ((فلما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه یا بنية، فو الله لقد صدقني اليوم، فناولها علي بن أبي طالب سيفه، فقال: وهذا أيضاً، فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنیف و أبو دجانة. قال ابن هشام: وكان يقال لسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ذو الفقار (3)) وذكر الطبري (4)
ص: 351
رواية ابن إسحاق نفسها لكنه يضيف إليها شعر علي بن أبي طالب وزعموا أن علياً حين أعطى فاطمة سيفه وقال:
أفاطم هاك السيف غير ذميم*** فلست برعديد ولا بمليم
العمري لقد قاتلت في حب أحمد*** وطاعة ربٍ العباد رحیم
وسيفي بكفي كالشهاب اهزه*** أجذبه من عاتق وصمیم
فازلت حتى فض ربي جموعهم*** وحتى شفينا نفس كل حلیم
وذكر ابن أبي الدنيا(1) عن محمد بن عباد بن موسى العكلي عن كثير بن هاشم عن عیسی بن معروف قال: ((قال سعيد بن المسيب قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربعة نفر من صناديد قريش أحدهم طلحة بن أبي طلحة ثم جاء بالسيف إلى فاطمة فقال:
أفاطم هاك السيف غير ذميم*** فلست برعديد ولا بلئيم
العمري لقد جاهدت في نصر أحمد*** ومرضاة رب العباد عليم
أريد ثواب الله لا شيء غيره*** ورضوانه في جنة ونعيم
أحمت بن عبد الدار كي اعرفته*** بذي رونق يغري العظام صمیم
وكنت امرءاً أسموإذا الحرب شمّرت*** وقامت على ساق كل مليم
فغادرته بالجر ارفض جمعه*** عبادید من ذي فائظ وكليم
وقد يتضح من خلال روایات تلك الأبيات أنها من الأشعار المحذوفة التي عمدابن هشام إلى حذفها حيث رویت في مصادر كثيرة(2).
ص: 352
تعد هذه المعركة من المعارك المهمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وتكتسب أهميتها من الأعداد الكبيرة التي جمعها مشرکو مكة من قريش ومن تحالف معها من قبائل عربية ويهود فلذلك يمكن النظر إليها بأنها واحدة من حلقات الصراع العسكري بين المسلمين وقريش، فالحرب معلنة بين الطرفين ولا حاجة لتلمس الأسباب الرئيسة الوقوع القتال (1).
ويمكن عدها صفحة مشرقة في تاريخ جهاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) صاحب المواقف والمناقب الكثيرة ولكن على الرغم من كثرتها نرى إحجام المؤرخين وأصحاب السير عن بعضها، وهذا ظلم اعتاد الكثير من الرواة عليه عند تعاملهم مع مناقب الإمام، ويبدو أن السلطات الحاكمة كان لها دورٌ ضاغطٌ على من كتب السيرة النبوية لتوجيهها الوجهة التي يرغبها الحاكم وما تقتضيه مصلحته السياسية آنذاك.
ص: 353
أما بدايات هذه المعركة ففي السنة الخامسة للهجرة(1)، سارع عدد من اليهود إلى مكة واستنفروا أهلها لقتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اخبروهم بأنهم سوف يكونون معهم لاستئصال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين (2)، وكان سببها المباشر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجلى يهود بني النظير من المدينة إلى خيبر، فتجمعت الأحزاب في جيش هائل قوامه عشرة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان بن حرب (3)، وقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للقائهم بثلاثة آلاف من المسلمين(4). ولما عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هدفهم ومبتغاهم هو استئصال المسلمين اتخذ الخندق حول المدينة ليكون فاصلاً بينهم وبين العدو وقد أشار عليه في ذلك سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)(5).
وبذلك أصبحت المعركة على وشك الوقوع والمسلمون محاصرون من كل جهة وعظم البلاء واشتد الخوف وضيق على الذراري والنساء وكانوا كما قال تعالى: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا » (6)، وروى ابن هشام(7) عن ابن إسحاق انه قال: ((ثم تیمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين
ص: 354
الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تنعق نحوهم، وكان عمرو بن ودّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً لیری مکانه، فلما وقف هو وخیله قال: من يبارز ؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمر إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى أحدى خلتين إلا أخذتها منه: قال له أجل، قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال: فإني أدعوك إلى النزال، فقال له:لمَ يا بن أخي ؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني والله أحب أن اقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا فقتله علي عليه السلام، وخرجت خيلهم منهزمة، حتی اقتحمت الخندق هاربة قال ابن إسحاق:
وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه*** ونصرتُ ربَّ محمدٍ بصوابِ
فصددتُ حين تركته متجدلاً*** کالجذع بین دکادك وروابي
وعففتُ عن أثوابه ولو أنني*** كنتُ المقطر بزَّني أثوابي
لا تحسبنَّ الله خاذل دینه*** ونبيه يا معشرَ الأحزاب
وبالعودة إلى رواية ابن إسحاق التي نقلها الطبري(1) فإنه ذكر تفاصيل الرواية نفسها التي ذكرها ابن هشام، إلا أن الملاحظ أن الطبري لم يذكر أبيات الشعر التي قالها الإمام علي عند مبارزته لعمرو بن ود العامري في حين ذكرهن ابن هشام.
ص: 355
وقد ذكر البيهقي(1) رواية ابن إسحاق عن مبارزة علي بن أبي طالب وعمرو ابن ود العامري بالقول: (وخرج عمرو بن ود العامري فنادى: من يبارز؟ فقام علي (عليه السلام)، وهو مقنع بالحديد أظنه عمراً فقال: أنا لها يا نبي الله، فقال: إنه عمرو اجلس، ونادى عمرو: ألا رجل وهو يؤنبهم ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون إلي رجلاً ؟ فقام علي فقال: أنا یا رسول الله، فقال: اجلس ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححت من النداء*** بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع*** موقف القرن المناجز
ولذلك أني لم ازل ***متسرعاً قبل الهزائز
إن الشجاعة في الفتی*** الجود من خیر الغرائز
فقام علي، فقال: يا رسول الله أنا، فقال: إنه عمرو، قال: وإن كان عمراً... فأذن
له رسول الله، فمشى إليه، حتى أتاه وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتا***ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نیة وبصيرة*** والصدق منجی کل فائز
إني لأرجو أن أقي*** م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يب*** قى ذكرها عند الهزاهز
فقال له عمرو: ومن أنت ؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف، فقال: علي بن أبي طالب، فقال: غيرك يابن أخي ومن أعمامك من هو أسن منك، فأنا أكره أن أريق دمك، فقال علي: لكني والله ما أكره أن أريق دمك، فغضب، فنزل وسل سیفه
ص: 356
كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضباً، واستقبله علي (عليه السلام) بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدّها، وأنبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل العاتق فسقط، وثار العجاج، وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التكبير، فعرف أن علياً قد قتله، فتم علي (عليه السلام) يقول:
أعليٌّ تقتحم الفوارس هكذا*** عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي*** ومصمم بالرأس ليس بنابي
فذكر أبيات آخرهن :
عبد الحجارة من سفاهة عقله*** وعبدتُ ربَّ محمدٍ بصواب
ثم أقبل عليٌّ (عليه السلام) نحو رسول الله ووجهه يتهلل. فقال عمر بن الخطاب: هلا سلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منه، فقال ضربته فاتقاني بسواده فاستحيت ابن عمي ان استلبه، وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق).
أما ما ذكره بقية الرواة والمؤرخين، فقد نقل الواقدي(1) رواية مشابهة لرواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام وأيضاً تشبه في تفاصيلها إلى حدِّ ما رواية ابن إسحاق التي نقلها البيهقي باختلاف بسيط بالألفاظ. إلا أن الصورة التي ينقلها الواقدي من خلال روایته تختلف عما نقله ابن هشام وتتطابق إلى حد كبير من ما نقله البيهقي، فهو يذكر عبور فرسان الأحزاب وهم عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن ود، وقام سائر المشركين من
ص: 357
وراء الخندق لا يعبرون ((وقيل لأبي سفيان ألا تعبر ؟ قال: قد عبرتم فإن احتجتم إلينا عبرنا. فجعل عمرو بن ود يدعو إلى البراز ويقول:
ولقد بححت من النداء*** بجمعكم هل من مبارز
وعمرو يومئذ ثائر قد شهد بدراً فارتث جريحاً فلم يشهد أحداً وحرم الدهن حتى يثأر من محمد وأصحابه، وهو يومئذ كبير يقال بلغ التسعين سنة. فلما دعا إلى البراز قال علي: أنا أبارزه یا رسول الله : ثلاثاً والمسلمون كأنه على رؤوسهم الطير، لمكانة عمرو وشجاعته، فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه وعممه وقال اللهم أعنه عليه: قال وأقبل عمرو يومئذ فارساً وعلي راجلاً فقال له علي (عليه السلام) : إنك كنت تقول في الجاهلية لا يدعوني وأحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها: قال: أجل قال علي فإني أدعوك أن تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله وتسلم لله رب العالمين. قال: یابن أخي آخر هذه عني، قال: فأخرى ترجع إلى بلادك، فإن كان محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تريد، قال: وهذا ما لا تتحدث به نساء قریش ابداً، وقد نذرت ما نذرت وحرمت من الدهن، قال: فأما الثالثة: قال البراز، قال: فضحك عمرو وقال: إن هذه خصلة ما كنت أظن أحداً من العرب يرومني عليها ولكني أكره أن أقتل مثلك، وكان أبوك نديماً لي فارجع، فأنت غلام حدث، إنما أردت شيخي قريش أبا بكر وعمر، قال: فقال علي (عليه السلام): فإني أدعوك إلى البراز فأنا أحب أن أقتلك فأسف عمرو ونزل وعقر فرسه... فكان جابر يحدث يقول: فدنا أحدهما من صاحبه فثارت بينهما غبرة فما نراهما، فسمعنا التكبير تحتها فعرفنا أن علياً قتله، فانكشف أصحابه الذين في الخندق هاربين...)).
ص: 358
أما البلاذري(1) فقال: ((وكانت طلائع المشركين تطيف بالمسلمين رجاء أن يصيبوا منهم غرة، فربما تراموا بالنبل والحجارة. واجتمع المشركون يوماً، فالتمسوا أن يهجموا خيلهم على المسلمين، فأكرهت جماعة منهم خيلهم، فعبرت الخندق وكان فيهم عمرو بن ود بن أبي قيس، من بني عامر بن لؤي، فبارزه علي (عليه السلام) فقتله. ويقال: إنه جرح علياً على رأسه، ويقال: إن علياً لم يجرح قط. ونجا أصحاب عمرو إلا رجلاً سقط في الخندق فتكسر، ورماه المسلمون حتى مات)).
وذكر اليعقوبي (2) ((فلما كان اليوم الخامس خرج عمرو بن ود وأربعة نفر من المشركين نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب الفهري و هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فخرج علي بن أبي طالب إلى عمرو ابن عبدود فبارزه وانهزم الباقون، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسه فلحقه علي فقتله)).
وبعد عرضنا لهذه الروايات لابدَّ من أن نسجل ملاحظاتنا عليها:
من خلال قراءة رواية ابن إسحاق التي نقلها لنا ابن هشام نلاحظ أنه صوّر الأمر وكأنه حدث طبيعي يحدث في الحروب وقد برز صورة عمرو وعلي بعدّهما من شجعان قريش وذكر مكانتهما، ثم ذكر حادثة المبارزة التي انتهت بقتل عمرو بن ود العامري وهروب من كان معه ، إلا أن قراءة رواية ابن إسحاق التي أوردها البيهقي نجد أنها اشتملت على تفاصيل أدق تبين مكانة الإمام علي ودوره البارز في هزيمة الأحزاب من خلال مبارزته لعمرو بن ودّ الذي أخذ يؤنب المسلمين ويدعوهم إلى
ص: 359
القتال فلم يستجب إليه إلا علي بن أبي طالب، فعمرو بن عبدود كان يمثل رمزية عالية للمشركين، وقد مثّل قتله بداية لهزيمتهم وتفرق جموعهم، کما نقل البيهقي شعر وارتجاز عمرو بن ود وهذا لم نلاحظه عند ابن هشام، ثم سماح الرسول لعلي بالمبارزة بعد أن أعادها ثلاثاً على رسول الله، ويذكر أبيات ارتجاز الإمام علي عندما خرج لمبارزة عمرو بن ود العامري، فهو هنا من خلال نقله لرواية ابن إسحاق تتجلى فيها صورة البطولة والإقدام لعلي بن أبي طالب واستجابته لنداء المبارزة الصادر من عمرو بن ود، لكن ابن هشام(1) ذكر في مورد آخر: ((وحدثني الثقة أنه حدث عن ابن شهاب الزهري أنه قال:قتل علي بن أبي طالب يومئذ- يعني يوم الخندق - عمرو بن ود وابنه حسل بن عمرو))، ولم يعطِ أي تفاصيل مقتل ابن عمرو.
أما رواية الواقدي في هذا المورد التي ذكرناها فإنها تنقل الحادثة بصورة أكثر وضوحاً وفيها إبراز الموقف الإمام علي البطولي وبالمقابل موقف المسلمين والصحابة من تلك المبارزة حيث ذكر عدم استجابتهم وكأن على رؤوسهم الطير، وهذا ينطبق تماماً على ما ذكره المفيد(2) أيضاً في رواية يونس بن بکیر عن ابن إسحاق، إذ أورد التفاصيل نفسها التي ذكرها الواقدي في روايته مع اختلاف بسيط في الألفاظ التي لا تؤثر على المعنى.
إن أهمية تلك المبارزة تأتي من أنها أحد الأسباب المباشرة لهزيمة المشركين بجيوشهم الكبيرة التي حاصرت المدينة وجعلت الخوف يدب في نفوس المسلمين كما وصفها الله تعالى في كتابه: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
ص: 360
زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا » إلى قوله تعالى: « وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا »(1). إن منازلة علي (عليه السلام) لعمرو بن ود العامري وقتله فاتحة النصر وتغير في موقف المسلمين حيث قویت قلوبهم، وعلموا أن المشركين قد يئسوا أن يعبروا الخندق عليهم، ووقع اليأس والخوف في المشركين، ونفذت أزوادهم، واختلفت آراؤهم في المقام والانصراف (2).
وقد ذكر أحد الكتاب (3) الأسباب التي أدت إلى هزيمة المشركين وعدم حاجة المسلمين إلى القتال وهي أربعة أسباب: ۔ أ- دعاء النبي وابتهالة إلى الله تعالى أن يدفع الأذى عن الإسلام وأهله.
ب- قتل الإمام علي بن أبي طالب لعمرو بن ود العامري، وانکسار الجيش بعد تلك الحادثة وقوة شوكة المسلمين ورفع معنوياتهم.
ج- إشارة سلمان الفارسي على رسول الله بحفر الخندق الذي كان مانعاً للمشركين وحاجزاً لهم بحيث لم يكن التحام مباشر فيما بينهم.
د. الريح العاتية التي سلطها الله تعالى على جيوش المشركين.
إن مبارزة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمرو بن ود العامري وقتله إياه لم تكن حدثاً عابراً وحادثة واقعة في معارك التاريخ وإنما حالة لها خصوصياتها، فقد أورد ابن أبي الحديد المعتزلي(4) رأي أبي جعفر الإسكافي في رده على الجاحظ حول
ص: 361
فضيلة علي بن أبي طالب وموقف الرسول لمّا ابرز علي بن أبي طالب واشفاقه عليه ودعاؤه له بالحفظ والسلامة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((يوم الخندق وقد برز علي إلى عمرو، ورفع يديه إلى السماء بمحضر أصحابه: اللهم إنك أخذت حمزة يوم أحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم علياً، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ؛ ولذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مراراً، في كلها يحجمون ويقدم علي، فيسأل الإذن بالبراز حتى قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه عمرو. فقال: وأنا علي. فأدناه وقبّله وعمّمه بعمامته وخرج معه خطوات کالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه، ثم لم يزل (صلى الله عليه وآله وسلم) رافعاً يديه إلى السماء، مستقبلاً لها بوجهه، والمسلمون صامتون حوله كأنما علىاً رؤوسهم الطير، حتى ثارت الغبرة، وسمعوا التكبير من تحتهما، فعلموا أن علياً قتل عمراً، فكبّر رسول الله وكبّر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين. لذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قسمت فضيلة علي (عليه السلام) بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عباس في قوله تعالى « وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ » (1) (2) قال: بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وكذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما برز علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الخندق إلى عمرو بن ود ((برز الإيمان كله إلى الشرك كله))(3)،
ص: 362
وليس من شكِّ أن عمراً كان كل الشرك ؛ لأنه رأس المشركين و قائدهم وعلي يمثل الإيمان، فيكون الحد الفاصل بينهما هو علي وعمرو، فأما أن يقتل علي عمراً فينتهي الشرك من بلاد العرب، ويمحي معه كل معارض للإسلام وإما أن يقتل عمرو علياً فيذهب الإسلام والإيمان وينتصر الشرك وتكون كلمته العليا(1).
إن خصوصية معركة الخندق والجيوش التي أحاطت بالمسلمين في تلك المعركة لها أبعادها الكبرى حيث كان للمبارزة بين علي وعمرو الأثر الواضح في النصر المؤزر، وإلا كان الهدف هو القضاء على الإسلام والمسلمين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإمام علي بن أبي طالب ليس مجهولاً من قبل عمرو بن عبدود العامري، فالإمام علي كان معروفاً بشجاعته وبأسه وصبره في المعارك وقريش تعرف هذا الأمر، وهذا ما أكده ابن أبي الحديد(2) عندما قال: ((كان شيخنا أبو الخير ابن مصدق(3) بن شبيب النحوي يقول: عندما نذكر مبارزة الإمام علي مع عمرو بن وديوم الخندق، والله ما أمره بالرجوع إبقاءً عليه بل خوفاً منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأحد، وعلم إن ناهضه قتله، فاستحيا أن يظهر الفشل، فأظهر الإبقاء والإرعاء)).
أورد ابن هشام في السيرة (4) عن ابن عباس أبياتاً لحسان بن ثابت في شأن مبارزة
ص: 363
عمرو بن ود وقتله:
أمسى الفتى عمرو بن ود يبتغي***بجنون يثرب شاره لم يُنظر
فلقد وجدت سيوفنا مشهورةً*** ولقد وجدت جيادنا لم تقصر
ولقد لقيت غداة بدرٍ عصبةً*** ضربوك ضرباً غير ضرب الحسرِ
أصبحت ألا تدعي ليومٍ عظيمةٍ*** يا عمرو أو الجسيم أمر منکرِ
وقد قال ابن هشام وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان، ويقال : إنه لما بلغ شعر حسان بني عامر أجابه فتى منهم، فقال يرد عليه في افتخاره بالأنصار:
كذبتم وبيت الله لم تقتلونا*** ولكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى*** بكف علي نلتم ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمرو بن ود ببأسكم*** ولكنه الكفُ الهزبرُ الغضفر
علي الذي بالفخر طال بناؤه*** فلا تكثروا الدعوى علينا فتفخروا
ببدرٍ خرجتم للبراز فردكم*** شيوخ قریش جهرةً وتاخروا
فلما أتاهم حمزة وعبيدة*** وجاء علي بالمهند يخطرُ
فقالوا نعم أكفاء صدق فأقبلوا*** إليهم سراعاً إذ بغوا وتجبروا
فجال علي جولة هاشمية*** مذمرهم لما عتوا وتكبروا
فليس لكم فخرٌ علينا بغيرنا *** وليس لكم فخر یُعد ویذکرُ(1)
إن وقائع الخندق وما حصل بها من سبب مباشر هزيمة الأحزاب لم يبرزه ابن هشام في السيرة النبوية وإنما كان ذكره لذلك الحدث دون اهتمام وتميز ونقل لنا صورة
ص: 364
عنه لا ترقى إلى مستواه.
غزوة بني قريظة(1)
لما رجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخندق دخل بيت عائشة(2) فاغتسل وغسل رأسه ودعا بالمجمرة(3) ليجمر وقد صلى الظهر (4) حتى أتی جبرائیل معتمراً بعمامة من استبرق وعلى بغلة فأخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسير إلى بني قريظة لنقضهم العهود والمواثيق (5) فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منادياً، فأذّن في الناس وعلى كل سامع ومطيع أن لا يصلي العصر إلا في بني قريظة(6).
وكان الغرض من هذه الحملة تأديب من خان العهد ونقض الميثاق، وقد ذكر ابن هشام(7) عن ابن إسحاق في هذا المورد ((وقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب برایته إلى بني قريظة وابتدرها الناس، فسار علي بن أبي طالب حتی دنا من الحصون سمع مقالة قبيحة تمسُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله
ص: 365
وسلم) ، فرجع حتى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطريق، فقال یا رسول الله لا عليك أن تدنوا من هؤلاء الأخابيث قال لمَ ؟ أظنك سمعت منهم لي أذى ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حصونهم، قال يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وانزل بكم نقمته ؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا...)).
وفي رواية أخرى قال ابن هشام: ((وحدثني بعض من أثق به من أهل العلم أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرون بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام، وقال: والله لأذوقنَّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنَّ حصنهم، فقالوا: يا محمد، ننزل على حكم سعد بن معاذ (1))) (2). ونقل الطبري (3) رواية ابن إسحاق نفسها کما جاءت عند ابن هشام من دون زيادة أو نقصان.
أما الواقدي (4) فقد ذكر الرواية الآتية: ((فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) فدفع إليه اللواء، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه
ص: 366
من الخندق...)) ثم ذكر مسير الرسول الأكرم مع جيشه، إلى أن انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني قريظة فنزل على بئر (1) أسفل حرة بني قريظة، وكان علي (عليه السلام) قد سبق في نفر من المهاجرين والأنصار فيهم أبو قتادة.
كما ذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن أسيد بن أبي أسيد عن أبي قتادة قوله: ((انتهينا إليهم فلما رأونا أيقنوا بالشر، وغرز علي (عليه السلام) الراية عند أصل الحصن فاستقبلونا في صياصيهم يشتمون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه قال أبو قتادة: ومكثنا وقلنا: السيف بيننا وبينكم، وطلع رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فلما رآه علي (عليه السلام) رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمرني أن الزم اللواء فلزمته، وكره أن يسمع رسول الله يُشتم)).
وذكر البلاذري (2) غزوة بني قريظة بشكل مختصر جداً لم يذكر أي تفاصيل... أما اليعقوبي (3) فقال: ((فلما انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً، فقال له: قدّم راية المهاجرين إلى بني قريظة، وقال وعزمت عليكم ألَّا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وركب حماراً له، فلما دنا منهم لقيه علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله لا تدنُ، فقال: أحسب أن القوم أساؤوا القول، فقال : نعم يا رسول الله...)).
ولدى مناقشة الموضوع على ضوء ما أورده ابن هشام من روایات نقلاً عن ابن
ص: 367
إسحاق وغيره وكذلك بقية الرواة يمكن ملاحظة مايلي:
أبرز ابن هشام صورة الإمام علي على أنه صاحب الراية في معركة الخندق،
وكذلك أمر الرسول الأكرم له بأن يسير بها إلى بني قريظة إلا أنه لم يوضح كيف كانت حركته إلى بني قريظة، وفي هذا المورد روى المفيد(1) ((ولما انهزم الأحزاب وولوا عن المسلمين الدبر عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قصد بني قريظة، وأنفد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إليهم في ثلاثين من الخزرج فقال له: انظر بني قريظة، هل تركوا حصونهم ؟ )) بمعنى أن سرية علي بن أبي طالب لم تكن مكلفة بمهمة قتالية وإنما كانت مهمتها استطلاعية فقط، ثم يكمل المفيد(2)، الرواية بالقول: ((فلما شارف سورهم سمع منهم الهجر، فرجع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال: دعهم فإن الله سیمكن منهم، إن الذي أمكنك من عمرو بن ود لا يخذلك، فقف حتى يجتمع الناس إليك و أبشر بنصر الله... قال علي (عليه السلام) فاجتمع الناس إلىّ وسرت حتی دنوت من سورهم فأشرفوا علي فحين رأوني صاح صائح منهم قد جاءكم قاتل عمرو، وقال آخر: قد أقبل إليكم قاتل عمرو، وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك وألقى الله في قلوبهم الرعب وسمعت راجزاً يرجز:
قتل عليٌّ عمراً*** صاد عليٌّ صقراً
قصم عليٌّ ظهراً*** أبرم عليٌّ أمرا
هتك عليٌ ستراً.
إن رواية المفيد أوضحت الأمور بصورة كبيرة إذ بينت أن المهمة كانت استطلاعية
ص: 368
لأجل إعلام الرسول بحال بني قريظة ؛ لأنهم نكثوا العهد مع رسول الله ومهدوا الطريق للأحزاب للدخول إلى المدينة، هذا ما لم نلاحظه في رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام.
أما رواية ابن هشام الثانية فهي تبين حالة علي بن أبي طالب كقائد ميداني لجيش المسلمين وإن كانت مختصرة إلا أنها تبين أن إمكانات وقدرة وشجاعة علي بن أبي طالب هي التي جعلت بني قريظة ينزلون على حكم سعد بن معاذ.
و تسمى أيضاً بغزوة المريسيع(1) وهي من الغزوات المهمة والحاسمة وذات بعد استراتيجي من الناحية العسكرية حيث إنها وجهت ضربة قاضية لقريش و نفوذها؛ لأن بني المصطلق يقعون ضمن دائرة النفوذ المكي والانتصار عليهم يعني توجيه ضربة قوية لنفوذ الشرك المتمثل بقریش(2).
ففي السنة السادسة للهجرة (627م)(3)، بلغ رسول الله (صلى الله عليه و آله
ص: 369
وسلم) أن بني المصطلق يجمعون له(1)، وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار، وقد تهيأوا لحرب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هم ومن قدم عليهم من العرب وتجهزوا بالخيل والسلاح، وأعدوا العدة للمسير إلى رسول الله (صلى الله علیه و آله وسلم) (2)، فخرج إليهم حتى لقيهم عند ماء من مياههم يقال له: (المريسيع) فتزاحف الناس واقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم بني المصطلق وقيل: قتل منهم ونفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابناءهم ونساءهم وأموالهم (3).
وجاء في رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام(4) ((وأصيب من بني المصطلق يومئذناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين، مالكاً وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم، يقال له أحمر أو أحيمر)).
وذكر الطبري (5) رواية ابن إسحاق نفسها فقال: ((وأصيب من بني المصطلق يومئذ كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً و ابنه، وأصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم سبياً كثيراً، ففشا قسمه في المسلمين، ومنهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم))، وأحجم بقية المؤرخين عن ذكر أي رواية بهذا الخصوص، فقد تطرقوا إلى تلك الغزوة إلا أنهم لم يذكروا تلك الرواية التي نقلها ابن هشام ومن بعده الطبري ومنهم الواقدي والبلاذري، واليعقوبي وغيرهم.
ص: 370
وعند النظر إلى رواية ابن إسحاق التي نقلها لنا ابن هشام في السيرة النبوية ورواية ابن إسحاق التي نقلها الطبري وإن كانت رواية مقتضبة إلا أن الملاحظ أن هناك زيادة أوردها ابن هشام حيث يذكر ((قتل عبد الرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم يقال له أحمر أو أحيمر))، بينما الطبري عندما يورد الرواية لم يذكر تلك الزيادة وإنما يسترسل في الحديث لبيان إصابة الرسول للسبي منهم، إضافة إلى أن من ضمن السبي جويرية وهذا يجعلنا نرجح رواية المفيد(1) التي قال فيها: ((فقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلين من القوم وهما مالك وابنه، وأصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم سبياً كثيراً فقسمه على المسلمين...)) ، ولم نلحظ فيها أي ذكر هنا للزيادة التي ذكرها ابن هشام على رواية ابن إسحاق علماً أنها تشتمل على المضمون نفسه،ويبدو أن هناك تعمداً من قبل ابن هشام في حشر اسم عبد الرحمن بن عوف من أجل التقليل من قيمة النصر الذي تحقق على يد الإمام (عليه السلام) .
أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت فيه: ((كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها معه خرجت معه، فكانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن فخرج بي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: وكان النساء ذاك يأكلن العلق لم يهجهن(1) اللحم فيثقلن وكنت إذا رُحل لي بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين يرحلون لي و يحملوني، فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه، فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به. قالت: فلما فرغ رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) من سفره ذلك، وجه قافلاً، حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً، فبات بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجاتي، وفي عنقي عقدي، فيه جزع ظفار فلما فرغت أنسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، و جاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون إلى البعير وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر وما فيه من داع ولا مجيب فقد انطلق الناس.
قالت فالتففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدت الرجعوا إلي، قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن المعسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف علي، وقد كان يراني قبل أن يضرب عليه الحجاب، فلما رآني، قال إنّا لله وإنّا إليه
ص: 372
راجعون ضعينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ! وأنا ملتفة في ثيابي، قال: ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت: فما كلمته ثم قرب البعير، فقال: اركبي واستأخر عني قالت: فركبت وأخذ برأس البعير، فانطلق سریعاً يطلب الناس، فو الله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك)).
ثم ذكرت بأنها اشتكت شكوى شديدة ولم يبلغها من ذلك شيء وقد أنكرت تعامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها وبعد ذلك انتقلت إلى أمها ولا علم لها بشيء مما كان حتی نقهت من وجعها بعد عشرين ليلة وخرجت في الليل لقضاء حاجتها مع أم مسطح خالة أبي بكر فأخبرتها بقصة الإفك وحديث الناس فيه... ثم ذكرت بعد ذلك موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشكواه ممن قام بهذه القصة حيث قال: ((أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق ؟ والله ما علمت منهم إلا خيراً)))(1).
ثم ذكر الذين قالوا بحديث الإفك وهم: ((كل من عبد الله بن أبي سلول في المدينة وكذلك مسطح(2)، وحمنة بنت جحش (3) ؛ وذلك لأن اختها زينب بنت جحش عند رسول الله ...))(4)، وهذا ملخص ما ذكر حول قصة الإفك كما ورد عند
ص: 373
ابن هشام.
أما فيما يتعلق بدور الإمام في هذه الحادثة فذكر ابن هشام(1) بالسند نفسه الذي ينتهي إلى السيدة عائشة: ((فدعا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأسامة بن زيد(2) فاستشارهما - یعنی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فأما أسامة فأثنى عليه خيراً ثم قال يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذب الباطل، أما علي فإنه قال: يا رسول الله إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة (3) ليسألها، قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب، فضربها ضرباً شديداً، ويقول: اصدقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قالت: فتقول والله ما أعلم إلا خيراً وما كنت أعيب على عائشة، إلا أني كنت أعجن عجيني، فأمرها تحفظه فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله)).
وذكر الطبري (4) رواية ابن إسحاق نفسها التي نقلها لنا ابن هشام فيما يخص استشارة رسول الله لعلي بن أبي طالب وأسامة بن زيد في قضية الإفك وفي رأيهما
ص: 374
بعائشة دون أي زيادة أو نقصان.
أما الواقدي(1) فذكر عن يعقوب بن يحيى بن عباد عن عیسی بن معمر، عن عباد ابن عبد الله بن الزبير قال قلت لعائشة: حدثينا يا أمة حديثك في غزوة المريسيع وقد ذكرت الحديث الذي ذكرنا أعلاه إلى أن يصل إلى تدخل الإمام علي بالموضوع فقال: ((قالت: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً وأسامة فاستشارهما في فراق أهله. قالت: وكان أحد الرجلين ألين قولاً من الآخر، قال أسامة: یا رسول الله، هذا الباطل والكذب، ولا نعلم إلا خيراً، وإن بريرة تصدقك، وقال علي (عليه السلام) : لم يضيق الله عليك النساء كثيراً وقد أحل الله لك وأطاب، فطلقها وانكح غيرها، قالت: فانصرفنا، وخلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببريرة فقال : یا بريرة أي امرأة تعلمين عائشة ؟ قالت هي أطيب من طيب الذهب، والله ما أعلم عليها إلا خيراً. ..))، وروى الصنعاني(2) بسنده عن الزهري عن سعيد ابن المسيب عن الزهري رواية ابن إسحاق نفسها، أما بقية المؤرخين مثل البلاذري(3)، واليعقوبي(4)، وابن خياط(5) وغيرهم فلم ينقلوا أي تفاصيل هذا الحديث وإنما اكتفوا بذكر إشارات إلى ذلك.
إن ما ورد في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق التي ينتهي سندها إلى السيدة عائشة دون غيرها يحتاج إلى مناقشة وافية من أجل التوصل إلى حقيقة الأمر لاسيما إن
ص: 375
صورة الإمام في هذه الحادثة كانت مشوهة بدرجة كبيرة جداً، لذلك نسجل بعض الملاحظات على ما تقدم:
نقل لنا ابن هشام صورة سلبية جداً لموقف الإمام علي وهو لم يكن طرفاً فيها، فالحادثة كانت بين السيدة عائشة وبين مجموعة اتهموها بالباطل، لكن الرواية أقحمت اسم الإمام إقحاماً لا مبرر له، وذكرت أن الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) لما استشار أسامة بن زيد وعلیّاً (عليه السلام) بعد استبطائه نزول الوحي في ذلك الأمر، كان رد أسامة إيجابياً كما ذكرت الرواية ؛ لأنه لا يعلم عنها إلا خيراً، أما الإمام علي فقد كان رده قاسياًة بحق أم المؤمنين عائشة وذلك بقوله: ((لم يضيّق الله عليك النساء كثيراً وقد أحل الله لك وأطاب فطلقها وانکح غيرها...)) ثم ذهب ابن هشام ومن بعده الطبري اعتماداً على رواية ابن إسحاق إلى أن الإمام قام بتصرف غريب بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قام بضرب الجارية وطلب منها أن تَصدُق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذه أمور منكرة وغير مقبولة ولا تصدر من هذه القامة الشامخة التي ملأت الدنيا أخلاقاً وحكمةً.
