مصائب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)

هوية الكتاب

مصائب

النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الائمة المعصومين (علیهم السلام)

الجزء الأول

عباس عزيز الحلفي

سنة الطبع: 1445 ه- / 2023 م .

محرر الرقمي:محمد المنصوري

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

مصائب

النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الائمة المعصومين (علیهم السلام)

الجزء الأول

عباس عزيز الحلفي

محرر الرقمي:محمد المنصوري

ص: 3

* جميع الحقوق محفوطة *

--------

© اسم الكتاب: مصائب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .

© تأليف: عباس عزيز الحلفي .

© عدد النسخ: .

© الطبعة: .

© سنة الطبع: 1445 ه- / 2023 م .

------

ص: 4

الاهداء

منكم وفيكم واليكم توفيق كل موفق فانتم السبب الأعظم الى الله عزوجل ورضوانه واني المحتاج الى عنايتكم ورعايتكم وشفاعتكم (إن ذُكِر الخير كنتم اولّه وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه).

عن مولانا ابي جعفر (علیه السلام) قال: «من لم يعرف سوء ما أُوتي إلينا من ظلمنا وذهاب حقنا وما رُكبنا به، فهو شريك من أتى إلينا فيما ولينا به»(1).

وكما يعلم نحن كما إننا مأمورون بالاطلاع على سيرة الصالحين حتى نتخلق بأخلاقهم ونتعلق باتباعهم فإننا مأمورون بالاطلاع على سيرة الظالمين لمجانبة إعمالهم والبراءة منهم ومن أفعالهم.

واحدى مقومات الولاية والبرائة الاطلاع على المصائب التي وقعت على أهل البيت (علیهم السلام) التي تزيد الحرقة واللوعة ومن ثم تتكامل المودة الواجبة وهي بحد ذاتها تكامل معنوي وخلاف ذلك يكون تقليل للمصائب التي جرت عليهم وتقهقر وانتكاسة في الإيمان.

ص: 5


1- عقاب الأعمال: ص 208 وبحار الأنوار ج 27 ص 55.

وهنا حاولنا ان نجمع بعض مصائبهم وما جرى عليهم من ظلم ومصائب وفجائع أليمة وقد اهديت هذا العمل الى الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) في يوم ولادته الغراء الميمونة واني واثق بشفاعته وعنايته ورعايته واقولها في الرخاء والشدة والحياة والممات قليل منك يكفيني وقليلك لايقال له قليل.

عباس عزيز الحلفي

ص: 6

والله ما منا إلا مقتول أو شهيد

ص: 7

ص: 8

تمهيد في اثبات الشهادة لكل المعصومين

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما مِن نبيّ ولا وصيّ إلاّ شهيد»(1).

يقول النبيّ الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم): «فوق كلّ ذي بِرٍّ بِرٌّ حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله (عزّ وجلّ) فليس فوقه برّ»(2). ويقول (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «أشرفُ الموت قتلُ الشهادة»(3).

بعد هذا، لا يُتَصوَّر أن يوهب هذا الخير وذاك الفضل كثيرٌ من الناس، ثمّ يُحرم منه أشرفُ الخلق عند الله وأعزّهم عنده محمّدٌ وآله (صلی الله علیه و آله و سلم).

ومن البيّن أنّ شهادتهم (علیهم السلام) هي أعلى مقامات الشهادة في عالم الإمكان وأخلصها وأصفاها، تبعاً لعلوّ منازلهم عند الله (عزّ وجلّ).

الرويات في ذكر الشهادة لهم (علیهم السلام)

1- في الأمالي وفي كتاب مَن لا يحضره الفقيه قال كما في العيون: حدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه الله) قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعتُ الرضا (علیه السلام) يقول: واللهِ ما منَّا إلا مقتولٌ شهيد. فقيل له: فمَن يقتلك يا بن رسول

ص: 9


1- بصائر الدرجات - للصفّار القمّيّ 10 / 523 - الباب 17 , ح 5. عنه: بحار الأنوار - للمجلسي 22 / 516، ح 21.
2- الكافي - للشيخ الكلينيّ 2 / 348 - باب العقوق ح 4.
3- أمالي الصدوق / 395 - الباب 74، ح 1. عنه: بحار الأنوار - للشيخ المجلسيّ 100 / 8 ح 4.

الله؟ قال: شرُّ خلق الله في زماني، يقتلني بالسم، ثم يدفنني في دار مضيعة وبلاد غربة..(1).

فرجال السند كلُّهم ثقات.

أمَّا محمد بن موسى بن المتوكِّل فهو من مشايخ الصدوق وقد أكثر الرواية عنه مترضِّياً ومترحِّما عليه في عامَّة كتبه الروائية تقريباً مثل كتاب من لايحضره الفقيه، ومعاني الأخبار، والخصال، والتوحيد، والأمالي، وصفات الشيعة، وفضائل الأشهر الثلاثة، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام)، وكمال الدين، وعلل الشرائع، وثواب الأعمال، هذا وقد ذكره في المشيخة في طرقه إلى الكتب في ثمانية وأربعين مورداً، كما أفاد السيد الخوئي(رحمه الله)(2) وهو ما يكشف عن كونه معتمَداً عنده، هذا مضافاً إلى ما أفاده السيد ابن طاووس في فلاح السائل(3) من الاتفاق على وثاقته، فلا إشكال في وثاقة الرجل بل وفي جلالة قدره.

وأمَّا عليُّ بن إبراهيم القمي وأبوه إبراهيم بن هاشم فهما من أجلاء الطائفة وعظمائها وأمَّا عبد السلام بن صالح المعروف بأبي الصلت الهروي فهو ثقة، صحيح الحديث كما أفاد ذلك الشيخ النجاشي(4).

ص: 10


1- راجع: البحار ج49 ص320 وج27 ص209 والأمالي للصدوق ص120 ط سنة 1417 مؤسسة البعثة - قم، وعيون أخبار الرضا ج2 ص256 ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص351.
2- معجم رجال الحديث - السيد الخوئي - ج18 / ص300.
3- فلاح السائل - السيد ابن طاووس - ص158.
4- رجال النجاشي - النجاشي - ص 245.

2- عن تميم القرشي، عن أبيه، عن أحمد بن علي الأنصاري، عن أبي الصلت الهروي، عن الإمام الرضا (علیه السلام) في نفي قول من قال: إن الإمام الحسين (علیه السلام) لم يقتل، ولكن شبِّه لهم، قال (علیه السلام):

والله، لقد قتل الحسين (علیه السلام)، وقتل من كان خيراً من الحسين، أمير المؤمنين، والحسن بن علي، وما منا إلا مقتول، وإني - والله -لمقتول بالسم الخ(1)..

3- روى محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «سم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم خيبر، فتكلم اللحم، فقال: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، إني مسموم.

قال: فقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عند موته: اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلت بخيبر، وما من نبي، ولا وصي إلا شهيد»(2).

4- قال الصدوق (رحمه الله): وفي حديث آخر: «..وجميع الأئمة الأحد عشر بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قتلوا، منهم بالسيف، وهو أمير المؤمنين، والحسين (علیهم السلام). والباقون قتلوا بالسم، قتل كل واحد منهم طاغية زمانه، وجرى ذلك عليهم على الحقيقة والصحة الخ..»(3).

ص: 11


1- عيون أخبار الرضا ج2 ص203 والبحار ج49 ص285 وج27 ص213.
2- بصائر الدرجات ص523.
3- عيون أخبار الرضا ج2 ص193 ط سنة 1404 ه- مؤسسة الأعلمي - بيروت.

5- روى الخزاز القمي: عن محمد بن وهبان البصري، عن داود بن الهيثم، عن إسحاق بن البهلول، عن طلحة بن زيد، عن الزبير بن باطا، عن عمير بن هاني، عن جنادة بن أميد: أن الإمام الحسن بن علي (علیه السلام) قال في مرضه الذي توفي فيه: «والله، إنه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي (علیه السلام) وفاطمة (علیها السلام)، ما منا إلا مسموم، أو مقتول الخ..»(1).

6- قال الطبرسي (رحمه الله)، وكذلك الإربلي (رحمه الله)، وهما يتحدثان عن الإمام العسكري (علیه السلام): «ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه (علیه السلام) مضى مسموماً، وكذلك أبوه وجده، وجميع الأئمة (علیهم السلام)، خرجوا من الدنيا بالشهادة».

واستدل القائلون بذلك بما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): والله، مامنا إلا مقتول أو شهيد(2).

7- وروى الحسين بن محمد بن سعيد الخزاعي، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي، عن الجوهري، عن عتبة بن الضحاك، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: خطب الإمام الحسن بن علي ‘ بعد قتل أبيه، فقال في خطبته: «لقد حدثني حبيبي جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أن الأمر

ص: 12


1- كفاية الأثر ص226 و227 والصراط المستقيم ج2 ص128 والأنوار البهية ص322 ط سنة 1417 ه- والبحار ج27 ص364 وج44 ص139.
2- كشف الغمة ج2 ص430 ط سنة 1381 ه- المطبعة العلمية - قم والأنوار البهية ص322 وأعلام الورى ص367 ط سنة 1390 ه.

يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منا إلا مقتول أو مسموم»(1)..

يضاف إلى ما تقدم: وجود نصوص روائية، وتاريخية، تتحدث عن كل إمام، وأنه قد مات بالسم أو القتل على يد طاغية زمانه، مع وجود محاذير كبيرة، وأخطار جسيمة تتهدد من يعلن هذا الأمر، لأن إظهاره ليس في مصلحة أولئك الحكام..

وبعد هذا.. فلا يصح نفي حصول هذا الأمر، أو استبعاده..

ص: 13


1- البحار ج27 ص217 وكفاية الأثر ص162 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص164 ط سنة 1409 ه- مؤسسة البعثة - إيران.

ص: 14

مصائب الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)

اشارة

ص: 15

ص: 16

قد اذهب الجزع صبره واذهل عقله

ان كنت اردت ان تعلم مقدار تأثير مصيبة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على امير المؤمنين وعلى اهل بيته فاسمع ما قال امير المؤمنين (علیه السلام) في ذلك، قال: فنزل بي من وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما لم اكن اظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به فرأيت الناس من اهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به قد اذهب الجزع صبره واذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزٍّ يأمر بالصبر وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته، بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته، وجمع كتاب الله وعهده الى خلقه لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هائج زفرة ولا لادغ حرقة ولا جزيل مصيبة حتى أدّيت في ذلك الحق الواجب الله عز وجل ولرسوله عليَّ وبلغت منه الذي أمرني به واحتملته صابراً محتسباً.

إنّهما سمّتاه

روى العيّاشي (رحمه الله) يروي عن عبد الصمد بن بشير، عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنّه قال يوماً لأصحابه: «تدرون مات النبيُّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أو قُتل؟ إنّ

ص: 17

الله يقول: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) (1), فسُمّ قبل الموت، إنّهما سمّتاه».

قال الراوي: فقلنا: إنّهما وأبويهما شَرُّ مَنْ خلَق الله(2).

وقريب مِن هذا يرويه الفيضُ الكاشاني (رضوان الله تعالى عليه)، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «أتدرون مات النبيُّ أو قُتل؟ إنّ الله يقول: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)». ثمّ قال (علیه السلام): «إنّهما سقَتاه»يعني الامرأتين(3).

إشارات

الإشارة الأولى: قرأنا في روا ية العيّاشي (رحمه الله) لفظة (سمّتاه)، وفي رواية الفيض (قدّس سرّه) لفظة (سقَتاه)، والمعنى إلى مؤدّىً واحد، أي وضعَتا للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) السمّ، أو جعلتا السمّ في ما يُشرب من ماءٍ أو لبن مثلاً، فشرِبَه (صلی الله علیه و آله و سلم) وسُقيَ معه السُمَّ الذي دُسّ فيه.

الإشارة الثانية: رواية العيّاشي تبدأ ب- (تدرون...؟!) ورواية الفيض تبدأ ب- (أتدرون...؟!)، وكلتاهما تريدانِ السؤال، مرّة بهمزة الاستفهام، ومرّة بالاستغناء عنها.

ص: 18


1- سورة آل عمران / 144.
2- تفسير العيّاشيّ 1 / 224، ح 152.
3- تفسير الصافي 1 / 359.

وصيغة الاستفهام هنا لم تأت طلباً لفهم مجهول، فالأمر بالنسبة للسائل - وهو المعصوم (صلوات الله عليه) - معلوم واضح، وكم سائلٍ عن أمره وهو يعلم، وإنّما جاءتْ هذه الصيغة لاستثارة الموضوع واستقطاب الأفهام إلى أمرٍ مهمٍّ مطويٍّ مجهولٍ بالنسبة للناس.

الإشارة الثالثة: استشهد الإمامُ الصادق (علیه السلام) بأنسب آية في قضيّة وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بأيّ سببٍ كانت؛ وذلك لأنّ قوله تعالى: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ) - كما يرى بعضُ أهل الفهم - مُثيرٌ لشبهةِ قتلٍ يقع على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فكأنّ الآية تريد أنْ تقول: إنّ من الجائز أنْ يُقتَل الأنبياء حتّى المصطفى الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) رغم أنّه سيّدُهم وأشرفهم.

إذاً، فلا غرابة أنْ يكون شهيداً، ثمّ لا غرابة أنْ يكون هنالك من المقرَّبين مَنْ تُسوّل له نفسُه بأنْ يرتكب مثلَ هذه الجريمة العظمى. ثمّ لا غرابة أنْ يكون هنالك ممّنْ ينقلبُ على عقبيهِ علناً بعد رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو يرتدّ الكثير، ويبقى أهلُ الصبر في أشدّ العناء، ولكنَّ الله (تعالى) مجازيهم، هو نعم المولى ونعم النصير.

وهو القائل (عزّ مِن قائل) في تتمّة الآية المباركة: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)(1).

روى ابن شهر آشوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس في قوله

ص: 19


1- سورة آل عمران / 144.

تعالى: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) يعني بالشاكرين: عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)، والمرتدّين على أعقابهم: الذين ارتدّوا عنه(1). أجل، فهو (سلام الله عليه) الصابر الشاكر مِن قبلُ ومِن بعد.

روى الشيخ الطبرسيّ (قدّس سرّه) بإسناد عن جملة من الرواة ينتهون إلى الإمام أبي جعفر الباقر (علیه السلام), يروي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) خطبة الغدير، وفيها: «معاشرَ الناس، هذا عليٌّ أخي ووصيّي، وواعي علْمي، وخليفتي على اُمّتي وعلى تفسير كتاب الله (عزّ وجلّ)، والداعي إليه، والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه، والموالي على طاعته، والناهي عن معصيته, خليفةُ رسول الله، وأميرُ المؤمنين، والإمام الهادي، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر الله.

معاشر الناس، أُنذرُكم أنّي رسول الله قد خلتْ مِن قبليَ الرسل، أفإنْ مِتُّ أو قُتلتُ انقلبتُم على أعقابكم، ومَنْ ينقلب على عقِبَيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين. أَلا وإنّ عليّاً هو الموصوف بالصبر والشكر، ثمّ مِن بعدهِ وُلْدي مِن صُلبه(2).

وبإسنادٍ للشيخ الطوسي إلى ابن عبّاس أنّ عليّاً (علیه السلام) كان يقول في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الله (عزّ وجلّ) يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ

ص: 20


1- مناقب آل أبي طالب 2 / 120.
2- الاحتجاج 1 / 62.

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) ، والله لا ننقلبُ على أعقابنا بعد إذْ هدانا الله. والله لئنْ مات أو قُتل لأُقاتلنّ على ما قاتل عليهِ حتّى أموت. والله إنّي َلأخوه وابنُ عمّه ووارثُه، فمَنْ أحقُّ به منّي؟!(1).

وهكذا نلاحظ إثارة الاحتمال للقتل واقعاً على النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في الآية الشريفة، وفي خطبة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحديث أمير المؤمنين (علیه السلام).

الإشارة الرابعة: إنّ الفعلينِ (سمَّتاه) و(سقَتاه) قد دخلَ عليهما ضمير التثنية (الألف) بعد تاء التأنيث؛ فالألف فاعل، والهاء ضمير متّصل مبنيٌّ على الضمّ في محلّ نصب مفعول به، عائد بالمعنى على النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم).

أمّا الألف - وهو هنا ضمير متّصل أيضاً مبنيٌّ على السكون في محلّ رفع فاعل - فهو عائد على مثنّى مؤنث. قال الفيض الكاشانيّ (رحمه الله) توضيحاً لقول الإمام الصادق (علیه السلام): (إنّهما سقتاه): يعني الامرأتين(2).

فضمير التثنية إذاً كناية عن المرأتينِ اللتين قال الله (عز ّوجلّ) فيهما: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ

ص: 21


1- أمالي الشيخ الطوسيّ / 502 - المجلس 18، ح 6، وعنه: تفسير نور الثقلين للحويزيّ 1 / 401، ح 389.
2- تفسير الصافي 1 / 359.

وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ )(1).

فالفعلانِ (تتوبا) و(تظاهرا)، والاسم (قلوبكما) دخل عليهم ألف التثنية، وهو ضمير عائدٌ على مثنّى مؤنث، فمَنْ هما يا تُرى؟ نترك التعريف بهما للرواية: عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، قال: وجدتْ حفصةُ رسولَ الله مع أمّ إبراهيم(2) في يوم عائشة، فقالت: لأُخبرنّها. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «اكتمي ذلك...». فأخبرت حفصةُ عائشةَ بذلك، فأعلم الله نبيَّهُ فعرّف حفصةَ أنّها أفشت سرَّه، فقالت له: مَنْ أنبأَك هذا؟ قال: «نبّأنيَ العليمُ الخبير». فآلى رسولُ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مِن نسائهِ شهراً، فأنزل الله (عزّ اسمُه): ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).

قال ابنُ عبّاس: فسألتُ عمرَ بن الخطّاب: مَنِ اللتانِ تظاهرتاعلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فقال: حفصة وعائشة(3).

وروى كثير من علماء العامّة وحفّاظهم بأسانيدهم عن ابن عبّاس قال: لم أزل حريصاً أن أسأل عمرَ عن المرأتين من أزواج رسول الله اللّتَين قال الله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا), حتّى حجّ عمر وحججتُ معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، مَنْ المرأتان من أزواج النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) اللتان قال الله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)؟

ص: 22


1- سورة التحريم / 3 - 4.
2- ماريّة القبطيّة (رحمة الله عليها).
3- أمالي الشيخ الطوسيّ / 151 - المجلس 6، الحديث الأوّل.

فقال عمر: واعجباً لك يابن عبّاس! - قال الزهري: كَرِه والله ما سأله ولم يكتمه - ثمّ قال: هما حفصة وعائشة...(1).

كيف نعالجُ التعارض؟

إنّ كثيراً من الروايات تبدو متعارضةً في الظاهر، ولكنّها بقرائن زمنيّة أو مكانيّة أو حاليّة تتبيّن أنّها متوافقة، ومنها الرواياتُ المُتعددة بأنّ رسولَ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد استُشهد وقُتل، ولكنّ القتلَ مرّةً منسوب إلى اليهوديّة بعد واقعة خيبر، ومرّةً إلى غيرها.

وهذا قد يترك البعضَ في شكٍّ وحيرة؛ إذ واقعة خيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة النبويّة الشريفة، بينما وفاة المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم) كانت في السنة الحادية عشرة منها.

إذاً فمَنْ نظنّ أنّه القاتل؟ وبأيّ الروايات نصدّق ونثق؟ وهل الاختلاف الظاهريّ في الأخبار يجعلنا نتردّد في أمر الشهادة، أو نفسّر القتل بأنّه موت مثلاً؟

لا بأس هنا أنْ نحيل الأمرَ إلى الشيخ المجلسي (رضوان الله عليه)،

ص: 23


1- الكشف والبيان للثعلبيّ 9 / 346، وتفسير ابن كثير 4 / 638، والدرّ المنثور للسيوطيّ 6/243، حيث نقل الخبر عن عبد الرزّاق، وابن سعد، وأحمد بن حنبل، والعَدَنيّ، وعبد بن حميد، والبخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، وابن حبّان، وابن المنذر، وابن مردويه، بأسانيدهم جميعاً عن ابن عبّاس.

وقد أورد ثلاث روايات على صفحةٍ واحدة، في باب وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وغُسله والصلاة عليه.

الروايتان الأولى والثانية نقلهما عن الشيخ الصفّار القمّي منكتابه (بصائر الدرجات) - وقد أوردناهما - وهما قائلتان بشهادته (صلی الله علیه و آله و سلم) على أثرِ سمٍ دسّتْه له يهوديّةُ خيبر في ذراع الشاة التي أكل شيئاً منها، ولم يزل ينتقض به ذلك السمّ حتّى تُوفّي (صلی الله علیه و آله و سلم).

أمّا الرواية الثالثة فقد نقلها الشيخ المجلسي عن العيّاشي من تفسيره، وفيها يقول الإمام الصادق (صلوات الله وسلامُه عليه): «فسُمَّ قبل الموت، إنّهما سقَتاه»، وفي لفظ ثانٍ: «فبِسُمٍّ قبل الموت، إنّهما سقتاه»، وفي لفظ ثالثٍ: «إنّهما سمّتاه».

وكان جواب الحضور - وهم خواصُّ الإمام الصادق (علیه السلام) - على لسان الراوي، وهو (عبدُ الصمد بن بشير)، فقلنا: إنّهما وأبوهما شرُّ مَنْ خلَقَ الله، وفي رواية اُخرى: إنّهما وأبوَيهِما شرُّ مَنْ خلق الله.

بعد هذا كان لا بُدّ من بيان علّة تعدّد الروايات في تعيين القاتل..

كتب الشيخُ المجلسي (أعلى الله مَقامَه): بيان: يُحتَمل أن يكون كلا السُّمَّينِ دخيلَينِ في شهادته (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، وهذا أمرٌ وارد؛ فالمرءُ يُطعَنُ طعنةً يعاني منها ثمّ لا يموت، فتأتي طعنةٌ ثانيةٌ أو ثالثة فتكون هي القاتلة، ويكون هو المقتول بها.

ص: 24


1- بحار الأنوار 22 / 516.

وعلى سبيل المثال: يذكر أصحاب السير وأرباب المقاتل أنّ السهمَ المثلّث هو الذي كان السببَ في شهادة سيّدنا الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أو أنّ سنان بن أنس النخعيّ (عليه لعائنُ الله) هو القاتل؛ لأنّ رميتَه أو ضربته أو طعنته كانت هي القاتلة؛ إذْ بها وبسببها المباشر فاضت الروح القدسيّةُ الشريفة لسيّد الشهداء (سلامُ الله عليه).

وكذا السمُّ اللاّحق، فقد جاء على أثر سمٍّ سابقٍ تناول منه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد غَزاة خيبر، فما زال ينتقض به، وكان يعاني منه، لكنّه لم يكنْ - ربما - سبباً لوفاته (صلی الله علیه و آله و سلم) حتّى جاء السمُّ الأخير فكانت فيه شهادته، فكلاهما - على أقلّ الفروض - شكّل جزء العلّة في قتل المولى سيّد الأنام (صلّى الله عليه وآله الكرام).

إذاً، فنحن نميل إلى أنّ القتل هو الذي وقع، وليس القتلُ موتاً،ولا بالعكس؛ وذلك يتّضح بهذه الرواية:

عن الإمام الباقر (علیه السلام) وقد سُئل عمّنْ قُتل، أمات؟ فقال له: «لا، الموتُ موت، والقتل قتل». فقيل له: ما أحدٌ يُقتَلُ إلاّ وقد مات. فقال (علیه السلام) لمَنْ قال هذا: «قول الله أصدقُ مِن قولك، فرّق بينهما في القرآن، فقال: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ...)(1)، وقال: ( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)(2)، وليس كما قلت، الموتُ موت، والقتل قتل» قال الراوي - وهو زرارة

ص: 25


1- سورة آل عمران / 144.
2- سورة آل عمران / 158.

(رضوان الله تعالى عليه) كما في بعض الأخبار -: قلتُ: فإنّ الله يقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(1). قال: «مَنْ قُتل لم يذقِ الموت». ثمّ قال: «لا بدّ مِن أنْ يرجع حتّى يذوقَ الموت»(2).

وللشيخ محمد رضا إمامي خواتون آبادي (رحمه الله تعالى) رأي في موضوع الموت والقتل في ظلّ الآية 144 من سورة آل عمران المباركة، فهو يقول ما ترجمته باللّغة العربيّة: ويقول المحقّقون: كانت وفاته بعُنوانَي الموت والقتل بالسمّ؛ ليحصلَ على ثوابيَ الوفاتين. والشاهد على هذا المُدّعى هو الآية ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ)؛ لأنّ وفاته هنا مردّدةٌ بين الموتتَين(3).

تعرضه (صلی الله علیه و آله و سلم) للاغتيال أكثر من مرة، ومن أكثر من جهة

قال الله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ...)(4).

فهذه الآية الكريمة قد بينت إمكانية ارتكاب جريمة قتل في حق الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلك يزيف أي ادعاء يهدف إلى تضليل الناس

ص: 26


1- سورة آل عمران / 185.
2- تفسير العيّاشيّ 1 / 202، ح 160، وتفسير الصافي 1 / 357، وتفسير البرهان 1 / 323.
3- جنّات الخلود / 15 - باب علّة وفاته، وفيها إشارة إلى القتَلة.
4- سورة آل عمران الآية: 144.

عن حقيقة موت الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، بدعوى أن استشهاده غير ممكن.. أياً كانت دوافع أو مبررات ادعاءات كهذه..

وقد جاءت الأحداث لتؤكد هذه الحقيقة، فبينت أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد تعرض للاغتيال أكثر من مرة، ومن أكثر من جهة: من المشركين، ومن اليهود، ومن المتظاهرين بالإسلام أيضاً..