لقد كان الإمام علي تلميذاً في مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان کما عبر عن نفسه بالقول: ((لقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به...))(1)، لذلك فمن المستبعد بل المستحيل أن يصدر منه أمر كهذا ويجبر جارية لا علم لها بالأمور، وينتزع منها كلاماً بالضرب المبرح والإكراه وهذه مخالفة صريحة وواضحة لقول الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ((أقضى أمتي علي))(2)، وقوله في مورد
ص: 376
مكة آخر: ((كفي وكف علي في العدل سواء))(1)، وغيرها من الأحاديث التي تدل على الصفات العظيمة والمكانة الرفيعة لعلي بن أبي طالب والتي تدل على أنه بعيد كل البعد عن أفعال كهذه، الغرض منها الإيقاع بين رسول الله وأم المؤمنين عائشة، وهذا ما حاول الراوي تسويقه إلى الناس لإظهار الإمام علي بصورة الشخص المنتقم من أجل رغبات خاصة به.
إن ما ورد في الرواية غير مقبول ؛ لأنه يخالف المنطق فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن بحاجة إلى استشارة أحد سواء الإمام عليّاً (عليه السلام) أم غيره في أمر عائلي كهذا، وإلا فهذا معناه جهل الرسول في أمور عائلته(2)، وهو غني بنفسه غیر محتاج إلى غيره، يعلم بدقائق الأمور، وإذا كان قد استشار الإمام علي لقربه منه ومكانته ورجاحة عقله، فما الحاجة لاستشارة أسامة بن زيد وهو ما يزال في مقتبل العمر في أمر حساس و مهم كهذا.
عند العودة إلى سند الحديث نجد المصدر الرئيس للرواية هو السيدة عائشة فقط، والمعروف انها كانت لا تحب الإمام علياً ولا زوجته لعلمها بقربهما من النبي وقد أوجز أحمد بن حنبل (3) هذا الأمر بالرواية التي نقلها: ((استأذن أبو بكر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد عرفت أن علياً أحب إليك من أبي ومني مرتين أو ثلاثاً، فاستأذن أبو بكر فدخل فأهوى إليها فقال: يا بنت لا أسمعكِ ترفعين صوتكِ على رسول الله (صلى الله عليه
ص: 377
وآله وسلم)).
من ذلك يتضح مدى عدم رضی أم المؤمنين عائشة عن العلاقة بين الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وغيرها من الروايات التي تؤيد ذلك(1).
وقد كللت موقفها السلبي من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالخروج على شرعية خلافته وقيادة التمرد ضده، فقد روى قيس بن أبي حازم ((أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان وكان مع عائشة لما بلغها قتله فتحمل إلى المدينة، قال: فسمعتها تقول في بعض الطريق: إيه يا ذا الاصبع ! وإذا ذكرت عثمان قالت أبعده الله ! حتی أتاها خبر بيعة علي، فقالت: لوددت أن هذه وقعت على هذه، ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فرددت معها، ورأيتها في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها كأنها تخاطب أحداً: قتلوا ابن عفان مظلوماً، فقلت لها يا أم المؤمنين ألم اسمع آنفاً تقولين أبعده الله؟ وقد رأيتكِ قبل أشد الناس عليه وأقبحهم قولاً ! فقالت: لقد كان ذاك، ولكني نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه کالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه))(2).
أما بقية رواة الحديث فهم عروة بن الزبير والزهري وهؤلاء تكلمنا عنهم وعن موقفهم من الإمام علي بن أبي طالب وكيف جعلت منهم السياسة الأموية أداة لتنفيذ كل مآربها في تشويه صورة علي بن أبي طالب حيث استفادت السياسة الأموية من هذا الخلاف الحاصل بين عائشة وبين الإمام علي (عليه السلام) لتسويق كثير من الأحاديث غير الصحيحة، لذلك تم استغلال تلك الحادثة من أجل دسّ اسم الإمام
ص: 378
فيها من أجل تصويره للناس بأنه كان مبغضاً لأمّ المؤمنين عائشة، وذلك من أجل تبریر خروجها على الخلافة الشرعية في معركة الجمل فسوقوا تلك القصة بالصورة التي ذكرناها، وقد ذكر أحد الباحثين(1) ((أن الموقف من الإمام علي من قبل أم المؤمنين أحد خلفيات معركة الجمل وقد استغل بنو أمية أثناء حكمهم هذا الحادث ضد الإمام علي بن أبي طالب وأولوا قوله تعالى : «وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(2) بأنَّ المقصود بذلك علي بن أبي طالب)).
وما يؤيد ذلك رواية أفلح بن عبد الله بن المغيرة عن الزهري ((قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقياً فلما بلغ «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ » حتى بلغ «وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ » جلس ثم قال: يا أبا بكر من تولى كبره أليس علي بن أبي طالب، قلت في نفسي: ماذا أقول إذا قلت: لا؟ لقد خشيت أن ألقي منه شراً، ولئن قلت: نعم، لقد جئت بأمر عظيم، قلت لرجل من أصحاب رسول الله ما لم يقل، ثم قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيراً يا أمير المؤمنين، قال: فضرب بقضيبه السرير مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: فمن حتی ردد ذلك مراراً، قلت: يا أمير المؤمنين عبد الله بن أبي سلول، حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص... عن عائشة أنها قالت: إن علياً أشار في شأني والله يغفر له...))(3).
إن السياسة الأموية وما عرف عنها من بغضها للإمام علي وآل علي (عليهم السلام) أخذت تنتهج سياسة التحريف والتزوير والدس للأحاديث والروايات
ص: 379
لكي تبرز علي بن أبي طالب بصورة مغايرة عما كان عليها، وقد التقت تلك المصلحة الأموية مع ما حملته السيدة عائشة من بغض لأمير المؤمنين تجلى هذا البغض بخروجها عليه يوم الجمل، لذلك نرى أن حادثة الإفك والتلفيقات التي لحقتها بالصورة التي أخرجها ابن هشام، لا أساس لها سوى ما نقله ابن هشام والطبري اعتماداً على مصدر واحد فقط هو عروة بن الزبير والسيدة عائشة، لذلك لا يمكننا أن نقبل ما جاء في الرواية ؛ لأنها أرادت من تلك الحادثة إظهار شيئين مهمين وهما إضفاء القدسية على مكانة السيدة عائشةورفعها إلى مكانة عالية ليس حبّاً بها بل السعي الأمويين إلى ذم الإمام علي (عليه السلام) باعتباره خرج لحرب تلك المرأة المقدسة التي نزل بها القرآن، والثاني للنيل من علي بن أبي طالب وإظهاره مخالفاً لكل القيم الإسلامية والتعاليم.
ذكر أحد الكتاب (1) اتفاق جميع الفرق والمذاهب الإسلامية على أن نساء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عفيفات طاهرات وكذلك نساء غيره من الأنبياء، وأن النبي وأي نبي لا يمكن أن يضع ماءه إلا في الأرحام الطاهرة المطهرة، وأن زوجته قد تكون كافرة ولن تكون بغياً ؛ لأن الرسول أكرم على ربه وأعز أن يجعل تحته بغياً وقد استند في ذلك الى حديث ابن عباس حيث قال: ((ما زنت امرأة نبي قط، وكانت الخيانة من امرأة نوح إنها كانت تنسبه إلى الجنون، والخيانة على امرأة لوط أنها كانت تدل على أضيافه))(2).
إذا صياغة الحديث بالصياغة التي أخرج بها أريد له أن يوظف من أجل أمور
ص: 380
ذكرناها من خلال سير الفقرة.
إلا أن هناك من ذكر أن حديث الإفك الذي نزل به قرآن لم يكن بحق عائشة زوج الرسول وإنما كانت المقصودة به مارية القبطية(1) زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم إبراهيم ابن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) مستنداً إلى حديث زرارة ((قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما مات إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حزن حزناً شديداً، فقالت عائشة ما الذي يحزنك عليه فما هو الا ابن جريح(2)، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً وأمره بقتله فذهب علي (عليه السلام) إليه ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط وضرب علي (عليه السلام) باب البستان فأقبل إليه ابن جریح ليفتح له الباب فلما رأى علي (عليه السلام) على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريح مدبراً، فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة وصعد علي في أثره فلما دنی منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فاذا ليس له ما للرجال ولا ما للنساء فانصرف علي (عليه
ص: 381
السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر اكون فيه كالمسمار المحمي في الوتر أم أثبت قال لا بل أثبت، فقال: والذي بعثك بالحق نبياً ماله ما للرجال ولا ما للنساء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت))(1)، فقول عائشة عن ابن جريح هو الإفك المقصود.
والذي يعزز القناعات بذهاب البعض إلى أن المقصود بحديث الإفك مارية القبطية هو الموقف السلبي لعائشة من مارية أم إبراهيم حيث يذكر الواقدي في رواية ينتهي سندها إلى عمرة عن عائشة قالت: ((ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك إنها كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان قد أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان رسول عامة الليل والنهار عندها حتى فزعنا لها، فجزعت محولها إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكانذلك أشد علينا، ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه))(2).
وقد روي يحيى بن سعيد الأموي عن أبي معاذ سليمان بن الأرقم الأنصاري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: ((أهديت مارية إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعها ابن عم لها، قالت فوقع عليها وقعة فاستمرت حاملاً، قالت: فعزلها عند ابن عمها، قالت: فقال: أهل الإفك والزور من حاجته إلى الولد أدعى ولد غيره وكانت أمه قليلة اللبن فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذي بلبنها فحسن عليه لحمه قالت عائشة: فدخل به على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم، فقال: كيف
ص: 382
ترین فقلت: من غذي بلحم(1) الضأن يحسن لحمه، قال: ولا الشبه قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت ما أرى شبها، قالت: وبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يقول الناس، فقال لعلي: خذ هذا السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته، قالت: فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً، قالت: فلما نظر إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة قال فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله عز وجل شيء ممسوخ))(2).
وحدثت في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وبعد سلسلة من الأحداث المتتابعة تخللتها صفحات جهادية كانت في أغلبها انتصارات للمسلمين عدا بعض الانتكاسات كمعركة أحد، وقد حصل المسلمون على غنائم كثيرة أمدتهم بالقوة، وساعدت على نشر الإسلام (3).
وذكر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت فقص الرؤيا على أصحابه وتفاءل خيراً(4)، وقد عزم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج لزيارة البيت لا يريد قتالاً، وقد استنفر العرب ومن حولهم من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وكانوا
ص: 383
بابأموالهم وذراريهم(1) حيث ساق معه سبعين بدنة، وكان عدد المسلمين على الأرجح ألف وأربعمئة(2). وقد منعته قريش من دخول مكة. فأقام في الحديبية(3) حيث أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قريش ((إنّا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا لسوق البدن إلى محلها فننحرها ثم ننصرف. فأبوا إلا منعه))(4). فأرسلت إليه قریش مکرز بن حفص (5) فأبى أن يكلمه وقال هذا رجل فاجر، فبعثوا إليه الحليس ابن علقمة(6) من بني الحارث عبد مناة وكان من قوم يتألهون(7). فلما رأى الهدي قد أكلت أوبارها رجع فقال: ((يا معشر قريش إني رأيت ما لا يحل صده عن البيت)) فبعثوا بعروة بن مسعود(8) الثقفي، فكلم رسول الله، فقال رسول الله يا عروة أفي الله
ص: 384
أن يصد هذا الهدي عن هذا البيت ؟))، فانصرف إليهم عروة بن مسعود قال الله ما رأيت مثل محمد لما جاء له فبعثوا إليه سهيل بن عمرو(1) فكلم محمداً وأرفقه .
وقد نقل لنا ابن هشام(2) رواية ابن إسحاق عن الحديبية وأحداثها فقال: ((ثم بعثت قريش سهيل بن عمر، وقالوا له: ائتِ محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سُهيل، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقبلاً، قال لقد أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى سُهيل بن عمرو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر لم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتی أبا بكر فقال يا أبا بكر أليس برسول الله ؟ قال: بلى، قال: أولسنا مسلمين ؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدنية (يقصد الذل والأمر الخسيس) في ديننا، قال أبو بكر: یا عمر الزم غزره (أي أمره)، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله: ألست برسول الله ؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى، قال: فعلامَ الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني: قال: فكان عمر يقول: ما زلت اتصدق وأصوم وأصلي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ ! مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً.
ص: 385
قال: ثم دعا رسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال اکتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال فقال: سهيل ألا أرعف هذا، ولكن اكتب بسمك اللهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اكتب بسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهيل بن عمرو، قال سهیل لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال فقال: رسول الله اکتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتی محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قریشاً ممن مع محمد لم يرده عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة (أي صدور على ما فيها)، وأنه لا إسلال ولا إغلال (أي لا سرفة ولا خيانة)، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقدة دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعهدهم دخل فيه .
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بکر، فقالوا: نحن في عهد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب، والسيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها)).
ثم يكمل روايته ((فلما فرغ رسول الله من الكتاب أشهدَ على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين وهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، ومكرز ابن حفص، وهو يومئذ مشرك وعلي بن أبي طالب... وكان كاتب الصحيفة))(1).
ص: 386
ونقل الطبري(1) رواية ابن إسحاق نفسها التي نقلها ابن هشام من دون أي زيادة أو نقص. أما بقية الرواة والمؤرخين، فالواقدي (2) ذكر ((فلما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة فيها بين رسول الله وسهيل بن عمرو، ولما التأم الأمر وتقارب، دعا رسول الله رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي یکتب، فقال سهيل لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان، فأمر النبي علياً أن يكتب...))، ثم ذكر تفاصيل تشبه تفاصيل رواية ابن إسحاق إلا أنه عندما يصل الموضوع إلى كتابة ((هذا ما اصطلح عليه رسول الله، فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله ؟ فضج المسلمون منها ضجة هي أشد من الأول حتى ارتفعت الأصوات وقام رجال من أصحاب رسول الله يقولون: لا نكتب إلا محمد رسول الله ...)) إلى أن تدخل رسول الله وحسم الأمر واستمرت كتابة الصلح کماهو علیه ومثلما أورده ابن إسحاق.
أما البلاذري(3) فيورد رواية الحديبية مقتضبة جداً ولم يورد بها أي تفاصيل تذكر، في حين ذكر اليعقوبي(4) ((و تنازعوا بالكتاب لما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، حتی کادوا يخرجون إلى الحرب. وقال سهيل بن عمرو والمشركون: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وقال المسلمون: لا تمحها، فأمر رسول الله أن يكفوا و أمر علياً فكتب (باسمك اللهم من محمد بن عبد الله) وقال اسمي واسم أبي
ص: 387
الا يذهبان بنبوتي...)).
وفي رواية هارون بن إسحاق عن مصعب بن المقدام عن سفيان بن وكيع قال حدثني أبي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء التي نقلها الطبري(1) ((فلما كتب الكتاب هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا محمد بن عبد الله، قال لعلي (عليه السلام) : امحُ (رسول الله) قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذه رسول الله ولم يحسن یکتب، فكتب مکان رسول الله (محمد) فكتب: هذا ما قضى عليه محمد...)).
ومن خلال ما أوردنا من روايات في هذا المورد يمكن ملاحظة ما يلي:
إن رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام فيها بيان لعدم رضا المهاجرين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب على ما قام به الرسول الأكرم من صلح بينه وبين المشركين حيث وصل بهم الأمر على رفع أصواتهم فوق صوت النبي وقد ذكر عمر بن الخطاب ذلك الموقف وعبر عنه (ما زلت اتصدق و أصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ...). وهو إقرار واضح بمخالفة رسول الله لأنه الرسول الامين الذي لا ينطق عن الهوى كما قال تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(2).
إن الاعتراض الذي رواه ابن إسحاق ونقله ابن هشام يمثل عدم رضا كبار الصحابة على ما فعله الرسول الأكرم يوم الصلح وقد يعتبر هذا مأخذاً كبيراً على المعترضين ؛ لأنهم خالفوا ما أراد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والجانب الثاني للرواية هو قيام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكتابة نص الاتفاق
ص: 388
حيث يذكر الراوي بأنَّ الإمام علي (عليه السلام)نفذ كل ما طلبه منه الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون أي اعتراض.
وقد اتفق الواقدي مع ابن إسحاق في تلك الحالة حيث تطابقت روايتهما في ذلك الموضوع مع وجود اختلافات لفظية بسيطة وكذلك اتفق معهم اليعقوبي الذي بين في روايته التي ذكرناها بأنَّ الإمام علیّاً (عليه السلام) و في أثناء كتابته للوثيقة نفّذ ما طلب منه النبي الأكرم رغم اعتراض المسلمين على طلب سهيل بن عمرو محو عبارة بسم الله الرحمن الرحيم و محمد رسول الله، حيث لم يذكر اليعقوبي أي اعتراض صدر من علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هذا الشأن وإنما نفذ ما طلب منه الرسول.
على الرغم من نقل الطبري لرواية ابن إسحاق الواردة عند ابن هشام و فيها اعتراض عمر بن الخطاب وأبي بكر على الصلح وكتابة علي بن أبي طالب للصحيفة وتنفيذ ما طلب منه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إلا أنه يورد رواية أخرى ينتهي سندها إلى البراء يذكر بها التفاصيل نفسها إلا أنه ينقل اعتراض علي بن أبي طالب في أثناء كتابته صحيفة الصلح على محو ما طلب سهيل بن عمرو، وقد خالف الرسول بذلك رغم طلب الرسول منه القيام بذلك إلا أن إصرار عليٍّ على عدم محو تلك العبارة تدخل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليمحي ما أراد سهيل بن عمرو بنفسه.
ولعل المتتبع للأمر يرى أن هذه الرواية التي نقلها الطبري أراد أن يجعل توازناً من خلالها کما نقل رواية ابن إسحاق الذي فيها اعتراض كبار الصحابة ومخافتهم أمر رسول الله عندما اتفق على الصلح مع سهيل كذلك أراد تسويق معارضة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى المتلقي بأنه أيضاً اعترض على الرسول بعدم محو ما طُلب منه.
ص: 389
ويمكن أن نذهب مع صحة رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام على الرغم من اختصارها، وعلى الرغم من تأخر الطبري (310ه - 922م) عن ابن هشام ت (218ه - 833م) إلا أن كثيراً من المؤرخين الذين جاؤوا بعدهم أخذوا رواية الطبري الواردة أعلاه عن البراء ومنهم على سبيل المثال:
المفيد(1)، الذي يذكر أمر الصلح ونزول الوحي على النبي بالإجابة إلى الصلح مع قريش وأن يجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) کاتبه يومئذ والمتولي لعقد الصلح بخطه، ((فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (اكتب يا علي بسم الله الرحمن الرحيم). .. فقال سهيل بن عمرو: هذا كتاب بيننا وبينك، يا محمد فافتتحه بما نعرفه، واكتب بسمك اللهم: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين: امحُ ما كتبت واكتب: باسمك اللهم، قال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : لولا طاعتك يا رسول الله لما محوتُ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم محاها وكتب: باسمك اللهم، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : اكتب: هذا ما قاضی علیه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو أجبتك في الكتاب الذي بيننا على هذا لأقررت لك بالنبوة، فسواء شهدت على نفسي بالرضا أم أطلقته من لساني، امحُ هذا الاسم واكتب: هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنه والله رسول الله على رغم أنفك، فقال سهيل: اكتب اسمه يمضي الشرط، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ويلك يا سهيل كف عن عنادك، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : امحها يا علي، فقال: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك عن النبوة، قال له: فضع يدي عليها فمحاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده، وقال لأمير المؤمنين (عليه السلام) : ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت
ص: 390
على مضض)).
من خلال ما ورد أعلاه نرى أن المفيد يذهب مذهب الطبري عندما نقل رواية
البراء إلا أن فيها شيئاً من التخفيف.
ويتفق الطبرسي(1) أيضاً مع رواية المفيد حول تعليل علي بن أبي طالب محو ما طلب منه رسول الله . والباحث يرى أيضاً أن هذا التعليل فيه مجانبة للواقع فالإمام علي (عليه السلام) في سيرته كلها لم تسجل عليه مخالفة واحدة للرسول بأي شيء مهما كان الأمر؛ لأن مخالفته تعني مخالفة الله تعالى.
غزوة خيبر(2):
نقل ابن هشام (3) رواية محمد بن إسحاق التي قال فيها: ((ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة وبعض محرم، وولي تلك الحجة المشركون، ثم خرج في بقية محرم إلى خيبر...، وقال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكانت بيضاء)).
ثم يستعرض ابن هشام مسيرة جيش رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) إلى خیبر ويذكر أنها عبارة عن مجموعة من الحصون استطاع أن يفتحها حصناً حصناً
ص: 391
مبتدءا بحصن ناعم ثم القموص ثم حصن بني أبي الحُقيق، وقد سجل ابن هشام انتصارات الرسول في أثناء فتحه لتلك الحصون وحصول المسلمين على مغانم كثيرة حتى وصل إلى آخر حصنين: ((ولما افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحاً، فحاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بضع عشرة ليلة))(1).
ثم ذكر ابن هشام(2) بروز مرحب للقتال ومبارزته من قبل محمد بن مسلمة(3)
فقال: ((قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) : من لهذا ؟ قال محمد بن مسلمة: أناله یا رسول الله، أنا والله الموتور والثائر، قتل أخي بالأمس، فقال: فقم إليه، اللهم أعنه عليه، قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه، وخلت بينهما شجرة عمرية (قديمة) من شجر العسر۔ شجر أملس مسئو ضعیف العود . فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذبها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتی برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن، ثم حمل مرحب علی محمد بن مسلمة، فضربه فاتقاه، بالدرقة، فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة
ص: 392
حتى قتله)).
بعد ذلك نقل ابن هشام(1)، رواية ابن إسحاق التي بين فيها عدم استطاعة المسلمين فتح بقية حصون خيبر حيث ذكر ذلك عن بريدة بن سفیان بن فروة الأسلمي عن أبيه عن سلمة بن عمرو الأكوع قال: ((بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر ... برایته وكانت بيضاء، فيما قال ابن هشام، إلى بعض حصون خيبر، فقاتل فرجع ولم يك فتحاً، وقد جهد، ثم بعث الغد عمر بن الخطاب، فقاتل، ثم رجع ولم يك فتحاً، وقد جهد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار. قال يقول سلمة : فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام)، وهو أرمد، فتفل في عينيه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك، قال يقول سلمة: فخرج بها يأنح ميهرول هرولةً، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم (الحجارة المجتمعة) من حجارة تحت الحصن، ما طلع عليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال يقول اليهودي علوتم، وما أنزل على موسى أو کما قال. قال: فما رجع حتى فتح الله على يديه)).
ثم نقل ابن هشام(2) عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الحسن عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((خرجنا مع علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برایته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجلٌ من اليهود، فطاح ترسه من يده، فتناول عليٌ (عليه السلام) باباً كان من الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل
ص: 393
وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي، أنا ثامنهم، فجهدنا على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه)).
وفي ضوء ما تقدم من روایات یمکننا ملاحظة ما يأتي:
أن صاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر كان الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) .
أن ابن هشام نقل في روايته الأولى عن ابن إسحاق قصة مقتل مرحب اليهودي من قبل محمد بن مسلمة.
أورد ابن هشام عن ابن إسحاق عجز المسلمين عن فتح بقية الحصون وأن رسول الله قرر إعطاء الراية للإمام علي (عليه السلام).
ذكر ابن هشام عن ابن إسحاق في روايته الثالثة تفاصيل فتح علي بن أبي طالب حصون خيبر.
إلا إننا عند تتبع روایات ابن إسحاق في تلك الموارد يتبين أن ابن هشام في الرواية الثانية اقتطع جزءاً مهماً من النص وهو: ((فقال رسول الله: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، ليس بفرار))(1)، واستعاض عنها بعبارة: ((فقال رسول الله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله...)).
أما الطبري(2) فقد ذكر عن غزوة خيبر مجموعة من الروايات حول فتح الحصون، وقد أورد عن ابن إسحاق أربع روایات؛ الأولى ذكر فيها كيفية قتل مرحب على يد
ص: 394
محمد بن مسلمة كما ذكرها ابن هشام، والثانية فتح الإمام علي لحصن اليهود و أورد فيها تفاصيل رواية ابن هشام نفسها، ثم ذكر روايتين واحدة في كيفية سبي صفية بنت حي بن أحطب، والثانية حول كيفية إكمال فتح خيبر.
وروى الواقدي(1) غزوة خيبر بأسلوب يتميز بوحدة الموضوع حيث بدأ روايته بالقول: ((وكان دفع الراية إلى رجل من أصحابه من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً، ثم دفعها إلى آخر فرجع ولم يصنع شيئاً، ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواء الأنصار إلى رجل منهم، فخرج ورجع ولم يعمل شيئاً، فحث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين...)).
من خلال رواية الواقدي أعلاه نراه لا يصرح بأسماء من حملوا الراية وقاتلوا واكتفى بالإشارة إلى ذلك دون أعطاء التفاصيل... ثم ذكر ((ووجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه حدة شديدة، وقد ذكر لهم الذي وعدهم الله، فأمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهموماً، وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحاً وجعل يستبطئ أصحابه، وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطئ أصحابه ويقول أنتم أنتم... فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار، أبشر يا محمد بن مسلمة غداً إن شاء الله يُقتل قاتل أخيك وتولى عادية اليهود، فلما أصبح رسول الله أرسل إلى علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وهو أرمد، فقال: ما أبصرُ سهلاً ولاجبلاً. قال : فذهب إليه فقال: افتح عينيك. ففتحها فتفل فيها. قال علي (عليه السلام) : فما رمدت حتى الساعة. ثم دفع إليه اللواء، ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر، فكان أول من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته، فانکشف المسلمون وثبت
ص: 395
علي (عليه السلام) فاضطرب ضربات فقتله علي (عليه السلام). ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى موضعهم، وخرج مرحب وهو يقول:
قد علمت خیبر أني مرحب*** شاكي السلاح بطل مجّرب
أطعن أحياناً وحينا أضرب
فحمل علي (عليه السلام) فقطره (أي ألقاه على أحد قطريه، وهما جانباه) على الباب وفتح الباب وكان للحصن بابان...(1).
وفي رواية أخرى ذكرها الواقدي(2) عن أبي رافع ذکر تفاصيل رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام نفسها ، وقد أوضح فيها تترس الإمام علي بالباب بعد أن ضربه أحد اليهود وسقط الترس من يده، ويذكر أنه تم الفتح على يده وهو حصن مرحب اليهودي ثم يذكر أمر مبارزة مرحب، وذكر أن الذي برز إليه محمد بن مسلمة حيث تمكن محمد بعد مبارزة مرحب من قطع ساقيه وترکه فقال: ((ومر به علي فضرب عنقه وأخذ سلبه))(3) حيث اختصما إلى رسول الله فيمن قتله فحكم الرسول الأكرم لمحمد بن مسلمة بأنَّ له سلبه وليس إلى علي بن أبي طالب...(4).
أما البلاذريه(5) فقد ذكر غزوة خيبر بشكل مقتضب جداً ولم يذكر أي تفاصيل لها، وتناول اليعقوبي(6) موضوع غزوة خيبر أيضاً بشيء من الإيجاز إلا أنه ذكر ((فقال
ص: 396
رسول الله لأدفعن الراية غداً إن شاء الله إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا ينصرف حتى يفتح الله على يده، فدفعها إلى علي فقتل مرحب اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمی به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون)).
وقد أورد الطبري روايتين من غير سند ابن إسحاق؛ الأولى يذكر عن بشار عن محمد بن جعفر عن عوف عن ميمون أبي عبد الله أن عبد الله بن بريدة حدث عن بريدة الأسلمي قال: ((لما كان حين نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحصن أهل خيبر أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللواء إلى عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) یُجبّنه أصحابه ويجبنّهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويُحبه الله ورسوله، فلما كان الغد تطاول أبو بكر وعمر، فدعا علياً (عليه السلام) وهو أرمد، فتفل في عينه وأعطاه اللواء، ونهض معه من الناس من نهض، قال فلقي أهل خيبر، فإذا مرحب يرتجز ويقول:
قد علمت خیبر أني مرحب*** شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أطعن أحياناً وحينا اضرب*** إذا الليوث اقبلت تلهب
فاختلف هو وعلي في ضربتين، فضربه على هامته حتی عض السيف بأضراسه
وسمع أهل العسكر صوت ضربته، فما تتام آخر الناس مع علي (عليه السلام) حتى فتح الله له ولهم))(1).
والرواية الثانية عن أبي كريب، قال: حدثنا يونس بن بکیر، قال: حدثنا المسيب ابن مسلم الأودي، قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله
ص: 397
(صلى الله عليه وآله وسلم) ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وأن أبا بكر أخذ راية رسول الله فنهض فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول ثم رجع، فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحبُ اللهَ ورسولَه ويُحبه اللهُ ورسولُه، يأخذها عنوة، قال: وليس ثم علي (عليه السلام) ، فطاولت لها قريش، ورجا كل منهما أن يكون صاحب ذلك، فأصبح، فجاء علي (عليه السلام) على بعير حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري، فقال رسول الله مالك ؟ قال: رمدت بعد، فقال رسول الله : أدنُ مني، فدنا منه فتفل في عينيه فما وجعهما حتى مضى لسبیله، ثم أعطاه الراية، فنهض به معه وعليه حُلة أرجوان حمراء قد أخرج خملها فأتی مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفریمان و حجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خیبر أني مرحب*** شاكي السلاح بطلٌ مجرب
فقال علي (عليه السلام) :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة*** أكيلكم بالسيف کيل السندرة
ليث بغابات شدید قسورة
فاختلفا ضربتين فبدره علي فضربه فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه حتى وقع في
الأضراس وأخذ المدينة))(1).
ص: 398
ومن خلال عرض الروايات الواردة حول فتح خیبر وقتل مرحب اليهودي
يمكن أن نجمل ملاحظاتنا بالنقاط الآتية:
هناك أمران بارزان في خيبر قد اختلف فيهما الأمر الأول: قول الرسول بعد أن فشل أبو بكر وعمر في الفتح إنه سيعطي الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه وهو علي بن أبي طالب، إذ ذكر صاحب السيرة النبوية ابن هشام تلك الرواية إلا أنه اقتطع منها جزءاً مهماً جداً وقد ذكرناه وهو (يحبه الله ورسوله) وفي ذلك دلالة واضحة أن القصد من وراء هذا القطع هو التقليل من شأن صاحب تلك المنقبة حيث لم يستطع انكارها لشياعها، لكنه اقتطع منها وتلاعب بألفاظها، من أجل أن يجعل صورة الإمام علي تفقد بريقها من خلال الدس والتشويه، إلا أن المفيد(1) ذكر تلك الحادثة برواية أكثر تماسكاً مما ذكر غيره فقال: ((فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليست هذه الراية لمن حملها جيئوني بعلي ابن أبي طالب، فقيل إنه أرمد، فقال: أرونیه تروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يأخذها بحقها ليس بفرار، فجاؤوا بعلي (عليه السلام) يقودونه إليه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما تشتكي يا علي ؟ قال: رمد ما أبصر معه، وصداع برأسي، فقال له: اجلس وضع رأسك على فخذي ففعل علي (عليه السلام) ذلك، فدعا له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفل في يده فمسحها على عينه ورأسه، فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع وقال في دعائه: اللهم قه الحر والبرد وأعطاه الراية...)).
ولعلنا نستطيع القول إنَّ رواية إعطاء الراية كانت متواترة حتى من لم يذكرها فإنه لم ينفها أمثال البلاذري حيث لابدَّ من أنه وقع تحت تأثيرات السياسة في عصره.
ص: 399
أما ما يخص الأمر الثاني أي قتل مرحب اليهودي فلابدَّ أن نتتبع بعض المعطيات
التاريخية التي تقودنا إلى حقيقة قاتل مرحب:
إن مرحباً هو قائد آخر حصون اليهود التي تحصن بها أعداد كبيرة منهم.
إن الفتح المبارك لأعظم حصون خيبر وأكثرها قوة ومناعة تم على يد علي بن أبي طالب من دون أي اختلاف في ذلك الموضوع.