وقد يمكن القول أيضاً: بأن الفئات المختلفة - أحياناً - قد تعاونت على ذلك، بعد أن رأت أن مصالحها تلتقي على هذا الأمر. فبذلوا المحاولة، وربما فشلت مرة أو أكثر، ولكنهم استطاعوا في نهاية المطاف أن يصلوا إلى مبتغاهم، فمات (صلی الله علیه و آله و سلم) شهيداً بالسم.

نماذج من محاولات اغتياله

وفي جميع الأحوال نقول: إنه قد بذلت محاولات كثيرة لاغتياله (صلی الله علیه و آله و سلم)، نذكر منها ما يلي:

1- ما روي من تهديدات قريش لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في بدء الدعوة، وعرضهم على أبي طالب أن يقتلوه، وأن يعطوه بعض فتيانهم بدلاً عنه..

منها: أن أبا طالب (علیه السلام) حين حصر المشركون المسلمين في شعب أبي طالب، كان ينيم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في موضع يراه الناس، ثم إنه حينما تهدأ الرِّجل يقيمه، وينيم ولده الإمام علياً (علیه السلام) مكانه، حذراً من أن تغتاله قريش.

ص: 27

فقال له الإمام علي (علیه السلام)، إني مقتول؟!..

فقال له أبو طالب (علیه السلام):

اصبرن يا بني، فالصبر أحجى *** كل حي مصيره لشعوب

قدر الله والبلاء شديد *** لنداء الحبيب وابن الحبيب

[الأبيات](1)..

2- محاولة اغتياله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليلة الهجرة، حيث بات الإمام علي (علیه السلام) في فراشه (صلی الله علیه و آله و سلم).. وكانوا قد انتدبوا عشرة من الرجال من عشر قبائل فيقريش ليقتلوا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).. فأنجاه الله سبحانه منهم. وتتبعوه إلى الغار، فصرفهم الله عنه.

3- محاولة اغتياله من قبل بني النضير(2)..

4- تنفيرهم برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليلة العقبة(3)..

وقال (يعني ابن حزم): إن حذيفة لم يصل على أبي بكر، وعمر، وعثمان.. «وكان لا يصلي على من أخبره (صلی الله علیه و آله و سلم) بأمرهم».

5- محاولة قتله (صلی الله علیه و آله و سلم) في خيبر بالسم، وسنذكر بعض نصوص هذه

ص: 28


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص64 وما روته العامة من مناقب أهل البيت (علیهم السلام) للشراوني ص61 و62 والدرجات الرفيعة ص42.
2- الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ج8 ص40 - 50.
3- السيرة الحلبية ج3 ص143 ط دار التراث - بيروت، وأسد الغابة ج1 ص468 ودلائل النبوة للبيهقي ج5 ص260 - 262 والمغازي للواقدي ج3 ص1042 - 1045 وإمتاع الأسماع ص477 ومجمع البيان ج3 ص46 وإرشاد القلوب للديلمي ص330 - 333 والمحلى ج11 ص225.

الحادثة.. فيما يأتي إن شاء الله تعالى..

6- محاولة قتله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المدينة بالسم أيضاً، وسنذكر النصوص المرتبطة بذلك أيضاً.

وبعدما تقدم نقول: إننا إذا أردنا الاقتراب من الإجابة على السؤال الوارد، فلا بد لنا من إيراد النصوص، والنظر فيها، ولذلك، فنحن نتابع الحديث على النحو التالي:

نصوص مأثورة عامة

1- روي عن ابن مسعود أنه قال: لأن أحلف تسعاً: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة.

وذلك أن الله سبحانه وتعالى، اتخذه نبياً، وجعله شهيداً(1)..

2- روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه: أن الإمام الحسن (علیه السلام) قال لأهل بيته: إني أموت بالسم، كما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)..

قالوا: ومن يفعل ذلك؟!..

قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث(2)..

ص: 29


1- طبقات ابن سعد ج2 ص201 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص303 ودلائل النبوة للبيهقي ج7 ص172 والمستدرك على الصحيحين ج3 ص58 وصححه على شرط الشيخين، هو والذهبي في تلخيص المستدرك (مطبوع بهامشه)، وراجع فيض القدير للمناوي ج5 ص448 وطبقات ابن سعد ج2 قسم2 ص7 ط دار التحرير بالقاهرة سنة 1388 ه.
2- مناقب آل أبي طالب ج3 ص25 والبحار ج44 ص153.

3- عن الشعبي قال: لقد سم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وسم أبو بكر الخ..(1).

ومن أقوال العلماء نذكر:

ما قاله الشيخ الطوسي (رحمه الله): قبض (صلی الله علیه و آله و سلم) مسموماً يوم الاثنين لليلتين بقيتا من الهجرة سنة عشر الخ(2)..

وقال الشيخ المفيد: قبض بالمدينة مسموماً(3)..

وراجع ما قاله العلامة الحلي (رحمه الله) حول ذلك أيضاً(4)..

الروايات حول سم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

وبعدما تقدم نقول: لقد وردت روايات محاولة اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بواسطة السم عند السنة والشيعة على حد سواء، وهي تنقسم إلى قسمين:

أحدهما يقول: إن يهودية دست السم إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)..

والآخر يقول: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد استشهد بالسم على يد بعض زوجاته..

ونحن نذكر هنا نصوصاً من هذا القسم وذاك.. مع بعض التوضيح أو التصحيح، فنقول:

ص: 30


1- المستدرك على الصحيحين ج3 ص59 وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه.
2- البحار ج22 ص514 وتهذيب الأحكام ج6 ص1.
3- المقنعة ص456.
4- منتهى المطلب ج2 ص887.

روايات السنّة في سم اليهودية لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

إننا نذكر من الروايات التي أوردها أهل السنة في مجاميعهم الحديثية والتاريخية، وتحدثت عن سم اليهودية له (صلی الله علیه و آله و سلم) ما يلي:

1- عن عائشة أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قال في مرضه الذي توفي فيه: إني أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلكالسم(1)..

2- عن أبي هريرة أنه حين فتحت خيبر، أهديت له (صلی الله علیه و آله و سلم) شاة فيها سم، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): إجمعوا من كان ههنا من اليهود، فجمعوا، فقال لهم: إني سائلكم عن شيء.. إلى أن قال: أجعلتم في هذه الشاة سماً؟

قالوا: نعم.

قال: فما حملكم على ذلك؟!..

قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك(2)..

ص: 31


1- المستدرك على الصحيحين ج3 ص58، وتلخيص المستدرك للذهبي، وصححاه على شرط الشيخين، وذكر نحوه عن تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص169 وراجع: تاريخ الخميس 2/53 وكنز العمال ج11 ص466 وراجع ص467 ومجمع البيان ج9 ص121 و122 وفيه: ما أزال أجد ألم الطعام.. وفي نص آخر: ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام.. وراجع البحار ج21 ص6 و7 والمحلى ج11 ص25 و27 والمصنف للصنعاني ج11 ص29 وراجع: سبل الهدى والرشاد ج1 ص434 والبداية والنهاية ج3 ص400 والكامل لابن عدي ج3 ص402 وطبقات ابن سعد ج2 قسم2 ص32 ط دار التحرير بالقاهرة سنة 1388 ه- والسيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني ص338 سلسلة تراث الإسلام.
2- المغازي للذهبي ص362 وسنن الدارمي ج1 ص33.

3- عن أنس: أن يهودية أتت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك..

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): ما كان الله ليسلطك على ذلك. أو قال: علي..

قالوا: ألا نقتلها؟

قال (صلی الله علیه و آله و سلم): لا.

فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)..

4- في سيرة ابن هشام: أن التي سمته هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، وأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لاك من الشاة مضغة فلم يسغها، فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم.. وكان معه بشربن البراء بن معرور، وقد أخذ منها وأساغها.. فسأل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) تلك اليهودية عن ذلك.. إلى أن قال: فتجاوز عنها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومات بشر من أكلته التي أكل(2)..

في نص آخر أضاف قوله: فلما مات بشر أمر بها فقتلت، وقيل: صلبت كما في أبي داود وروى أبو داود: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قتلها.

وفي كتاب شرف المصطفى: أنه قتلها وصلبها وقيل: تركها لأنها أسلمت، فلما مات بشر دفعها إلى أوليائه، فقتلوها به.. كما في الإمتاع،

ص: 32


1- المغازي للذهبي، وعن صحيح البخاري ج5 ص179 والمحلى ج11 ص26 وصحيح مسلم ج7 ص14 و15 كتاب السلام.
2- السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص337 تراث الإسلام، وتاريخ الخميس ج2 ص52.

وفي صحيح مسلم أنه قتلها. وعند ابن إسحاق: أجمع أهل الحديث على ذلك، وقال مغلطاي: لم يقتلها(1)..

وعند الدارمي، عن الزهري: أنه عفا عنها(2)..

5- زاد في بعض المصادر قوله: «فلما ازدرد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لقمته ازدرد بشر ما كان في فيه، وأكل القوم.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع، أو الكتف يخبرني: أنها مسمومة.

فقال له بشر: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أن أنغص عليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ازدردتها..

فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان [أي أسود]. وماطله وجعه سنة، لا يتحول إلا ما حول، حتى مات..

وطرح منها لكلب فمات(3)..

ص: 33


1- راجع فيما تقدم: السيرة الحلبية ج3 ص55 و56 وراجع تاريخ الخميس ج2 ص52 والمحلى ج11 ص26 و27 وطبقات ابن سعد ج2 قسم2 ص7 ط دار التحرير والمغازي للواقدي ج2 ص678.
2- سنن الدارمي ج1 ص33.
3- السيرة الحلبية ج3 ص45 وراجع: سنن أبي داود ج4 ص174 وطبقات ابن سعد ج2 قسم2 ص7 ط دار التحرير والمغازي للواقدي ج2 ص677 و678 وتاريخ الخميس ج2 ص52 عن الاكتفاء.

6- وفي رواية: أنه بعد أن اعترفت اليهودية بتسميم الشاة، بسط النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يده إلى الشاة، وقال: كلوا باسم الله، فأكلوا وقد سموا بالله، فلم يضر ذلك أحداً منهم(1)..

7- عن أبي هريرة: ما زالت أكلة خيبر تعتادني في كل عام، حتى كان هذا أوان قطع أبهري(2).

وفي المنتقى: ولاكها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فلفظها، فأخذها بشر بن البراء، فمات من ساعته، وقيل: بعد سنة(3)..

8- وعند ابن سعد، عن الواقدي: أن اليهودية اعتذرت عن ذلك بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد قتل أباها، وزوجها، وعمها، وأخاها، ونال من قومها. فأرادت الانتقام لهم(4)..

9- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أكل من الشاة المسمومة، هو وأصحابه، فمات منهم بشر بن البراء، وأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أمر باليهودية فقتلت(5)..

ص: 34


1- السيرة الحلبية ج3 ص56.
2- وهو عرق مستبطن الصلب، [والظاهر: أنه هو ما يعرف بالنخاع الشوكي] والأبهران يخرجان من القلب، ثم يتشعب منهما سائر الشرايين - أقرب الموارد ج1 ص64.. الجامع الصغير عن ابن السني، وأبي نعيم في الطب، وفيض القدير للمناوي ج5 ص448 ط دار المعرفة.
3- تاريخ الخميس ج2 ص52.
4- فتح الباري ج10 ص208.
5- طبقات ابن سعد ج2 قسم2 ص6 و7 ط دار التحرير بالقاهرة سنة 1388ه.

نظرة في النصوص المتقدمة

ولا نريد أن نناقش في أسانيد الروايات المتقدمة، فإن لنا فيها مقالاً.. بل نكتفي بتسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: إن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يكن من السذاجة بحيث يقبل هدية هذه اليهودية، ثم يأكل منها، ويأمر أصحابه بالأكل منها.. وهو قد فرغ لتوه من تسديد الضربة القاضية لقومها.. كما أنه كان قد قتل زوجها، سلام بن مشكم، وأخاها كعب بن الأشرف قبل ذلك،وعمها، وغير هؤلاء..

كما أن كل أحد قد رأى غدر اليهود المتكرر بالمسلمين، وتآمرهم على حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أكثر من مرة، فلم يكن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ليغفل عن هذا الأمر، ويتصرف بهذا الطريقة.

ولو فرض جدلاً أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد سكت عن هذا الأمر، أو تغافل عنه لمصلحة رآها.. فإن من المتوقع جداً أن يبادر أحد المسلمين إلى الجهر بالاعتراض على الأكل من ذلك الطعام، وإبداء مخاوفه من أن يكون مسموماً..

ثانياً: إن من يقرأ الروايات المتقدمة، ويقارن بينها، يلاحظ: أنها غير منسجمة فيما بينها.. فلاحظ ما يلي:

1- إن بعضها يصرح بأن الله تعالى ما كان ليسلط تلك المرأة عليه (صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 35

لكن بعضها الآخر يقول: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) في مرض موته: قد وجد ألم الطعام الذي أكله في خيبر، وأخبر أن مطاياه قد قطعت، أو أن ذلك هو أوان انقطاع أبهره..

2- يقول بعضها: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد قتل تلك المرأة، وبعضها الآخر يقول: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد عفا عنها.. وثالث يقول: إنه عفا عنها أولاً. ثم قتلت بعد موت بشر بن البراء..