إلا أن الملاحظ أنه أُرید عدم جمع منقبتين للإمام علي (عليه السلام) في موقع واحد وهذا ما لا يريده أعداء آل البيت ومن خلفهم من تقلد زمام الأمور السياسية في وقت دونت فيه السيرة وهو زمن الحكم الأموي والعباسي، والملاحظ أن ابن إسحاق ومن باب التوازن أراد أن ينقل منقبة قتل مرحب إلى محمد بن مسلمة ليجعل من ذلك الأمر التوازن، وهذا ما لاحظناه من خلال نقل ابن هشام لرواية ابن إسحاق الخاصة بقتل مرحب وقد أوردناها في صدر البحث.
إلا أن الواقدي أراد أن يجعل الأمور أكثر توازناً فجعل من اشترك في قتل مرحب محمد بن مسلمة وعلي بن أبي طالب و حسب روايته التي ذكرناها إلا أن الملاحظ ومن خلال إطلاعنا على عدد كبير من الروايات التي نقلها المؤرخون(1) يتبين أن الذي قام بقتل مرحب هو علي بن أبي طالب.
ص: 400
وما يؤيد ذلك أيضاً ما ذكر المفيد في الإرشاد حيث قال: ((قال علي (عليه السلام) : فمضيت حتى أتيت الحصون، فخرج مرحب وعليه مغفرة وحجر قد ثقب مثل البيضة على رأسه يرتجز، ويقول:
قد علمت خیبر أني مرحب*** شاكٍ سلامي بطل مجرب
فقلت:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة*** ليث الغابات شدید قسورة
اکیلکم بالسيف کيل السندرة
فاختلفتا ضربتين، فبدرته فضربته فقددت الحجر والمغفر ورأسه حتى وقع السيف في أضراسه وسقط صريعاً)).
الملاحظ أن هناك ارتباكاً واضحاً عند ابن هشام في نقله تفاصيل معركة خيبر حيث لم يستعرض روایات خیبر بشكل متسلسل کما فعل الواقدي وقد أورد حمل الراية من قبل الإمام وفتح الحصن إلا أنه لم يشر من قائد الحصن وما مصيره، إلا أن في إيراد رواية مقتل مرحب لم يذكر أين كانت تلك الحادثة ؟ وفي أي حصن من حصون خيبر؟ إلا أنه من خلال القرائن المتوفرة يمكن القول إن مرحباً كان قائد الحصن الذي فتحه الإمام علي فلا يستبعد أن يكون مرحب أول المدافعين عن ذلك الحصن حيث لم تكن مبارزته بوصفه القائد لأي شخص كان فلابدَّ أن تكون مبارزته للقائد الميداني الذي حمل الراية وتقدم بها وهو الإمام علي(1).
ص: 401
ص: 402
ص: 403
ص: 404
إن الحديث عن فتح مكة يعني الحديث عن انتصار الإسلام على الشرك والوثنية
والقضاء الكامل على جبروت قريش، فكان صلح الحديبية كما ذكرنا في الفصل السابق هو المقدمة لذلك النصر، وقد التزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون بكل البنود التي اشتمل عليها كتاب الصلح، لكن قریشاً استخفت بقوة المسلمين بعد معركة مؤته(1)، وجرها هذا الاستخفاف إلى مخالفة ما جاء في شروط الصلح حيث أصبح بعدها عهد الموادعة والصلح لاغياً(2). ولنا أن نبين السبب الحقيقي النقض قریش اتفاق الحديبية.
فقد كان من ضمن اتفاق الحديبية حرية اختيار القبائل العربية لتحالفاتها فمن
ص: 405
أراد من العرب أن يدخل في عهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فليدخل، كما يحق لمن أراد أن يدخل في عهد قريش أن يدخل فيه، فدخلت قبيلة بكر في حلف قریش ودخلت خزاعة في حلف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد كانت فيما بين بكر وخزاعة أحقاد قديمة(1) وحروب متواصلة، إلا أن الناس بعد الصلح أصبحوا يحسبون أنفسهم آمنين على دمائهم وأموالهم، لكن قريشاً أخلت باتفاق الحديبية ونقضت الصلح حيث قامت بتزويد قبيلة بني بكر بالأسلحة وحرضتهم على الغارة على خزاعة المتحالفة مع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) . وكانت خزاعة قد آمنت بعد الصلح غير حذرة من عدوها المتمثل ببني بكر إلا أن قریشاً زيادة على أنها أمدت قبيلة بكر بالأسلحة وحرضتهم على القتال قامت بالقتال معهم في الليل وأجبروا خزاعة إلى اللوذ بالحرم واللجوء إلى دار بدیل بن ورقاء الخزاعي (3)(4).
ص: 406
ولما حصل ما حصل من نقض العهد من قبل قريش وبني بكر وقتلهم لرجال من خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونالوا منهم ما نالوا، خرج عمر بن سالم الخزاعي(1) ، وأحد بني كعب حتى قدما إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) لغرض إخباره بما جرى على حلفائه ونقض العهد من قبل قریش(2)، فعدت تلك الحادثة خرقاً واضحاً لصلح الحديبية ومقرراته وقد ذكر الواقدي أن أبا سفيان لم يشاور في الأمر الذي أقدمت عليه قريش بالوقوف بجانب بني بكر وتحريضهم ومدهم بالسلاح ضد خزاعة حلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنهم طلبوا منه التدخل لتجديد الهدنة بينهم وبين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).
وجاء في رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام(4) ((ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة(5)
ص: 407
بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طوته عنه، فقال يا بنية، ما أدري ارغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عني ؟ قالت: بل هو فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال : والله لقد أصابكِ یا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتی عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا اشفع لكم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر(1) لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب عليه السلام، وعنده فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها السلام، وعندها حسن بن علي غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي، إنك أمسّ القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن کا جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله، فقال ويحك يا أبا سفيان: والله لقد عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد، هل لكِ أن تأمري نبيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر.
قالت: والله ما بلغ بني ذاك يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك، سید بني كنانة، فقم فأجر بين
ص: 408
الناس، ثم الحق بأرضك، قال أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً قال لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك ؟ قال: جئت محمداً فكلمته فو الله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب، فوجدته أدنى العدو (أي اعدى العدو)... ثم قال جئت علياً فوجدته، ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ؟ قالوا: وبمَ أمرك، قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجارك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك، والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك)).
أما رواية ابن إسحاق التي نقلها الطبري(1) فلا تختلف عما نقل ابن هشام في السيرة النبوية، وكذلك نقل ابن حبان(2) رواية ابن إسحاق نفسها. أما البيهقي (3) فأورد رواية ابن إسحاق التي تخص نقض قریش للهدنة حيث ذکر عنوان (نقض قریش ما عاهدوا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية) ثم ذكر سلسلة السند لتلك الرواية عن يونس بن بکیر عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة ثم يورد نتائج الصلح وخرق قریش لذلك الصلح وبعد ذلك وفادة أبي سفيان لتجديد الهدنة، وذكر تفاصيل رواية ابن إسحاق نفسها التي أوردها ابن هشام في السيرة النبوية.
ص: 409
ذكر الواقدي(1) موضوع مجيء أبي سفيان إلى المدينة لغرض تجديد الهدنة فذكر تفاصيل رواية ابن إسحاق نفسها التي نقلها ابن هشام ولكن هناك إضافات لم ترد في رواية ابن إسحاق منها ((ثم دخل على عثمان بن عفان ، فقال : إنه ليس في القوم أحد أقرب بي رحماً منك فزد في الهدنة وجدد العهد فإن صاحبك لم يرد عليَّ أبداً... قال عثمان : جواري جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))).
ثم بعد ذلك ذكر في روايته إنه دخل على فاطمة (عليها السلام) و كلمها بالموضوع قبل أن يفاتح الإمام عليّاً (عليه السلام) الذي كلمه في النهاية، وقد خلص منه بكلام هو نفسه المذكور في رواية ابن إسحاق(2).
أما حماد بن سلمه فيذكر في روايته التي نقلها البلاذري (3)، فقال: ((وكانت قريش لما جنت ما جنت خافت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فبعثت أبا سفيان يجدد الخلف ويصلح الناس، فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: أنت سيد قریش فاضرب يداً على يد، وأجد الحلف... وأصلح بين الناس فانصرف وهو يرى أنه قد صنع شيئاً)).
وبالعودة إلى رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن هشام وأوردناها في صدر الفقرة ومقارنتها مع ما ورد من روايات أخرى في المورد نفسه نجد أن:
الرواية فيها مجانبة للواقع وللحقيقة هي أن أبا سفيان هو رأس الشرك، وهو من قاد معركة أحد بنفسه وما نجم عنها من خسارة عسكرية للمسلمين
ص: 410
واستشهاد عدد كبير من المهاجرين والأنصار وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب، ثم كانت الأحزاب تحت قيادته وهم قد حاصروا المدينة وكان هدفهم استئصال المسلمين والخلاص منهم نهائياً، زيادة على أنه كان العدو الأول للإسلام وكان مستعداً لعمل أي شيء للقضاء على الإسلام، فهو رئیس معسكر الشرك الذي يقابل معسكر الإيمان فإن وفادته إلى المدينة لغرض تجديد الهدنة بدون أي وسيط يكون أمراً مستبعداً جداً حسب الأعراف السائدة آنذاك(1)، وعند النظر إلى الرواية وقراءتها نلاحظ أنها أظهرت أبا سفيان وكأنه رجل بريء لم يعمل شيئاً، فانتدب لهذه المهمة لحياديته ولم يكن هو صاحب الشأن، وهذا خلاف الواقع، فإن الرواية إن دلت على شيء فهي من صناعة السلطات الأموية (2)، والغرض منها تلميع صورة أبي سفيان بن حرب وجعله من دعاة الهدنة والسلام.
وإذا علمنا أنَّ ابن هشام نفسه أورد رواية أخرى عن ابن إسحاق عندما أصبح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على مشارف مكة وأيقن أبو سفيان أن الأمور خرجت من حساباته فقد اقترح عليه العباس بن عبد المطلب بأن يصحبه إلى رسول الله، ثم أورد قول العباس له: ((والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأستأمنه لك....))(3).
ص: 411
لقد نقل ابن هشام روايتين متناقضتين الأولى ذكر فيها أن أبا سفيان جاء إلى المدينة وتنقل فيها وتكلم مع كبار الصحابة بحرية تامة، في حين ذكر في روايته الثانية خوفه الشديد من الرسول والمسلمين عند فتح مكة، وبهذا نقل روايتين متناقضتين الفارق بينهما بضع صفحات.
والملاحظ أن ابن هشام في روايته الثانية ذكر أموراً غريبة، فقال وهو يتحدث عن کلام العباس بن عبد المطلب لأبي سفيان: ((قال: فجئت به، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا عليها، قالوا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بغلته، حتى مررت على نار عمر بن الخطاب ، فقال من هذا ؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله: الحمد الله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد))(1).
والملاحظ على هذا النص أن عمر بن الخطاب كأنّه أول مرة يرى فيها أبا سفيان ولم یکن رآه في المدينة في أثناء وفادته لتجديد الهدنة، فهو يستغربمن لقياه إلا أن هناك استدراكاً من الراوي في هذا النص هو قول عمر: ((الحمد الله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد))، وكأنّه كان يريد أن يوحي للمتلقي أن أبا سفيان عندما جاء إلى المدينة كان هناك عقد بينه وبين الرسول الأكرم بعدم التعرض له وهذا خلاف الواقع الذي صوره ابن هشام نفسه بوصول وفد خزاعة إلى الرسول وإعلامه ما جرى من نقض قریش لتلك الهدنة الموقعة بين الطرفين، وكذلك كان أبو سفيان يعلم ذلك جيداً إذ التقى ببديل بن ورقاء وعرف أن الوفد كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة (2)، والمهم في هذا الأمر أن هناك تناقضاً واضحاً وقع فيه ابن
ص: 412
إسحاق وبعده ابن هشام.
لعل الراوي أراد أن يضيف توازناً إلى روايته فذكر أم حبيبة زوج رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) من أبي سفيان وعدم السماح له بالجلوس على فراش النبي ؛ لأنه مشرك ، وهنا الهدف الرئيس للرواية وهو إبراز صورة أم المؤمنين أم حبيبة أخت معاوية وموقفها من أبي سفيان على الرغم من أنه والدها إلا أنها آثرت الإسلام والرسول باعتباره أهم وأفضل من كل شيء.
وهناك قصد آخر للرواية وهو كما ذهب أحد الباحثين (1) هو إبراز مكانة
عدد من الصحابة الذين فشلوا في ميدان الجهاد والقتال فلابد له من إيجاد منقبة ترفع من شأنهم و تجعلهم كأنهم أوائل المهتمين بالشأن بعد رسول الله،وهذا واضح من التسلسل الذي أورده ابن إسحاق في روايته التي نقلها ابن هشام حيث يبدأ بأبي بكر ثم عمر وقد أغفلت الرواية الخليفة الثالث ولكن أكمله الواقدي في روايته كما لاحظنا.
وقد ذكرت الرواية قول عمر بن الخطاب لأبي سفيان: ((لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم فيه)) وتاريخ عمر بن الخطاب غير خافٍ و معروف في المعارك الإسلامية وذلك من خلال ما ذكره ابن هشام نفسه في السيرة حول جهاد عمر بن الخطاب، ففي معركة بدر وموقفه من قريش، إضافة إلى أنه في أثناء المعركة لم يذكر لنا الرواة أي بطولة لعمر باستثناء قتل خاله - العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - إن صحت الرواية(2)، أما في معركة أحد فموقفه معروف بترکه للقتال
ص: 413
وجلوسه خارج المعركة(1)، وفي معركة الخندق كان الموقف الواضح والمعروف أنه لم يبرز أحد من الصحابة ومنهم عمر لمنازلة ابن عبد ود العامري وهو يناديهم إلى البراز وهذا موقف واضح وقد ذكرناه عندما ناقشنا معركة الخندق(2)، كذلك عدم تمكنه من تحقيق النصر في خيبر وفتح الحصن وانهزامه هو والمسلمون الذين أرسلهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك المهمة، وهذا يعني أن سيرته خلت من أي موقف جهادي يظهر قوته وصلابته، وهذا الأمر لا يتناسب مع ما نقلته الرواية من قول لأبي سفيان بنبرة تحمل التحدي والإقدام، إلا أن الملاحظ أن الرواية صممت وفق مقاييس معينة الغرض منها رفع مكانة عدد من الصحابة والتقليل من مكانة علي بن أبي طالب وإظهاره بالموقف اللين الذي يسدي النصائح لأبي سفيان وكأنه عطف عليه، وهذا إيحاء خفي أراد من خلاله الراوي جعل الإمام علي يميل إلى القرابة والنسب، فأظهر أنه أسدي نصحاً لأبي سفيان كونه ينتمي إلى بني عبد مناف.
وهناك مفارقة أخرى هي أن أبا سفيان يعلم علم اليقين أن علي بن أبي طالب قتل ابنه حنظلة يوم بدر، وقتل غيره من الأمويين وهو لا يبالي بأبي سفيان أو نسبه وهو أمر معروف عن الإمام، فكيف يلتمس أبو سفيان منه التوسط لدى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخاطبه بلغة القرابة والنسب.
في الرواية إيحاء للمتلقي لدور الإمام الحسن المستقبلي وتحديداً في الصلح مع معاوية بن أبي سفيان وكأنها تهيء ذهن القارئ إلى ذلك لغرض إضفاء الشرعية على ماتم لمعاوية من خلال الصلح على اعتبار أن الأمور لم تكن وليدة الساعة ووليدة ظروف معينة، والتلميح إلى هذا الدور وكأنه قدر مكتوب ليس لأي أحد دخل
ص: 414
فیه(1).
سند الرواية الذي ذكره لنا البيهقي هو الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان
ابن الحكم والمسور بن مخرمة، ولابد لنا من وقفة من أجل مناقشة الأسماء الواردة في السند، فالمسور بن مخرمة(2) کان عثماني الهوى وفد على معاوية في أثناء حصار عثمان طالب النجدة لعثان (3)، وكان موالياً لمعاوية عندما اغتصب السلطة بحيث كان لا يسمع ذكر معاوية إلا صلي عليه(4). وقد انحاز إلى ابن الزبير في حركته(5)، وهو نفسه المصدر الأساس لرواية خطبة الإمام علي لابنة أبي جهل واعتراض الرسول على ذلك(6)، والتي تعد من الروايات الموضوعة التي تهدف للإساءة لآل البيت.
أما مروان فلا يحتاج مناقشة لنعرف انحرافه عن آل البيت بل عن الإسلام، وهو
ص: 415
ابن طرید رسول الله الذي أهدر دمه النبي، ولم يدخل المدينة إلا في خلافة عثمان، وقد ضمه عثمان إليه في خلافته واستكتبه فنظر إليه الإمام علي يوماً فقال: ((ويلك، وويل أمة محمد منك ومن بنيك. وكان يقال لمروان: خيط الباطل))(1).
أما عروة فقد تحدثنا عنه في الفصل الأول وبيّنا الكيفية التي كان يروي فيها أحاديثه، وكيف كان لميوله السياسية والمذهبية والقبلية دور مميز في روايته لتلك الأحاديث ، كذلك بينا كيف كان الزهري يدور في فلك السياسة الأموية ومعروف عنه تحريف كثير من الأحاديث وفق أهواء وميول ورغبات الأمويين.
وخلاصة القول إنه لا يمكن قبول ما ورد في رواية ابن إسحاق ؛ لأنها عبارة عن صورة مشوهة لسيرة الإمام علي ومحاولة لرفع منزلة قسم من الصحابة، وكأنها أريد بها أن تكون عنصر توازن في روايات السيرة النبوية .
بعد أن نقضت قريش الصلح القائم بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبحت المواجهة بين المعسكرين على وشك الوقوع وقد تهيأ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لذلك فبدأ بإجراءاته العسكرية التي يراها ضرورية جداً واعتمد في ذلك على أساسين مهمين للتمهيد لفتح مكة:
التمويه الذي استخدمه الرسول وذلك بالإيحاء للعدو بأنه متوجه إلى غير
ص: 416
الوجهة التي يرغبها(1)، إذ أرسل سرية بقيادة أي قتادة بن ربعي الأنصاري(2) إلى بطن اظم(3) في أول شهر رمضان سنة (8ه - 629م)(4)، وهو أسلوب تمويهي جيد اعتمده الرسول الأكرم قبل بدءه بغزو مكة.
عدم الإعلام عن تلك الغزوة وإحاطتها بسرية تامة ((وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال أي بنيه أأمركم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تجهزوه ؟ قالت: نعم فتجهز، قال این ترینه پريد؟ قالت: لا والله ما أدري))(5).
وهنا تبرز صورة من صور جهاد الإمام علي (عليه السلام) ، فعندما أجمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة(6)
ص: 417
إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقد نقل ابن هشام(1)، رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة ابن الزبير التي تتحدث عن هذا الأمر: ((لما أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسير إلى مكة كتب حاطب بن بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأمر، والسير إليهم، ثم أعطاه امرأة، زعم محمد بن جعفر أنها مزنية، وزعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وجعل لها على أن تبلغه قريش فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال أدرکا امرأة قد كتب معها حاطب بن بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد جمعنا له في أمرهم. فخرجا حتى أدرکاها بالخليقة(2) خليقة بني أحمد، فاستنز لاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا کُذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه فأتی به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))).
وقد ذكر الطبري (3) رواية ابن إسحاق نفسها التي أوردها ابن هشام، فيما ذكر
ص: 418
الواقدي(1) بسنده عن المنذر بن سعد عن یزید بن رومان: ((لما أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسير إلى قريش، وعلم بذلك الناس کتب حاطب بن بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و أعطى الكتاب امرأة من مزينة، وجعل لها جعلاً على أن توصله لقريش، فجعلته في رأسها ثم فتلته في رأسها ثم فتلت عليه فروتها، فخرجت، وأتی رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير فقال: أدرکا امرأة من مزينة، قد كتب معها حاطب کتاباً يحذر قريشاً فخرجا فأدرکاها بالخليقة، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئاً فقالا لها: إنا نحلف بالله ماكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا کُذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفكِ فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عني فاعرضا عنها، فخلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليها فجاءا به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))).
لقد تبين من خلال الروايات المتقدمة أن الرسول استخدم أعلى درجات السرية في توجهه لفتح مكة، فانتدب الإمام علياً (عليه السلام) لمهمة صعبة وغاية في السرية، وهي وجود كتاب فيه أسرار عسكرية تحمله امرأة، لذلك اعتمد الرسول الأكرم على كفاءة الإمام علي وقدرته على معالجة مواقف كهذه وقد اشرك في تلك المهمة الزبير ابن العوام، إلا أن الجدير بالملاحظة من خلال الرواية التي نقلها ابن هشام هو أنه بعد التفتيش لم يعثرا على أي شيء، وهنا جاء دور الإمام علي ودقة اختياره من قبل النبي، فمارس ضغطاً كبيراً على المرأة لأجل إخراج الكتاب لأنه على يقين بأنها تحمل كتاب إلى قريش ؛ لأن الأمر صادر من جهة لا يمكن لها أن تكذب وهذا هو الإيمان المطلق لعلي بنبوة محمد ورسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) . وبالفعل نجح الإمام
ص: 419
علي في استخلاص الكتاب وجلبه إلى الرسول وهي صورة واقعية نقلها ابن هشام حول إمكانات وقدرة الإمام علي على تنفيذ ما طلب منه.
أما رواية الواقدي فهي لا تختلف كثيراً في تفاصيلها عن رواية ابن إسحاق عدا التلاعب بالألفاظ من أجل تغيير الصورة الحقيقية للحادثة، فأشرك معه الزبير ابن العوام وهو يقوم بعملية الكشف عن الكتاب، حتى لا تكون تلك منقبة منفردة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، فذكر اشتراكهما في تنفيذ المهمة بدءاً باستنزال المرأة وتفتيش رحلها، حتى يصل إلى قولها: ((فقالا لها: إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنكِ...)).
إن التلاعب بألفاظ الرواية واضح جداً إذ تغيرت الصورة وبما يكون هذا التغيير فيه قصدية لتسوق الرواية للمتلقي أن الزبير وعلياً (عليه السلام) اشتركا في كشف عملية إخفاء الكتاب وهذا خلاف رواية ابن إسحاق التي أوردها ابن هشام في السيرة التي تبرز الإمام علياً فقط هو من أصر على كشف الكتاب، وقد انقسم المحدثون وأصحاب السير على قسمين؛ منهم من ذهب مع ما رواه ابن إسحاق(1) ، ومنهم آخر ذهب مع رواية الواقدي (2).
إن طبيعة مهمة الإمام علي (عليه السلام) في الكشف عن الكتاب الذي تحمله
ص: 420
المرأة، جاءت أهميتها نتيجة لما تحمله تلك الغزوة. أي فتح مكة . من أهمية قصوى، لذلك كانت المهمة على درجة عالية من السرية حرص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كل الحرص أن يسند هذه المهمة إلى من يعتمد عليه في حفظ الأسرار العسكرية وعدم تسريبها؛ لأن كتاب حاطب بن بلتعة إلى قريش حتماً يحتوي على أسرار مهمة وخطيرة فلابدَّ أن يكون عند القبض عليه بيد أمينة ترجعه إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
بعد أن حرص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن تحاط تلك الغزوة بسرية تامة وكاملة، توجه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحملته الكبرى قاصداً مكة في عشرة آلاف مقاتل من المسلمين (1). وعندما وصل الجيش الإسلامي إلى مشارف مكة حرص الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) على إظهار قوة المسلمين ليبث الرعب في قلوب المشركين من أهل مكة، فعمد إلى إشعال النيران فوق الجبال والتلال، فأمر كل فرد من أفراد الجيش أن يشعل ناراً في شريط طويل على الأرض ((وأمر أصحابه أن يوقدوا النيران فأوقد عشرة آلاف نار))(2)، فأصبح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجيشه على مشارف مكة وقد تهيأ لدخولها ولا نريد الخوض في تفاصيل تقدم الجيش من المدينة إلى مكة ؛ لأنه يخرجنا عن سياق البحث.
ص: 421
وجاء في رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح التي نقلها ابن هشام(1) ((أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين فرّق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل بعض الناس من کدی (2)، وكان الزبير على المجذبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس کداء... قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل العلم أن سعداً، حين وجه داخلاً قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. فسمعها رجل من المهاجرين - قال ابن هشام: هو عمر بن الخطاب - فقال يا رسول الله: اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها)).
وقد ذكر الطبري (3) رواية ابن إسحاق نفسها، فيما روى الواقدي (4) ((وأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رايته سعد بن عبادة وهو إمام الكتيبة فلما مر سعد براية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نادی: یا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً، فأقبل رسول الله حتى إذا صادف أبا سفيان ناداه: یا رسول الله أمرت بقتل قومك ؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشاً، وإني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس و أرحم الناس، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: یا رسول الله ما نأمن سعداً أن يكون منه صولة. فقال رسول
ص: 422
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله فيه قريشاً، قال: وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس ابن سعد، ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبی سعد أن يسلم اللواء إلا بإمارة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسل رسول الله بعمامته. فعرفها سعد فدفع اللواء إلى ابنه قیس)).
وذكر ابن عبد البر(1) ((فرتب الجيوش وجعل الراية بيد سعد بن عبادة وكان من قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فقال العباس: یا رسول الله هلكت قریش، لا قريش بعد اليوم. إن سعد بن عبادة قال كذا وكذا، وإنه حنق على قريش، ولابدَّ أن يستأصلهم، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنزع الراية من سعد بن عبادة وتدفع إلى علي، وقيل: بل إلى الزبير، وقيل: بل دفعها إلى ابنه قیس بن سعد لئلا يجد سعد في نفسه شيئاً)).
ومن خلال ما أوردناه من روايات وما ورد في كتب السيرة من روايات خلصنا إلى ثلاثة آراء في هذا الأمر، فابن إسحاق في روايته التي نقلها ابن هشام ذكر أن راية سعد سلمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي بن أبي طالب وطلب منه الدخول إلى مكة وهذا القسم الأول.
أما أصحاب الرأي الذين يقولون بأن الراية أخذت من سعد وسلمت إلى ابنه قيس تقدم هؤلاء الواقدي کما ورد في روايته، وهم القسم الثاني وهناك رأي آخر وجد في كتب المتأخرين ومنهم ابن عبد البر وابن كثير (2) يقول إن الراية سلمت
ص: 423
للزبير بن العوام وهم القسم الثالث.
إن ما ورد في رواية ابن إسحاق لا يمكن قبوله ؛ لأن المعروف أن الإمام علياً كان صاحب راية الرسول في كل حروبه، وقد ورد في رواية الواقدي(1) أن رايات المهاجرين الثلاث كانت مقسمة على (ثلاث رايات راية الزبير، وراية مع علي (عليه السلام) ، وراية مع سعد بن أبي وقاص)، وهذا يعني أن الإمام علياً كان يحمل راية عند الدخول إلى مكة هذا ما يضعف رواية ابن إسحاق بدفع الراية إلى علي هذا من جانب، ومن جانب آخر أن سعداً كان يحمل راية الأنصار وهذا عرف سائد أن لكل قبيلة أو مجموعة راية لا يجوز أخذها وإخراجها من دائرة تلك القبيلة.
إن رواية الواقدي ومن أيدها في القسم الثاني هي أقرب للواقع؛ لأن سعد ابن عبادة زعيم الخزرج ومن زعماء الأنصار البارزين لذلك من غير الممكن أن تدفع الراية لغير الأنصار لاسيما إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحترم الأعراف القبلية، وقد علل المفيد الأمر بالقول: ((فكان تلافي الفارط من سعد في هذا الأمر بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولم يرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحداً من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ راية سيد الأنصار سوى أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلم أنه لو رام غيره لامتنع عليه سعد))(2).
إلا أن هذا الأمر غير كافٍ ؛ لأن منزلة الإمام علي معروفة ومحفوظة ولكن هذه أعراف سائدة في المعارك ولا يمكن مخالفتها في ذلك الوقت؛ لأنها جزء من الاستراتيجية العسكرية المتعارف عليها، أما رأي المفيد فعلى الرغم من وجاهته في
ص: 424
أن الراية لا يصلح لها غير الإمام ولا يحسن حملها مثله، لكن الرسول كان يحافظ على الأعراف ويحترمها کما حدث في معركة أحد حين أعطى الرسول الراية لمصعب بن عمير مراعياً الأعراف والتقاليد العسكرية السائدة آنذاك.
أما رواية دفع الراية إلى الزبير بن العوام فهذا أيضاً بعيد عن الواقع إذا علمنا أن مصدر الرواية الرئيس هو موسى بن عقبة(1)، وقد بيّنا أن موسى بن عقبة خريج المدرسة الزبيرية وتأثر كثيراً بآرائها وحاول أن يسوق تلك المنقبة للزبير بن العوام، علماً أن الزبير أيضاً كان يحمل إحدى رايات المهاجرين عند دخوله إلى مكة .
دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وكانت الحشود تنساب خلفه إلى أكبر معقل من معاقل الشرك، وتمثلت له في تلك اللحظات وهو على أبواب مكة فصول طوال ذاق فيها الأمرين خلال ثلاثة عشر عاماً وخرج نهایتها مهاجراً یکمن في الكهوف نهاراً ويسير ليلاً خوفاً من القتل (2).
وقد ذكر ابن إسحاق في روايته التي نقلها ابن هشام (3) ((وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عهد إلى أمرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سمأهم وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن أبي سعد أخو بني عامر بن لؤي، وإنما أمر رسول
ص: 425
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتله؛ لأنه كان أسلم وكان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي، فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش، ففر إلى عثمان وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتی أتی به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له، فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صمت طويلاً، ثم قال: نعم، فلما انصرف عنه عثمان، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن حوله من أصحابه: لقد صمتُ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إليه يا رسول الله ؟ قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة... قال ابن هشام: ثم أسلم بعد فولاه عمر بن الخطاب بعض المحالة، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر)).
ثم أضاف ابن هشام(1) اسماءً أخرى منها الحویرث بن نقیذ ؛ وذلك لأنه آذی بنات الرسول فقال: ((وكان العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة يريد المدينة، فنخس بهما الحویرث بن نقیذ فرمی بهما الأرض)). لكن هذا أمر غير مقبول ؛ لأن العباس لا زال مشركاً في مكة أثناء هجرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كذلك فإن من حمل بنات الرسول إلى المدينة كان الإمام علياً كما بيّنا سابقاً ، لكن الرواية حاولت خلق منقبة للعباس بن عبد المطلب الذي أسلم كما هو معروف سنة (8ه - 629 م).
ذكر ابن إسحاق أسماء أخرى مثل سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وعكرمة ابن أبي جهل، وكانت سارة ممن تؤذي النبي بمكة، وأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فآمنه، فقتل أغلب هؤلاء على أيدي المسلمين والذي يهمنا من
ص: 426
هذا أن ابن إسحاق ذكر أن الحويرث بن نفيذ قتل على يد الإمام علي(1).
کما ذکر ابن هشام (2) كيفية دخول الإمام علي إلى مكة فنقل رواية ابن إسحاق عن سعيد بن أبي هند عن أبي مرة، مولى عقيل بن أبي طالب، عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت: ((لمانزل رسول الله بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي (3) قالت: فدخل عليَّ عليٌّ بن أبي طالب أخي، فقال والله لأقتلنهما، فأغلقت عليها باب بيتي ثم جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلمااغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثمان ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: مرحباً وأهلاً يا أم هاني، ما جاء بكِ ؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: قد أجرنا من أجرتِ، وآمنا من آمنتِ فلا يقتلهما))، قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام(4) وزهير بن أمية بن المغيرة(5)، وقد أغفل الطبري ذكر رواية ابن إسحاق التي أوردها ابن هشام في السيرة النبوية.
ص: 427
وذكر الواقدي(1) الرواية بالقول: ((وقالوا: وكانت أم هاني بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها - عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي والحارث بن هشام - فاستجارا بها وقالا: نحن في جوارك؟ نعم أنتم في جواري، قالت أم هاني: فهما عندي إذ دخل فارسُ مدججٌ في الحديد، ولا أعرفه، فقلت له أنا بنت عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . قالت: فكف عني وأسفر عن وجهه فإذا هو علي (عليه السلام) فقلت: أخي ! فاعتنقته وسلمت عليه، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما فقلت: أخي من بين الناس يصنع بي هذا قالت: وألقيت عليهما ثوباً وقال تجيرين المشركين، وحلت دونهما؟! فقلت: والله لتبدأنَّ بي قبلهما، قالت: فخرج ولم يكد، فأغلقت عليهما بيتاً وقلت لا تخافا،.. قالت: فذهبت إلى خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبطحاء فلم أجده، ووجدت فيه فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علياً ؟ أجرتُ حموين لي من المشركين فنفلت عليهما يقتلهما، قالت: فكانت أشد علي من زوجها وقالت تجیرین المشركين ؟ قالت: إلى أن طلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه رهجة الغبار، فقال مرحباً بفاختة أم هاني وعليه ثوب واحد، فقلّت ماذا لقيت من ابن أمي علياً ؟ ما كدت أنفلت منه أجرتُ حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما كان ذاك، قد آمنا من آمنتِ، وأجرنا من أجرتِ...)).