3- بعضها يقول: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يسغ ما تناوله من لحم الشاة.. لكن البعض يقول: إنه قد أساغ ما أكله منها..

4- وقالوا: إن الذي مات، هو بشر بن البراء؟!. وقيل: هو مبشر بن البراء؟!(1)..

5- في بعض تلك الروايات: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد اتهم جماعة من اليهود بالأمر، فجمعهم، وسألهم عنه، فأقروا به..

وفي بعضها الآخر: أن المتهم هو امرأة واحدة منهم..

6- بعضها يقول: إن الذي أكل هو بشر بن البراء فقط، وبعضها الآخر يضيف قوله: وأكل القوم..

7- بعضها يقول: إن الذي حجم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في هذه المناسبة هو أبو طيبة وقيل: بل حجمه أبو هند..

8- بعضها يقول: أكل القوم. وبعضها الآخر يقول: كانوا ثلاثة،

ص: 36


1- راجع: مغازي الواقدي ج2 ص679.

وضعوا أيديهم في الطعام، ولم يصيبوا منه..

9- بعض الروايات يقول: إنه بعد اعتراف اليهودية بما فعلت، أمرهم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالتسمية، والأكل من الشاة، فأكلوا فلم يضر ذلك أحداً منهم..

وبعضها الآخر يقول: لم يأكلوا.. وتضرر الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وتضرر بشر بن البراء..

ثالثاً: كيف يحسُّ بشر بن البراء بالسم، ثم لا يخبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالأمر، ويتركه يمضغ ما تناوله، ثم يبتلعه؟!.. فهل كان يعتقد أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لا يموت؟!.. أو أنه كان يعرف أنه يموت، وأراد له ذلك؟!. أم أنه لم يرده له.. ولكنه سكت عن إعلامه بالأمر؟!. فكيف سكت؟!. ولماذا؟!.

رابعاً: يقول بشر: إنه خاف أن ينغص على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) طعامه.. وهذا غريب حقاً إذ كيف رضي من لا يحب أن ينغص على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) طعامه: أن يتناول هذا النبي ذلك السم، ويموت به؟!. وهل تنغيص الطعام على الرسول أعظم وأشد عليه من موته (صلی الله علیه و آله و سلم)؟!.

خامساً: إنه كيف أقدم بشر على ازدراد ما يعلم أنه مسموم؟!.

وما معنى هذه المواساة منه للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفسه؟!..

وهل يجوز له أن يقتل نفسه لمجرد المواساة؟!.

وما هي الفائدة التي توخاها من ذلك؟!..

سادساً: هل الحجامة تنجي من السم حقاً؟!.. ولو كانت كذلك،

ص: 37

فلماذا إذن لا يستفاد منها في معالجة من تلدغه الحية.. أو من يشرب سماً خطأ، أو عمداً؟!..

ولماذا أمر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الذين وضعوا أيديهم في الطعام ولم يأكلوا منه أن يحتجموا؟! فإنهم لم يأكلوا من ذلك الطعام شيئاً!!

سابعاً: ما معنى قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): هذا أوان انقطاع أبهري، فهل إن تناول السم يقطع العرق الأبهر، حتى بعد أن تمضي على تناول ذلك السم سنوات عدة؟!..

وما هو الربط بين هذا العرق، وبين ذلك السم؟!..

ثامناً: إن زينب بنت الحارث اليهودية قد اعتذرت للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن فعلتها الشنعاء تلك، بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد قتل أباها، وعمها، وزوجها، وأخاها..وأخوها هو مرحب اليهودي، الذي قتله الإمام علي (علیه السلام) في حصن السلالم، الذي فتح بعد حصن القموص.. بل كان آخر ما افتتح من تلك الحصون(1)..

وقصة الشاة المسمومة إنما كانت في حصن القموص حيث قتل مرحب هناك، كما قاله ابن إسحاق.

هذا كله مع غض النظر عن الشك في صحة كون مرحب أخاً لتلك المرأة.. فإن هناك من يقول: إنه عمها(2)..

ص: 38


1- السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص347 والكامل في التاريخ ج2 ص217 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص50.
2- المغازي للذهبي ص437 ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص263 وإمتاع الأسماع ج1 ص316.

تاسعاً: إن بعض الروايات تحدثت عن أن اليهودية قد قُتلت وصُلبت، حين مات بشر، كما في شرف المصطفى. لكن عند أبي داود: أنه صلبها..

غير أننا نعلم: أنه ليس في العقوبات الإسلامية الصلب للقاتل.. لاسيما إذا أخذنا بروايات العفو عنها من قِبل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قبل ذلك.. حيث لا يحتمل أن تكون عقوبة قاتل غير النبي القتل والصلب..

هذا كله.. مع غض النظر عن أن روايات العفو عنها تناقض الروايات القائلة بأن بشراً مات من ساعته، ولم يبق إلى سنة..

عاشراً: أما ما ذكره أنس من أنه ما زال يعرف ذلك - أي السم أو أثره - في لهوات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)!!! فهو غريب، إذ كيف يمكن أن يرى أنس - باستمرار - لهوات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟!. فإن اللهاة لا تكون ظاهرة للناس، إذ هي لحمة حمراء معلقة في أصل الحنك..

ولو أنه كان يرى لهواته (صلی الله علیه و آله و سلم)، فما الذي كان يراه فيها، هل كان يرى السم نفسه، أو يرى صفرة أو خضرة، أو أي شيء آخر فيها؟!..

حادي عشر: ظاهر رواية المنتقى: أن بشراً قد التقط اللقمة التي لفظها الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، فأكلها، فمات منها..

فلماذا فعل ذلك يا ترى؟!. ألم يلتفت إلى أن لفظ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لها قد كان لأمر غير محبب دعاه إلى ذلك؟!.

ولنفترض: أنه إنما أخذها ليتبرك بأثر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبريقه

ص: 39

الشريف، فإن السؤال هو: ألم يكن ينبغي أن ينهاه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) عن أكلها، بعد أن أحس بما فيها من سم قاتل؟!..

الحديث من طرق الشيعة

أما ما رواه الشيعة في مصادرهم حول محاولة سم اليهودية له (صلی الله علیه و آله و سلم)، فنذكر منه ما يلي:

1- لقد جاء في التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام) ما ملخصه:

إنه لما رجع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من خيبر، جاءته امرأة من اليهود - قد أظهرت الإيمان - بذراع مسمومة، وأخبرته أنها كانت قد نذرت ذلك..

وكان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) البراء بن معرور، والإمام علي (علیه السلام)، فطلب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الخبز، فجيء به، فأخذ البراء لقمة من الذراع، ووضعها في فيه..

فقال الإمام علي (علیه السلام): لا تتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال له البراء: كأنك تبخِّل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فأخبره الإمام علي (علیه السلام): بأنه ليس لأحد أن يتقدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأكل ولا شرب، ولا قول ولا فعل..

فقال البراء: ما أبخِّل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)..

فقال الإمام علي (علیه السلام): ما لذلك قلت. ولكن هذا جاءت به يهودية،

ص: 40

ولسنا نعرف حالها، فإذا أكلتها بدون إذنه وكلت إلى نفسك..

هذا.. والبراء يلوك اللقمة، إذ أنطق الله الذراع، فقالت: يا رسول الله، إني مسمومة، وسقط البراء في سكرات الموت، ومات.

ثم دعا (صلی الله علیه و آله و سلم) بالمرأة فسألها.. فأجابته بما يقرب مما نقلناه من مصادر أهل السنة، فأخبرها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بأن البراء لو أكل بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لكفي شره وسمه..

ثم دعا بقوم من خيار أصحابه، فيهم سلمان، والمقداد، وأبو ذر، وصهيب، وبلال، وعمار، وقوم من سائر الصحابة تمام العشرة، والإمام علي (علیه السلام) حاضر..فدعا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الله تعالى، ثم أمرهم بالأكل من الذراع المسمومة، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا الماء.

وحبس المرأة، وجاء بها في اليوم التالي.. فأسلمت..

ولم يصلِّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على البراء حتى يحضر الإمام علي (علیه السلام) ليُحِلَّ البراء مما كلمه به حين أكل من الشاة.. وليكون موته بذلك السم كفارة له..

فقال بعض من حضر: إنما كان مزحاً مازح به علياً، لم يكن جداً فيؤاخذه الله عز وجل بذلك.

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): لو كان ذلك منه جداً لأحبط الله أعماله كلها. ولو كان تصدق بمثل ما بين الثرى إلى العرش ذهباً وفضة، ولكنه كان مزحاً وهو في

ص: 41

حل من ذلك، إلا أن رسول الله يريد أن لا يعتقد أحد منكم: أن علياً (علیه السلام) واجد عليه، فيجدد بحضرتكم احلالاً، ويستغفر له، ليزيده الله عز وجل بذلك قربة ورفعة في جنانه.. الخ(1)..

2- وفي رواية أخرى: أن امرأة عبد الله بن مشكم أتت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بشاة مسمومة، ومع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بشر بن البراء بن عازب.. فتناول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الذراع فلاكها، ولفظها، وقال: إنها لتخبرني أنها مسمومة.

أما بشر فابتلعها فمات.. ثم سأل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) اليهودية فأقرت(2)..

3- وفي رواية عن الأصبغ، عن الإمام علي (علیه السلام): أنه يقال للمرأة اليهودية: عبدة. وأن اليهود هم الذين طلبوا منها ذلك، وجعلوا لها جعلاً.

فعمدت إلى شاة فشوتها، ثم جمعت الرؤساء في بيتها، وأتت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقالت: يا محمد، قد علمت ما توجَّب لي من حق الجوار، وقد حضر في بيتي رؤساء اليهود، فزيني بأصحابك..

فقام (صلی الله علیه و آله و سلم) ومعه الإمام علي (علیه السلام)، وأبو دجانة، وأبو أيوب، وسهل بن حنيف، وجماعة من المهاجرين..

ص: 42


1- البحار ج17 ص318/320 و396 والتفسير المنسوب للإمام العسكري ص177 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص128.
2- البحار ج17 ص408 وراجع ص406 عن الخرائج والجرائح. وراجع: الخرائج والجرائح ج1 ص27 والخصائص الكبرى ج2 ص63 - 65.

فلما دخلوا، وأخرجت الشاة، سدت اليهود آنافها بالصوف، وقاموا على أرجلهم، وتوكأوا على عصيهم..

فقال لهم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): اقعدوا..

فقالوا: إنا إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد، وكرهنا أن يصل إليه من أنفاسنا ما يتأذى به.

وكذبت اليهود لعنهم الله، إنما فعلت ذلك مخافة سَوْرة السم.. ودخانه..

ثم ذكرت الرواية تكلُّم كتف الشاة، وسؤال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لعبدة عن سبب فعلها، وجوابها له.. وأن جبرئيل هبط إليه وعلَّمه دعاء، فقرأه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكذلك من معه، ثم أكلوا من الشاة المسمومة، ثم أمرهم أن يحتجموا(1)..

4- عن إبراهيم بن هاشم، عن جعفر بن محمد، عن القداح، عن إبراهيم، عن الإمام الصادق (علیه السلام): سمت اليهودية النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذراع - إلى أن قال: فأكل ما شاء الله، ثم قال الذراع: يا رسول الله، إني مسمومة، فتركتها. وما زال ينتقض به سمه حتى مات (صلی الله علیه و آله و سلم)(2)..

5- أحمد بن محمد، عن الأهوازي، عن القاسم بن محمد، عن علي، عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (علیه السلام): سم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم خيبر،

ص: 43


1- الأمالي للصدوق ص135 والبحار ج17 ص395 و396 عنه. ومناقب آل أبي طالب ج1 ص128.
2- البحار ج17 ص406 وج22 ص516 وبصائر الدرجات ص503.

فتكلم اللحم، فقال: يا رسول الله، إني مسموم.

قال: فقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، عند موته: اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلت بخيبر، وما من نبي ولا وصي إلا شهيد(1).

نقد الروايات

وكما لم نتعرض لمناقشة أسانيد روايات أهل السنة، رغم ما فيها من هنات، فإننا سوف نغض النظر عن الحديث عن أسانيد روايات الشيعة أيضاً، وإن كنا نجد من بينها ما هو معتبر من حيثالسند، ونكتفي بمناقشة متونها، فنقول:

أولاً: قد ذكرت الرواية الأولى: أن البراء بن معرور هو الذي أكل من الشاة المسمومة فمات.

مع أن البراء بن معرور، قد توفي قبل أن يهاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى المدينة بشهر(2)..

ولم يحضر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) موت البراء، لكنه (صلی الله علیه و آله و سلم) حين هاجر زار قبره. ويقال: إنه قد صلى على قبره(3)..

ص: 44


1- بصائر الدرجات ص503 والبحار ج22 ص516 وج17 ص405 وإثبات الهداة ج1 ص604.
2- راجع: أسد الغابة ج1 ص174 والإصابة ج1 ص144 و145 والاستيعاب بهامشها ج1 ص136.
3- راجع: قاموس الرجال ج5 ص135 - 137 وغيره من كتب التراجم.