وقد أغفل بعض المتأخرين ذكر تلك الرواية منهم ابن الجوزي في المنتظم وابن الأثير في الكامل، أما ابن كثير (2) فيورد رواية ابن إسحاق نفسها التي ذكرها ابن
ص: 428
هشام وبالسند نفسه.
أما الملاحظات التي نسجلها على ما ورد في الروايات فيمكن أن نجملها بالنقاط
الاتية:
المعلوم أن رسول الله عندما دخل مكة أصدر أمراً للقادة ((أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة...))(1).
وهذا يعني أن الرسول أصدر عفواً عاماً عن أهل مكة باستثناء بعض الأسماء التي ذكرتها الروايات وقد اختلف في عددهم، فابن هشام ذکر خمسة رجال وثلاث نساء أما الواقدي(2)، فذكر ستة رجال وأربع نسوة منهن هند بنت عتبة بن ربيعة، ويتفق البلاذري(3) مع ما أورده الواقدي تماماً.
لذلك فأحماء أم هاني كانوا من ضمن المشمولين بالعفو، إذ لم ترد أسماؤهم من ضمن المطلوبين، وبذلك تسقط فرضية إجارتهم من قبل أم هاني، وقد صرح الرسول بهذا الأمر فقال: ((يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخٍ كريم، ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء))(4)، وهؤلاء تنطبق عليهم صفة الطلقاء، وقد وردت رواية أخرى تخالف روايتي ابن إسحاق والواقدي عن زيد بن الحباب عن ابن أبي ذئب عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب عن أخته
ص: 429
أم هاني قالت: ((لما كان يوم فتح مكة أجرتُ حموين لي من المشركين إذ طلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه رهجة غبار في ملحفه متوشحاً بها، فلما رآني قال: مرحباً بفاختة أم هاني، قلت یا رسول الله : أجرت حموين لي من المشركين، فقال: أجرنا من أجرتِ. وآمنا من آمنت...)(1).
وهذه الرواية أقرب للواقع؛ لأن أوضاع مكة عند الفتح كانت مضطربة و فيها شيء من عدم الاستقرار وهذا أمر طبيعي أن يلجأ هؤلاء حتى وإن سمعوا بعفو الرسول ليطمئنوا أكثر.
أورد ابن إسحاق ص ورة غ ير واقعية للإمام علي حيث صوره لنا غليظاً لا
يملك أي رحمة إزاء أي شخص حتى ولو كان مختبئاً مستجيراً بأخته، وهذا خلاف أخلاق الإمام علي الذي تميز بالساحة والرأفة.
لكن الشيخ المفيد(2) صور الأمر بصورة غير التي ذكرت فيها الروايات فقال : ((وبلغه (عليه السلام) أن أخته أم هاني قد اوت أُناساً من بني مخزوم، فقصد (عليه السلام) نحو دارها مقنعاً بالحديد، فنادى أخرجوا من أويتم، قال: فجعلوا يذرفون - والله کما تذرف الحبارى خوفاً منه - بعد ذلك ينقل الحوار الذي حصل بينه وبين أم هاني وطلبها من الإمام علي أن يتركهما وقد التمسته في ذلك إلا أنه أبی وأصر على قتلهما إلى أن قالت له: حلفت إلا شكيتك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لها: اذهبي قسمك إنه بأعلى الوادي))، وإن كانت هذه الرواية فيها تخفيف للصورة وتقليل من وطأة الحدث إلا أنه أبقى في ذهن المتلقي بأنَّ الإمام (عليه السلام) رجل حرب فقط لا يعرف لغة غير ذلك وهذا خلاف للواقع المعروف عن
ص: 430
سيرته المباركة.
لا يستبعد أن الرواية التي ذكرها ابن هشام في السيرة غير واقعية و آلهدف منها هو الإيحاء بأنَّ الإمام علي لا يملك غير الغلظة والشدة والعنف على عكس بقية الصحابة، من أجل مقارنته بغيره، فهو کما توحي الرواية يخطئ مثل الآخرين، وتصدر منه أفعال تنم عن عدم اكتراثه بما يصدره الرسول من أوامر ومنها إصداره العفو العام عن قريش.
من الوقائع التاريخية التي ذكرها ابن هشام(1) في السيرة النبوية والتي يكاد يكون فيها منفرداً عن غيره هي قضية مفتاح الكعبة، إذ نقل عن ابن إسحاق روايته التي قال فيها: ((ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده، فقال يا رسول الله: اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أين عثمان بن طلحة(2) ؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء... قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: إنما أعطيكم ما تُرزؤون لا ماتَروون، إنما أعطيتكم ما تمنون کالسقاية التي تحتاج
ص: 431
إلى مؤن، أما السدانة فيرزأ لها الناس بالبعث إليها، يعني كسوة البيت)) وقد سکت الطبري في تاريخه عن ذكر تلك الرواية.
أما بقية الرواة والمؤرخين، فقد ذكر الواقدي(1) أن رسول الله ((أرسل بلالاً إلى عثمان بن طلحة يأتيه بمفتاح الكعبة، فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) فأخبره أنه قال: نعم، ثم جلس بلال مع الناس، فقال عثمان لأمه والمفتاح يومئذ عندها: یا أمة أعطيني المفتاح فإن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) أرسل الي وأمرني أن أتي به إليه، فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مآثر قومه على يديه، قال: فو الله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حُجزتها وقالت: أي رجل يُدخل يده ها هنا ؟ فبينما هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار، وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: یا عثمان اخرج إلي فقالت أمه: یا بني خذ المفتاح فإن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تیم وعدي قال: فأخذه عثمان فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فناوله إياه، فلما ناوله بسط العباس ابن عبد المطلب يده فقال: يا نبي الله، بأبي أنت أجمع لنا الحجابة والسقاية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أعطيكم ما تُزرؤون ولا أعطيكم ما تَرزؤون منه...)).
أما ابن عبد البر (2) فذكر ((وطاف رسول الله بالكعبة، ودعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة بعد أن مانعته أمه ذلك ثم أصلحته، فدخل النبي البيت ومعه
ص: 432
أسامة بن زيد، وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة، ولا أحد معهم، فأغلق الباب عليه وصلى داخلها ركعتين، ثم خرج وخرجوا، وردَّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت، وقال: خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة...))، وذكر ابن الجوزي (1) وابن كثير (2) رواية ابن عبد البر نفسها.
ذكر ابن إسحاق في روايته أن الإمام علياً (عليه السلام) هو الذي طالب بمفتاح الكعبة، وذلك لضم السقاية والحجابة إلى بني هاشم، أما الواقدي فروى أن الذي طالب بضمها هو العباس بن عبد المطلب. أما من تأخر عنهم فذكر الرواية بعمومياتها دون الدخول في التفاصيل، ونحن بدورنا نناقش ما جاء في الروايات وفقاً لما توفر لدينا من أدلة وقرائن.
لم يقتصر ذكر هذه الرواية على روايات السيرة فقط بل دخلت ضمن تفسير آیات القرآن الكريم، فروي عن ابن عباس أنه قال في تفسير إحدى الآيات: ((فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة أخذ مفتاح الكعبة وهمَّ بدفعه إلى العباس - فنزلت «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» (3) - فأقره))(4)، وذكر الواحدي النيسابوري(5) في سبب نزول الآية أنه: ((لما دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح، أغلق عثمان الباب وصعد السطح، فطلب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ، المفتاح فقيل له مع عثمان، فطلب منه فأبى، وقال: لو
ص: 433
علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فلوى علي بن أبي طالب يده، وأخذ منه المفتاح وفتح الباب فدخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) البيت وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس المفتاح ليجمع له بين السدانة والسقاية، فأنزلالله تعالى الآية، فأمر رسول الله علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر)). وذكر السمعاني(1) في تفسيره: ((أن رسول الله لما فتح مكة أخذ المفتاح من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب، ودخل الكعبة، فلما خرج قال العباس: بأبي أنت وأمي يا رسول الله اجمع لي السدانة والسقاية فهمَّ رسول الله أن يدفع المفتاح فنزل قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».. فدعا رسول الله عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال خذوها يا بني طلحة، خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم)).
وقد أيد جملة من المفسرين(2) أن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب لما سأل رسول الله أن يعطيه المفتاح وتجمع له الحجابة والسقاية.
يزاد على ذلك أن هناك قرائنَ تدل على أن مسألة المفتاح كانت محصورة في العباس بن عبد المطلب، ومن هذه القرائن هي أن السقاية كانت عند العباس بن عبد المطلب قبل فتح مكة وأراد العباس أن تجمع له السقاية والسدانة، وفي هذا الأمر
ص: 434
ذكر الواقدي(1) أن رسول الله دفع: ((السقاية إلى العباس(2)، فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده من بعده)).
ومن القرائن أيضاً ما ذكره الطوسي(3) في تفسيره سبب نزول الآية الكريمة «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...»(4) حيث خاطب الله تعالى بهذه الآية قوماً جعلوا القيام بسقي الحجيج وعمارة المسجد الحرام من الكفار مع مقامهم على الكفر مساوياً أو أفضل من إيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فأخبر الله تعالى أنهما لا يستويان عند الله في الفضل ؛ لأن الذي آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله أفضل ممن يسقي الحجيج ولم يجاهد، حيث يروي عن الإمام أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أن الآية نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و العباس حيث قال العباس يوم بدر: إن سبقتمونا إلى الإسلام والهجرة لم تسبقونا إلى سقاية الحاج وسدنة البيت،
ص: 435
فأنزل الله تعالى الآية الكريمة الواردة في أعلاه.
وهذه قرينة دالة على أن العباس كان صاحب السقاية قبل الفتح وهذا ما أيده
أيضاً جمع من المفسرين(1).
إن رواية ابن إسحاق التي أوردها ابن هشام فيها مجانبة للحقيقة وضعف کبیر
حيث ضعفتها رواية الواقدي التي استندت الى أدلة وقرائن أكثر واقعية مما أورد ابن هشام ويمكن اعتبار ذلك فيه مجاملة للعباسيين - لا سيما إن ابن إسحاق کتب السيرة للمنصور العباسي كما قدمنا ، فنسب هذا الأمر للإمام علي حتى تصرف الأنظار عن فعل العباس بن عبد المطلب و تلميع صورته، وهذا أمر طبيعي أن يصدر عن ابن إسحاق، فهو الذي روى قضية أسر العباس يوم بدر بطريقة حاول فيها التخفيف من وطئ هذه المشاركة المخزية، فجعله في روايته مغلوب على أمره وأنه جاء مضطراً.
وهذا ينطبق على ابن هشام نفسه الذي روى أن العباس هاجر إلى النبي على عكس كل الروايات التي ذكرت أنه من مسلمي الفتح، فروى أنه التقى برسول الله في منطقة الحجفة(2) عندما كان الرسول متوجهاً لفتح مكة: ((وقد كان العباس بن
ص: 436
عبد المطلب لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض الطريق قال ابن هشام لقيه بالحجفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه راض))(1).
ص: 437
المبحث الثاني: الإمام علي (عليه السلام) بعد فتح مكة الإمام علي (عليه السلام) ينوب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلح بني جذيمة(1) .
بعد أن تم الفتح اقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وبعث إلى ما حولها سرايا تدعو إلى الله عز وجل ولم يأمرهم بقتال (2)، فذكرت المصادر التاريخية(3) أنه بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام غير مقاتل. ومعه قبائل من العرب؛ سليم ومذحج، وقبائل من غيرهم(4)، وكان عددهم ثلاثمائة وخمسين رجلاً فانتهى إليهم بأسفل مكة وقد أخبر بني جذيمة بقدوم خالد ومعه المسلمون، ولما وصل إليهم خالد بن الوليد وطلب منهم الإسلام قالوا له: نحن مسلمون صلينا وبنينا المساجد (5).
ص: 438
وقد نقل ابن هشام(1) رواية ابن إسحاق التي تتحدث عن هذا الأمر فقال: ((حدثني أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم: ویلکم یا بني جذيمة إنه خالد والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً. قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا يا جحدم، أتريد أن تُسفك دماؤنا ؟ إن الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وآمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ووضع القوم السلاح لقول خالد...)).
ثم يكمل ابن إسحاق روايته عن حکیم بن حكيم عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ((فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأُ إليك مما صنع خالد)).
وقد ذكرت بعض المصادر أن هناك ثأراً بين خالد بن الوليد وبني جذيمة في
لجاهلية (2).
ص: 439
إلا أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولغرض إصلاح الأمر ورأب الصدع أرسل علي بن أبي طالب لغرض الإنابة عنه ودفع دية من قتل خالد، فنقل ابن هشام(1)، رواية ابن إسحاق عن حکیم بن حكيم عن محمد بن علي فقال: ((ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال ياعلي: اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلم) فودي لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي لهم مليغة الكلب - شيء يحفر في الخشب ويجعل ليلغ فيه الكلب - حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا أداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي (عليه السلام) حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يؤدكم ؟ قالوا: لا، قال فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتیاطاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما لا يعلم ولا تعلمون ففعل، ثم رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت...))، وقد ذكر الطبري(2) في تاريخه والبيهقي (3) في دلائل النبوة رواية ابن إسحاق نفسها، كذلك فعل المؤرخون المتأخرون (4)
أما بقية الرواة فالواقدي (5) ذكر تفاصيل رواية ابن إسحاق نفسها فيما يخص
ص: 440
بعث الإمام علي بن أبي طالب لإصلاح أمر بني جذيمة بعد أن قتل خالد رجالهم ولكن باختلاف بسيط في الألفاظ لا يؤثر على معنى الرواية العام.
أما ابن عبد البر (1) فذكر بعد أن قتل خالد بن الوليد رجال بني جذيمة: ((بعث علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمال إليهم، فودى لهم جميع قتلاهم ورد إليهم ما أخذ منهم وقال لهم علي: انظروا إن فقدتم عقالاً لأديته، فبهذا أمرني رسول الله)).
من خلال ما أوردنا أعلاه يمكن ملاحظة ما يلي:
نقلت لنا الرواية التي ذكرها ابن هشام صورة أخرى للإمام علي زيادة على صور جهاده في سبيل الإسلام، وهذه الصورة هي أنه كان نائباً وممثلا عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لإصلاح ما أفسده خالد بن الوليد، فكان اختيار الإمام علي بن أبي طالب دون غيره لهذه المهمة هو لقربه من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لمراعاة الأعراف القبلية السائدة في الجزيرة العربية آنذاك التي تقضي بأنَّ إبرام العهود ونقضها وكذلك دفع الديات يتولاها الشخص نفسه أو من يمثله من أسرته فلذلك بعث علياً (عليه السلام) لكي يشعر ذوو القتلى بأهميتهم وقیمتهم لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .
لقد لقي تصرف الإمام علي (عليه السلام) وحسن أدائه للمهمة الموكلة إليه استحسان الرسول ، في المقابل تبرأ الرسول من عمل خالد والأخطاء التي ارتكبها، وقد حاول البعض أن يجد تبريراً لعمل خالد بقوله: ((لما بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا
ص: 441
صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر))(1).
وهذا تبرير واهٍ لأن شخصاً بمركز خالد بن الوليد لابدَّ له قبل الإقدام على قتل أي إنسان أن يتثبت قبل أن يريق دماء الناس ويسبي النساء، والدين لا يقوم على الأهواء الشخصية والرغبات الخاصة أو الثارات القديمة فكلمة صبأنا إن صحَّ قالها القوم فهي معروفة لدى خالد بن الوليد الذي نعت المسلمين كثيراً بذلك عندما كان مع مشركي قريش.
الإمام علي (عليه السلام) في غزوة حنين (2):
عندما سمعت هوازن بانتصار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجيشه وتحقيق الفتح (3)، اجتمعت رجالات هوازن وثقيف وحشدوا الحشود وقالوا: ((والله ما لقي محمد قوماً يحسنون القتال فأجمعوا أمركم وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم))(4).
وكانوا قد أجمعوا قبل ذلك حين سمعوا بخروج الرسول من المدينة وكانوا يظنون أنه يريدهم ولكن عندما عرفوا وجهته إلى مكة، وما حققه من نصر أغاظهم وبدأوا يفكرون بالخروج إليه قبل أن يخرج إليهم لذلك أعدوا العدة وخرجوا بجيش كبير معهم النساء والصبيان والأموال وأقبلت معهم ثقيف حتى نزلوا حنين(5).
ص: 442
وخرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم في اثني عشر ألفاً من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكة، فلما اتجه بجيشه نحو حنين قال رجل من أصحابه: ((لو لقينا بني شيبان ما بالينا وما يغلبنا اليوم أحد من قلة فأنزل الله تعالى «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ »(1)))(2)..
وقد نقل ابن هشام(3) تفاصيل تلك المعركة على شكل روایات متسلسلة فروی عن ابن إسحاق قوله: ((وفيمن ثبت من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث،وابنه الفضل ابن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن بن عبید، قتل يومئذ...)).
ونقل أيضاً عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر ابن عبد الله قال: ((رجل من هوازن على جمل أحمر، بیده راية سوداء، في رأس رمح له طويل أمام هوازن وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه...)).
ثم يكمل عن ابن إسحاق عن الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس ابن عبد المطلب: ((إني لمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بغلته البيضاء قد شجرتها بها، قال: وكنت امرءاً جسيماً شديد الصوت، قال: ورسول الله (صلى الله علیه و آله وسلم) يقول حين رأي من الناس: أين أيها الناس ؟ فلم أرَ الناس يلوون
ص: 443
على شيء، فقال يا عباس: اصرخ يا معشر الأنصار: يا معشر أصحاب السمرة قال فأجابوا لبيك، لبيك، قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه،فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . حتى إذا اجتمعوا إليه منهم مئة، استقبلوا الناس، واقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت: يا للانصار . ثم خلصت أخيرا: يا للخزرج. وكانوا صبراً عند الحرب، فأشرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال الآن حمي الوطيس. ..))
وينقل ابن هشام(1) عن ابن إسحاق روايته عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال: ((بينما ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمل يصنع ما يصنع إذ هوی له علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورجل من الأنصار یریدانه قال: فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فانجف عن رحله، قال: واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))).
وقد أورد الطبري(2) والبيهقي (3) رواية ابن إسحاق نفسها، أما الواقدي (4) فذكر :
ص: 444
((وعبأ رسول الله (صلىالله عليه و آله وسلم) أصحابه وصفّهم صفوفاً في السحر ووضع الألوية والرايات في أهلها، مع المهاجرين لواء يحمله علي بن أبي طالب (عليه السلام) وراية يحملها سعد بن أبي وقاص، وراية يحملها عمر بن الخطاب وفي الأنصار رايات.. قالوا: فلما انكشف الناس انحاز الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) ذات اليمين وهو واقف على دابته ولم ينزل، إلا أنه جرد سيفه وطرح غمده وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته العباس وعلي، والفضل بن العباس وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن ابن عبید الخزرجي، وأسامة بن زيد، وأبي بكر، وعمر عليهم السلام.. قالوا: وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام الناس إذا أدرك طعن، قد أكثر في المسلمين القتل، فصمد له أبو دجانة فعرقب جمله. فسمع خرخرة(1) جمله واكتسح الجمل. وشد علي وأبو دجانة عليه، فقطع علي يده اليمنى وقطع أبو دجانة ایده الأخرى وأقبلا يضر بانه بسيفيهما جميعاً حتى تثلم سيفاهما فكف أحدهما وأجهز الآخر عليه...)).
وذكر البلاذري(2) رواية مقتضبة ليس فيها أي تفاصيل يبين فيها انهزام المسلمين وثبات ثلة قليلة في الميدان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنهم علي بن أبي طالب. أما رواية اليعقوبي(3) فهي: ((ومضى علي بن أبي طالب إلى صاحب راية هوازن فقتله وكانت الهزيمة وقتل من هوازن خلق عظيم)). وهذه الرواية على
ص: 445
الرغم من أنها مقتضبة إلا أنها أوجزت الأمر بشكل جيد حيث أشارت إلى أن قتل صاحب الراية كان مفتاح النصر، وهكذا وردت الروايات من المتقدمين حول معركة هوازن إلا أن الأمر يحتاج إلى وقفة لغرض بيان ذلك:
اتفق أغلب الرواة على أن الإمام علیّاً هو من ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في حين فر المسلمون في بداية المعركة وعلى الرغم من اختلافهم في بقية الأسماء وهذا الأمر أصبح شبه متواتر حيث لم يقتصر على من تقدم من الرواة ولأن المؤرخين المتأخرين(1) تناقلوه أيضاً ولا تجد أحداً من أصحاب السير يتجاوز هذا الأمر عندما يمر على معركة حنين.
إن رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام حول معركة حنين وإن كانت متسلسلة في نقل الأحداث إلا أنَّنا نلاحظ أن هناك قطعاً واضحاً في سير الأحداث حيث إنه لم يستمر في إيراد التفاصيل بعد أن أقدم الإمام علي على قتل حامل راية هوازن، ولكن عند النظر إلى ما نقله النعمان المغربي(2) يصبح الأمر أكثر وضوحاً: ((و نظر علي صلوات الله عليه وهو يجالد بين يدي رسول الله صلوات الله عليه وآله ويذب عنه إلى صاحب لواء المشركين وهو من هوازن على جمل والراية معه وهو يطعن بها في المسلمين وقد تضايقوا في وعرهم(3) منهزمين، فأهوى علي صلوات الله عليه إلى صاحب الراية من خلفه فضرب عرقوب جمله بالسيف فقتله، فصار حداً والجمل حداً بين المسلمين والمشركين، ونادي العباس - بأعلى صوته - يا معشر
ص: 446
المسلمين، يا معشر المهاجرين والأنصار يا أصحاب الشجرة ويا أهل بيعة الرضوان هلموا إلى نبيكم...))، فقد نقل لنا الدور البارز والمميز للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكونه كان مفتاحاً لنصر المسلمين بعد أن قتل حامل راية المشركين وهذا ما أيده المفيد(1): ((وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء، على رأس رمح طويل أمام القوم إذا أدرك ظفراً من المسلمين أكب عليهم، وإذا فاته الناس رفعه لمن ورائه من المشركين فاتبعوه وهو يرتجز ويقول:
أنا أبو جرول لا أبرح*** حتى نبيح القوم أو نباح
فصمد له أمير المؤمنين (عليه السلام) فضرب عجز بعيره فصرعه، ثم ضربه
فقطره، ثم قال:
قد علم القوم لدى الصياح*** أني في الهيجاء ذو نصاح
فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله)).
والغريب في الأمر أن ابن هشام لم ينقل تفاصيل الأحداث في هذا المورد بدقة لتكتمل صورة الحدث لدى القارئ وإنما ترك الأمور بلا نهايات وبذلك تكون صورة الحدث بها شيء كبير من الضبابية، وقد لاحظنا أنه أشرك شخصاً آخر من الأنصار مع الإمام علي في قتل حامل الراية، من دون أن يصرح باسمه، بينما ذكر الواقدي اسم ذلك الأنصاري وهو أبو دجانة، وإن كنا لا نريد الاستغراق كثيراً في هذا الموضوع، لكن الذي يبدو أن هناك منهجاً عند هؤلاء الرواة في إضافة أسماء أخرى لكل عمل بطولي يقوم به الإمام علي لسرقة جهوده و تحویل ذهنية القارئ
ص: 447
إلى أشخاص آخرين، وقد لخص النعمان المغربي(1) حقيقة ما جرى في حنين وما قام به الإمام علي فيها بالقول: ((ولما أصيب صاحب لواء المشركين ولم يقدروا على أن يقيموا غيره مكانه انحل نظامهم واضطربوا وضرب الله عز وجل في وجوههم وأيد رسول الله بجنود لم تروها کما اخبرنا سبحانه، فما رجع آخر الناس من الهزيمة إلا والأساری بين يدي رسول الله مكتوفين والغنائم قد حيزت. وكان من علي صلوات الله عليه يومئذ من البلاء ما لم يكن لأحد مثله...).
عند التمعن في رواية ابن إسحاق التي أوردها ابن هشام يتبادر إلى الذهن آن المنهزمين من المسلمين إنا عادوا عند سماعهم صوت العباس بن عبد المطلب وكأن الراوي يريد من ذلك الإيحاء بأنَّ من ساهم في عودة المسلمين إلى القتال هو العباس بن عبد المطلب ودوره المميز في المناداة، وهذا خلاف الواقع لأنه قال في روايته ان سبب الهزيمة انهم اصطدموا بقوة المشركين، فدب الخوف والذعر في نفوسهم، وهذا الخوف لا يبدده الا عمل عسكري يقلب الموازين كي يعودوا بمعنويات قتالية عالية وهذا ما حصل بعد اقدام الإمام علي على قتل أبي جرول حامل راية المشركين إلا أن مناداة العباس حصلت بعد أن رأى أن الأمور تسير لصالح المسلمين وان مجری المعركة قد تغير من هزيمة إلى نصر، فكانت عودة المسلمين للقتال بعد أن تعززت ثقتهم بالنصر مما حفز لديهم الارادة بمواصلة القتال وإلا مناداة العباس من دون أن يسبقها عمل عسكري لا فائدة منها.
وهكذا تعودنا عند ملاحظة روایات سيرة ابن هشام بأنَّ الرواية التي تخص الإمام علیّاً وفيها منقبة له يشرك بها غيره أو تغير الفاظها بحيث تفرغ من محتواها أو تقطع ولا تذكر فيها.
ص: 448
بعد أن عاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتح مكة اقام في المدينة ما بين ذي الحجة ورجب من سنة تسع للهجرة، أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم وذلك في زمن عسرة الناس وشدة الحر، وجدبٍ من البلاد(1)، وقد بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم، وقد حض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين على القتال والجهاد وأمرهم بالصدقات، فحملوا صدقات كثيرة(2).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلّما يخرج في غزوة ويخبر عنها، حيث انه يخبر غير الوجهة التي يتوجه إليها وهي جزء من الاستراتيجية العسكرية التي يتبعها في غزواته، ألا غزوة تبوك، فإنه بيّنها للناس وأمرهم بالتهيؤ لها وذلك لبعد المسافة وشدة الزمان وكثرة العدو واخبرهم أنه يريد غزو الروم(3).
وهذا يعني أن هذه الغزوة ليس ككل الغزوات لبعد المسافة والوقت الذي تحتاجه والابتعاد عن المدينة وقوة العدو، وقد تخلف عن الجيش في هذه الغزوة كثير من المنافقين الذين أخذوا بطريقة وأخرى يثبطون همم المسلمين ويدعونهم إلى التقاعس فذكر ابن هشام(4) في السيرة: (فبعث إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمر أن يحرق عليهم بيت سويلم(5)، ففعل طلحة).
ص: 449
الأمر الذي يدفعنا إلى القول أن هناك خطراً حقيقياً يهدد المدينة في حالة خروج الرسول عنها ولابدَّ له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجد علاجاً ناجعاً و مطمئناً له في حال خروجه وسفره في تلك الغزوة، لذلك كان بحاجة إلى شخص يسد مسده في المدينة، فاختار الإمام عليّاً (عليه السلام) ليقوم مقامه.
وذكر ابن هشام(1) في هذا الباب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمل: (على المدينة محمد بن سلمة وفي رواية أخرى عن عبد العزيز الدراوردي سباع بن عرفطة)، ثم نقل عن ابن إسحاق قوله: ((فلما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تخلف عنه عبد الله بن أبي، فيمن تخلف من المنافقين واهل الريب، وخلَّف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه الا استثقالاً له، وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب (عليه السلام) سلاحه، ثم خرج حتى أتی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو نازل بالجرف(2)، فقال یا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني إنك استثقلتني وتخففت مني، فقال كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضي يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع إلى المدينة ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سفره))(3).
ص: 450
وأورد الطبري(1) رواية ابن إسحاق نفسها إلا أنه زاد عليها: (وخلف رسول الله علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، اخا بني غفار).
وأغفل الواقدي ذكر حادثة الاستخلاف فيما ذكر ابن سعد(2): (واستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة محمد بن مسلمة وهو أثبت عندنا ممن قال استخلف غیره).
أما البلاذري(3) فنقل عن أبي نعيم الفضل بن دکین، عن الفضل بن مرزوق، عن عطية بن أبي سعد قال: (غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبوك وخلف علياً في أهله فقال بعض الناس ما منعه من أن يخرج إلا أن كره صحبته فبلغ ذلك علياً فذكره للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)).
وروى النسائي(4) هذه الرواية عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال: (قال لما غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غزوة تبوك خلف علياً بالمدينة فقالوا فيه ملَّه وكره صحبته فتبع عليٌ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لحقه بالطريق فقال يا رسول الله خلفتني بالمدينة مع الذراري والنساء حتى قالوا ملّه وكره صحبته فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنما خلفتك على أهلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسی غير أنه لا نبي بعدي).
ص: 451
وذكر ابن عبد البر(1) أن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) خرج ((وضرب عسكره على باب المدينة، واستعمل عليها محمد بن مسلمة، وقيل سباع بن عرفطة وقيل بل خلّف عليها علي بن أبي طالب وهو الأثبت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلّف عليها في غزوة تبوك، فقال المنافقون: استثقله، فذكر ذلك عليٌّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... فقال: كذبوا، إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع، فاخلفني في أهلي وأهلك، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي...)).
أما من تاخر من المؤرخين (2) فذكر رواية ابن إسحاق نفسها بأنَّ الرسول الأكرم استخلف علياً (عليه السلام) على أهله ولم يستخلفه على المدينة.
ومن خلال هذا الاستعراض لما جاء في الروايات تبين أن هناك رأيان، الأول ذكره ابن هشام وهو أن محمد بن مسلمة كان هو المستخلف علی المدينة والإمام عليّاً على أهله، والثاني الذي ذكره قتادة عن سعد بن أبي وقاص في استخلاف الإمام علي على المدينة عامة، ونحن بدورنا نميل إلى الرأي الثاني وذلك لعدة أسباب:
لم يحدثنا التاريخ وأصحاب السير أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي أي من غزواته أو خروجه من المدينة استخلف أحداً على أهله واستخلف آخر لإدارة شؤون المدينة إنما دائماً يستخلف أحد أصحابه للقيام بتلك المهمة.
أراد الراوي من خلال روايته أن يبرز مسألة مهمة وهي أن الإمام عليّاً (عليه
ص: 452
السلام) لم يكن بمستوى الأهلية لإدارة شؤون المدينة بعد غياب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو في هذه الحالة يذهب مع ما ذهب إليه منافقو المدينة الذين تكلموا بحق الإمام علي كلاماً غير لائق بمقامه الشريف وهو بذلك يمهد إلى أن الإمام علیّاً غير مؤهل لخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
المكانة السامية للإمام علي وبروزه في كل الحروب كشخصية قتالية فذة لا يمكن لأي قائد أن يستغني عن إمكانيات كهذه، وكل الحروب والغزوات التي خاضها المسلمون شاهد على ذلك، والذي نقل روايات السيرة كان يعلم قدرة الإمام علي وإمكانياته التي لا يمكن التفريط بها إطلاقاً، ومع كل هذه الإمكانيات لم يصحبه الرسول الأعظم معه إلى تبوك واستخلفه على المدينة، وهذا يعني أن بقاءه في المدينة كان أهم من الذهاب مع الحملة، وذلك لما يتمتع به من قدرة على القيادة وخلافة الرسول.
وبناءً على ما تقدم فإن بعد المسافة بين تبوك وبين المدينة التي كانت تستدعي بقاء الرسول الأكرم وجنده فترة طويلة خارج المدينة، ومع وجود المنافقين في المدينة وتخلفهم عن اللحاق بالحملة ومحاولاتهم زعزعة أمن المدينة وعلى رأسهم عبد الله بن أُبي ، فكان لابد للرسول أن يطمئن على الوضع العام في المدينة، وبما أنه كان قائد الحملة إلى تبوك لذلك كان الوضع يفرض اختیار شخص على مستوى عالٍ جداً من الإخلاص والكفاءة ويخشاه المنافقون ولا يجرؤوا على أي عمل بوجوده، لذلك روي عن الرسول قوله: ((يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك))(1)، ويؤيد ما قدمناه أن المنافقين عندما علموا باستخلافه حسدوه وعظم عليهم مقامه بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلموا أنه لم يغب إذا حضرها، وأنه لا مطمع للعدو
ص: 453
فيها بوجوده(1).
وحادثة الاستخلاف لم تكن حدثاً عابراً في تاريخ المسلمين بل ارتبطت بقول عظیم صدر من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق الإمام علي (عليه السلام) : ((ألا ترضى بأن تكون مني بمنزلة هارون من موسی...))(2)، وهذه قرينة مهمة فمنزلة هارون من موسى والذي أنزل الله فيها قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا *قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى »(3)، فقوله تعالى أثبت لهارون شراكة موسى في النبوة ووزارته على تأدية الرسالة وشد الأزر به في النصرة، وقال في استخلافه له « اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ »(4)، فثبت له بخلافته بحكم التنزيل فلما جعل رسول (صلى الله عليه
ص: 454
وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) جميع منازل هارون من موسى في الحكم منه إلا النبوة، ووجبت له وزارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشد الأزر بالنصر(1)، فإن خلافة علي (عليه السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المورد ليس كما يدعي البعض من أصحاب السير إنما مقتصرة في الأهل وإنما هنا بحسب ما تقتضي القرينة خلافة في كل شيء، وهذا المراد من الموضوع فقد كانت خلافة علي (عليه السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كخلافة موسى في قومه لها نفس المقومات والامتيازات الدينية والنبوية.
وما قدمناه يتناقض تماماً مع ما ذهب إليه ابن هشام وغيره من أن الاستخلاف كان مجرد لمسألة آنية في الأهل لغرض دفع الضرر عنهم. إن تولية الإمام علي للأمر بعد الرسول والخلافة له لم تكن مقتصرة على مكان معين ووقت معين بل هي مطلقة ((ولاه الله الأمر بعد محمد في حياته حين خلفه في المدينة، فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه))(2).
لقد أورد ابن هشام في روايته أن الرسول استخلف على المدينة محمد بن مسلمة أو سباع بن عرفطة، ولم يعتمد على رواية ابن إسحاق التي لمح فيها إلى أن هناك خطراً كبيراً كان يتهدد المدينة، إضافة إلى ردة فعل المنافقين من بقاء الإمام علي (عليه السلام) بالمدينة كأنه ضرب لمصالحهم ولمخططاتهم، كذلك فإن ابن إسحاق لم يذكر من استخلفه الرسول على المدينة بل ذکر استخلاف الإمام علي (عليه السلام) على أهله، وفي السياق نفسه ذكر قضية المنافقين، ولا يستبعد أن يكون هناك تحريف في رواية الاستخلاف على المدينة سواء أكان ابن إسحاق الذي قام بذلك الفعل إرضاءً
ص: 455
للمنصور العباسي أم ابن هشام الذي هذب سيرته.
وتجدر الإشارة إلى أن ابن هشام تعامل مع مناقب أمير المؤمنين بصورة ممنهجة، فكان لا يجد منقبة له إلا حشر معه اسماً آخر من الصحابة، وإن وجد له منقبتين قسمها بينه وبين غيره ومثال ذلك ما رواه عن فتح خیبر حيث لم يحتمل أصحاب السير أن يجمعوا لعلي بن أبي طالب منقبة الفتح وقول الرسول في ذلك مقولته المشهورة وبين مقتل قائد الحصن مرحب، فذكر ابن هشام وغيره أن من قتل مرحباً هو محمد بن مسلمة، وهذا ينطبق على روایات معركة تبوك التي نتحدث عنها، إذ برز اسم محمد بن مسلمة مرةأخرى كخليفة للرسول على المدينة، ويبدو أن الراوي أراد إفراغ منقبة حديث المنزلة من محتواها الذي أريد له وجعله حدثاً طبيعياً لغرض إرضاء علي بن أبي طالب عندما خلّفه الرسول على المدينة أو على أهله كما ذكروا.
إلا أن قضية البروز الدائم لمحمد بن مسلمة في واجهة الأحداث عندما تكون هناك منقبة لعلي بن أبي طالب، لم نعثر على تفسير حقيقي لها إلا أنَّنا وجدنا أن مروان ابن الحكم قد صلى عليه عند وفاته(1)، وهذا يعني هناك رضاً من قبل الأمويين على تلك الشخصية، وربما استغلت مكانة هذا الصحابي الأنصاري لتمرير ما أرادوا من محو مناقب الإمام علي.
ص: 456
تبليغ سورة براءة(1) في الحج؛
بعد غزوة تبوك وعودة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، أقام شهر رمضان وشوال وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنة (9ه - 630 م) ليقيم للمسلمين حجهم(2)، فخرج في ثلاثمئة من المدينة قاصدين مكة وبعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرين بدنة، وساق أبو بكر عنه خمسة بدنات(3) والناس من أهل الشرك على منازل حجهم، فخرج ومن معه من المسلمين(4) .
وروى ابن هشام(5)، عن ابن إسحاق عن حکیم بن حكيم عن عباد بن حنیف عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام أنه: ((لما نزلت براءة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد بعث أبا بكر.. ليقيم للناس الحج، قيل له يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجلٌ من أهل بيتي، ثم دعا علي
ص: 457
ابن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) عهد فهو له إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العضباء، حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا. فأقام أبو بكر للناس الحج. والعرب آنذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال يا أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام هذا مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلى مدة، فهوله إلى مدته فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)). ونقل البيهقي(1) رواية ابن إسحاق نفسها.
وقد ذكر الواقدي (2) تبلیغ سورة براءة بأسانید متعددة: ((قالوا: كان قبل أن تنزل براءة قد عاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أناساً من المشركين عهداً فاستعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر على الحج، فخرج أبو بكر
ص: 458
في ثلاثمئة من المدينة، وبعث معه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشرين بدنة(1).. وساق أبو بكر عنه خمس بدنات.. وأهل أبو بكر في ذي الحليفة (2)، وسار حتى إذا كان بالعرج(3) في السحر سمع رغاء ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القصواء، فقال: هذه القصواء، فنظر فإذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) عليها، فقال: أستعملك رسول الله على الحج ؟ قال: لا ولكن بعثني اقرأ براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده... وقرأ علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه يوم النحر عند الجمرة براءة ونبذ إلى كل ذي عهد عهده. قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)).
ونقل البلاذري(4) رواية تبليغ سورة براءة بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ((إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث بسورة براءة مع أبي بكر، ثم بعث علياً فأخذها من أبي بكر، فجاء أبو بكر فقال: يا رسول الله هل نزل فيّ شيء ؟ قال: لا، ولكنه لا يؤدي عني غيري أو رجل من أهل بيتي. فكان أبو بكر على الموسم، وكان علي ينادي بهؤلاء الكلمات لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، والله ورسوله بريئان من المشركين أو قال من كل مشرك)).
ص: 459
وروى اليعقوبي(1) ((وفي تلك السنة وجه علي بن أبي طالب بسورة براءة فأخذها من أبي بكر، فقال أبو بكر: یا رسول الله هل نزل فيّ شيء ؟ فقال: لا، ولكن جبريل قال لي: لا يبلغ إلا أنت أو رجل من أهلك فقرأها على أهل مكة...)) ، وروی الطبري(2) بسنده عن السدي ((قال: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين، يعني من سورة براءة، فبعث بهن رسول الله مع أبي بكر وأمره على الحج، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحُليفة اتبعه علي فأخذها منه، فرجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء ؟ قال: لا، ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني... فسار أبو بكر على الحج وسار علي يؤذن ببراءة...)).
وعن أبي سعيد الخدري نقل ابن الجوزي (3) ((قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) أبا بكر على الموسم وبعث بسورة براءة و أربع کلمات إلى الناس، فلحقه علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الطريق، فأخذ علي السورة والكلمات وكان يبلغ وأبو بكر على الحج))، ثم أضاف إلى روايته رجوع أبي بكر إلى النبي من أجل الاستفهام عن سورة براءة: ((فلما رجعا قال أبو بكر: مالي هل نزل فيّ شيء ؟ قال: لا إلا خيراً، قال: وما ذاك؟ قال: إن علياً (عليه السلام) لحق بي فأخذ السورة والكلمات، قال: أجل لم يكن يبلغها إلا أنا أو رجل مني)).
أما ابن الأثير(4) فذكر ((وفيها - يعني السنة التاسعة - جمع أبو بكر بالناس...
ص: 460
فلما كان بذي الحليفة أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أثره علياً وأمره بقراءة سورة براءة على المشركين، فأدركه بالعرج، وأخذها منه... فقال أبو بكر: یا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل فيّ شيء ؟ قال: لا ولكن لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني)).
وعند العودة لمناقشة تلك الروايات تبين أنها انقسمت على ثلاثة أقسام: القسم الأول رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام والبيهقي حيث ذهب إلى أن سورة براءة نزلت بعد توجه أبي بكر إلى الحج فانتدب الرسول الإمام عليّاً للحوق بأبي بكر، ومن ثم قراءة السورة نيابة عنه في موسم الحج الذي كان أميره أبو بكر .
القسم الثاني ما تبناه الواقدي في روايته لتلك الحادثة حيث لم يشر إلى سورة براءة هل كانت عند أبي بكر أو نزلت بعده وإنا أبقى الأمر عائماً. .
أما رواية ابن عباس التي نقلها البلاذري ورواية اليعقوبي ورواية السدي التي نقلها الطبري ورواية أبي سعيد الخدري التي نقلها ابن الجوزي أشارت إلى أن سورة براءة كانت عند أبي بكر وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب أن يلحقه ويأخذ السورة منه ويقرأها نيابة عنه.
لقد قدمت الرواية الواردة عند ابن هشام والتي نقلها عن ابن إسحاق صورة غريبة جداً، وحملت معانٍ خفية غير واقعية، فانفرد عن بقية المصادر الأولية بتكوين هذه الصورة إذ جعل أبا بكر أميراً للحج، وأن الإمام علياً كان مكلفاً بمهمة أخرى، وأمر أن يلحق بأبي بكر ليكون ضمن إمرة أبي بكر مأموراً، وهذا فيه مجانبة للواقع ولحقائق التاريخ حيث لم يسجل التاريخ أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يوماً تحت إمرة أحد إلا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونحن هنا لا نستطيع أن نعتبر أن الرواية جاءت صدفة من دون تخطيط مسبق؛ لأن الرواية تحمل
ص: 461
في طياتهاأهدافاً سياسية، فقد تلاعبوا بالألفاظ من أجل إبراز صورة أبي بكر وجعله في مقام الإمرة على الإمام علي ، ونرى أن الرواية أكدت أن أبا بكر لما رأى علياً في الطريق سأله أمير أم مأمور ؟ فكان جواب الإمام علي حسب الرواية بل مأمور، وهذا إيحاء للمتلقي بأنَّ أبا بكر هو الذي كان أميراً على الإمام علي (عليه السلام) الذي انحسرت مهمته بتبليغ سورة براءة، وهذه صورة أخرى أرادها ابن هشام للإمام علي، فلم ترق له ولمن نقل عنه منقبة تبليغ سورة براءة ورمزيتها العالية بأنَّ الأمور العظيمة لا يتصدى لها سوى الرسول الأعظم أو نفسه، فعمل على إفراغها من محتواها وجعلها أمراً عائليا بحكم القرابة، كما عمل مع استخلاف الإمام في معركة تبوك، وبذلك حقق ما أرادته السلطات التي دونت السيرة في عهدها، وجعل أبا بكر أكثر قدرة على الإمارة من الإمام علي وفقاً لاختيار الرسول.
أما رواية الواقدي فهي اقرب المنهج التوافق الذي رأيناه في الكثير من روایات السيرة فلم ينكر منقبة الإمام وفي الوقت نفسه لم يعط المنقبة حقها من التوضيح، وربما كان الوضع السياسي والفكري في عهده ضاغطاً عليه فترك روايته بهذه الصورة.
وقد ورد في روايات القسم الثالث مجموعة من الحقائق لابدَّ من الإشارة إليها:
أعطى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ناقته القصواء للإمام علي (عليه السلام) لتكون مسألة التكليف بالإبلاغ ثابتة لا تحتاج دلیل وغير قابلة للرفض من قبل أبي بكر.
رجوع أبي بكر - حسب رواية السدي التي ينقلها الطبري - إلى الرسول الغرض الاستفسار عن سبب استبداله ؛ ولأنه شعر أنه فقد شيئاً مهماً وهو التبليغ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وذلك يعني نیل مكانةكبيرة عند المسلمين.
ص: 462
إذا علمنا أن المكان الذي رجع منه أبو بكر حسب الرواية ليس ببعيد من المدينة
وهو ذو الحليفة الذي يبعد سبعة أميال فقط.
وقد يؤيد ذلك ما ذكره النسائي(1) الذي قال: ((إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث ببراءة إلى أهل مكة مع أبي بكر ثم اتبعه بعلي، فقال له: خذ الكتاب فامض به إلى أهل مكة، قال: فلحقه فأخذ الكتاب منه، فانصرف أبو بكر وهو کئب، فقال: يا رسول الله: أنزل فيّ شيء، قال: لا، إني أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي)).
ذكر جمع كبير من المفسرين(2) أن الإمام علي بن أبي طالب ذهب بأمر من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأخذ السورة من أبي بكر ويبلغها نيابة عنه في مكة.
لذلك فإننا نتفق مع الروايات التي ذهبت إلى أن السورة كانت مع أبي بكر ولم
تنزل بعد توجهه إلى مكة.
لم تتفق الروايات التاريخية على سرية الإمام علي إلى اليمن، ولم تكن رواياتهم واضحة بهذا الخصوص، ولعل اللبس في الموضوع جاء من أن الإمام عليّاً (عليه
ص: 463
السلام) قاد أكثر من سرية إلى تلك البلاد، ومن الواضح أن سرية الإمام حسب ما جاءت في كتب السيرة مهمة جداً، لذلك أفردت لها عنوانات رئيسة، لكن على الرغم من ذلك فإن الروايات مشوشة وغير واضحة، فلم نعثر على تفاصيل عن بقية السرايا التي قادها الإمام علي وبعوثه إلى اليمن.
وقد أفرد ابن هشام(1) عنواناً رئیساً بعنوان (غزوة علي بن أبي طالب إلى اليمن) إلا أنه لم يتناول أي تفاصيل لذلك واكتفى بالقول: ((وغزوة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى اليمن، غزاها مرتين... قال ابن هشام قال أبوعمرو المدني: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد في جند آخر، وقال: إن التقيتما فالأمير علي بن أبي طالب...)).
هذا كل ما أجادت به سيرة ابن هشام حول هذه السرية المهمة، إلا أن الواقدي(2) ذكرها بالتفصيل فقال: ((قالوا: بعث رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) على بن أبي طالب (عليه السلام) في رمضان سنة عشر، فأمره رسول الله (عليه السلام) أن يعسكر بقباء فعسکر بها حتى تنام أصحابه فعقد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ لواءً، أخذ بعمامة فلفها مثنية مربعة فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه، وقال: هكذا اللواء، وعمّمه بعمامة، ثلاثة أكوار، وجعل ذراعاً بين يديه وشبراً ورائه ثم قال هكذا العمة)).
ثم يذكر رواية مسندة إلى أبي رافع قال: ((لما وجهه رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: امض ولا تلتفت: فقال علي (عليه السلام) : یا رسول الله، كيف
ص: 464
أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلاتقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً... ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا اله الا الله ؟ فإن قالوا: نعم، فقل هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقال: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم ؟ فإن قالوا: نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك. والله لأن يهدي الله على يدك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت ! قال: فخرج في ثلاثمئة فارس، فكانت أول خيل دخلت تلك البلاد، فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد - وهي أرض مذحج - فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم وسبي نساء وأطفال، ونعم وشاءٍ وغير ذلك.
فجعل علي على الغنائم بُريدة بن الحصيب (1)، فجمعوا إليه ما أصابوا قبل أن يلقاهم جمع، ثم لقى جمعاً فدعاهم إلى الإسلام وحرض بهم، فأبوا ورموا في أصحابه، ... ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا وتركوا وراءهم لواءهم قائماً، فكف عن طلبهم ودعاهم إلى الإسلام، فسارعوا وأجابوا وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، قالوا: نحن على من ورائنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله)).
ثم ذكر الواقدي في روايته تقسيم الإمام علي للغنائم التي أصابها والتحاقه بالرسول ((فلما كان بالفتق (قرية بالطائف) و خلف على أصحابه والخمس أبا رافع فكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن، احمال محكومة أي شدّت بعضها على بعض
ص: 465
ونعم تساق مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم)).
أما ابن سعد(1)، فذكر ((ثم سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن: يقال مرتين أحدهما في شهر رمضان سنة عشر من مهاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)))، ثم يذكر تفاصيل رواية الواقدي نفسها من دون أن يتطرق للسرية الثانية .
وذكر البلاذري(2) ((وبعث (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى اليمن في شهر رمضان سنة عشر لقبض الصدقات، فلم يقاتله أحد وأدوا له الصدقات، ثم كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمره موافاته بالموسم فوافاه)).
ونقل الطبري(3) رواية بسنده عن البراء بن عازب: ((بعث رسول الله خالد ابن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فكنت فيمن سار معه فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالد ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه ترکه، قال البراء: فكنت فيمن عقب معه، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن، بلغ القوم الخبر، فجمعوا له، فصلى بنا عليٌّ الفجر فلما فرغ صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم کتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله
ص: 466
وسلم) ، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قرأ كتابه خر ساجداً، ثم جلس فقال السلام علی همدان، السلام علی همدان، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام).
أن ابن هشام في السيرة النبوية ذكر رواية مقتضبة جداً حول موضوع سرية الإمام علي بن أبي طالب إلى اليمن واكتفى بإشارات بسيطة حيث بين أن هناك سريتين له إلى اليمن إلا أنه لم يعط أي تفاصيل وترك الأمور من دون أي إيضاح.
كانت رواية الواقدي مفصلة مصورة وافية عن السرية لكنه في الوقت نفسه لم يحدد وجهته بشكل دقيق إلى اي مناطق اليمن، فقط حدد وقتها وهو سنة عشر للهجرة في رمضان قبل حجة الوداع.
أما رواية البراء التي نقلها الطبري فورد فيها إسلام قبيلة همدان ولم يذكر فيها وقتاً محدداً وهذا يدل أن السرية التي ذكرها الواقدي هي غيرها التي ذكرها الطبري مستندين الى رأي ابن سعد الذي ذكر أن لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) سريتين إلى اليمن وأعطى تفاصيل أحدهما ولم يذكر أي تفاصيل للثانية.
يمكن اعتبار سرية الإمام علي التي أسلمت على اثرها همدان هي الأولى ؛ الأن نتيجتها إسلام قبيلة همدان بصورة خاصة واليمن بصورة عامة وأصبحت اليمن ضمن دائرة البلاد الإسلامية ولعل تلك السرية كانت سنة ثمان للهجرة بعد فتح مكة (1).
ص: 467
وبذلك يمكن اعتبارالسرية التي ذكرها الواقدي هي السرية الثانية التي كانت مهمتها جمع أموال الخمس والصدقات بالدرجة الأولى، إلا أن المقاتلين الذين كانوا بصحبة الإمام علي كان وجودهم قد فرضته الضرورات لبعد المسافة بين المدينة واليمن وبالفعل حصل قتال، وكما ذكره الواقدي في روايته التي أوردناها، ولعل الواقدي قد وقع في إشكال أو خلط عندما ذكر سرية الإمام علي تلك ((فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد))(1).
وهناك وفادة ثالثة إلى اليمن وبعث بها الإمام علي (عليه السلام) وهي من أجل تولي مهمة القضاء، فقد أورد أحمد بن حنبل (2) في المسند عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: ((بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن قال: قلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء قال: إن الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد)).
من خلال العرض الذي قدمناه تبين أن هناك سریتین کما ذکر ابن هشام إلى اليمن بقيادة الإمام علي إلا أنه عزف عن ذكر التفاصيل، ولعله أراد إخفاء الدور الكبير الذي مارسه الإمام علي في إدخال أهل اليمن إلى الإسلام في سريته الأولى؛ لأن ذلك فيه إظهار لفشل خالد بن الوليد بعد أن أمضى ستة أشهر من دون نتيجة، ولم يستطع أن يدخل أحداً للإسلام، بينما استطاع الإمام علي تحقيق الأمر بمدة وجيزة.
ص: 468
في السنة 10ه - 631م أراد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) التوجه إلى الحج فأجمع إلى الخروج، وأذن للناس بالحج، وقدم المدينة أعداد كبيرة من المسلمين كلهم يريد أن يأتم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1). فخرج النبي بهم في نهاية ذي القعدة وكاتب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالتوجه إلى الحج من اليمن (2) . واستخلف على المدينة أبا دجانة الساعدي ويقال سباع بن عرفطة الغفاري(3). وقد دخل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة فلما رأى البيت رفع يديه وقال: ((اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً))(4). وقد أفرد ابن هشام عنواناً خاصاً (موافاة علي في قفوله من اليمن رسول الله في الحج)(5).
وقد أورد في هذا السياق مجموعة من الروايات فعن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح نقل ابن هشام(6): ((أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث علياً (عليه السلام) إلى نجران، فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل على فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوجدها قد حلت و تهیأت، فقال: مالكِ يا بنت رسول الله ؟ قالت: أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نحل بعمرة فحللنا. ثم أتی رسول الله (صلى الله عليه وآلهوسلم) ، فلما فرغ من الخبر عن
ص: 469
سفره، قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : فانطلق فطف بالبيت، وحل کما حل أصحابك ؟ قال يا رسول الله، إني أهللت کما أهللت، فقال: فارجع فاحلل کما حل أصحابك، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فهل معك من هدي ؟ قال: لا، فأشرکه رسول الله في هديه، وثبت على إحرامه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حتى فرغا من الحج ونحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدي عنهما)).
أما الرواية الثانية عن ابن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن یزید بن طلحة بن ركانة قال: ((لما أقبل علي (عليه السلام) من اليمن ليلتقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، تعجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي (عليه السلام)، فلما دنا جیشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا ؟ انزع قبل أن تنتهي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال:فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال فأظهر الجيش وشکوه لما صنع بهم))(1).
أما الرواية الثالثة عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن کعب بن عجرة عن عمته زینب بنت کعب وكانت عند أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري قال: ((اشتكى الناس علياً (عليه السلام)، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فينا خطيباً، فسمعته يقول: أيها الناس،
ص: 470
لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله، من أن يشتکی))(1).
بعد ذلك ذكر مقتطفات مهمة من خطبتي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الوعظتين حيث بين لهم الخطوط العامة للإسلام الذي منَّ الله به عليهم، ومن ضمن ما قاله لهم: ((وقد ترکت فیکم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بیّنا، کتاب الله وسنة نبيه))(2).
وأورد الطبري (3) روایات ابن إسحاق بالأسانيد نفسها، وأغفل الواقدي (4) عند حديثه عن حجة الوداع خبر موافاة الإمام علي (عليه السلام) إلى مكة ولقائه بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) واكتفى بذكر تفاصيل مناسك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) والخطبتين.
أما البلاذري(5) فلم يذكر أي تفاصيل عن قدوم الإمام علي (عليه السلام) من اليمن إلى مكة ولقائه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وذكر حجة الوداع بشيء من الاختصار، ولكنه أورد عدة روایات ذكر فيها تفاصيل عودة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة منها عن إسحاق بن عبد الله بن جعفر عن سعد بن إسحاق عن إسحاق بن أبي حبيب عن أبي هريرة قال: ((نظرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغدیر خم(6) وهو قائم يخطب وعلي إلى جنبه
ص: 471
فأخذ بيده فأقامه، وقال: من کنت مولاه فهذا علي مولاه))(1)، ونقل عن عبد الملك ابن محمد بن عبد الله الرقاشي عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن الأعمش عن حبیب بن أبي ثابت عن عامر بن واثلة أبي طفيل عن زيد بن أرقم قوله: ((كنا مع النبي في حجة الوداع فلما كنا بغدیر خم أمر بدوحات (2) فقممن(3) ثم قام، فقال: كأني دعيت فأجبت، إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن، وأنا تارك فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا، کتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى یردا علي الحوض، ثم أخذ بيد علي فقال: من کنت وليه فهذا وليه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه))(4).
أما ابن عبد البر (5) فذكر رواية الإمام جعفر بن محمد الباقر (علیه السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري التي ذكر بها ورود الإمام علي والتحاقه بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في مكة حيث أورد تفاصيل رواية ابن إسحاق نفسها.
وفي ضوء ما تقدم يمكن ملاحظة ما يأتي:
إن حجة الوداع كان لها دلائل كبيرة ومهمة في حياة الأمة الإسلامية منها
ص: 472
تعليمهم مناسك حجهم، وكيف تكون خطوات الحج وأداء تلك الفريضة المهمة في حياة الأمة، إضافة إلى أن الرسول وجه رسالة مهمة جداً للأمة من خلال تلك الحجة، وهذه الرسالة تحتوي على شقين مهمين؛ الأول ذكر الرسول في أثناء خطبته التي أوردها ابن هشام: ((وقد ترکت فیکم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بیناً کتاب الله وسنة نبيه)).
إلا أن هذا الحديث ورد في كتب الحديث النبوي بصيغ أخرى غير التي نقلها ابن
هشام.
وهذه الصيغ بعيدة جداً في معناها عما أورده في سيرته، فروى أحمد بن حنبل(1) في المسند ((إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبلٌ ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
ويمكن اعتبار القصدية من ذلك التحريف هو لإبعاد الأنظار عن عترة الرسول الأكرم وهم علي وآل علي وتوجيه الأمور إلى السنة، ونحن لسنا بصدد مناقشة تلك القضية بقدر إثباتها من الناحية التاريخية حيث نلاحظ أن حديث العترة قد تواتر عند المحدثين وروي عن طريق الكثير من الصحابة(2).
وهناك أمر مهم جداً آخر أغفله ابن هشام ومن قبله ابن إسحاق وهو ما حصل في غدیر خم في أثناء عودة الرسول الأكرم إلى المدينة، الحدث الذي نزل فيه
ص: 473
قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ »(1).
فذكر العياشي(2) في تفسيره عن جابر بن أرقم قال: ((بينما نحن في مجلس لنا وأخي زيد بن أرقم يحدثنا إذ أقبل رجلٌ على فرسه عليه هيئة السفر فسلم علينا ثم وقف، فقال: أفيكم زيد بن أرقم ؟ فقال زيد: أنا زيد بن أرقم ما تريد ؟ فقال الرجل: أتدري من أين جئت قال: لا، قال من فسطاط مصر لأسألك عن حديث بلغني عنك تذكره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال زيد ما هو؟ قال حدیث غدیر خم في ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ... قال: لما نزلنا الجحفة راجعين وضربنا اخبيتنا (3) نزل جبريل بهذه الآية ««يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...» فبينما نحن كذلك إذ سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله أنا رسول الله فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضع ثوبه على رأسه وبعضه على قدميه من الحر وأمر بقمَّ (يعني کنس) ما تحت الدوح فقم ما كان ثمة من الشوك والحجارة، فقال رجل: ما دعاه إلى قم هذا المكان وهو يريد يرحل من ساعته ليأتينكم اليوم بداهية فلما فرغوا من القم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نأتي بأحلاس(4) دوابنا وأثاث إبلنا وحقائبنا فوضعنا بعضها على بعض، ثم ألقينا عليها ثوباً ثم صعد عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه نزل علي عشية عرفة أمر ضقت به ذرعاً مخافة تكذيب أهل الإفك حتى جاءني في هذا الموضع وعيد من ربي إن لم أفعل، ألا وأني غير هائبٍ لقوم ولا محابٍ لقرابتي، أيها الناس
ص: 474
من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا الله ورسوله قال: اللهم اشهد وأنت یا جبرائیل فاشهد حتى قالها ثلاثاً، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فرفعه إليه، ثم قال: اللهم من کنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله قالها ثلاثاً، ثم قال هل سمعتم ؟ فقالوا: اللهم بلی، قال: فأقررتم ؟ قالوا: نعم، ثم قال: اللهم اشهد وأنت یا جبرائیل فاشهد، ثم نزل وانصرفنا إلى رحالنا)).
وقد أيد جمع من المفسرين(1) ذلك وذكروا أن الآية نزلت في ذلك المورد أما من نقل ذلك من غير المفسرين فقد ذكر اليعقوبي (2): ((و خرج لیلاً منصرفاً من المدينة فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدیر خم لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة وقام خطيباً، وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: ألستُ أولى بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله: قال من کنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه)).
وذكر المفيد(3) تفاصيل رواية ابن إسحاق التي ذكرها ابن هشام حول لقاء الإمام علي (عليه السلام) بالرسول الأكرم في مكة إلا أنه استمر بنقل الأحداث التي وقعت بعد حجة الوداع ((ولما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسکه أشرك علياً في هديه إلى المدينة ومعه المسلمون، حتى انتهى إلىالموضع المعروف بغدیر خم، وليس بموضع إذ ذاك للنزول لعدم الماء فيه والمراعي... وكان سبب نزوله في هذا المكان
ص: 475
النزول القرآن عليه بتنصيب أمير المؤمنين خليفة في الأمة من بعده)).
ومن خلال ما أوردنا يمكن ملاحظة ما يأتي:
أن إحجام أغلب أصحاب المغازي والسير ومنهم ابن هشام موضوع بحثنا عن
ذكر تفاصيل حديث الغدير يعود بالدرجة الأولى إلى الأسباب السياسية التي سبق وأن ذكرناها في ثنايا البحث، وقلنا إن السيرة دونت في وقت كان فيه الحكام لا يروق اللهم سماع مناقب الإمام علي وأهل بيته، ولا يريدون للناس أن تعرف أحقية آل البيت بخلافة المسلمين، وحديث الغدير هو دلالة صريحة وواضحة على خلافة الإمام علي (عليه السلام) للرسول وهذا ما يجعل حجة الحكام الأمويين و العباسيين الذين كتبت السيرة في عهدهم غير قائمة شرعاً، وبذلك تكون خلافتهم باطلة ومخالفة لما أنزل الله تعالى، لذلك اعتمدوا على مجموعة من رواة السيرة كعروة بن الزبير والزهري وغيرهم من المعروفين بميولهم الأموية، فضلا عن ابن إسحاق الذي دون السيرة كما هو معلوم للمنصور العباسي وبعده ابن هشام الذي هذب السيرة تحت المؤثرات السياسية العباسية، وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل هؤلاء يحجمون عن ذکر حديث الغدير فضلا عن المؤثرات العقائدية والمذهبية والفكرية التي كانت سائدة آنذاك.
ورد حديث الغدير في بعض كتب الحديث بصورة مختصرة إلا أنه كان شبه متواتر(1)، فابن حنبل (2) أورد حديث الغدير بالصورة الآتية: ((قال: سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير
ص: 476
وهو يقول ما قال فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول من کنت مولاه فعلي مولاه))، أما النسائي (1) فذكر الحديث بسنده عن زيد بن أرقم الذي قال: ((لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع ونزل غدیر خم أمر بدوحات فقممن، ثم قال: كأني دعيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيها فإنهما لن يفترقا حتى یردا عليّ الحوض، ثم قال: إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ثم أخذ بيد علي، فقال: من کنت وليه فهذا وليه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه)).
ج. إن حادثة الغدير بكل تفاصيلها لم يقتصر ذكرها على كتب السيرة والتفسير والحديث وإنما وثقها حسان بن ثابت في شعره حيث جاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له: ((یا رسول الله أتأذن لي أن أقول في هذا المقام مايرضاه الله ؟ فقال له: قل یا حسان على اسم الله، فوقف على نشر من الأرض . أي المرتفع . وتطاول المسلمون لسماع كلامه فأنشأ يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيهم*** بخم وأسمع بالرسول منادیا
فقال فمن مولاكم ووليکم*** فقالوا ولم يبدوا هناك التعادیا
إلهك مولانا وأنت ولينا*** ولن تجدنَّ منالك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني*** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن کنت مولاه فهذا وليه*** فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهم وال وليه*** وكن للذي عادي علياًة معاديا
ص: 477
فقال له رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) : لا تزال - یا حسان - مؤيداً
بروح القدس ما نصرتنا بلسانك))(1).
إن الرسول الأكرم بعد أن أمره الله تعالى وكما ذكرنا في تبليغ ما أنزل الله عليه من أمر إلهي بولاية أمير المؤمنين على الأمة أنزل عليه الله تعالى« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا »(2).(3).
ففي رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: إنها نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدیر خم حين قال لعلي: ((من کنت مولاه فعلي مولاه))(4)، وقد روي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنها نزلت لما تمت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي آخر فريضة أنزلها الله تعالى وهي الولاية(5).
وبهذا الخطاب الإلهي للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بتمام الدين وإكمال النعمة، وقد ختم ذلك أيضاً الرسول الأكرم بقوله: ((الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي ثم
ص: 478
قال: من کنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله))(1).
ص: 479
لابدَّ لنا ونحن في دراسة مفصل مهم من مفاصل التحول السياسي الذي حصل للأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والكيفية التي آلت إليها الأمور أن نلقي الضوء ولو بشيء من الاختصار على مقدمات هذا التحول، والبداية مع شكاية الرسول وما تلاها من أمور أسهمت بشكل كبير في بلورة ما حصل وهو خلافة أبي بكر، وعليه فإن العودة إلى بدايات شكاية الرسول يتطلب منا الإجابة على سؤال مهم هو هل كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم بما سيجري بعده من خلافات و حوادث من أجل الخلافة، وهل كان غافلاً عما يجب في هذا السبيل ؟(1)
نعم كان الرسول يعلم بها سيجري لذلك و كما جاء في الرواية أنه بداية مرضه خرج للاستغفار لأهل البقيع وقال: ((أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى))(2)، وهي إشارة واضحة إلى أن الرسول كان يعلم بأمر ما سوف يحصل لأمته من بعده، وقد اتخذ احتياطات لهذا الأمر، منها إخراج جیش أسامة الذي كان فيه أغلب الصحابة الذين من الممكن أن يعارضوا تنصيب الإمام علي خليفة للمسلمين، وكذلك ما أوضحناه من حديث الغدير وتنصيب علي بن أبي
ص: 480
طالب ولیّاً من بعده، فقد كانت تلك بمثابة الإجراءات المانعة لحصول الإنقلاب داخل الأمة كما ورد في قوله تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ »(1).