وقضية خيبر إنما كانت في السنة السابعة بعد الهجرة، فكيف يكون البراء بن معرور قد مات من أكلة خيبر، إذا كان قد مات قبلها بسبع سنوات؟!.

وقد يعتذر عن ذلك بأن ثمة سقطاً من الرواية. وأن الصحيح هو: بشر بن البراء.. لكن تكرر كلمة البراء في الروايات مرات عديدة يأبى قبول هذا الاعتذار، فإن السهو لا يتكرر في جميع الموارد عادة كما هو واضح.

ثانياً: إن هذه الروايات التي رواها الشيعة تختلف مع بعضها البعض:

1- فرواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام)، تقول: إن الضحية هو البراء بن معرور، وروايات أخرى تقول: إنه بشر بن البراء بن معرور، ورواية ثالثة تقول: إنه بشر بن البراء بن عازب..

2- رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام) تقول: إن الذي مات، قد مات وهو يلوك اللقمة.

والرواية التي بعدها تقول: إنه قد ابتلع اللقمة.

3- يظهر من بعض تلك الروايات: أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يأكل من الذراع..

ومن رواية أخرى: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد لاك اللقمة ولم يسغها..

وبعضها يقول: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد أكل منها ما شاء الله..

ص: 45

4- بعضها يقول: إن إخبار الذراع له (صلی الله علیه و آله و سلم) بأنها مسمومة كان قبل أن يسيغ اللقمة، وغيرها يقول: إن الذراع تكلمت قبل أن يبدأ هو وأصحابه بالأكل منها، وبعض آخر يقول: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد أكل منها ما شاء الله، ثم أخبرته الذراع بأنها مسمومة..

5- الروايات تصرح بأن اليهودية هي زوجة سلام بن مشكم، لكن رواية الخرائج والجرائح تقول: إنها امرأة عبد الله بن مشكم، ولا نعرف أحداً بهذا الاسم فيما بين أيدينا من مصادر..

6- الروايات تقول: إن اسمها زينب، ورواية الأصبغ عن الإمام علي (علیه السلام) تقول: إنها يقال لها عبدة..

7- رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام) تقول: إن القضية كانت في المدينة. وسائر الروايات تقول: في خيبر..

8- الروايات تتحدث عن أن اليهودية جاءته بذراع أو شاة مسمومة، لكن رواية الأصبغ تقول: إن اليهودية دعته للاجتماع مع الرؤساء في بيتها، حيث قدمت له الشاة المسمومة.

9- وأخيراً.. هل جاءته بذراع؟! أم جاءته بشاة؟! إن الروايات قد اختلفت في ذلك.

إلى غير ذلك من موارد الاختلاف، التي تظهر بالتتبع والمقارنة..

ثالثاً: إنه إذا كان الإمام علي (علیه السلام) قد صرح بأنه يشك في هدية تلك اليهودية، كما ذكرته رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام)، معللاً

ص: 46

ذلك بقوله: ولسنا نعرف حالها..

فلماذا لم يشك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيها أيضاً، ولم يحذِّر من معه من الأكل منها. بل بادر إليها فأكل منها ما شاء الله، أو أنه لاك ما تناوله منها، ثم أساغه، أو لم يسغه، حسب اختلاف الروايات؟!..

ولماذا لم يحذر الإمام علي (علیه السلام) النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، من الأكل منها، كما حذر البراء بن معرور؟!

وإذا كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حاضراً في المجلس ينتظر إحضار الخبز، وكان يسمع الحوار بين الإمام علي (علیه السلام)، وبين ابن معرور، فلماذا لم يأخذ تحذير الإمام علي (علیه السلام) بعين الاعتبار؟!..

بل لماذا لم يؤثر هذا التحذير بالبراء نفسه أيضاً؟!..رابعاً: قد ذكرت رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام): أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) دعا قوماً من خيار أصحابه.. ثم عددتهم، وذكرت من بينهم صهيباً. مع أن صهيب الرومي كما ذكرته الروايات والنصوص، كان عبد سوء، وهو ممن تخلف عن بيعة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكان من أعوان المعتدين على الزهراء (علیها السلام)، والغاصبين لحق الإمام علي (علیه السلام)، بل كان من المعادين لأهل البيت (علیهم السلام)(1)..

خامساً: إنه كيف يدعو النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) خيار أصحابه ليأكلوا من الشاة، فيأكلون إلى حد الشبع، ثم لا يصيبهم أي شيء. ويبقون أحياءً بعد موته (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 47


1- راجع: قاموس الرجال ج5 ص135 - 137 وغيره من كتب التراجم.

عشرين عاماً وأكثر من ذلك.. لكنه هو (صلی الله علیه و آله و سلم) وحده الذي يصاب.

حيث تذكر الروايات الأخرى: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد ثلاث سنوات قد وجد ألم أكلته بخيبر، وأن عرقه الأبهر قد انقطع.. بل بعض الروايات تقول: فما زال ينتقض به سمه حتّى مات (صلی الله علیه و آله و سلم)؟!.

سادساً: إن رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (علیه السلام) قد ذكرت أيضاً أمراً خطيراً، نجل عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كل الإجلال.. وهو:

أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يصلِّ على البراء بانتظار حضور الإمام علي (علیه السلام)، لكي يُحِلَّه مما كلمه به. وليكون موته بذلك السم كفارة له..

ولكنه (صلی الله علیه و آله و سلم) حين اعترضوا عليه، بأن البراء قد قال ذلك مزاحاً، ولم يكن ليؤاخذه الله بذلك، تراجع (صلی الله علیه و آله و سلم) عن ذلك، وقال: «.. ولكنه كان مزحاً، وهو في حل من ذلك»..

ثم اعتذر لهم عن موقفه الأول بأنه يريد أن لا يعتقد أحد منهم بأن الإمام علياً (علیه السلام) واجد عليه، فأراد أن يجدد بحضرتهم إحلالاً له، ويستغفر له.. ليزيده الله بذلك قربة ورفعة في جنانه..

وهذا معناه: أن هذه الرواية تنسب إلى رسول الله - والعياذ بالله - التدليس، والإخبار بغير الحق.. ثم التراجع عن الموقف بعد ظهور الأمر.. و.. والخ.. وحاشاه من ذلك كله..

سابعاً: هل صدَّق رؤساء اليهود بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى قالوا له: إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد؟!

ص: 48

وكيف صدقهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والمسلمون في قولهم هذا؟!. ألميكن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قد زارهم قبل ذلك، واجتمع بهم؟! فهل كانوا يقومون أيضاً، ويسدَّون آنافهم بالصوف..حتى لا يتأذى بأنفاسهم؟!.

وحين سدوا آنافهم بالصوف مخافة سَوْرة السم، هل تنفسوا من أفواههم بعد سد الآناف؟!.. وهل أن التنفس من الفم يمنع من سَوْرة السم حقاً؟! أم أنهم سدوها بالصوف، والتزموا بأن يتنفسوا منها أيضاً؟

إن الرواية لم توضح لنا ذلك!!

وإذا كان السم يؤثر إلى هذا الحد، فلا حاجة بهم إلى إطعام الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من الشاة، بل يكفي أن يضعوها أمامه.. ويدخل السم إلى بدنه الشريف عن طريق التنفس.

ثامناً: إذا كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قد علم بالسم، وقرأ الدعاء، وأمرهم بأكل ما هو مسموم، ليظهر المعجزة، والكرامة بذلك، فما معنى أمره لمن معه بالاحتجام بعد ذلك؟!..

فهل أثّر الدعاء في حجب أثر السم أم لم يؤثر؟ فإن كان قد أثّر، فما الحاجة إلى الحجامة؟!. وإن كان لم يؤثر، فلماذا كان الدعاء؟! وكيف أقدم على تناول سم يؤدي إلى الموت من دون تثبُّت من تأثير الدعاء في منع تأثيرالسم؟!..

تاسعاً: إن بعض تلك الروايات تقول: إنه بعد أن أكل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ما شاء الله، كلمته الذراع، وقالت: إني مسمومة.. فلماذا أخرت الذراع

ص: 49

كلامها إلى حين أكل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) منها ما شاء الله؟!.

ولماذا لم يمت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من ذلك السم من ساعته، إذا كان ذلك السم مؤثراً؟!.. بل تأخر أثره إلى ثلاث سنوات؟!.. ولماذا إن لم يكن مؤثراً، وجد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ألم أكلة خيبر، ثم انقطعت مطاياه، أو انقطع أبهره؟!..

هل سم المسلمون رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟!..

وبعدما تقدم نقول: إن أصابع الاتهام لا تتوجه في هذا الأمر إلى اليهود وحسب، فإن هناك روايات تلمِّح، وأخرى تصرح بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد مات مسموماً بفعل بعض نسائه..

فمن الروايات التي ربما يقال: إنها تلمح إلى ذلك، الرواية المتقدمة عن الإمام الصادق (علیه السلام): أن الإمام الحسن بن علي (علیه السلام) قال لأهل بيته: إني أموت بالسم، كما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).. ثم ذكر لهم: أنزوجته هي التي تسممه..

فربما يقال: إنه (علیه السلام) يريد الإشارة إلى هذا الأمر بالذات، وإلا فقد كان يكفيه أن يقول: إن امرأتي تقتلني بالسم.. ولكنه لم يفعل ذلك، بل شبه ما يجري له بما جرى لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).. فكما أن زوجتيه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد سمتاه، فإن زوجة الإمام الحسن (علیه السلام) سوف تدس له السم أيضاً..

وعهدة هذا الفهم للرواية بهذه الطريقة تبقى على مدّعيه..

أما الروايات التي تصرح بذلك، فهي:

ص: 50

1- ما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام)، في تفسير قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ...)(1).

حيث قال (علیه السلام): «أتدرون، مات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أو قتل؟! إنهما سقتاه قبل الموت»..

2- وروي أيضاً عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال: «أتدرون مات النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو قتل؟!.. إن الله يقول: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ...). فسم قبل الموت، إنهما سمتاه»، أو سقتاه(2)..

3- وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام): في حديث الحسين بن علوان الديلمي، أنه حينما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إحدى نسائه، لمن يكون الأمر من بعده، أفشت ذلك إلى صاحبتها، فأفشت تلك ذلك إلى أبيها، فاجتمعوا على أن يسقياه سماً، فأخبره الله بفعلهما. فهمَّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بقتلهما، فحلفا له: أنهما لم يفعلا، فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ۖ ...)(3).

أي ذلك هو الصحيح؟!

ص: 51


1- راجع: قاموس الرجال ج5 ص135 - 137 وغيره من كتب التراجم.
2- البحار ج28 ص20 وج22 ص516 وتفسير العياشي ج1 ص200 وتفسير البرهان ج1 ص320 وتفسير الصافي ج1 ص359 و389 ونور الثقلين ج1 ص33.
3- سورة التحريم، الآية: 7.

ونحن، رغم أننا قد ذكرنا بعض الإشكالات على الطائفتين المتقدمتين أولاً، من روايات السنة والشيعة حول سم اليهود له (صلی الله علیه و آله و سلم).. فإننا لا نريد أن نتسرع في إصدار الحكم النهائي على أي من الطوائف الثلاث من الروايات..وذلك لأننا نجد في الطائفة الثانية روايات معتبرة، لا ترد عليها الإشكالات في مضمونها، إذا أخذت بمفردها، وهي أيضاً تتوافق مع بعض روايات أهل السنة في أصل المسألة، ولأجل ذلك، نقول: إن النظرة المنصفة لهذه الطوائف الثلاث تدعونا إلى أن نقول:

إنه ربما يظهر من مجموع ما ذكرناه: أن المحاولات التي بذلها اليهود لقتله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد تعددت، ولعل بعضها قد حصل في خيبر، وبعضها حصل بالمدينة..

ولعل التي سمته في خيبر هي زينب بنت الحارث اليهودية، والتي سمته في المدينة هي تلك اليهودية التي يقال لها: عبدة..

وربما تكون الذراع قد كلمت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مرتين: إحداهما في خيبر، والأخرى في المدينة.

ولعله أهديت له (صلی الله علیه و آله و سلم) ذراع تارة، وأهديت له (صلی الله علیه و آله و سلم) شاة أخرى..

ثم لعل الذي مات في إحداهما هو مبشر بن البراء، وأما أخوه بشر بن البراء فمات في حادثة أخرى..

ص: 52

وربما يكون بشر قد مات في إحداهما، ولم يمت أحد من المسلمين في المحاولة الأخرى..

ويمكن أن يقال أيضاً: إن المحاولة التي جرت في المدينة ربما تكون قد جرت بالتواطؤ مع بعض نسائه.. وربما تكون محاولة بعض نسائه قد جاءت منفصلة عن قصة اليهودية واليهود..

وربما تكون محاولة بعض نسائه قد فشلت مرة، وذلك في قضية إفشاء سره (صلی الله علیه و آله و سلم) في موضوع سورة التحريم، إذ إن الرواية تقول: إن الله قد أخبره بذلك، ثم نجحت في المحاولة الثانية، واستشهد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بفعل السم الذي دسسنه له.. وإنما فضح الله أمرهن في المرة الأولى ليعرف الناس: أنهن قد يقدمن على هذا الأمر الشنيع، حتى إذا فعلن ذلك بعد ذلك، وذلك حين وفاته (صلی الله علیه و آله و سلم)، فتصديق الناس بهذا الأمر يصبح أسهل وأيسر.. كما أن تعريف الناس بحقيقة أولئك النسوة يحصِّن الناس من الاغترار بهن، من حيث كونهن زوجات له (صلی الله علیه و آله و سلم)..

نعم.. إن ذلك كله.. وسواه محتمل في تلك الروايات..

ونحن وإن لم نستطع الجزم بأي من تلك الوجوه.. ولكن لا شك في أنها لا تكون متعارضة فيما بينها، لأنها إنما تكون متعارضةمتنافرة، لو فرض أنها كلها تحكي عن قضية واحدة دون سواها..

ولكن هذا أعني أن تكون القضية واحدة مما لا سبيل إلى إثباته أبداً..

ص: 53

وإن تعدد محاولات اغتياله مما دلت عليه النصوص الكثيرة، وسياق كثير من تلك الروايات التي ذكرناها يؤيد هذا الأمر..

وتبقى حقيقة واحدة لا مجال لإنكارها من أحد أيضاً..

وهي أنه في ظل هذا الذي ذكرناه، لا بد أن تسقط كل الآراء التي تسعى لتبرئة هذا الفريق أو ذاك.. وتبقى الشبهة القوية تحوم حول كل الذين ذُكرت أسماؤهم في الروايات في الطوائف الثلاث المتقدمة. لاسيما مع وجود نصوص صحيحة السند عند الشيعة والسنة.. بل إنه حتى أولئك الذين كانوا من المعروفين. فإن التاريخ قد أثبت لنا كيف شنوا حرباً ضارية ضد علي (علیه السلام) وقد قتل فيها ألوف من المسلمين، ولو استطاعوا قتله لقتلوه، مع أنه وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأخوه..

بل إنه حتى بالنسبة إلى النصوص التي لم توفق لسند صحيح، فإنه لا يمكن دفع احتمالات صحتها، بل هي تبقى قائمة في ظل الظروف التي أحاطت برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من أول بعثته، وإلى حين وفاته.

خصوصاً وأن الجهر بالحقيقة كان يساوق المجازفة بالحياة وبالأخص بالنسبة لبعض الشخصيات التي كانت تحتل مكانة خاصة في قلوب بعض الفئات، التي كانت هي الحاكمة عبر أحقاب التاريخ(1).

ص: 54


1- مختصر مفيد.. (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، السيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الخامسة»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1424 - 2003، السؤال (270).

حديث لد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) خرافة

و قد ذكروا: أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قد لدّ في مرض موته(1)، (أي أنهمداووه باللدود، وهو من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم)(2)، في اليوم الذي ثقل فيه، واشتد ما يجده حتي أغمي عليه، وذلك في يوم الأحد(3)، قبل وفاته (صلی الله علیه و آله و سلم) بيوم واحد.

فمن النصوص والآثار التي حكت لنا ذلك:

1- ما رواه البخاري وغيره عن عائشة قالت: لددناه في مرضه، فجعل يشير إلينا: أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدوني؟

قلنا: كراهية المريض للدواء.

فقال: لا يبقي أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر، إلا العباس فإنه

ص: 55


1- شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 31 وج 10 ص 266 و267 وذخائر العقبي ص 192 وتاريخ الأمم والملوك ج 2 ص 438 وإمتاع الأسماع ج 14 ص 434 والسيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 1065 وعمدة القاري ج 18 ص 73 وسبل الهدي والرشاد ج 12 ص 228 والبداية والنهاية ج 5 ص 245 وإمتاع الأسماع ج 10 ص 328 وج 14 ص 433 والسيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 446.
2- وفي لسان العرب ج 3 ص 390 عن الفراء، قال: اللد أن يؤخذ بلسان الصبي فيمد إلي أحد شفتيه، ويوجر في الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق.
3- كنز العمال ج 10 ص 573.

لم يشهدكم(1).

2- ولفظ محمد بن سعيد: كانت تأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الخاصرة، فاشتدت به فأغمي عليه، فلددناه، فلما أفاق قال: هذا من فعل نساء جئن من هنا، وأشار إلي الحبشة، وإن كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها علي سلطانا، والله لا يبقي أحد في البيت إلا لد، فما بقي أحد في البيت إلي لد، ولددنا ميمونة وهيصائمة(2).

3- ومن طريق أبي بكر بن عبد الرحمن: أن أم سلمة وأسماء بنت عميس أشارتا بأن يلدوه(3).

و في رواية رواها عبد الرزاق بسند صحيح: أن قضية اللد قد جرت في بيت ميمونة، وأن نساءه تشاورن في ذلك، فلما أفاق قال: هذا من فعل

ص: 56


1- صحيح البخاري ج 3 ص 54 و(ط دار الفكر) ج 5 ص 143 وج 7 ص 17 وج 8 ص 40 و42 وصحيح مسلم ج 7 ص 24 وشرح مسلم للنووي ج 14 ص 199 وعمدة القاري ج 18 ص 73 وج 21 ص 248 و249 وج 24 ص 48 و57 وتغليق التعليق ج 4 ص 164 وصحيح ابن حبان ج 14 ص 554 وكتاب الوفاة للنسائي ص 29 وتحفة الأحوذي ج 6 ص 170 والبداية والنهاية ج 5 ص 246 وتاريخ الأمم والملوك ج 2 ص 437 ومسند ابن راهويه ج 5 ص 42 والسنن الكبري للنسائي ج 4 ص 255 و375 وشرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 32، ومسند أحمد ج 1 ص 53 والسيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 449.
2- فتح الباري ج 8 ص 112 و113 وعمدة القاري ج 18 ص 73 وسبل الهدي والرشاد ج 12 ص 228.
3- راجع: فتح الباري ج 8 ص 113 وفي الطبقات الكبري لابن سعد ج 2 ص 236: أنهما لدتاه..

نساء جئن من ها هنا وأشار إلي الحبشة(1).

4- قال المعتزلي: (وإن أهل داره ظنوا: أن به ذات الجنب فلدوه وهو مغمي عليه، وكانت العرب تداوي باللدود من ذات الجنب، فلما أفاق علم أنهم قد لدّوه، فقال: (لم يكن الله ليسلطها عليّ، لدوا كل من في الدار، فجعل بعضهم يلد بعضا)(2).

5- وفي رواية عن العباس: أنه دخل علي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعنده نساؤه فاستترن مني إلا ميمونة، فقال: لا يبقي في البيت أحد شهد اللد إلا لد الخ..(3).

6- وفي رواية مطولة عن عائشة، قالت: وفزع الناس إليه، فظننا أن به ذات الجنب، فلددناه ثم سرّي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأفاق فعرف أنه قد لد، ووجد أثر اللدود، فقال: ظننتم أن الله عز وجل سلطها علي؟ ما كان الله يسلطها علي، والذي نفسي بيده، لا يبقيفي البيت أحد إلا لد إلا عمي، فرأيتهم يلدونهم رجلا رجلا.

ص: 57


1- راجع: المصنف للصنعاني ج 5 ص 429 ومسند ابن راهويه ج 5 ص 42 وموارد الظمآن ج 7 ص 57 وكنز العمال ج 7 ص 268 وتاريخ مدينة دمشق ج 26 ص 333 والثقات لابن حبان ج 2 ص 131 والمعجم الكبير ج 24 ص 140 وفتح الباري ج 8 ص 112، والمستدرك للحاكم ج 4 ص 202 وصحيح ابن حبان ج 14 ص 553 ومجمع الزوائد ج 9 ص 33 ومسند أحمد ج 1 ص 438، لكن فيه: أن الذي اتهم نساء الحبشة هو غير النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
2- شرح النهج للمعتزلي ج 10 ص 266 ومسند أبي يعلي ج 12 ص 62 وراجع: الطبقات الكبري لابن سعد ج 2 ص 236.
3- مسند أحمد ج 1 ص 209 وتاريخ مدينة دمشق ج 26 ص 333 وراجع: مجمع الزوائد ج 5 ص 181 ومسند أبي يعلي ج 12 ص 62 وسبل الهدي والرشاد ج 11 ص 252.

وقالت عائشة، ومن في البيت يومئذ فتذكر فضلهم، فلد الرجال أجمعون، وبلغ اللدود أزواج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلددن امرأة امرأة، حتي بلغ اللدود امرأة منا - قال ابن أبي الزناد: لا أعلمها إلا ميمونة قال:و قال بعض الناس: أم سلمة - قالت: إني والله صائمة.

فقلنا: بئسما ظننت أن نتركك وقد أقسم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلددناها، والله يابن أختي، وإنها لصائمة(1).

7- عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن خير ما تداويهم به السعوط، واللدود، والحجامة، والمشي.

فلما اشتكي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لده أصحابه، فلما فرغوا قال: لدوهم، قال: فلدوا كلهم غير العباس..(2).

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من لدّني؟ فكلهم أمسكوا.

فقال: لا يبقي أحد في البيت إلا لد غير عمه العباس.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عباد بن منصور(3).

ص: 58


1- مسند أحمد ج 6 ص 118 والمستدرك للحاكم ج 4 ص 203 وتاريخ مدينة دمشق ج 26 ص 332 وتغليق التعليق ج 4 ص 166 ومسند أبي يعلي ج 8 ص 354 وسبل الهدي والرشاد ج 12 ص 227.
2- سنن الترمذي ج 3 ص 262 و264 والطب النبوي لابن القيم الجوزي ص 41 والعهود المحمدية للشعراني ص 586 والفائق ج 3 ص 313 والنهاية ج 4 ص 245، وزاد: أنه فعل ذلك عقوبة لهم.
3- سنن الترمذي ج 3 ص 265.

8- وأخيرا.. فقد روت عائشة قالت: أغمي علي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، والدار مملوءة من النساء: أم سلمة، وميمونة، وأسماء بنت عميس، وعندنا عمه العباس بن عبد المطلب، فأجمعوا علي أن يلدّوه، فقال العباس: لا ألده، فلدوه.

فلما أفاق قال: من صنع بي هذا؟

قالوا: عمك.

قال لنا: هذا دواء جاء من نحو هذه الأرض - وأشار إلي أرض الحبشة - قال: فلم فعلتم ذلك؟فقال العباس: خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب.

فقال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به، لا يبقي أحد في البيت إلا لد إلا عمي.

قال: فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، عقوبة لهم بما صنعوا..(1).

ونحن بدورنا لا نصدق هذه الروايات، وذلك لما يلي:

أولا: عدا عن المناقشة في أسانيدها. فإن في هذه الروايات تناقضا واختلافا، ونحن نكتفي بذكر موارد خمسة لهذه التناقضات، ونترك

ص: 59


1- شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 31 و32 وذخائر العقبي ص 192 وتاريخ الأمم والملوك ج 2 ص 438 والسيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 1065 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج 3 ص 471 وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج 26 ص 333 والمعجم الكبير ج 24 ص 140.

الباقي لنظر القارئ وملاحظته، فنقول:

1- رواية تذكر: أن العباس قد لدّه.

و أخري تقول: إنه رفض أن يلدّه، واكتفي بالإشارة بذلك..

وثالثة تقول: لم يشارك لا في لدّه ولا في المشورة به(1).

2- واحدة تقول: إن صحابته قد لدّوا رجلا رجلا حتي بلغ اللدود نساءه (صلی الله علیه و آله و سلم).

وأخرى تذكر: أن اللد كان للنساء فقط..

وثالثة تذكر: أن اللد كان لصحابته، ولا تشير إلي النساء أصلا..

3- ثم هناك الخلاف في من التدت وهي صائمة، هل هي: أسماء بنت عميس، أو هي ميمونة..

4- واحدة تذكر: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يعرف باللد إلا عندما أفاق، حيث وجد أثره في فمه، وأخري تذكر أنه نهاهم عن ذلك صراحة أو بالإشارة، ولكنهم لم يمتثلوا لأنهم اعتبروا أن ذلك منه كراهة المريض للدواء..

5- رواية تذكر: أن اللدود دواء جاءهم من قبل الحبشة..وأخري تقول: (كانت العرب تداوي باللدود من به ذات الجنب).

إلا أن يقال: لا منافاة بينهما، فلعله كان يأتي من الحبشة، فتأخذه العرب، فتداوي به مرضاها.

ص: 60


1- راجع: شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 32 و33 وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

ثانيا: لقد صرحت رواية المعتزلي، والزمخشري، وابن الأثير(1): بأن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) أراد أن يلدهم جميعا عقوبة لهم.. وهذا (فيه نظر، لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك)(2) فلماذا يعاقب غير الجناة؟!..

ولو سلم أنهم جميعا استحقوا العقوبة لتركهم الإنكار علي الفاعلين، ولا سيما مع نهيه (صلی الله علیه و آله و سلم) لهم عن ذلك..