لكن الأمور سارت إلى غير ما كان مخططاً لها فظهر إلى العلن تیار سیاسی معارض لما خطط له الرسول، وقد بدأت مؤامراته قبيل وفاته فلم ينفذ أوامره في إنفاذ جيش أسامة بن زيد، إلا أن الواضح من خلال سيرة ابن هشام أن موضوع إنفاذ جيش أسامة جعله موضوعاً متداخلاً ضمن حديثه عن شكاية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
نقل ابن هشام(2) في السيرة النبوية عدة روايات عن ابن إسحاق في هذا المورد:
1- روي عن يعقوب بن عتبة عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن عائشة زوج رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها قالت: ((فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي بين رجلين من أهله: أحدهما الفضل بن عباس، ورجل آخر، عاصباً رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيتي قال عبيد الله فحدثت هذا الحديث عبد الله بن العباس، فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟ قال: قلت: لا؟ قال: علي بن أبي طالب، ثم غمر - أصابته شدة المرض، واشتد به وجعه...)).
2- قال ابن إسحاق فقال الزهري: حدثني أيوب بن بشير: ((أن رسول الله (صلى
ص: 481
الله عليه وآله وسلم) خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه یرید فیکی، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وابنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: انظروا هذه الأبواب اللافظة. النافذة في المسجد، فسدوها إلا بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي براً منه، قال ابن هشام: ويروى إلا باب أبي بكر...)).
3- روی ابن إسحاق عن ((محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة: أقر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، انفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إماراته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وأنه خليق بالإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها. قال: ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ،وانكمش (اسرعوا) الناس في جهازهم واستعز برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه، فخرج أسامة، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف، من المدينة على فرسخ فضرب به عسكره، وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقام أسامة والناس، ينظروا ما الله قاضٍ في رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...)).
4 . روی ابن إسحاق عن ((سعید بن عبيد بن السباق عن محمد بن أسامة عن أبيه أسامة بن زيد قال: لما ثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد
ص: 482
اصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فأعرف أنه يدعو لي...).
5. قال الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت: ((لما استعز برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مروا أبا بكر فليصلِ بالناس قالت: قلت: يا نبي الله، إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال: مروه فليصلِ بالناس، قالت: فعدت بمثل قولي، فقال: إنکُنّ صواحب یوسف، فمروه فليصلِ بالناس، قالت: فو الله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر).
6. قال ابن إسحاق: ((وقال ابن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين قال: دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي بالناس. قال فخرجت فإذا عمر بالناس، وكان أبو بكر غائباً فقلت: قم يا عمر فصلِ بالناس. قال فقام: فلما كبر سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوته وكان عمر رجلاً مجهراً عالي الصوت، قال: فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون قال فبعث إلى أبي بكر بعد أن صلی عمر تلك الصلاة فصلي بالناس)).
7. قال ابن إسحاق وحدثني أبو بكر عبد الله بن أبي مُليكة قال: ((لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاصباً رأسه إلى الصبح وابو بكر يصلح بالناس، فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفرج الناس، فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فنکص عن مصلاه، فدفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظهره وقال: صلِ بالناس، وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جنبه فصلى قاعداً عن يمين أبي
ص: 483
بکر، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد، يقول أيها الناس، سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن. ..)).
8. وقال ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن کعب بن مالك عن عبد الله بن عباس قال: ((خرج يومئذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على الناس من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ قال أصبح بحمد الله بارئاً، قال: فأخذ العباس بيده ثم قال يا علي: أنت والله عبدُ العصا بعد ثلاث، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، کما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب فانطلق بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإن كان الأمر فينا عرفناه وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. قال: فقال له علي: إني لاأفعل والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده...)).
9. قال ابن إسحاق: ((عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: سمعت عائشة تقول: مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين سحري ونحري وفي دولتي، لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض وهو في حجري ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء، وأضرب وجهي...)).
ص: 484
وعند النظر لما ورد في الروايات المتقدمة يمكننا أن نسجل ما يأتي :
1. انتقال الرسول إلى بيت عائشة بنت أبي بكر زوجته لغرض تمريضه.
2. سد الأبواب جميعاً إلا باب أبي بكر.
3. اهتمام الرسول الأكرم في بعث أسامة بن زيد وتأكيده على ذلك وهو في أشد حالاته المرضية.
4. إشكالية صلاة أبي بكر بالناس وكيف تمت تلك الصلاة.
5. استفسار الناس من علي بن أبي طالب (عليه السلام) حول حالة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الصحية.
6. وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجر عائشة.
أغلب الأسانيد الواردة عن ابن إسحاق في الروايات أعلاه مصدرها الزهري
وعائشة وعروة.
ونقل الطبري(1) روایات ابن إسحاق نفسها التي نقلها ابن هشام وزاد عليها روايات أخرى بأسانید مختلفة، أما الواقدي (2) فقد أفرد في مغازيه عنواناً لغزوة أسامة ابن زید تحدث فيه عن تفاصيل الجيش والصحابة الذين كانوا فيه والاعتراض على إمرة أسامة وتلكؤ الصحابة عن الالتحاق بذلك الجيش بعد أن علموا بشكاية رسول الله. ونقل ابن سعد(3) رواية ابن إسحاق نفسها. ثم أورد رواية أخرى عن الواقدي عن محمد بن عمر عن الحكم بن القاسم عن عفیف بن عمرو السهمي عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن عائشة: ((قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ص: 485
يدور على نسائه حتی استعز - اشتد به المرض - به وهو في بيت ميمونة فعرف نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يجب أن يكون في بيتي فقلن: یا رسول يومنا هذا الذي يصيبنا لأختنا يعنين عائشة))(1).
کما ذکر ابن سعد(2) الروايات نفسها التي أوردها ابن هشام إلا أنه أضاف إليها أن الرسول أمّر أسامة على الجيش وهو يشتمل على الكثير من الصحابة من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبي وقاص وغيرهم.
وقد نقل البلاذري(3) عن وهب بن بقية عن يزيد بن هارون عن یحیی بن سعید عن إبراهيم التميمي ((أنه كان يدار برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيوت نسائه وهو مريض، فلما كان ذات يوم. قال: أين أنا غداً ؟ فجعلن يخبرنه، فقال بعضهن: إنه يسأل عن يوم ابنة أبي بكر : فأذن له وقلن له: أنت في حل یا رسول الله، إنا نحن أخوات فقال في حل؟ قلن: نعم، فأخذ رداءه ثم انطلق إلى منزل عائشة فلم يزل عندها حتى قبضه الله)).
أما اليعقوبي(4) فقد جمع حديثه في رواية مقتضبة لكنها ذات معنى واسع ((واشتکی رسول الله قبل أن ينفذ جيش أسامة، وكان أسامة مقيماً في الجرف، فلما اشتدت عليه قال: انفذوا جيش أسامة فقالها مراراً، وأعتل أربعة عشر يوماً وتوفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول)).
ص: 486
وهنا نستطيع أن نجمل ملاحظاتنا على ما تقدم من روايات بالنقاط الآتية:
* انتقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بين رجلين أحدهما الفضل ابن العباس والآخر لم تلفظ اسمه أم المؤمنين عائشة وهي تعلم علم اليقين من هو، وهذا ما صرح به ابن عباس کما ورد في الرواية بأنه الإمام علي، وهذا يدل على أن عائشة لم تكن تنظر بعين الرضا إلى الإمام (عليه السلام) وقد ناقشنا هذا الموضوع في فقرة سابقة، ونحن هنا لسنا بصدد نفي أو إثبات تلك الرواية التي نقلها ابن هشام والتي وثقت البغض الذي تحمله السيدة عائشة للإمام، وقد ذهب أحد الباحثين (1) إلى أن طلب عائشة بنقل الرسول إلى بيتها لتتولى تعليله هو جزء من مخطط سياسي أريد رسم خيوطه في بيت عائشة لتكون الأمور تحت أنظار من خطط لعملية انقلاب على الشرعية، وإلا لماذا هذا الطلب إذا علمنا أن المرض الذي مرض فيه رسول الله لا يستوجب كل الاهتمام من عائشة علماً أن للرسول زوجات مخلصات منهن أم سلمة وغيرها اللاتي هن أكبر من عائشة وأكثر خبرة بالحياة، فضلا عن وجود الزهراء بنت الرسول القريبة دائماً من أبيها ناهيك عن ملازمة علي بن أبي طالب والفضل بن العباس الدائمة له حسب الروايات الواردة ومنها رواية ابن إسحاق.
* الإشارة إلى سد الأبواب إلا باب أبي بكر حيث ورد في تلك الرواية وضمن
سياق متصل في أثناء الحديث عن مرض الرسول وبداية شكايته، وهذا خلاف للواقع لأن قضية الأبواب يجب أن تكون في بداية بناء المسجد وليس في هذا الوقت إلا أن هذه الرواية عن ابن إسحاق وسندها الزهري وهو معروف بتحريفه للروايات وإيرادها في غير محلها، أراد أن يصنع منقبة وهمية لأبي بكر إزاء منقبة علي بن أبي
ص: 487
طالب، فقد ذكر حديث الأبواب جمع كبير من المحدثين(1) ومنهم أحمد بن حنبل (2) فذكر في مسنده رواية سعد بن مالك الذي قال: ((أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي (عليه السلام))). وعن أبي سعيد الخدري ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك)) (3).
وذكر الحاكم النيسابوري(4) في المستدرك عن زيد بن أرقم أنه قال: ((كانت لنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب شارعة في المسجد فقال يوماً: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، قال: فتكلم في ذلك ناس فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال: فيه قائلكم والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكن أمرت بشيء فأتبعته)).
وفي رواية أم سلمة (رضوان الله عليها) قالت: ((خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجه هذا المسجد، فقال: ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين، ألا قد بينت
ص: 488
لكم الأسماء أن لا تضلوا))(1).
ومن خلال النظر إلى تلك الروايات نلاحظ مدى الدس والتحريف الذي حصل
في السيرة النبوية والغرض منه رفع منزلة أشخاص والحط من قدر آخرین.
* إن أهمية بعث أسامة بن زيد وعقد اللواء له والرسول في مرضه وحث كبار المهاجرين منهم أبو بكر وعمر بأن يكونوا تحت إمرة أسامة بن زيد، يقودنا إلى القول إن توقيت هذه الحملة كان قد اختاره رسول الله بدقة، وأصر على إنفاذ هذا الجيش وكرر الأمر مرات عدة كما رأينا في الروايات التي نقلها ابن هشام وهذا يدعو إلى التأمل في التوقيت والإصرار، فما الداعي الذي دعا الرسول الأكرم إلى هذا البعث؟ إذا علمنا أن المكان الذي أريد غزوه بعيد جداً عن المدينة المنورة وهناك ظرف صحي خاص يمر به الرسول ولعله يكون آخر أيامه.
ثم إن إمرة الجيش أسنده إلى فتی وفي الجيش شيوخ المسلمين الذين فيهم قادة في الحروب ورؤساء قبائل وأصحاب النبي الذين يرون لأنفسهم مقاماً أسمى ومنزلة رفيعة ويرشحون أنفسهم لمنصب أكبر وأعظم كثيراً من منصب قائدهم الصغير (2).
لكن المسلمين في تباطئوا عن الالتحاق بالجيش على الرغم من إصرار النبي وتشديده على ضرورة إنفاذ الجيش وهو في أشد حالاته المرضية، وكرر عملية الإنفاذ مراراً لكن أوامره لم تجد أذناً صاغية، والحجج واهية منها على سبيل المثال أنهم لا يمكنهم الخروج حتى يطمئنوا على حالة الرسول الصحية، ثم عادوا مرة أخرى إلى المدينة لكن الرسول کرر أمره بضرورة إنفاذ جيش أسامة، كما بينت ذلك رواية
ص: 489
ابن إسحاق التي أوردها ابن هشام، كل ذلك يثير كثيراً من علامات الاستفهام(1)، ويمكن الإجابة على تلك التساؤلات بمجموعة من النقاط:
- أراد الرسول من خلال تأمير هذا الشاب أن يهيئ المسلمين لقبول (قاعدة الكفاية) في ولاية أمورهم، من ناحية عملية، ليست الشهرة ولا تقدم العمر هما الأساس لاستحقاق الامارة والولاية. إذا ما علمنا أن علي بن أبي طالب المهيأ لولاية أمر المسلمين بعد النبي فبذلك يهيئ نفسية المسلمين لتقبل قيادةمن هو أحدث منهم سناً وهذه تنطبق على الإمام علي (عليه السلام) حيث كان عمره الشريف لا يتجاوز الثلاث والثلاثين سنة(2).
- أن يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع بالخلافة خشية أن يزيحوا عنها صاحبها الذي نصب لها في غدیر خم، لذلك نراه عبأ في الجيش كل الشخصيات الطامعة بالخلافة ولم يدخل فيه علياً ولا أي أحد ممن يميل إليه، ويمكن القول أن جيش أسامة كان تدبيراً لإتمام الأمر لعلي بن أبي طالب بمقتضى الظروف المحيطة به من خلال النص عليه وقرب أجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
ولكن بمخالفة المسلمين لأوامر الرسول حدث ما كان متوقعاً من حروب طاحنة
وخلافات بين المسلمين انهكت الإسلام والمسلمين(4).
- أما مسألة ص لاة أبي بكر بالناس وقد عُدّت حجة احتج بها البعض لخلافته
ص: 490
والملاحظ من خلال الرواية التي أوردها ابن هشام عن ابن إسحاق أن أبا بكر صلّی مرة واحدة فقط وهي صلاة الصبح ليوم الاثنين كما يتضح من الرواية وحتى تلك الصلاة لم يكملها أبو بكر، حيث خرج الرسول وهو في حالته المرضية الشديدة لكي يؤم الناس بالصلاة وإن حاول الراوي أو الناقل التشويش على تلك الحالة وخلق نوع من الضبابية على الرواية ولم يبين لنا هل الرسول أمَّ المسلمين بالصلاة أم أبو بكر ؟ وما هو موقف الرسول من تلك الصلاة ؟ المهم أن الرسول لم يترك أبا بكر يؤمّ المسلمين لوحده بل خرج إلى الصلاة رغم حالته المرضية الشديدة.
وقد ذكر أنه اشتد به المرض، وكان عند خفة مرضه يصلي بالناس بنفسه فلما اشتد به المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وقد اختلف في صلاته بهم، فالشيعة تزعم أنه لم يصل إلا صلاة واحدة، وقد استندوا في ذلك إلى الرأي القائل بوفاة الرسول لليلتين بقيتا من صفر، وهو القول الذي تقوله الشيعة، وغيرهم يذهب إلى أنه توفي في شهر ربيع الأول بعد مضي أيام منه، وهؤلاء يذهبون إلى الرأي القائل إن أبا بكر صلى أكثر من مرة بالناس(1).
إلا أن قضية الصلاة - إن صحت - ليس فيها أية إشارة إلى تعيينه للخلافة ؛ لأن قضية إمامة الصلاة ليست حجة؛ لأن هناك من ذهب إلى أن أبا بكر كان مكلفاً بمهمة عسكرية ضمن جيش أسامة وقد نهى النبي عن التخلف عنه کا بیّنا وشدد في الإسراع في إنفاذه وبذلك من غير المعقول أن يكلف بمهمتين في آن واحد(2).
فيما يخص رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام حول سؤال الناس لعلي بن
ص: 491
أبي طالب حول حالة الرسول الصحية، ففيها تشويه للحقيقة ففي هذه الرواية اريد للعباس مكانة عالية إزاء مقابل منزلة الإمام علي (عليه السلام) وإظهاره بصورة الرجل الفاقد للمصداقية وكأنه أراد تمويه الأمور ولا يعرف من أمر الموت شيئاً، في الوقت الذي تظهر الرواية نفسها العباس بصورة الرجل الواثق من نفسه الخبير بالأمور الصدوق في كلامه، وهذه رواية عباسية بامتياز لأن هذا الوصف بعيد كل البعد عن الإمام علي (عليه السلام) وهو القائل: ((لا خير في الصمت عن الحكم کما أنه لا خير في القول بالجهل))(1).
كذلك الرواية فيها إيحاء للمتلقي بأنَّ أمر الاستخلاف غير واضح وأُريد لها أن تنسف حادثة غدیر خم بالكامل وقد سيقت الرواية لتظهر العباس وكأنه هو الذي أمر الإمام أن يسأل الرسول عن الخلافة بمعنى انه لم يستخلف أحداً.
وهذا فيه خدمة كبيرة لمصالح العباسيين السياسية، فهم جاؤوا إلى الخلافة رافعين شعار الرضا من آل محمد وهم أحق بالخلافة من غيرهم لذلك كل همهم الطعن في حديث الولاية وإخفاؤه عن الناس من أجل طمس الحقائق.
- رواية وفاة الرسول في حجر عائشة بعيدة جداً عن الواقع إذا علمنا
حداثة سن عائشة ما تذكره الرواية لا يؤهلها إلى فضل كهذا مقابل وجود آل بیت النبي من عمومته وأولاد عمومته وعلى رأسهم علي بن أبي طالب الذي لا يفارق الرسول لحظة واحدة، ففي الرواية عن سليمان بن داود الحصيني عن أبيه عن أبي غطفان قال: ((سألت ابن عباس أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال توفي وهو المستند إلى صدر علي قلت: فإن عروة حدثني
ص: 492
عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين سحري ونحري فقال ابن عباس: أتعقل، والله لتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه المستند على صدر علي...))(1).
أما بالنسبة لأسانيد الروايات الواردة حول مرض الرسول فهي مسندة إلى الزهري وعروة وعائشة وهذا الأمر لا يحتاج إلى مناقشة وقد ناقشناه في الفصل الأول.
هناك روايات لم يذكرها ابن هشام في السيرة نقلها غيره من المؤرخين لابدَّ من إيرادها لكي تتوضح الأمور، منها ما ذكره عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: ((اشتكى النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) يوم الخميس فجعل (يعني ابن عباس) يبكي ويقول يوم الخميس وما يوم الخميس !اشتد بالنبي وجعه فقال آتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، قال: فقال بعض من كان عنده: أن نبي الله ليهجر ! قال: فقيل له: ألا نأتينك بما طلبت ؟ قال: أو بعد ماذا ؟ قال فلم يدع به))(2).
وذكر الطبري (3) عن أحمد بن حماد الدولابي عن سفيان عن سليمان بن أبي مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس الرواية نفسها إلا أنه أضاف إليها (فاستفهموه فذهبوا يعيدون عليه، قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمداً أو قال نسيتها)).
وفي رواية أبي كريب عن يونس بن بکیر عن يونس بن عمر عن أبيه عن الأرقم
ص: 493
ابن شرحبيل قال: ((سألت ابن عباس: أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ قال: لا، قلت فكيف كان ذلك ؟ قال: قال رسول الله: ابعثوا إلى علي فادعوه فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر، فاجتمعوا عنده جميعاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : انصرفوا فإن تك لي حاجة ابعث إليكم...))(1).
وقد وصف الإمام علي (عليه السلام) الموقف بالقول: ((لقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي...))(2).
سقيفة بني ساعدة(3)
بعد وفاة الرسول الأكرم مباشرة حدث الانقلاب داخل الأمة حيث توجه الأنصار إلى عقد اجتماعهم الطارئ لاختيار من يخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد لحقهم المهاجرون تاركين الرسول مسجی بين أهله وثلة من أصحابه .
وقد روى ابن هشام(4) عن ابن إسحاق ((ولما قبض رسول الله (صلى الله
ص: 494
عليه وآله وسلم) انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر، وانحاز معهم أسيد بن حضير، في بني عبد الأشهل، فأتی آتٍ إلى أبي بكر وعمر، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته لم يفرغ من أمره، وقد أغلق دونه الباب أهله، قال عمر: فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، حتى ننظر ما هم عليه)).
ثم أورد ابن هشام روایات أخرى عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس الذي قال: ((أخبرني عبد الرحمن بن عوف قال: وكنت بمنزل بمنی انتظره، وهو عند عمر في آخر حجة حجها عمر، قال فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر، فوجدني في منزل بمنی انتظره، وكنت اقرأ القرآن، قال ابن عباس، قال لي عبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلاً أتی أمير المؤمنين، فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان ؟ يقول والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، قال فغضب عمر...)) ، ثم مضى بروايته وذكر نصيحة عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب أن يلقي خطابه في المدينة بدلا من مكة، وبالفعل أخّر عمر خطابه إلى أن رجع إلى المدينة فقال: ((أما بعد فإني قائل لكم اليوم مقالة قد قدر لي أن أقولها، ولا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب علي: إن الله بعث محمداً، وأنزل عليه الكتاب... ثم أنه بلغني أن فلاناً قال: والله لو قد مات عمر بن
ص: 495
الخطاب لقد بايعت فلاناً، فلا يغرن أمراً أن يقول إن بيعة أبي بکر کانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا قد وقي الله شرها، وليس فیکم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بایعه تغرة(1) أن يقتلا. إنه كان من خبرنا حين توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة وتخلف عنا علي ابن أبي طالب والزبير بن العوام معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلين صالحين، فذكر النا ما عليه القوم، وقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، قالا: فلا عليكم أن لا تقربوهما يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم: قال قلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا ؟ قالوا سعد بن عبادة، فقلت ما له؟ فقالوا وجع. فلما جلسنا نشهد خطيبهم فأتي على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت(2) دافة من قومكم، قال: وإذا هم يريدون أن يجتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر فلما سکت أردت أن أتكلم... فقال أبو بكر على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر... قال: أما ما ذكرتم فیکم من خير، فأنتم لهأهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قریش هم أوسط العرب نسباً . أي أشرفهم . وداراً . أي بلداً، وهي مكة ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين،
ص: 496
فبايعوا أيهم شئتم وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئاً مما قال غيرها، وكأن والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقر ذلك إلى إثم، أحب إلي من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر قال: فقال قائل من الأنصار منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى تخوفت الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار ونزونا(1) على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة قال: فقلت قتل الله سعد بن عبادة))(2). وذكر الطبري(3) رواية ابن إسحاق نفسها فذكر فيها كيف تمت بيعة السقيفة لأبي بكر حيث أفرد لها عنواناً فرعياً (حديث السقيفة)، وكذلك أورد روايات أخرى. وقبل الذهاب إلى بقية الروايات لابدَّ من تثبیت جملة من النقاط لكي نناقشها في نهاية الفقرة:
إقدام الأنصار بزعامة سعد بن عبادة على عقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة
لاختيار خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
اعتزال الإمام علي بن أبي طالب والزبير وطلحة بن عبيد الله عن الأمر في
بيت فاطمة (عليها السلام).
انقسام الأنصار إلى فريقين؛ فريق مؤيد لسعد بن عبادة في السقيفة وفريق
الأوس بزعامة أسيد بن حضير مع أبي بكر.
ص: 497
قيادة عمر بن الخطاب للأمر وذهابه مع أبي بكر إلى السقيفة.
أما بقية الرواة والمحدثين فقد ذكر البلاذري(1) مجموعة من الروايات تحكي ما جرى في سقيفة بني ساعدة منها عن علي بن محمد المدائني عن ابن جعدبة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، أورد فيها التفاصيل نفسها التي أوردها ابن هشام عن ابن إسحاق فيما يتعلق بخطبة عمر في المدينة.
کما ذکر رواية محمد بن سعد عن محمد بن عمر الواقدي وعن أبي معمر عن المقبري ویزید بن رومان مولى آل الزبير عن ابن شهاب الذي قال: ((بينما المهاجرون في حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قبضه الله إليه، وعلي والعباس منشغلان به، إذ جاء معن بن عدي(2)، وعویم بن ساعدة(3) فقالا لأبي بكر: باب فتنة، إن لم يغلقه الله بك فلن يغلق أبداً، هذا سعد بن عبادة الأنصاري في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يبايعوه، فمضى أبو بكر وعمر وعبيدة بن الجراح حتى جاؤوا السقيفة، وإذا سعد على طنفس متكئاً على وسادة وعليه الحمى، فقال له أبو بكر: ما
ص: 498
تری یا أبا ثابت ؟ فقال : أنا رجلٌ منکم، فقال الحباب بن المنذر منا أمير ومنكم أمير ، فإن عمل المهاجري شيئاً في الأنصار رد عليه الأنصاري، وإن عمل الأنصاري شيئاً في المهاجرين، رد عليه المهاجري فأراد عمر أن يتكلم فقال له أبو بكر: على رسلك، ثم قال أبو بكر: نحن أول الناس إسلاماً، وأوسطهم داراً، وأكرمهم أنساباً، وأمسهم برسول الله رحم، وأنتم اخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم و آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ولن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فقد يعلم ملأ منكم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الأئمة من قريش، فأنتم أحقاء أن لا تنقموا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم. فقال الحباب لا نحسدك ولا أصحابك و لكن نخشى أن يكون الأمر في ايدي قوم قتلناهم فحقدوا علينا، فقال أبو بكر: تطيعوا أمري وتبايعوا أحد هذين الرجلين: أبو عبيدة وكان عن يمينه أو عمر بن الخطاب وكان عن يساره. فقال عمر: وأنت حي ما كان لأحد أن يؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله فأبسط يدك، فبسط يده، فبايعه عمر وبايعه أسيد بن حضير وبايع الناس وازدحموا على أبي بكر.فقالت الأنصار: قتلتم سعداً. وقد كادوا يطئونه فقال عمر: اقتلوه فإنه صاحب فتنة !. فبايع الناس أبا بكر))(1).
أما اليعقوبي(2) فتحدث عن اجتماع الأنصار في السقيفة واعتراض المجموعة التي يقودها أبو بكر: ((واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله قبل أن يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي وعصبته بعصابة وأثنت له وسادة وبلغ أبا بكر وعمر والمهاجرين فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر
ص: 499
وعمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الأنصار منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه، وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير: فقال أبو بكر: منا الأمراء وأنتم الوزراء، فقام ثابت بن قيس بن شماس(1) ، وهو خطيب الأنصار، فتکلم وذکر فضلهم. فقال أبو بكر: ما ندفعهم عن الفضل وما ذكرتهم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منکم، وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله : اللهم أعز الدين به! وهذا أبو عبيدة الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم، فأبيا عليه وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنی عمر ثم بايع من كان معه من قريش ثم نادي أبو عبيدة: يا معشرالأنصار: إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن بن عوف فتکلم فقال يا معشر الأنصار إنكم وإن کنتم على فضل، فليس فيكم من أبي بكر وعمر وعلي وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي ابن أبي طالب، فوثب بشير بن سعد من الخزرج فكان أول من بايع من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة، وحتى وطئوا سعداً، وقال عمر: اقتلوا سعداً، قتل الله سعداً)).
إن قراءة الروايات التي نقلت حادثة السقيفة والتي عرضنا قسما منها لا تختلف كثيراً من حيث المضمون إلا اختلافات بسيطة جداً، لكن الرواية المسندة إلى أبي سعيد
ص: 500
الخدري التي نقلها الجوهري تختلف عما تقدم: ((لم أزل لبني هاشم محباً فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكنت أتردد على بني هاشم وهم عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحجرة وأتفقد وجوه قریش، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وعثمان وإذ قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذ قائل آخر يقول: بويع أبو بكر فلم ألبث، وإذا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد الا خبطوه، وقدموه فمدد يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبي فأنكرت عقلي وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة، فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر، أما إني أمرتكم فعصيتموني فمكثت أكابد ما في نفسي ورأيت في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان، وحذيفة وعمار، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شوری بين المهاجرين))(1).
وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نسجل الملاحظات الآتية:
انحياز حي من أحياء الأنصار بزعامة سعد بن عبادة إلى سقيفة بني ساعدة لغرض التشاور في أمر الخلافة، وبحسب ما قدمته الروايات فإن الأنصار كانوا يعتقدون أنهم أولى بأمر الخلافة لأنهم أصحاب الدار وأنهم الذين آووا ونصروا وبذلوا للإسلام نفوسهم وأموالهم، فرأوا في أنفسهم أن لهم حقاً كبيراً في إدارة الدولة الإسلامية، فلهم سوابق لیست لغيرهم وبهذا يجب أن يكافئوا على تضحياتهم التي قدموها في سبيل إعلاء شأن الإسلام، وأول هذه الحقوق التي يجب أن يتمتعوا بها هو
ص: 501
إمارة المسلمين أو على أقل تقدير المشاركة في هذه الإمارة.
ومن جهة أخرى فإنهم قد وتروا قریشاً والعرب من خلال حروب وغزوات النبي التي كانت للأنصار اليد الطولى فيها، حيث قتل في تلك الحروب صنادید قریش وأسروا رجالها حتی دانت بأسيافهم العرب، لذلك كانوا يخشون من تولي أحد القرشيين الخلافة قد لا يكونون في مأمن من سطوته(1).
أما خروجهم على النص الإلهي الخاص بتنصيب أمير المؤمنين علي، فيمكن أن نعزوه إلى أنهم كانوا يعرفون أن العرب بشكل عام وقريش بشكل خاص لم تكن تنظر للإمام علي بارتياح؛ لأنهم كانوا موتورين منه بقتل رجالهم من خلال معاركه في الدفاع عن الإسلام، لذلك ظن الأنصار بأنه من البعيد كل البعد أن تسلم قریش أمرها للإمام علي بعد رسول الله وقد استندوا إلى المعطيات التي حصلت وهي تثاقلهم في إنفاذ جيش أسامة والحيلولة دون السماح للنبي بكتابة الكتاب الذي طلب كتابته في أثناء مرضه، وكانوا قريبين من المؤامرة التي حاكها مجموعة من القرشيين وعاشوا كل تفاصيلها، فبادروا لأخذ زمام الأمور وهم يدركون أحقية الإمام علي بالأمر(2) ، وقد كان ذلك واضحاً عندما فشلت محاولتهم وخرج الأمر من أيديهم: ((فقالت الأنصار، أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا عليا))(3).
أما ما جاء في رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام والتي ذكر فيها: ((اعتزال علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة))، فهذا أمر مخالف للحقيقة؛ لأن خطبة عمر التي ذكرناها أشارت إلى تخلف الإمام علي ومن
ص: 502
معه عن السقيفة من دون أن يذكر المكان، كذلك رواية يزيد بن رومان الذي ذكرها البلاذري اكدت انشغال الإمام علي والعباس بن عبد المطلب بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كذلك الرواية التي نقلها الجوهري والتي بيّن فيها كيف كان بنو هاشم كلهم مشغولون في تجهيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذه الرواية لا تصمد أمام النقد الموضوعي لأنه ليس من المعقول أن يترك الإمام علي الرسول الأعظم مسجى وينتقل إلى داره ليعتزل الأمور، لكن الغرض من الرواية أنهم أرادوا أن يصوروا الإمام عليّاً بصورة الطامح للخلافة والذي وجد الإجماع اقوى من إرادته فاعتزل في بيته، وبذلك ألغت الرواية النص على خلافته من قبل الرسول بغدیر خم، والرواية فيها إيحاء إلى أن اجتماع السقيفة كان شرعياً وقراراته نافذة على الجميع والمشكلة كانت في عدم التحاق علي بن أبي طالب بذلك الاجتماع!
نقلت لنا رواية ابن إسحاق الواردة عند ابن هشام وغيره من الرواة الفجوة
التي كانت بين الأنصار وعدم الإنسجام الذي كان سائداً بينهم، والأمر كان كذلك بالفعل وهو ما دلت عليه القرائن السابقة واللاحقة، ففي السابق كان الأوس والخزرج سكان المدينة قبل الإسلام أهل عزة ومنعة في بلادهم وقدكانت بينهم حروب وأيام مشهورة حتى ضرستهم تلك الحروب وألجأتهم إلى قريش في مكة لكي يجدوا حلاً لمشاكلهم إلى أن منّ الله عليهم برسول الله فاستطاع أن يعالج وضعهم الداخلي بدواء الإسلام وقد استجابوا لدعوة الرسول وأصبحوا داخلين في الإسلام متحابين متوادين(1)، ولكن بقي عدم الارتياح فيما بينهم إضافة إلى النزعة القبلية في نفوسهم وعلى الرغم من انصهارهم في بوتقة الإسلام إلا أنهم بالمحصلة النهائية حزبان الأوس والخزرج أحدهما لا يطمئن للآخر، فألقي هذا الوضع بظلاله يوم
ص: 503
السقيفة، لذلك عندما ذهب الخزرج لاختيار سعد بن عبادة لم يكن موقفهم موحداً مع الأوس حول أمر الخلافة؛ لأن الأوس لم يطمئنوا لأطروحة الخزرج باختيار سعد ابن عبادة خليفة للمسلمين، وقد انحاز زعيمهم أسيد بن حضير إلى جانب أبي بكر وعمر وهو صاحب المقولة في أثناء اجتماع السقيفة: ((يا معشر الأنصار إنه قد عظمت نعم الله عليكم إذسماكم الأنصار(1) وجعل إليكم الهجرة و فيكم قبض الرسول محمد عليه السلام فاجعلوا ذلك شكراً لله فإن هذا الأمر في قريش دونكم))(2).