فيرد عليه: أنهم إذا كانوا قد ظنوا أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) نهاهم عن ذلك كراهية المريض للدواء كما يدّعون، فهم معذورون في ذلك لأنهم قد انساقوا مع تأويلهم وفهمهم..

هذا كله، عدا عن أن بعض الروايات تنكر أن يكون (صلی الله علیه و آله و سلم) قد نهاهم عن ذلك، بل تصرح: بأنه لم يعرف بالأمر إلا بعد إفاقته من إغمائه..

و لو سلم.. فإنهم في فعلهم ذلك كانوا يحسبون أنهم يحسنون له (صلی الله علیه و آله و سلم)، ويبّرونه، ويحافظون عليه، فهل هم مع هذا يستحقون عقابا أو تأديبا كما يزعمه العسقلاني؟!(3).

وهل ذلك منه (صلی الله علیه و آله و سلم) لهم إلا كجزاء سنمار؟!..

ثم أليس يقولون: إنه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يكن ينتقم لنفسه من أحد؟!، فلماذا غيّر

ص: 61


1- الفائق ج 3 ص 313، والنهاية ج 4 ص 245، وفيهما: فعل ذلك عقوبة لهم، لأنهم لدوه بغير إذنه. وراجع المصادر في الهوامش السابقة.
2- فتح الباري ج 8 ص 112.
3- المصدر السابق.

عادته في هذا الوقت بالذات؟!..

ولو سلم أنهم يستحقون العقاب، فهل عقابهم يكون علي هذه الصورة؟!.

وهل كل من لدّ شخصا مع عدم رضاه تكون عقوبته اللّد في المقابل؟!.وكيف صار عقاب المرتكب للجريمة هو نفس عقاب الراضي بالفعل، وهل كل من رضي بفعل قوم لا بد وأن يتعرض لنفس العقاب الذي يتعرّضون له؟! فلو قتل رجل رجلا ورضي به آخر، فهل يقتلان معا:

الراضي والقاتل علي حد سواء؟!..

إلي غير ذلك من الأسئلة التي تحتاج إلي أجوبة مقنعة ومفيدة..

ثالثا: الرواية تصرح: بأن الله لم يكن ليبتليه (صلی الله علیه و آله و سلم) بذات الجنب.. ولكن أبا يعلي روي لنا بسند فيه ابن لهيعة، عن عائشة نفسها: أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مات من ذات الجنب(1).

قال المعتزلي: (واحتج الذاهبون إلي أن مرضه كان ذات الجنب بما

ص: 62


1- تهذيب التهذيب ج 5 ص 331 وسبل الهدي والرشاد ج 12 ص 227 والمعجم الأوسط ج9 ص 6 وفتح الباري ج 8 ص 113، وشرح النهج للمعتزلي ج 10 ص 267 ومسند أبي يعلي ج 8 ص 258 وعمدة القاري ج 21 ص 253 ومجمع الزوائد ج 9 ص 34 والمستدرك للحاكم ج 4 ص 405.

روي من انتصابه وتعذر الإضطجاع والنوم عليه.

قال سلمان الفارسي: دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه، فقال لي: يا سلمان، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي؟

فقلت: يا رسول الله، ألا أسهر الليلة معك بدله؟

فقال: لا، هو أحق بذلك منك)(1).

وقال من شرح قول علي (علیه السلام) في نهج البلاغة: (وفاضت بين نحري وصدري نفسك) (يروي: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قذف دما يسيرا وقت موته، ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للإضلاع انفرجت في تلك الحال، وكانت فيها نفسه (صلی الله علیه و آله و سلم)..)(2).

رابعا: لو سلمنا: أنه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يمت من ذات الجنب، وإنما مات بالحمي والسرسام الحار.. فإننا لا يمكن أن نقبل أنهم ظنوا: أن به ذات الجنب، وذلك لأن الحاكم قد روي في المستدرك أن: (ذات

ص: 63


1- شرح النهج للمعتزلي ج 10 ص 267 و266 علي الترتيب، وراجع: كتاب الأربعين للشيرازي ص 129 ومستدرك سفينة البحار ج 7 ص 381 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج 6 ص 533.
2- شرح النهج للمعتزلي ج 10 ص 267 و266 علي الترتيب.

الجنب من الشيطان..)(1).

فإذا كانت من الشيطان فلا يصح أن يتوهموا أن به ذات الجنب، لأن الشيطان ليس له سلطان علي عباد الله الصالحين من المؤمنين، فكيف بسيد الأنبياء والمرسلين: (ﮚ

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)(2) وقال تعالي حكاية لكلام الشيطان: ( ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)(3).

وقول ابن حجر العسقلاني: إن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: الورم الحار الذي يعرض للغشاء المستبطن، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، والأول هو المنفي له (صلی الله علیه و آله و سلم) عن نفسه(4).

لا يحل الإشكال، لأنه لو كان كذلك.. فقد كان عليه (صلی الله علیه و آله و سلم): أن يبين أيهما هو المعني بكلامه نفيا وإثباتا.. وكان علي الباحثين ذكر ذلك عنه، وإذا كان كذلك ولم يبين فلا بد أن يحمل كلامه علي ما هو المتعارف،

ص: 64


1- المستدرك ج 4 ص 405 ومسند ابن راهويه ج 2 ص 577 ومسند أحمد ج 6 ص 274 وفتح الباري ج 8 ص 113 وعمدة القاري ج 21 ص 253 وسبل الهدي والرشاد ج 11 ص 459 وج 12 ص 228 وكنز العمال ج 11 ص 469 وتاريخ الأمم والملوك ج 2 ص 438 والبداية والنهاية ج 5 ص 245 وإمتاع الأسماع ج 10 ص 328 وج 11 ص 228 وإمتاع الأسماع ج 14 ص 433 و435 والشفا بتعريف حقوق المصطفي للقاضي عياض ج 2 ص 120 والسيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 446.
2- الآية 42 من سورة الحجر.
3- الآية 83 من سورة ص، والآية 40 من سورة الحجر.
4- فتح الباري ج 8 ص 112 وج 10 ص 145 وسبل الهدي والرشاد ج 12 ص 228.

والتفكيك في كلامه يحتاج إلي دليل.

ثم كيف يكون هذا هو المنفي في كلامه مع أنه هو الذي يقولون: إنه مات به كما تقدّم نقله عن المعتزلي؟!..

خامسا: إذا كان (صلی الله علیه و آله و سلم) مغمي عليه حينما لدّوه كما تقول روايةالبخاري، فما معني تصريح نفس تلك الرواية بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) يشير إلينا أن لا تلدّوني؟!.

فقلنا: كراهة المريض للدواء.

وأخيرا.. فقد قال المعتزلي: (وسألت النقيب أبا جعفر يحيي بن أبي زيد البصري عن حديث اللدود، فقلت: ألدّ علي بن أبي طالب ذلك اليوم؟

فقال: معاذ الله، لو كان لدّ لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره وتنعاه عليه.

قال: وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار، وابناها معها، أفتراها لدّت أيضا؟ ولدّ الحسن والحسين؟! كلّا، وهذا أمر لم يكن، وإنما هو حديث ولّده من ولّده تقريبا إلي بعض الناس الخ..). ثم يذكر: أن من لدّ هو فقط أسماء بنت عميس وميمونة، وأن الدواء جاء به جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة(1).

ولكن كيف ذلك ونحن نري ابن أبي الحديد نفسه يصّرح: بأن

ص: 65


1- شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 32.

اللدود كانت تستعمله العرب لذات الجنب؟!(1) كما تقدم.

وهكذا يتضح: أن هذه الرواية لا يمكن أن تصح، وأن ذكرها في صحيح البخاري وغيره لا يبرر الالتزام بها، وتصديقها..

ولعل سر اختلاقها هو إظهار صحة نسبة الهجر إلي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في مرضه. ولعل النقيب المعتزلي يشير إلي هذا في عبارته الآنفة.

وما أكثر الأكاذيب والمفتريات علي نبي الأمة الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، رد الله كيد الكاذبين والمنحرفين إلي نحورهم، وعصمنا من الزلل في الفكر وفي القول والعمل.

نعى إلينا حبيبنا ونبينا

عن عبد الله بن مسعود، قال نعى إلينا حبيبنا ونبينا (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه فبأبي وأمي ونفسي له الفداء قبل موته بشهر، فلما دنا الفراقجمعنا في بيت، فنظر إلينا، فدمعت عيناه، ثم قال مرحبا بكم، حياكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، هداكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، إني لكم نذير مبين ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإن الله (تعالى) قال لي ولكم (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ

ص: 66


1- شرح النهج للمعتزلي ج 10 ص 266.

لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(1) وقال سبحانه: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)(2). قلنا متى يا نبي الله أجلك قال دنا الأجل والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وجنة المأوى، والعرش الأعلى، والكأس الأوفى، والعيش المنتهى. قلنا فمن يغسلك قال أخي وأهل بيتي الأدنى فالأدنى(3).

فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً ثمَّ خرج الى المسجد معصوب الرأس

فلمّا أحسّ بالمرض الّذي عراه أخذ بيد عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) وإتّبعه جماعة من الناس وتوجّه الى البقيع فقال للّذي اتّبعه: إنّني قد اُمرت بالإستغفار لأهل البقيع فانطلقوا معه حتّى وقف بين أظهرهم وقال: السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم يتبع آخرها أوّلها، ثمَّ إستغفر لأهل البقيع طويلاً وأقبل على أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة وقد عرضه عليّ العام مرّتين ولا أراه إلاّ لحضور أجلي ثمَّ قال: يا عليّ إنّي خيّرت ين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي والجنّة فاذا أنا متّ فاستر عورتي فانّه لا يراها أحد إلاّ

ص: 67


1- سورة القصص، الآية 83.
2- سورة الزمر، الآية 60.
3- الدمعة الساكبة ج1ص194.

أكمه ثمَّ عاد الى منزله فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً ثمَّ خرج الى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين (علیه السلام) بيمنى يديه وعلى الفضل بن عبّاس باليد الاُخرى حتّى صعد المنبر فجلس عليه ثمَّ قال: معاشر الناسوقد حان منّي خفوق من بين أظهركم فمن كان له عندي عدّة فليأتني أعطه إيّاه ومن كان له عليّ دين فليخبرني به، معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه شرّاً إلاّ العمل أ يّها الناس لا يدّعي مدّع ولا يتمنّى متمنّ والي بعثني بالحقّ نبيّاً لا ينجي إلاّ اعمل مع رحمة ولو عصيت لهويت اللهم هل بلّغت(1).

يا احمد ان الله تبارك وتعالى قد اشتاق الى لقائك

عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: سمعت ابي (علیه السلام) يقول: لما كان قبل وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بثلاثة ايام هبط عليه جبرائيل (علیه السلام) فقال: يا أحمد ان الله ارسلني اليك اكراماً وتفضيلاً لك وخاصة يسألك عما هو اعلم به منك، يقول كيف تجدك يا محمد قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): اجدني يا جبرائيل مكروباً. فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل وملك الموت ومعهما ملك يقال له اسماعيل في الهواء على سبعين الف ملك فسبقهم جبرائيل فقال: يا احمد ان الله عز وجل ارسلني اليك اكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة

ص: 68


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة [466].

يسألك عما هو أعلم به منك فقال: كيف تجدك يا محمد قال: أجدني يا جبرائيل مغموماً وأجدني يا جبرائيل مكروباً. فاستأذن ملك الموت، فقال جبرائيل: يا احمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، لم يستأذن على احد قبلك ولا يستأذن على احد بعدك، قال (صلی الله علیه و آله و سلم) ائذن له فأذن له جبرائيل، فاقبل حتى وقف بين يديه فقال: يا احمد ان الله تعالى ارسلني إليك وأمرني ان اطيعك فيما تأمرني، ان امرتني بقبض نفسك قبضتها وان كرهت تركتها، فقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): اتفعل ذلك يا ملك الموت؟ فقال: نعم بذلك أمرت ان اطيعك فيما تأمرني، فقال له جبرائيل: يا احمد ان الله تبارك وتعالى قد اشتاق الى لقائك، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا ملك الموت امضِ لما امرت به(1).

انه أُغمي على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في مرضه، فدُقّ بابه

ورُوي في المناقب عن ابن عباس انه أُغمي على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في مرضه، فدُقّ بابه، فقالت فاطمة (علیه السلام): من ذا؟ قال: انا رجل غريب اتيت اسأل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اتأذنون لي في الدخول عليه فأجابت امض رحمك الله، فرسول الله عنك مشغول، فمضى ثم رجع، فدق الباب وقال: غريب يستأذن على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اتأذنون للغرباء، فأفاق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من

ص: 69


1- الأنوار البهية في توريخ الحجج الإلهية: ص30 - 36.

غشيته وقال: يا فاطمة اتدرين من هذا؟ قالت: لا يا رسول الله قال: هذا مفرق الجماعات ومنغض اللذات، هذا ملك الموت ما استأذن والله على احد قبلي ولا يستأذن على احد بعدي. استأذن عليّ لكرامتي على الله ائذني له فقالت: ادخل رحمك الله فدخل كريح هفافة وقال: السلام على اهل بيت رسول الله، فاوصى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الى علي (علیه السلام) بالصبر عن الدنيا وبحفظ فاطمة (علیها السلام) وبجمع القرآن وبقضاء دينه وبغسله وان يعمل حول قبره حائطاً ويحفظ الحسن والحسين (علیهم السلام)(1).