وهذا تأیید واضح من الأوس لحزب المهاجرين بقيادة عمر بن الخطاب زيادة على ذلك ما ذكره الحباب بن المنذر خطيبهم عندما قال كلمته المشهورة: (منا أمير ومنكم أمير) الذي يدل على عدم قوة قرار الأنصار(3).
الملاحظ من خلال رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام وبقية الروايات أن عمر بن الخطاب هو الذي تزعم حزب المهاجرين وذلك بعد أن جاءه أبو بكر وأقنعه بوفاة الرسول بعد أن كان معترضاً(4)، ثم ترك بعد ذلك البيت النبوي والمسجد وتوجه على الفور برفقة أبي بكر وأبي عبيدة بن الجراح، وقد يكون هذا الأمر بناءً على اتفاق مسبق بينهم وخطة دبرت قبل وفاة النبي، وهذا الرأي نجد له ما يؤيده:
ذهاب عمر بن الخطاب إلى أبي بكر ليعلمه باجتماع الأنصار سراً وأجبره على الذهاب إلى السقيفة(5)، لذلك هناك ترابط واضح بين ذهاب عمر إلى أبي بكر
ص: 504
وإخراجه بشكل سري دون إعلام الحاضرين بالأمر.
موقف عمر وردة فعله غير المبررة التي أنكر فيها وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر الذي سبب حالة إرباك بين المسلمين، لكن هذا الأمر انتهى عندما وصل السقيفة فأصبح يحاجج ويجادل ويقاوم ويناضل وكان غير ذلك الشخص الذي اعترض اعتراضاً شدیداً حتى فقد صوابه، وكان هو الشخص ذاته الذي اعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونعته بالهجر(1) في مرضه عندما طلب كتفاً ودواة ليكتب أمراً لن تضل الأمة بعده أبداً،وهو القائل حسبنا کتاب الله، وهذا يعني أنه يعرف جيداً أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف يموت وأن مرضه هذا سيؤدي إلى موته.
الحكومة التي شكلت بعد اجتماع السقيفة كانت تولي أبا بكر الخلافة، وعمر
القضاء وأبا عبيدة المال (2)، وهي الوظائف الرئيسة في الدولة الإسلامية.
قول عمر حين حضرته الوفاة: ((لو كان أبو عبيدة حياً لوليته))(3).
قول الإمام علي (عليه السلام) لعمر بن الخطاب: ((احلب یا عمر حلباً لك
شطره أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً))(4).
ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان لمحمد بن أبي بكر - رضوان الله عليه في اتهامه أبيه وعمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي فقال له: ((فكان أبوك
ص: 505
وفاروقه أول من ابتزه حقه، وخالفه على أمره وعلى ذلك اتفقنا واتسقنا))(1)، فالعبارة الأخيرة تدل على أن هناك اتفاقاً مسبقا بين عدة أطراف بقيادة عمر بن الخطاب (2).
وهكذا تمت البيعة لأبي بكر وقضي الأمر، ولكن الملاحظ من خلال رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام عن لسان عمر بن الخطاب بأنه ندم على تلك البيعة فقال: ((ثم أنه بلغني أن فلاناً قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً))، وهذا اعتراف واضح بعدم رضا الناس عن تلك البيعة، فلم يصرح باسم القائل بل سماه فلاناً، وهذا يوحي أنه لابدَّ أن يكون من الصحابة البارزين الذين شعروا بالندم لتركهم نص رسول الله والانقلاب على الشرعية، فكانت هذه المقولة مدعاة لغضب عمر بن الخطاب وقد أوضح الأمور للمسلمين بعد عودته من الحج في المدينة فقال: ((فلا يغرن أمرءاً أن يقول إن بيعة أبي بکر کانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك، ألا قدوقي الله شرها)).
وهذا اعتراف آخر بعدم شرعية تلك البيعة واعتبرت فلتة، إذ لم تكن مستندة إلى أساس شرعي بل أخذت من الناس على حين غرة.
ذکر ابن هشام(3)، رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر وحسين بن عبد الله : ((أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، و أسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم
ص: 506
الذين ولوا غسله، وأن اوس بن خولي، أحد بني عوف بن الخزرج، قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أوس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بدر، قال ادخل: فدخل فجلس، وحضر غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلي يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميص يدلكه من ورائه، لا يفضي بيده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي يقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً ! ولم يُر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء مما يُرى من الميت)).
وعن ابن إسحاق عن جعفر بن علي بن الحسن عن أبيه، عن جده علي بن الحسن والزهري نقل ابن هشام(1): (فلما فرغ من غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين - نسبة إلى صحار وهي مدينة في اليمن - وبُرد حِبرة أدرج فيه ادراجاً.. وذكر ابن إسحاق عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحضروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان أبو عبيدة ابن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة، فكان يلحد، فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما، اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح وللاخر اذهب إلى أبي طلحة. اللهم خر لرسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...، فلما فرغ من جهازرسول الله (صلى الله علیه و آله وسلم) يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا
ص: 507
في دفنه، فقال قائل: ندفنه في مسجده وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما قبض نبي إلا ودفن حيث يقبض، فرفع فراش رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) الذي توفي عليه، فحفر له تحته، ثم دخل الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارسالاً، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد...)).
وقال ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن امراته فاطمة بنت عمارة عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة قالت: ((ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء...))(1).
کما روی ابن هشام(2) عن ابن إسحاق قوله: ((وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: يا علي، أنشدك الله، وحظنا من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ، فقال له: انزل، فنزل مع القوم...)).
ص: 508
من خلال ذلك يمكن تسجيل ما يأتي:
1. الإمام علي بن أبي طالب هو من تولى غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجهيزه.
2. عدم حضور أبي عبيدة بن الجراح لحفر قبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
3. اختلاف المسلمين في كيفية دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 4. الإمام علي بن أبي طالب من أنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبره الشريف.
أما روایات ابن إسحاق التي ذكرها الطبري(1) في تاريخه فهي نفسها التي ذكرها ابن هشام وبالأسانید من دون أي زيادة أو نقص.
أما بقية الرواة والمؤرخين فقد نقلوا تفاصيل تجهيز الرسول ودفنه كما يأتي.
أورد البلاذري(2) عدداً من الروايات وأسانید مختلفة وكان من ضمنها روایات ابن إسحاق المتقدمة، فروى عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جریح قوله: ((غسل رسول الله ثلاث غسلات بماء وسدر، في قميص وغسل من بئر لسعد بن خثيمة يقال له بئر غرس. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشرب منها. وتولى غسله علي بن أبي طالب بيده، والعباس يصب الماء والفضل بن العباس محتضنه، والفضل يقول أرحني أرحني قطعت وتيني)).
وعن محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري قال: ((أخلى
ص: 509
أبو بكر وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين العباس وعلي والفضل ابن العباس، وسائر أهله، فكانوا هم الذين اجنوه))(1). وفي رواية الزهري عن حماد ابن زید عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: ((ولي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإجنانه دون الناس أربعة؛ العباس، وعلي، والفضل بن العباس وصالح مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)))(2). أما اليعقوبي (3) فذكر: ((وغسّله علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب وأسامة بن زيد يناولان الماء)). وقد ذكر ابن الجوزي (4) رواية ابن إسحاق نفسها التي ذكرها ابن هشام في السيرة النبوية، وكذلك ابن الأثير (5).
ومن خلال الروايات المتقدمة يتضح ما يلي:
نقل ابن هشام حقيقة الأمر أن الإمام علیّاً ومعه عمه العباس وأولاده هم
الذين قاموا بتغسيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) و تجهيزه وهذا يتفق مع ما أورده المفيد(6) في رواية ينتهي سندها إلى عبد الله بن عباس حيث قال: ((لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تولى غسله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والعباس معه والفضل بن العباس، فلما فرغ عليٌ (عليه السلام) من غسله کشف الأزرار عن وجهه ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وطبت ميتاً، انقطع
ص: 510
بموتك مالم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والأنبياء، خصصت حتى صرت مسلية عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون ولكن ما لا يرفع کمد وغصص مخالفان، وهما داء الأجل وقلك ، بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من همك، ثم أكب عليه فقبل وجهه ومد الأزار عليه)).
بلا شك إن مسألة تجهيز الرسول الأكرم من قبل أصحابه من الأمور المهمة جداً، لكن الملاحظ خلاف ذلك، فقد تركوا آل بيت النبي يتقدمهم الإمام علي مشغولين بذلك الأمر وذهبوا وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وابو عبيدة يتفقون فيمن تكون خلافة المسلمين، ومحتجين بأنَّ الأمر سوف يذهب من ایدیهم باجتماع الأنصار وعقد الأمر لسعد بن عبادة، لكن هذا الأمر غير مقبول لأن الأنصار لم يكونوا منسجمين مع بعضهم، لذلك الملاحظ ومن خلال رواية ابن إسحاق التي نقلها ابن هشام أن أبا عبيدة لم يحضر لكي يحفر قبر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد حاول الراوي تجميل الصورة فألقي باللائمة على الخيرة التي ساقت الأمر لأبي طلحة الأنصاري.
اختلاف المسلمين في كيفية دفن الرسول الأكرم حيث اعادت الرواية صورة أبي بكر إلى الواجهة مرة أخرى، وجعلته في الصدارة بحيث اشار عليهم بمكان حفر القبر وكأن الراوي أراد أن يسعف أبا بكر ويخلصه من الحرج ويجعل له منقبة، فبرز وجوده على الرغم من انشغال الأخير بالبيعة والخلافة، وهذا ما أكدته عائشة بعدم علمها بدفن الرسول حتى سمعت اصوات المساحي، وهذا ينسف الرواية التي ذكرت أن الرسول توفي في حجرها.
ذكر ابن هشام عن ابن إسحاق بأنَّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يساعده
ص: 511
العباس وابناؤه هو الذي انزل الرسول الأكرم في قبره وقد نزلوا جميعاً، حيث لاحظنا من خلال الروايات التي نقلها ابن هشام بأنَّ هناك من يعين الإمام علیّاً في عملية التجهيز والغسل لكن النزول في القبر اعتقد أنها لا تحتاج أكثر من واحد ينزل في القبر ولكن الرواة حرصوا أن لا يبقوا هذه المنقبة لعلي دون إشراك أحد معه.
واليعقوبي(1) ذكر: ((ونزل قبره علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وقيل الفضل بن العباس وشقران مولى رسول الله، ونادت الأنصار اجعلوا لنا في رسول الله نصيباً في وفاته كما كان لنا في حياته، فقال علي ينزل منکم رجل، فأنزلوا أوس بن خولي)). وفي رواية الشعبي عن أبي مرحب: ((نزل في قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة أحدهم عبد الرحمن بن عوف، وقال الواقدي أنه نزل في قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب والفضل وأسامة وشقران))(2).
أما المفيد (3) فذكر أن أوس بن خولي دخل مع الإمام علي (عليه السلام) في القبر عندما أمره الإمام بأن ينزل في القبر فنزل: ((ووضع أمير المؤمنين (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم على يديه ودلاه في حفرته فلما حصل إلى الأرض قال له: اخرج ونزل علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى القبر فكشف وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووضع خده على الأرض موجهه إلى القبلة على يمينه، ووضع عليه اللبن وهال عليه التراب)). وهذه الصورة هي أقرب الصور للواقع.
ص: 512
ص: 513
ص: 514
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر لما وفقنا لإنجاز هذا البحث الذي تناولنا فيه مفصلاً مهماً من مفاصل السيرة النبوية وهي صورة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من خلالها فبعد الدراسة والبحث توصلنا إلى ما يلي:
إن شخصية الإمام علي بن أبي طالب هي الثانية بعد الرسول الأكرم لما تحمله من مؤهلات وقدرات في مختلف ميادين الحياة جعلته قدوة وأسوة لكل من يريد الفضيلة ويرفض الظلم والطغيان.
أن كتابة السيرة النبوية مرت في بداياتها بمنعطفات خطيرة ومحاولات أُريد لها
تغيير مجری تاريخ المسلمين وتسليط الأضواء على فرعيات المسائل وترك أمهاتها في زاوية النسيان بعيدة عن الأضواء، وكان الهدف من ذلك إعلاء شأن قوم وإنزال قدر آخرين لا لشيء فقط لتعصب سياسي أو مذهبي أو نعرات قبلية مقيتة.
فمن خلال دراستنا نشوء السيرة وتطورها لاحظنا أنها كتبت بأقلام غير محايدة ليس هدفها إبراز الحقائق التاريخية بالشكل الذي كانت عليه، وأن الذين كتبوا السيرة ونقلوا رواياتهاهم الخصوم الألداء للحقائق، همهم الحط من قدر علي بن أبي طالب وإنزاله إلى مراتب لا تليق به؛ كونه أولهم إسلاماً وأكثرهم إيماناً وأفصحهم لساناً وأرجحهم وأكثرهم جهاد في سبيل الله...
ولأن مناقبه تسرق الأضواء من رموزهم فلاحظنا من خلال البحث وكأن رواية
السيرة النبوية حكر على آل الزبير ومن يدور في فلكهم رغم وجود محاولات أخرى في كتابة السيرة وروايتها لا ترقى إلى ما جاء به عروة بن الزبير ومن بعده تلميذه الزهري اللذان يمثلان المنطلقات الفكرية للسياسة الأموية المعادية لعلي وآل علي
ص: 515
مستغلين قربهم من عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكون مصدر رواياتهم التاريخية في السيرة النبوية.
فلاحظنا اختلاق كثير من الروايات التاريخية التي تسرق المناقب من علي بن أبي طالب وتعطيها لغيره أو أنها تصوره بمنزلة لا تليق بمقامه ومكانته التي كان عليها، وهذا التوجه العدائي استمر طيلة مدة الحكم الأموي وكذلك في مدة الحكم العباسي الذي كان له الدور البارز في صياغة مفردات السيرة النبوية وفق أمزجتهم وآرائهم السياسية هدفهم الأول رفع منزلتهم والحط من قدر العلويين، منطلقين بذلك من فكرة آل البيت التي روجوا لها بأنهم هم المقصودون بذلك.
فلذلك لاحظنا ابن هشام ومن قبله ابن إسحاق خير ممثلين لذلك التوجه في حجب الصورة الحقيقية لعلي بن أبي طالب وعدم إظهارها إلى جماهير الأمة.
من خلال البحث لاحظنا أن كاتب السيرة لا يمكن له ومهما حاول حجب صورة الإمام علي بن أبي طالب عن المتلقي؛ لأنها جزء لا يتجزأ من السيرة وحجبها يعني حجب أهم مفاصل السيرة وإفراغها من محتواها، فمثلاً حجب صورة علي عن معركة بدر يعني أنه لا توجد هناك معركة بدر؛ لأن أغلب تفاصيل معركة بدر وانتصاراتها كانت نتيجة لمقدرة الإمام علي القتالية و بلائه الواضح في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، فلذلك عمدوا إلى إخفات بريق تلك الصورة بالدس والتزوير لغرض التقليل من قيمته في تلك المعركة.
لاحظنا القطع الكبير في مفاصل مهمة من السيرة النبوية وحجبها عن المتلقي سواء بقصد من ابن هشام کما حصل في حديث الدار أم من ابن إسحاق نفسه كما حصل في حديث الغدير، فإن تعمد أصحاب السير ومنهم ابن هشام ومن قبله ابن
ص: 516
إسحاق إلى حجب تلك الصور له دلالاته السياسية، حيث لا يروق للحكام آنذاك إبراز مكانة الإمام علي بن أبي طالب في قيادة الأمة واقرار الرسول له في ذلك. التشويش والتلاعب بالألفاظ وهذا واضح من خلال البحث فهناك الكثير من الروايات التي نقلها ابن هشام في السيرة النبوية موجه إلى غير الوجهة التي أريدت لها حيث تصور علي بن أبي طالب وكأنه شخص عادي تصدر منه أفعال وممارسات کما تصدر من غيره فيها إيحاء إلى القارئ بأنه لا يختلف عن بقية الصحابة وهو يمارس الممارسات نفسها التي يمارسها غيره فضلا عن أن هناك مناقب كثيرة أسندت إلى غيره امثال قتل مرحب اليهودي، حيث وجدنا في السيرة النبوية لابن هشام أن مرحباً قتل من قبل محمد بن مسلمة الأنصاري والغرض من ذلك التقليل من مكانة علي بن أبي طالب وقد تمت مناقشة ذلك الأمر في محله.
أراد ابن هشام في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق المهذبة أصلاً خلق حالة من التوازن في رواياته التاريخية لتكون مقبولة من العامة والخاصة، فقد لوحظ أنه لم يكتف بالتهذيب بل أضاف إلى السيرة النبوية روايات من موارده الخاصة ولميكن اعتماده كلياً على سيرة ابن إسحاق.
حاولنا وعن طريق البحث والتدقيق استدراك ما قطعه ابن هشام من السيرة النبوية من روايات لغرض إكمال صورة الإمام علي معتمدين بذلك على مصادر معتبرة ومقاربة زمنياً لابن هشام لغرض إظهار ما أراد ابن هشام إخفاءه
ص: 517
ص: 518
ص: 519
ص: 520
1.القرآن الكريم
2. ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علی بن محمد الجزري ت (630 ه - 1232م) - أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقیق علي معوض وعادل أحمد عبد الموجود (دار الكتب العلمية - بيروت، د.ت).
- الكامل في التاريخ، تحقيق: أبو الفداء عبد الله القاضي، (دار الكتب العلمية - بيروت، 1987م)
- اللباب في تهذيب الأنساب، (دار صادر - بیروت، د.ت).
3. أحمد بن حنبل، أحمد بن محمدت (241ه - 855م)
- العلل، تحقيق: وصي الله بن محمود عباس، (المكتب الإسلامي - بيروت، 1408ه).
فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تحقیق حسن السنيد (المجمع العلمي لأهل البيت للطباعة والنشر - قم، 1432ه - 2011م).
۔ مسند أحمد، (دار صادر - بيروت، د. ت)
4. ابن إدريس الحلي، أبو عبد الله محمد بن منصور، ت (598ه - 1201م) المنتخب من تفسير القرآن والنكت المستخرجة من كتاب البيان، تحقیق، مهدی رجائي، (مطبعة سيد الشهداء - قم، 1409 ه).
5.الأربلي، علي بن أبي الفتح، ت (693ه - 1293م)
- کشف الغمة في معرفة الأئمة (ط 2، دار الاضواء - بيروت، 1985 م).
6. الأزرفي، محمد بن عبد الله، ت (250ه - 864م)
- أخبار مكة وما جاء فيها من آثار، تحقیق ارشدي الصالح (انتشارات الشريف الرضي - قم، 1411ه).
7. ابن إسحاق، محمد، ت (151ه - 768م)
- السير والمغازي، تحقیق سهیل زکار (دار الفكر - بيروت، 1978م).
ص: 521
8. الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين، ت (359ه - 966م)
الأغاني، تحقيق علي السباعي وعبد الكريم الغرباوي (الهيئة المصرية العامة للكتب - القاهرة، 1992م)
- مقاتل الطالبين، (دار المتقين - بيروت، 1431 ه-2010م)
9. ابن اعثم، أبو محمد أحمد، ت (314ه - 926م)
- کتاب الفتوح، تحقیق علي شيري (دار الاضواء - بيروت، 1991 م).
10. أبو أيوب الباجي، سليمان خلف بن سعد، ت (474 ه - 1081م)
- التعديل والجرح، تحقيق أحمد البزاز (وزارة الأوقاف والشؤون الدينية - مراکش، د. ت).
11. الباعوني، الشافعي، شمس الدين أبي البركات، ت (871ه -1466م) - -جواهر المطالب في مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، تحقیق محمد باقر المحمودي (دانش - قم، 1415ه).
12. البحراني، السيد هاشم، ت (1107 ه - 1695م)
- البرهان في تفسير القرآن، (مؤسسة البعثة - قم، د. ت).
13. البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ت (256ه - 856م)
- التاريخ الكبير، المكتبة الإسلامية - دیار بکر ترکیا، 1981).
۔ صحيح البخاري، (دار الطباعة العامرة - استانبول، 1981 م).
14. برهان الدين الحلبي، إبراهيم بن محمد بن خلیل، ت (1044 ه - 1634م)
- السيرة الحلبية (دار المعرفة - بيروت، د. ت).
15. البري، محمد بن أبي بكر الأنصاري، ت (ق 7ه - ق13م).
- الجوهرة في نسب الإمام علي، تحقيق محمد التونجي، (مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، د. ت).
16. ابن البطريق، یحیی بن الحسن الأسدي، ت (600ه - 1203م)
ص: 522
- عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار (مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1407 ه).
17. البغوي، أبو الحسين بن مسعود، ت (510ه - 1116م)
- معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق، خالد عبد الرحمن العك (دار المعرفة - بيروت، د. ت).
18. البكري الأندلسي، عبد الله بن عبد العزيز ، ت (478 ه - 1094م)
- معجم ما استعجم من اسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا (ط 3، عالم الكتاب - بيروت، 1403ه - 1983م).
19. ابن بکّار، الزبير، ت (256ه - 869م)
- الأخبار الموفقیات، تحقیق، سامي مكي العاني (ط 3 - عالم الكتاب - بیروت، 1996م).
20. البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، ت (279ه-892م)
- أنساب الأشراف، تحقیق محمد حمید الله (دار المعارف - مصر، د. ت)
- جمل من أنساب الأشراف، تحقیق سهیل زکار وریاض زركلي (دار الفكر - بيروت، 1996م).
21. البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل، ت (322ه - 933م)
- البدء والتاريخ، (دار الكتب العلمية - بيروت، 1997م)
22. البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي، ت (458 ه - 1065م)
- دلائل النبوة في معرفة احوال صاحب الشريعة، تحقیق عبد المعطي قلعجي (دار الكتب العلمية - بيروت، د. ت).
- السنن الكبرى، (دار الفکر بیروت، د.ت)
23. الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سوره، ت (279ه - 909م) - سنن الترمذي، تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان (ط 2، دار الفكرللطباعة والنشر - بیروت، 1983 م).
ص: 523
24. التفريشي، مصطفى بن الحسين، ت ق 11ه - ق 17م)
- نقد الرجال (مؤسسة أهل البيت لاحياء التراث - قم، 18 14 ه)
25. الثعلبي، أحمد بن محمد بن إبراهيم، ت (427 ه - 1035م)
- تفسير الثعلبي، تحقيق أبو محمد بن عاشور، دار احیاء التراث العربي - بيروت، 1422ه - 2002م).
26. ابن جبر، زين الدين علي بن يوسف، ت (ق 7ه - ق 12ه)
- نهج الإيمان، تحقيق أحمد الحسيني، (مجمع الإمام الهادي - مشهد، 1418م).
27. الجرجاني، عبد الله بن عدي، ت (365ه – 975م)
- الكامل في ضعفاء الرجال، تحقیق سهیل زکار (ط 3، دار الفكر للطباعة والنشر - بیروت، د. ت).
28. أبو جعفر الإسكاني، محمد بن عبد الله المعتزلي، ت (240ه - 854م)
- المعيار والموازنة في فضائل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) وبيان أفضليته على جميع العاملين بعد الأنبياء والمرسلين،تحقيق محمد باقر المحمودي (د. م، 1402 ه - 1981م).
29. ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن الحسن، ت (597ه - 1200م)
- زاد المسير في علم التفسير، تحقیق، محمد عبد الرحمن عبد الله، (دار الفكر - بيروت، 1407ه -1987).
- صفوة الصفوة، تحقیق طارق محمد عبد المنعم (دار ابن خلدون - الاسكندرية، د. ت)
- کشف المشكل في حديث الصحيحين، تحقیق، علي حسين البواب (دار الوطن الرياض، 1997م) .
- المنتظم في تاريخ الملوك والامم، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، (دار الكتب العلمية - بيروت، 1992م)
30. الجوهري، أبو بكر أحمد بن عبد العزيز، ت (323ه - 934م)
ص: 524
- السقيفة وفدك، تحقيق محمد هادي الاميني (ط 2، المكتبي للطباعة والنشر - بیروت، 1993م).
31. الجوهري، إسماعيل ابن حماد ، توفي (393ه - 1002م).
- الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطا، (ط4، دار العلم للملايين، بیروت، 1987-1407)
32. ابن أبي حاتم الرازي، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن ادریس، ت (327ه -938م)
- تفسير القرآن العظيم (تفسیر ابن أبي حاتم) تحقيق اسعد محمدالطيب (دار الفكر - بیروت، 1432ه - 2011م)
- الجرح والتعديل، (دار احیاء التراث العربي - بيروت، 1952م)
33. ابن أبي حاتم المشغري، يوسف الشامي العاملي، ت (664ه - 1265م).
- الدرر العظيم، (مؤسسة النشر الإسلامي - قم، د. ت)
34. حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله، ت (1067ه-1656م)
- کشف الظنون عن اسامي الكتب والفنون، تصحیح محمد شرف الدين (دار احیاء التراث العربي - بيروت، د. ت)
35. الحاكم الحسكاني، أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله، ت (470ه - 1077م)
- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، تحقيق محمد باقر المحمودي (مؤسسة الطبع التابعة الوزارة الثقافة والارشاد الإسلامي - طهران، 1411ه - 1990م)
36. الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، ت (405ه - 1014م).
- المستدرك على الصحيحين، تحقیق يوسف عبد الرحمن المرعشي (دار المعرفة - بيروت، د. ت)
- معرفة علوم الحدیث، تصحیح سید معظم حسين، تحقيق، لجنة في احياء التراث العربي في دار الاوقاف الحديثة (ط4، دار الاوقاف الحديثة - بيروت - لبنان، 1400ه
ص: 525
-- 1980م).
37. ابن حبان، أبو حاتم محمد التميمي البستي، ت (354ه - 859م)
- الثقات، (حیدر آباد الدكن - الهند، 1393 ه - 1973م)
- السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، تحقیق سعد كريم الفقي (دار ابن خلدون، الاسكندرية، د.ت).
- المجروحين من المحدثين والضعفاء المتروکین، تحقیق، محمد إبراهيم زاید (دار الباز للنشر - مكة المكرمة، د. ت).
- مشاهير علماء الأمصار، تحقیق مرزوق علي إبراهيم (دار الوفاء للطباعة والنشر - المنصورة، 1991م)
38. ابن حبيب، محمد البغدادي، ت (245ه - 859م)
- المحبر، (مطبعة الدائرة، 1361م)
- المنمق، تصحیح خورشید احمد فاروق (ب. م. ط)
39. ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد، ت (852ه - 1448م)
- الاصابة في تمييز الصحابة، تحقيق أحمد عبد الموجود وعلي معوض (دار الکتب العلمية - بيروت، 1415ه)،
- تقريب التهذيب، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، (ط 2، دار الكتب العلمية بيروت، (1415- 1995)
- تهذيب التهذيب (دار الفكر للطباعة والنشر - بیروت، د. ت)
- هدي الساري في مقدمة فتح الباري (ط 4، دار احیاء التراث العربي، 1988م). - العجاب في بيان الأسباب، تحقیق، عبد الكريم محمد الأنيس (الجوزي - السعودية، 1997م).
- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، (دار المعرفة - بيروت، ب. ت)
- لسان الميزان، (ط 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1390 ه -1971م)
ص: 526
40. ابن أبي الحديد المعتزلي، عز الدين بن أبي حامد بن عبد الحميد بن هبة الله، ت(656ه - 1258 م).
- شرح نهج البلاغة، شرح و تعلیق حسين الأعلمي (ط 2، مؤسسة الأعلمي - بيروت، 2004م).
41. الحر العاملي، محمد بن الحسن، ت (1104ه - 1692م)
- الفوائد الطوسية، تصحيح الازوردي و محمد وردي (المطبعة العلمية - قم، ب. ت)
42. الحراني، أبو محمد الحسين بن علي بن الحسين بن شعبة
- تحف العقول عن آل الرسول، (منشورات الفجر للطباعة والنشر - بيروت، 2014م).
43. ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، ت (456 ه - 1063م)
- جمهرة أنساب العرب، تحقیق عبد السلام هارون(ط5، دار المعارف - مصر، ب. ت).
44. الحلي، الحسن بن يوسف، ت (726ه - 1352م)
- اجوبة المسائل المهنائية، (مطبعة الخيام - قم، 1416ه).
- کشف الیقین، تحقیق حسن الدرهاكي (ب. م. ط)
نهج الحق وكشف الصدق، تعليق عين الله الحسيني الأرموي، (منشورات دار الهجرة، قم، 1414)
45. ابن حمزة الطوسی، محمد بن علي، ت (560ه -1146م)
- الثاقب في المناقب، تحقيق نبيل رضا علوان، (ط 2، مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر - قم، 1412 م).
46. الحميري، محمد بن عبد المنعم، ت (900ه - 1494م)
- الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقیق احسان عباس (ط 2 هيدلبرغ - بيروت،1984م)
47. الحنفی، محمد بن أحمد المالكي، ت (854ه - 1450م)
- تاریخ مكة المشرفة، تحقیق علاء إبراهيم الازهري وایمن نصر الازهري (دار الكتب العلمية - بيروت،1418ه - 1997 م).
ص: 527
48. ابن حيان، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الاندلسي
- تفسير ابن حیان (البحر المحيط)، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخرون، دار الكتب العلمية بيروت، 1422- 2001)
49. ابن الخطاب القرشي، أبو زيد محمد
- جمهرة أشعار العرب (في الجاهلية والإسلام)، تحقیق، محمد علي البجاري (نهضة مصر للطباعة والنشر، ب. ت)
50. الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، ت 463 ه - 1070م)
- تاریخ بغداد، (دار الكتب العلمية - بيروت، د. ت)
51. ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، ت (808ه - 1405م)
- تاریخ ابن خلدون، (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، 1391 ه - 1971 م).
52. ابن خلکان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد، ت (681 ه - 1282م)
- وفيات الأعيان وانباء ابناء الزمان، تحقیق، احسان عباس، (دار صادر - بیروت، د. ت)
53. ابن خير الاشبيلي، أبو بكر محمد، ت (575ه - 1179م)
- الفهرست، وضع حواشیه محمد فواد منصور، د. ت
54. ابن خیّاط، أبو عمر خليفة، ت (240ه - 854م)
- تاریخ خليفة بن خیاط، مراجعةوضبط مصطفی نجیب فواز وحکمت کشلي فواز
(دار الكتب العلمية - بيروت، 1415ه - 1995م)
- کتاب الطبقات تحقیق سهیل زکار، دار الفکر بیروت، 1414 - 1993)
55. أبو داود الطيالسي، سلیمان بن داود بن الجارود، ت (240ه - 819م)
۔ مسند أبي داود الطيالسي، (دار المعرفة - بيروت، د. ت)
56. ابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن عبید، ت (281ه - 894م)
- مکارم الاخلاق، تحقیق، مجدي السيد إبراهيم (مكتبة القرآن الكريم للطبع والنشر، القاهرة، د. ت)
ص: 528
- الورع، تحقیق عبد الله بن محمد بن أحمد الحمود (الدار - الكويت ، 1994م)
57. الذهبي، شمس الدين أحمد بن محمد بن عثمان، ت (748ه - 1374م)
- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقیق عمر عبد السلام تدمري (دار الكتاب العربي - بيروت، 1989 م).
- تذكرة الحفاظ، (دار احیاء التراث العربي - بيروت، د. ت)
- سير أعلام النبلاء، تحقيق محمد نعیم العقروسي ومأمون صاغرجي (ط4، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1982م).
- الكاشف في من له رواية في الكتب الستة، (دار القبلة الإسلامية - جدة، 1992م).
المغني من الضعفاء، تحقیق حازم القاضي (المكتبة العلمية - بيروت، 1997م)
میزان الاعتدال، تحقیق، محمد البجاوي (دار المعرفة - بيروت، د. ت).
58. الرازي، فخر الدين محمد بن عمر الحسن، ت (606ه - 1209م)
تفسير الرازي (ط 3، د. م. ط).
59. الرازي، محمد بن أبي بكر، ت (721ه - 1321م)
مختار الصحاح، ضبط أحمد شمس الدين (دار الكتب العلمية - بيروت، 1994م).
60. الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل، ت (425ه – 1085م)
مفردات الفاظ غريب القرآن، تحقیق صفوان عدنان داودي (مطبعة النور - قم،
1427 ه)
61. الراوندي، قطب الدين، ت (573ه - 1177م)
الخرائج والجرائح، تحقيق محمد باقر الموحد الابطحي (مؤسسة الإمام المهدي - قم 1409)
62. الزبیدي محب الدين أبي الفيض السيد مرتضى الحسيني، ت (1205 ه - 1790م)
تاج العروس، تحقیق علي شيري (دار الفكر العربي - بيروت، 1414ه - 1994م) 63. الزرندي، جمال الدين محمد بن يوسف بن الحسن، ت (750ه - 1349م)
ص: 529
نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول، تحقيق حسين الحسيني البيرجندي (ط 2، المجمع العلمي لأهل البيت - بیروت، 2012م)
64. الزهري، محمد بن مسلم عبد الله بن شهاب، ت (124 ه - 741م)
المغازي النبوية، تحقیق سهیل زکار، دار الفكر - بيروت، 1981م)
65. الزوزني، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين، ت (486ه - 1093م)
شرح المعلقات العشر، (دار مكتبة الحياة - بيروت، 1983م)
66. ابن السائب الكلبي، حاتم أبو المنذر محمد، ت (204ه - 819م)
جمهرة النسب، تحقيق محمد فردوس العظم (دار النهضة العربية - سوريا، د. ت)
67. سبط بن الجوزي، يوسف بن مرغلي بن عبد الله البغدادي، ت (658ه - 1256 م).
تذكرة الخواص، (مكتبة نينوى الحديثة - طهران، د. ت)
68. السخاوي، شمس الدين، ت (902 ه - 1496م)
التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، دار الكتب العلمية - بيروت، 1993م).
69. ابن سعد، محمد بن منيع الزهري، ت (230ه - 844)
الطبقات الکبری، تحقيق محمد علي عمر (مكتبة الخانجي - القاهرة، 2001م)
غزواة وسرايا الرسول، (دار بيروت للطباعة والنشر، 1981م)
70. بن سلمان الكوفي، محمد، ت (301ه - 913م)
مناقب الإمام أمير المؤمنين، تحقیق، محمد باقر المحمودي، مجمع احياءالثقافة الإسلامية، د. ت)
71. ابن سليمان، مقاتل، ت (150ه - 726م)
تفسير مقاتل، تحقيق أحمد فريد، (دار الكتب العلمية - بيروت، 1424ه- 2003م)
72. السمعاني، منصور بن محمد بن عبد الجبار، ت (489 - 1096م)
تفسير السمعاني، تحقيق یاسر إبراهيم وغنيم عباس(دار الوطن - الرياض، 1418 ه - 1997م)
73. السهيلي، عبد الرحمن، ت (581ه - 1185م)
ص: 530
الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقیق عبد الرضا الوكيل (دار الكتب الإسلامية، 1997م).
74. ابن سيد الناس، أبو الفتح محمد بن محمد، ت (734ه - 1342 م)
عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، (مكتبة التراث، المدينة المنورة، د. ت).
75. السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، ت (911ه - 1505م)
بغية الوعاة في طبقة اللغوين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفصل إبراهيم (د. م. ط).
تاریخ الخلفاء، تحقیق، لجنة من الأدباء، (توزيع دار التعاون - مكة المكرمة، د.ت) الجامع الصغير، دار الفكر - بيروت، 1981م)
الدر المنثور في التفسير بالمنثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، د.ت
كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (حیدر آباد الدين - الهند، 1320 م).
لباب النقول في أسباب النزول، (دار الكتب العلمية - بيروت، د. ت).
76. الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسی، ت (406 ه- 1015م)
خصائص الأئمة، تحقيق محمد هادي الاميني (مجمع البحوث الإسلامية - مشهد، 1406ه).
77. ابن شهر آشوب، أبو جعفر محمد بن علي، ت (588ه-م)
مناقب آل أبي طالب (مطبعة الحيدرية - النجف، 1956م)
78. الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، ت (1255 ه- 1839م)
نیل الاوطار (دار الجيل - بيروت، 1973م)
79. الصالحي، محمد بن يوسف الشامي، ت (942ه - 19535م)
سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد عوض، (دار الكتب العلمية - بيروت، 1414ه - 1993م)
80. ابن الصباغ، علي بن محمد أحمد المالكي، ت (855ه - 1451م)
الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقیق سامي الغريري (دار الحديث للطباعة والنشر - قم، 1422ه)
ص: 531
81. الصدوق، علي بن الحسين بن موسی بن بابویه، ت (381ه -991م)
علل الشرائع، تحقيق محمد صادق بحر العلوم، (المكتبة الحيدرية - النجف، 1966م)
عيون أخبار الرضا، (مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1379م)
معاني الأخبار، (مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1379م)
82. الصفدي، صلاح الدين أبو الصفا خلیل ایبك، ت (768ه - 1366م)
الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفی (دار احیاء التراث - بیروت، 2000م)
83. الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، ت (211ه - 826م)
تفسير القرآن،تحقيق مصطفی مسلم محمد، (مكتبة الرشيد للنشر والتوزيع - الرياض 1410ه - 1989م)
المصنف، تحقیق حبیب الرحمن الأعظمي (منشورات المجلس العلمي، د. ت). 84. ابن طاووس، علي بن موسی بن جعفر، ت (664ه - 1265م)
الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف (مطبعة الخيام - قم، 1399 م)
85. الطبراني، أبو القاسم سلیمان بن أحمد، ت (360ه - 970م)
المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد، (ط 2، دار احیاء التراث العربي - بيروت، د. ت).
86. الطبرسي، الفضل بن الحسن بن الفضل، ت (548ه - 1067م)
إعلام الوری بأعلام الهدی (مؤسسة أهل البيت لاحياء التراث - قم، 1417).
تاج المواليد (المجموعة)، (مطبعة الصدر - قم، 1406ه)
تفسير مجمع البيان، تحقيق لجنة العلماء، (مؤسسة الأعلمي - بيروت، 1415ه - 1995م).
87. الطبري، عماد الدين أبو جعفر محمد، ت (525ه - 1130م)
بشارة المصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) لشيعة المرتضى (عليه السلام) تحقیق جواد
ص: 532
القيومي (مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1410 ه)
88. الطبري، محمد بن جریر، ت (310ه - 922م)
تاریخ الامم والملوك ، (دار احیاء التراث العربي - بيروت، 1998م) .
جامع البيان عن تاؤيل القرآن، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، 1415ه- 1995م)
89. الطوسي، محمد بن الحسن، ت (460ه-1067م)
اختیار معرفة الرجال (رجال الكشي)، تحقيق مهدي الرجائي (مؤسسة أهل البيت الاحياء التراث - قم، د. ت)
الاقتصاد، (مطبعة الخيام - قم، 1400م)
الامالي، (دار الثقافة للطباعة والنشر - قم، 1414م)
التبيان في تفسير القرآن، تحقيق أحمد حبيب القصير (دار احیاء التراث العربي، 1409 ه)
رجال الطوسي، تحقيق جواد القيومي، (مؤسسة النشر الإسلامي - قم، د. ت) 90. ابن عبد البر، عمر بن يوسف بن عبد الله، ت (463 ه - 1070م)
الاستيعاب في اسماء الأصحاب، تصحیح عادل مرشد (دار الإعلام - الأردن، 2002م)
جامع بیان العلم وفضله (دار الكتب العلمية - بيروت، 1338ه)
الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقیق شوقي ضيف (ط 2، دار المعارف - القاهرة، د. ت).
91. بن عبد ربه، أحمد بن محمد، ت (328ه- 939م)
العقد الفريد، تحقیق عبد المجيد الترحيني (دار الكتب العلمية - بيروت، 1983م) 92. العجلي، أبو الحسن أحمد بن عبد الله، ت (261ه - 873م)
معرفة الثقات، (مكتبة الدار - المدينة المنورة، د. ت)
93. ابن عساکر، أبو القاسم علي بن الحسين به هبة الله، ت (571ه - 1175م)
تاريخ مدينة دمشق، تحقیق علي شري (دار الفكر - بيروت، د. ت).
ص: 533
94. ابن عقدة الكوفي، أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد، ت (333ه- 934م) فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) تجميع عبد الرزاق محمد حسين فيض الدين (د. م. ط)
95. العقيلي، محمد بن موسی ابن عمر ابن حماد، ت (322ه - 933م).
ضعفاء العقيلي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، (ط 2، دار الكتب العلمية بيروت، 1418)
96. ابن العماد الحنبلي، عبد الحمي العسكري الدمشقي، ت (1089ه- 1678م)
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، (دار احیاء التراث العربي - بيروت، د. ت).
97. ابن عنبه، أحمد بن علي الحسيني، ت (828ه - 1424م)
عمدت الطالب في أنساب آل أبي طالب (المطبعة الحيدريه - النجف، 1961م).
98. الغضائري، أحمد بن الحسين، ت (ق 5، ق 11م)
الرجال، تحقيق محمد رضا الجلالي (دار الحديث للطباعة والنشر - قم، 1402ه).
99. فخار بن معد الموسوي، شمس الدين بن علي، ت (630ه - 1232م)
إيمان أبي طالب (الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب)، (الآداب - النجف،1384 ه- 1965م)
100. الفراهيدي، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد، ت (175 ه-791م)
العين، تحقیق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي (مؤسسة الهجرة، 1409ه)
ابن الفقيه الهمداني، أبو بكر محمد بن أحمد، ت (290ه - 902م)
مختصر کتاب البلدان (مطبعة ليدن، 1302 ه)
101. القاضي نعمان المغربي، أبو حنيفة محمد، ت (363ه- 973م)
شرح الأخبار، تحقيق محمد الحسيني الميلاني (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1414ه).
102. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم، ت (276ه - 889م)
المعارف، تحقيق ثروة عكاشة (ط4، دار المعارف - القاهرة، د.ت)
ص: 534
103. القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر، ت (671ه - 1272م)
الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تحقيق مصطفى السقا، (دار احیاء التراث العربي - بيروت، 1405ه- 1985 م)
104. القفطي، علي بن يوسف، ت (624ه - 1226م)
أنباء الرواة على أنباء النجاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (المطبعة العصرية - صيدا، 2004م)
105. القمي، علي بن إبراهيم، ت (329ه - 940م)
تفسير القمي، تصحيح طيب الموسوي الجزائري (مطبعة النجف – 1387 م)
106. القندوزي سليمان بن إبراهيم، ت (1294 ه- 1877م)
ينابيع المودة لذي القربی، تحقیق سید علي جمال اشرف (دار الاسوه، 1416ه).
107. الكاشاني، ملا فتح الله بن شكر الله، ت (988ه- 1580م)
زبدة التفاسير، (مؤسسة المعارف الإسلامية - قم، 1423 ه)
108. ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل، ت (774ه - 1372م)
البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن تركي (هجر للطباعة والنشر والتوزيع، 1989م).
السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، (دار المعرفة - بيروت، 1396 - 1971م)
109. الكركي، علي بن الحسين، ت (940ه- 1533م)
جامع المقاصد في شرح الفوائد، (مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث - قم، 1408ه).
110. الكلاعي، سليمان بن موسی، ت (634ه - 1236م)
الاكتفاء بما تضمنه مغازي رسول الله و الثلاثة الخلفاء، تحقيق محمد عبد القادر عطا (دار الكتب العلمية - بيروت، 2000م)
111. الكليني، محمد بن یعقوب، ت (329ه - 940م)
ص: 535
أصول الكافي (الفجر للطباعة - بيروت، 1435 ه- 2014م)
112. الكنجي الشافعي، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد القرشي، ت (658ه -1259م)
كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، تحقیق محمد هادي الاميني (ط 3، دار احیاء تراث أهل البيت - طهران، 1404 ه)
113. الكوفي، فرات بن إبراهيم، ت (352ه - 963م)
تفسیر فرات الكوفي، تحقيق محمد الكاظم، (مؤسسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والارشاد الايراني - طهران، 1990م)
114. أبو الليث السمرقندي، نصر بن محمد بن إبراهيم، ت (383ه - 993م)
تفسير السمرقندي، تحقيق محمد مطرجي (دار الفكر - بيروت، د. ت)
110. ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، ت (273 ه- 886م)
سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (دار الفكر - بيروت، د. ت)
116. المتقي الهندي، علاء الدين علي بن حسام الدين، ت (975ه- 1567م)
کنز العمال، ضبط بكري حياتي (مؤسسة الرسالة - بيروت، 1409 ه- 1989م)
117. المجلسی، محمد باقر، ت (1111ه- 729م)
بحار الانوار، (مؤسسة الوفاء - بيروت، 1403ه- 1982م)
118. المحب الطبري، أبو العباس أحمد بن عبد الله، ت (694ه- 1294م)
ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربی، تحقیق اكرم البوش (د. م. ط)
الرياض النظرة في مناقب العشرة (دار الكتب العلمية - بيروت، د. ت)
119. ابن مردويه، أحمد بن موسى الأصفهاني، ت (410ه-1019م)
مناقب علي بن أبي طالب، جمع عبد الرزاق محمد حسين (ط 2، دار الحديث- قم، 1424ه)
120. المزي، جمال الدين أبي الحجاج يوسف، ت (744ه-1341م)
ص: 536
تهذيب الكمال في اسماء الرجال، تحقيق بشار عواد (مؤسسة الرسالة - بيروت، 1985م)
121. المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين، ت (346ه - 957م)
التنبيه والاشراق (دار صعب - بيروت، د. ت)
مروج الذهب و معادن الجوهر، (منشورات الفجر - بیروت، د. ت)
122. مسلم النيسابوري، أبو الحسن مسلم بن الحجاج، ت (261ه- 874م)
صحیح مسلم، (مؤسسة المختار - القاهرة، 2010م)
123. المصعب الزبيري، أبو عبد الله المصعب بن عبد الله، ت (236 - 850م)
نسب قریش، تحقيق ليفي بروفنشال، (ط 2، دار الحديث، د. ت)
124. ابن المغازلي، علي بن محمد بن محمد الطيب، ت (483 ه - 1090م)
مناقب علي بن أبي طالب (انشارات سبط النبي - قم، 1426م)
125. المفيد، محمد بن محمد بن النعمان العبكري، ت (413ه- 1022م) الاختصاص، تصحیح علي أكبر الغفاري، (جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم، د. ت)
الإرشاد (ط 2، مؤسسة أهل البيت - بيروت، 2008م)
أمالي المفيد (دار المتقين للطباعة والنشر - بیروت، 2002م)
إيمان أبي طالب، (ط 2، دار المفيد للطباعة والنشر-بيروت، 1414ه-1993م). تفسير القرآن المجيد، تحقیق، محمد علي آیازي، (مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي - قم1424ه)
126. المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، ت (845ه - 1141م)
امتاع الاسماع، تحقيق محمد عبد الحميد التمسي (دار الكتب العلمية - بيروت، 1420ه- 1999م)
النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم، تحقيق حسين مونس، دار المعارف - القاهرة، د. ت)
ص: 537
127. ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، ت (711ه - 1311 م)
لسان العرب، (نشر آداب الحوزة، د. ت)
128. المهزمي، أبو هفان عبد الله بن أحمد ت (275 ه– 870 م)
دیوان شیخ الاباطح أبي طالب (رضوان الله عليه)، تحقيق محمد باقر المحمودي، (مجمع حياة الثقافة الإسلامية، د-ت)
129. موسى بن عقبة، أبو محمد، ت (141ه- 758م)
المغازي النبوية، تحقيق حسين مرادي نسب (شریعت – قم، 1424ه)
130. الموفق الخوارزمي، أحمد بن أبي سعيد، ت (568 ه- 1172م)
المناقب، تحقيق مالك المحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1414ه)
131. النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي، ت (450ه -1058م)
فهرست اسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، (طه، مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1416ه)
132. النحاس، أبو جعفر، ت (338ه-946م)
معاني القرآن، تحقيق محمد علي الصابوني (السعودية - جامعة أم القرى، 1410ه -1989م)
133. النسائي، أبو عبد الله أحمد بن شعيب بن علي، ت (1303- 915م) خصائص أمير المؤمنين، تحقيق محمد هادي الاميني (مكتبة نينوى الحديثة - طهران، د. ت)
السنن الکبری، تحقیق عبد الغفار سلیمان و سید کسروي حسين (دار الكتب العلمية - بیروت، 1411ه-1991 م).
الضعفاء والمتروکین، تحقيق محمود إبراهيم زاید (دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، 1986م)
فضائل الصحابة، دار الكتب العلمية - بيروت، دزت)
ص: 538
134. أبو نعيم الأصفهاني، أحمد بن عبد الله، ت (430 ه - 1038م)
حلية الأولياء وطبقات الاصفياء، (المكتبة العلمية - بيروت، 1987م)
135. النووي، يحیی بن شرف الحرامي، ت (676ه - 1277م)
شرح صحیح مسلم (دار احیاء التراث العربي - بيروت، 1987م)
136. النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب، ت (733ه - 1232م)
نهاية الأرب في فنون الأدب، (المؤسسة المصرية العامة - القاهرة، د. ت)
137. النيسابوري، محمد بن الحسن، ت (508ه - 1114م)
روضة الواعظين (المطبعة الحيدريه - النجف، 1966م)
138. ابن هشام،أبو محمد عبد الملك، ت (218ه- 833م)
التيجان في ملوك حمير، تحقیق مركز الدراسات والبحوث اليمنية اليمن - صنعاء، 1347ه)
السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرون (ط 2، الهيئة العامة للقصور والثقافة - القاهرة، 2012م)
139. الهلالي، سلیم بن قیس، ت (76ه - 695م)
کتاب سلیم بن قیس، تحقیق محمد باقر الأنصاري، (مطبعة نكارش - قم، 1423ه)
140. الهيثمي، أحمد بن حجر المكي، ت (974ه- 1566م)
الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة (ط 2، شركة الطباعة الفنية المحدودة - مصر، 1385 ه- 1965م)
141. الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر، ت (807ه - 1404م)
مجمع الزوائد (دار الكتب العلمية - بيروت، 1408- 1988م).
142. الواحدي النيسابوري، علي بن أحمد، ت (468ه- 1075م)
أسباب نزول الآيات، (مؤسسة الحلبي وشركاؤه - القاهرة، 1968م)
143. الواقدي، محمد بن عمر، ت (207ه- 822م)
ص: 539
المغازي، تحقيق مارسدن جونس (ط 3، عالم الكتاب - بیروت، 1984م)
144. اليافعي، عبد الله بن اسعد، ت (678ه- 1366م)
مرآة الجنان وعبرة اليقضان، (دار الكتب العلمية - بيروت، 1997م)
145. یاقوت الحموي، ت (626ه- 1228م)
معجم الأدباء، ط 3، دار الفكر - بيروت، 1400 ه)
معجم البلدان (دار احیاء التراث العربي - بيروت، 1979م)
146. اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب، ت (292 هم - 904م)
تاريخ اليعقوبي، تعليق خليل منصور، (مؤسسة العطار الثقافية - النجف، د. ت)
147. ابو يعلى الموصلي، أحمد بن علي بن المثنى التميمي، ت (307-919م) | مسند أبو يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، (دار المأمون للتراث - دمشق، 1408 ه- 1988م)
1. الأعلمي، ضياء الدين
ديوان السيد الحميري، ت (173 ه- 789م) (مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، د. ت)
2. الأمين، محسن
اعيان الشيعة، تحقیق حسن الامين، (دار التعارف للمطبوعات - بیروت، د. ت) 3. بروکلمان، کارل
تاريخ الأدب العربي، ترجمة عبد الحليم النجار، (طه، دار المعارف – مصر، د.ت) 4. بيومي، محمد
السيدة فاطمة الزهراء، ط3، سقبر اصفهان، 1418ه)
5 .. ترحيني، أحمد محمد
المؤرخون والتاريخ عند العرب (دار الكتب العلمية - بيروت، د. ت)
6. التوينجي، محمد
ص: 540
ديوان أبي طالب عمي النبي، دار الكتاب العربي - بيروت، 1414ه، 1994م
7. جرداق، جورج
الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، (ذو القربی - قم، د.ت)
8. جعفریان، رسول سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جامع المحامد (دار الرسول الأكرم - بيروت، 2007م)
9. الحاج حسن، حسين
الإمام علي مسيرة جهاد وعطاء إنساني، (دار المرتضى - بيروت، 2005م)
10. الحكيم، حسن
مذاهب الإسلاميين في علوم الحديث (مكتبة الدار العربية، د. ت)
11. الحسني، هاشم معروف
سيرة الأئمة الاثني عشر (طه، مطبعة ذي القربی - قم، 1430 ه)
12. الحسيني، نبيل
الشيعة والسيرة النبوية بين الاضطهاد والتدوين، (قسم الشؤون الفكرية في العتبة الحسينية المقدسة، 2009م)
13. حماده، فاروق
سيرة المصطفی، (دار کوخ للطباعة والنشر، 1428ه)
السيرة النبوية وتقويمها، (دار القلم - دمشق، د. ت)
14. حمید الله، محمد
مجموعة الوثائق السياسية (للعهد النبوي والخلافة الراشدة)، (طه، دار النفائس - بيروت، 1405ه- 1985م)
15. الخوئي، أبو القاسم
معجم رجال الحدیث، (طه، د زم، 1993م)
ص: 541
16. الحيدري، كمال
معالم الإسلام الأموي، (ط3، مؤسسة الهدى للطباعة والنشر - بیروت، 2011م) 17. الدوري، عبد العزيز
نشأة علم التاريخ عند العرب، (مركز زايد للطباعة، 2000م)
18. الزركلي، خير الدين
الأعلام، (طه، دار العلم للملايين - بيروت، د. ت)
19. السباعي، مصطفی
السيرة النبوية دروس وعبر (المكتب الإسلامي - بيروت، د. ت)
20. السبحاني، جعفر
السيرة المحمدية، (مؤسسة الإمام الصادق - قم، د، ت)
21. سزكين، فؤاد
تاريخ التراث العربي، ترجمة محمود فهمي حجازي، (دار الثقافة والنشر الجامعة - الرياض، 1411ه- 1991م)
22. سلامة، محمد يسري
مصادر السيرة النبوية (و مقدمة في تدوين السيرة)، (دار الجيزاني للنشر والتوزيع - القاهرة، 1436 ه)
23. أبو شبهة، محمد بن محمد
السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (دار القلم - بیروت، د. ت)
24. الشرهاني، حسین
اضواء على السيرة النبوية (دراسة حياة الرسول مع السيدة خديجة)، (تموز - سوريا، 2013م)
25. الصالح، صبحي
نهج البلاغة، ترتیب صبحي الصالح (ط4، نور الهدى - قم، 1413ه)
26. الصدر، محمد باقر
ص: 542
فدك في التاريخ، (مكتبة بغداد، 2013م)
27. الطرابيشي، مطاع
رواة محمد بن إسحاق بن يسار (دار الفكر - بيروت، 1994م)
28. العاملي، جعفر مرتضی
الصحيح من سيرة الرسول الأعظم، (طه، المركز الإسلاميللدراسات، 1425ه
29. عبد الحميد، صائب
علم التاريخ ومناهج المؤرخين (ط 2، مركز الغدير - للدراسات والنشر – لبنان، 1429ه- 2008م)
30. عبد اللطيف، عبد الشافي محمد
بحوث في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر، د. ت)
31. عجيمي، أحمد فاضل
العرب قبل الإسلام في شرح نهج البلاغة (دار الحصاد - دمشق، 2014م)
32. علي، جواد
ابحاث في التاريخ الإسلامي، مراجعة نصير الكعبي، (منشورات الجمل - بغداد، 2011م)
تاريخ العرب في الإسلام، (دار الهداية - بغداد، د. ت)
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (ط4، د. م، 1993م)
33. العمري، اكرم ضياء
السيرة النبوية الصحيحة (ط6، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، 1994م) 34. العواد، انتصار عدنان عبد الواحد
السيرة النبوية في رؤية أمير المؤمنين، (ط 2، دار الفيحاء، 1436 ه- 2015م)
35. الغفاري، عبد الرسول
فضائل الخمسة في الصحاح الستة، ط3، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، 1973م)
ص: 543
36. الفيروز آبادي، مرتضى الحسيني، ت (1410ه- 1989م)
كبير الصحابة أبو طالب، (المعارف للمطبوعات - النجف، 2012م)
37. القابنجي، حسن
مسند الإمام علي، تحقیق طاهر السلامي، (الاعلمي للمطبوعات - بيروت، 2011م)
38. ال قاسم، عدنان فرمان
دروس في السيرة النبوية، دار السلام للطباعة والتوزيع - بيروت، 2010م)
39. القزويني،محمد کاظم
فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، (مؤسسة الرافد للمطبوعات – بغداد، 2011م)
40. القمي، عباس، ت (1359 - 1940م)
الكنى والألقاب، (مكتبة الصدر - طهران، د. ت)
41. کب، هاملتون
علم التاريخ، ترجمة إبراهيم خورشید و آخرون، دار الكتاب اللبناني - بيروت، 1981م)
42. كحالة، عمر
معجم المؤلفين، (دار احیاء التراث العربي - بيروت، د. ت)
43. محسن، إبراهيم جدوع و حمید سراج جابر
الأهمية الاجتماعية والثقافية للسيرة النبوية عند الكليني، (مؤسسة التميمي - النجف الاشرف، 2013م)
44. مصطفی، شاکر
التاريخ العربي و المؤرخون، (ط 2، دار العلم للملاين - بيروت، 1987م)
45. المظفر، محمد رضا
السقيفة، (ط 11، دار القاری، بیروت، 2014م)
46. مغنية، محمد جواد
التفسير الكاشف، (ط 2 ، دار العلم للملاين - بيروت، 1978م)
فضائل الإمام علي، تحقیق سامي الغريري، (ط3، مؤسسة التراث الإسلامي - قم، 2007م)
ص: 544
47. الميلاني، علي الحسيني
حديث الدار (مركز الأبحاث العقائدية، 1421م)
48. ناجي، عبد الجبار
نقد الرواية التاريخية (عصر الرسالة نموذجا)، (دار المحجة البيضاء، 2011)
49. الندوي، أبو الحسن علي الحسيني
السيرة النبوية، (ط 2، دار الشروق - جدة، 1410ه- 1989م)
50. نصار، حسین
نشأة التدوين التاريخي عند العرب، (مكتبة النهضة المصرية، د. ت)
51. نصار، عار عبودي
تطور كتابة السيرة النبوية عند المؤرخين المسلمين، (دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد، 2005م)
52. النصر الله، جواد کاظم
الإمام علي في فكر معتزلة البصرة، دار الفيحاء للطباعة والنشر - البصرة،1423 ه 2013م)
فضائل أمير المؤمنين المنسوبة لغيره (ولادته في الكعبة)، (مركز الأبحاث العقائدية - قم 1430 ه- 2009م)
53. هروفيتس، یوسف
المغازي الأولى ومؤلفوها، ترجمة حسين نصار، (دار التأليف والترجمة - القاهرة، 1949م)
54. اليوسفي، محمد هادي
موسوعة التاريخ الإسلامي (اضواء الحوزة - لبنان، 2012م)
1. الفارس، محمد خضير جاسم
عروة بن الزبير دراسة في سيرته ومروياته التاريخية في السيرة النبوية، رسالة ماجستير غير
ص: 545
منشورة مقدمة إلى جامعة البصرة - كلية الاداب، 2010م.
2. مطر، رحیم عباس
آل بيت النبوة (عليهم السلام) في كتاب الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري، ت (310ه) حتى عام 61ه اطروحة دكتوراه غير منشورة قدمت إلى جامعة المستنصرية كلية التربية، 2012م.
1. الشرهاني، حسين علي
أسلوب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار قادة السرايا، العدد16 سنة 2015
2. الشرهاني، حسين علي ومحسن راشد طریم
أسلوب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار سفرائه بحث منشور في مجلة كلية الآداب، العدد 8 المجلد 2، 2012م
3. هادی، ریاض هاشم ونضال مؤيد مال الله
منهجية ابن إسحاق في تدوين السيرة النبوية، بحث منشور في مجلة العلوم الإسلامية - جامعة الموصل العدد السادس عشر (2012م).
ص: 546
مقدمة المؤسسة ...9
المقدمة ...11
الفصل الأول : السيرة النبوية بين التطور والتهذيب
المبحث الأول: مصادر السيرة النبوية ....23
القرآن الكريم .....24
سنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله وسلم) ...29
مدونات الصحابة .....34
عبد الله بن عمرو بن العاص ت (65ه - 648 م) ...34
عبد الله بن عباس ت (68ه - 687 م)...37
جابر بن عبد الله الأنصاري ت (78ه - 697م) ...41
سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي...44
سهل بن أبي حثمة الأنصاري ...45
مدونات التابعين وتابعيهم ....47
عروة بن الزبيرت (94ه - 712م) ...47
وهناك سيات مميزة لكتابات عروة بن الزبير منها:...59
أبان بن عثمان ت (105ه- 723م)...62
ويمكن تسجيل الملاحظات التالية من خلال ما ذكر أعلاه: ....64
وهب بن منبه ت (110ه - 529م)....65
عاصم بن عمر بن قتادة ت (120ه - 737م)...70
شرحبيل بن سعدت (123 ه - 740م).....73
محمد بن مسلم الزهري ت (124ه - 741م)...77
عبد الله بن أبي بكر ت (135 ه - 752م) ...89
موسی بن عقبة (141ه - 785م) ...93
سلیمان بن طرخان ت (143ه - 760م) ...97
ص: 547
معمر بن راشدت (154 ه - 770م) ...100
المبحث الثاني: محمد بن إسحاق ودوره في تطوير تدوين السيرة النبوية ...103
محمد بن إسحاق ت (151 ه - 768م)...103
عقيدة بن إسحاق ....106
مكانته العلمية وموقف العلماء منه: .....107
رحلاته العلمية .......110
خلافه مع علماء المدينة ....111
شيوخ ابن إسحاق .....115
والده إسحاق بن يسار ت (110ه - 728م) ...116
موسی بن یسارت (110 ه- 728م) ....117
محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ت (126 ه - 736م) ....117محمد بن جعفر بن الزبيرت (110ه - 728م)... 119
تلاميذ ابن إسحاق...120
سلمة بن الفضل الابرش ت (191ه - 806م) ...121
يونس بن بکیرت (199 ه - 814م) ....123
زياد بن عبد الله البكائیت (183 ه - 799م)...126
آثار ابن إسحاق العلمية ......128
منهج ابن إسحاق في كتابة وتدوين السيرة .....133
عصر ابن إسحاق السياسي......138
المبحث الثالث: عبدالملك بن هشام ودوره في تهذيب السيرة النبوية...144 عبد الملك بن هشام ت (218ه - 833م) ....144
إنجازات ابن هشام العلمية .....147
أما الإنجاز الثاني لابن هشام (کتاب التيجان في ملوك حمير) ....148
أسباب تهذيب السيرة النبوية .....149
أما الأسباب التي دعت ابن هشام لتهذيب الأشعار فهي:...156
المؤثرات السياسية في عصر ابن هشام على الرواية التاريخية:...160
ص: 548
الفصل الثاني : علي من الولادة حتى الهجرة
المبحث الأول : نسب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومآثر آبائه...173
أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم (والد الإمام علي (عليه السلام)...179
أبو طالب حامي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة : .... 187 موقف أبي طالب من المقاطعة: ....197
وفاة أبي طالب:...201
إسلام أبي طالب:.....205
المبحث الثاني: علي عليه السلام من الولادة حتى الولادة حتى الهجرة...222 ولادته المباركة ...222
إسلام على بن أبي طالب (عليه السلام) ...235
إنذار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشيرته الأقربين:...248
مبيت الإمام علي (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله والسلام)..... 260
الفصل الثالث: علي (عليه السلام) من الهجرة حتى فتح مكة سنة (8ه - 629م)
المبحث الأول: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مهاجرة .....277
النزول في قباء ....278
المؤاخاة ...286
زواج الإمام علي (عليه السلام) من الزهراء (عليها السلام)...293
تكنيته بأبي تراب ...306
المبحث الثاني: علي (عليه السلام) في معركتي بدر و احد ....312
الإمام علي في معركة بدر ...312
مقدمة المعركة: .... 312
الإمام على صاحب الراية يوم بدر ...315
ملازمة الإمام علي (عليه السلام) لرسول الله ...317
بلاء الإمام علي (عليه السلام) في معركة بدر ....318
الإمام علي (عليه السلام) أول المبارزين في بدر:...320
قتلى الإمام علي (عليه السلام) يوم بدر ....324
ص: 549
الإمام عليٌّ (عليه السلام) حامل لواء المسلمين في أُحد...334
ثبات الإمام علي (عليه السلام) يوم أحد ...342
العودة إلى المدينة :. ...351
المبحث الثالث: علي (عليه السلام) بعد معركة أحد حتى فتح مكة...353
معركة الخندق ...353
غزوة بني قريظة ...365
غزوة بني المصطلق ...369
حديث الإفك :...371
غزوة الحديبية :...383
غزوة خيبر: ...391
الفصل الرابع : عليٌّ (عليه السلام) من الفتح حتى وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله والسلام)
المبحث الأول: الإمام علي (عليه السلام) عند فتح مكة ....405
مقدمات الفتح ...405
الإمام علي (عليه السلام) يتعقب الجاسوسة ....416
الراية في فتح مكة:....421
الإمام علي (عليه السلام) ومفتاح الكعبة:....438
المبحث الثاني: الإمام علي (عليه السلام) بعد فتح مكة...438
الإمام علي (عليه السلام) ينوب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في صلح بني جذيمة :...438
الإمام علي (عليه السلام) في غزوة حنين :. ..442
غزوة تبوك:.. .449
تبلیغ سورة براءة في الحج: ......457
سرية الإمام علي (عليه السلام) إلى اليمن :...463
حجة الوداع: .......469
المبحث الثالث: الإمام علي (عليه السلام)
ص: 550
في مرض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته: ....480
الإمام علي (عليه السلام) في مرض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ...... 481
سقيفة بني ساعدة ...494
تجهيز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفنه ...506
الخاتمة ....515
قائمة المصادر والمراجع ....521
المراجع ...540
الأطاريح والرسائل الجامعية ....545
البحوث.. .546
ص: 551