غشي عليه فاخذت بقدميه اقبلهما وأبكي

وروي عن ابي رافع مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: لما كان اليوم الذي توفّي فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) غشي عليه فاخذت بقدميه اقبلهما وأبكي فاقاق وانا اقول: من لي ولولدي بعدك يا رسول الّه، فرفع رأسه وقال: الله بعدي ووصيي صالح المؤمنين(2).

لا كرب على ابيك بعد اليوم يا فاطمة

وروي في حديث عن جابر الأنصاري رحمه الله انه قال: كانت

ص: 70


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[528].
2- بحار الانوار /جزء 34 / صفحة [ 2 ].

فاطمة عند النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وهي تقول: واكرباه لكربك يا ابتاه، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا كرب على ابيك بعد اليوم يا فاطمة انّ النبي لا يشق عليه الجيب ولا يخمش عليه الوجه ولا يدعى عليه بالويلولكن قولي كما قال ابوك على ابراهيم: تدمع العينان وقد يوجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا ابراهيم محزنون(1).

اذا أنا متُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً

وعن ابي جعفر الباقر (علیه السلام) قال في قوله تعالى: ( ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ)(2) ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لفاطمة (علیها السلام): اذا أنا متُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً ولا ترخي عليّ شَعْراً عليّ شَعْراٌ ولا تنادي بالويل ولا تقيمي عليَّ نائحة ثم قال: هذا المعروف الذي قال الله عز وجل(3).

ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي واستعن بالله تعالى

قال المفيد ثم ثقل (صلی الله علیه و آله و سلم) وحضره الموت وامير المؤمنين (علیه السلام) حاضر عنده فلما قرب خروج نفسه قال له: ضع يا عليّ رأسي في حجرك فقد جاء امر الله فاذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ثم

ص: 71


1- تأويل الآيات ج 2 / 832 ح 5.
2- سورة الممتحنة، الآية 12.
3- مستدرك الوسائل الجزء 2 / صفحة [ 451 ].

وجّهني الى القبلة وتولَّ امري وصلِّ عليَّ أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي واستعن بالله تعالى، فأخذ عليّ رأسه فوضعه في حجره فاغمي عليه فأكبت فاطمة (علیها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأَبيض يستسقى الغمامَ بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ففتح رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عينيه وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك ابي طالب لا تقوليه ولكن قولي: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)(1) فبكت طويلاً فأومى اليها بالدنو منه فدنت منه فأسرَّ اليها شيئاً تهلل وجهها له فجاءت الرواية: انه قيل لفاطمة (علیها السلام) ما الذي اسر اليك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فسرى عنك به ما كنت عليهمن الحزن والقلق بوفاته قالت: انه أخبرني انني اول اهل بيته لحوقاً به وانه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه، فسرى ذلك عني(2).

فجاء الحسن والحسين ‘ يصيحان ويبكيان حتى وقعا عليه

وفي رواية الصدوق عن ابن عباس: فجاء الحسن والحسين ‘ يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأراد علي (علیه السلام) ان ينحيهما عنه فأفاق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم قال: يا عليّ دعني اشمهما ويشمّاني واتزود منهما ويتزودان مني أما انهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلماً، فلعنة

ص: 72


1- سورة آل عمران، الآية 144.
2- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة [521].

الله على من يظلمهما يقول ذلك ثلاثاً ثم مد يده الى علي فجذبه اليه حتى ادخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة صلوات الله عليه وآله فانسل عليّ من تحت ثيابه وقال اعظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله اليه فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء(1).

ثم وجَّهه وغمضه ومد عليه ازاره واشتغل بالنظر في أمره

وقال الطبرسي وغيره ما ملخصه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لملك الموت: امض لما أمرت له فقال جبرائيل: يا محمد هذا آخر نزولي الى الدنيا انما كنت انت حاجتي منها فقال له: يا حبيبي جبرائيل ادن مني فدنا منه فكان جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله وملك الموت قابض لروحه المقدسة فقضى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها الى وجهه فمسحه بها ثم وجَّهه وغمضه ومد عليه ازاره واشتغل بالنظر في أمره(2).

هذا اخي الخضر جاء يعزيكم بنبيكم

وعن الثعلبي انه قبض حين زاغت الشمس فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 73


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة [510].
2- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة [522].

جاء الخضر فوقف على باب البيت وفيه عليّ وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد سجِّي بثوب فقال: السلام عليكم يا اهل البيت، كل نفس ذائقة الموت وانما توفون اجوركم يوم القيامة، ان في الله خلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودركاً من كل فائت فتوكلوا عليه وثقوا به وأستغفر الله لي ولكم، واهل البيت يسمعون كلامه ولا يرونه فقال امير المؤمنين (علیه السلام) هذا اخي الخضر جاء يعزيكم بنبيكم(1).

أطول ليلة حتى ظنوا ان لا سماء تظلهم ولا أرض تُقِلُّهم

وروى الكليني عن ابي جعفر (علیه السلام) قال لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بات آل محمد (علیهم السلام) بأطول ليلة حتى ظنوا ان لا سماء تظلهم ولا أرض تُقِلُّهم لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وتر الأقربين والابعدين في الله، فبينا هم كذلك أذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه فقال: السلام عليكم يا اهل البيت ورحمة الله وبركاته، ان في الله عزاء من كل مصيبة ونجاة من كل هلكة ودركا لما فات، كل نفس ذائقةُ الموت وانما توفون اجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور، ان الله اختاركم وفضلكم وطهّركم وجعلكم أهل بيت نبيه واستودعكم علمه وأورثكم كتابه(2).

ص: 74


1- بحار الأنوار / جزء 13 / صفحة [ 300 ].
2- اصول الكافي 1: 445 و446.

دخل عليها من الحزن ما لا يعلمه الا الله عز وجل

قال ابو عبد الله (علیه السلام) ان الله لما قبض نبيه دخل على فاطمة (علیها السلام)من الحزن ما لا يعلمه الا الله عز وجل، فأرسل اليها ملكاً يسلّي غمَّها ويحدثها فشكت ذلك الى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال لها: اذا احسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته ذلك وجعل امير المؤمنين (علیه السلام) يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً قال (علیه السلام): اما انه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون(1).

يا عليّ من اصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي

قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): يا عليّ من اصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فانها من اعظم المصائب وانشأ امير المؤمنين (علیه السلام):

الموت لا والدا يبقي ولا ولدا *** هذا السبيل إلى ان لا ترى أحدا

هذا النبي ولم يخلد لأمته *** لو خلد الله خلقا قبله خلدا

للموت فينا سهام غير خاطئة *** من فاته اليوم سهم لم يفته غدا(2)

شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به الى سرته

فلما اراد امير المؤمنين (علیه السلام) غسل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) استدعى الفضل بن

ص: 75


1- بحار الأنوار / جزء 43 / صفحة [80].
2- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[522].

العباس فأمره ان يناوله الماء لغسله بعد ان عصب عينيه ثم شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به الى سرته وتولى غسله وتحنيطه والفضل يعاطيه الماء ويعينه عليه والملائكة كانت اعوانه ايضاً فغسل في قميصه(1).

فانه أمرني بغسله وكفنه ودفنه

روى الشيخ في التهذيب عن الحرث بن يعلي بن مرة عن أبيه عن جده قال: قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فستر بثوب، ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خلف الثوب وعلي (علیه السلام) عند طرف ثوبه قد وضع خديه على راحته والريح يضرب طرف الثوب على وجه علي (علیه السلام) قال: والناس على الباب وفي المسجد ينتحبون ويبكون واذا سمعنا صوتاً في البيت ان نبيكم طاهر مطهر فادفنوه ولا تغسلوه قال فرأيت علياً (علیه السلام) حين رفع راسه فزعاً فقال: اخسأ عدو الله فانه أمرني بغسله وكفنه ودفنه وتلك سنة قال (علیه السلام) نادى مناد آخر غير تلك النغمة يا علي بن ابي طالب استر عورة نبيكولا تنزع القميص(2).

لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك

وفي نهج البلاغة من كلام له (علیه السلام) قاله وهو يلي غسل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 76


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[518].
2- تهذيب الاحكام 1: 132.

وتجهيزه: بأبي أنت وامي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء واخبار السماء وخصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك وعممت حتى صار الناس فيك سواء ولولا انك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لانفدنا عليك ماء الشؤون ولكان الداء مماطلاً والكمد محالفاً وقلا لك ولكنه ما لا يملك رده ولا يستطاع دفعه بأبي انت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك(1).

نظر في عينيه فرأى فيهما شيئاً

عن فقه الرضا ان علياً (علیه السلام) لما ان غسل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وفرغ من غسله نظر في عينيه فرأى فيهما شيئاً فانكب عليه فادخل لسانه فمسح ما كان فيهما فقال بأبي وأمي يا رسول الله، (صلى الله عليك) طبت حياً وطبت ميتاً، قاله العالم(2).

فصل في دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)

روى سليم عن سلمان (رضي الله عنه) انه قال: اتيت علياً (علیه السلام) وهو يغسل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد كان أوصى ان لا يغسله غير عليٍّ (علیه السلام) وأخبر عنه

ص: 77


1- نهج البلاغة القسم الاول: 491 و492.
2- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[517].

انه لا يريد ان يقلب منه عضوا الا قلب له وقد قال امير المؤمنين (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من يعينني على غسلك يا رسول الله قال جبرائيل فلما غسله وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسناً وحسيناً (علیهم السلام) فتقدم وصففنا خلفه وصلى عليه والمرأة في الحجرة لا تعلم، قد اخذ جبرائيل ببصرها، قال المفيد: فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلىعليه وحده لم يشركه معه احد في الصلاة عليه وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم في الصلاة عليه واين يدفن فخرج اليهم امير المؤمنين (علیه السلام) وقال لهم: ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) امامنا حياً وميتاً فيدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلون عليه بغير امام وينصرفون، وان الله لم يقبض نبياً في مكان الا وقد ارتضاه لرمسه فيه وانّي لدافنه في حجرته التي قبض فيها فسلم القوم لذلك ورضوا به.

ثم ادخل عليه عشرة فداروا حوله

روى الكليني عن أبي مريم الانصاري قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): كيف كانت الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: لما غسله امير المؤمنين (علیه السلام) وكفنه سجاه، ثم ادخل عليه عشرة فداروا حوله، ثم وقف امير المؤمنين (علیه السلام) في وسطهم فقال: ان الله وملائكته يصلون على النبي، يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، فيقول القوم كما يقول (علیه السلام) حتى صلى عليه أهل المدينة والعوالي.

ص: 78

حتى صلى عليه الاقرباء والخواص

وروى ابو جعفر (علیه السلام): انهم صلوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء حتى صلى عليه الاقرباء والخواص ولم يحضر أهل السقيفة وكان عليّ (علیه السلام) انفذ اليهم بريدة وانما تمت بيعتهم بعد دفنه (صلی الله علیه و آله و سلم) وروي عن القسم الصقيل أنه كتب إلى الناحية المقدسة جعلت فداك هل اغتسل امير المؤمنين حين غسل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عند موته فاجابه: النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): طاهر مطهر ولكن امير المؤمنين (علیه السلام) فعل وجرت به السنة(1).

ثم وضع عليه اللبن واهال عليه التراب

قال المفيد: ولما صلى المسلمون عليه (صلی الله علیه و آله و سلم) انفذ العباس بن عبد المطلب برجل الى ابي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويصرح وكان ذلك عادة اهل مكة وانفذ الى زيد به سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد فاستدعاهما وقال اللهم خر لنبيك فوجدابو طلحة زيد بن سهل وقيل له: احفر لرسول الله فحضر له لحداً ودخل امير المؤمنين والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس واسامة بن زيد ليتولوا دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فنادت الانصار من وراء البيت يا علي انا نذكرك الله وحقنا اليوم من

ص: 79


1- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل الجزء 2 / صفحة [ 263 ].

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ان يذهب، ادخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): فقال: ليدخل اوس بن خولي وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف من الخزرج فلما دخل قال له علي (علیه السلام): انزل القبر فنزل ووضع امير المؤمنين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على يديه ودلاه في حفرته فلما حصل في الأرض قال له اخرج فخرج ونزل علي القبر فكشف عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ووضع خده على الأرض موجهاً الى القبلة على يمينه ثم وضع عليه اللبن واهال عليه التراب (انتهى)(1).

وروي انه ربَّع قبره. وعن ابي عبد الله (علیه السلام) قال القى شقران مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في قبره القطيفة وقال: جعل عليّ (علیه السلام) على قبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لبناً وقال: قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) محصب حصباء حمراء(2).

وروى الحميري: ان قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) رفع من الأرض قدر شبر وأربع اصابع ورش عليه الماء قال علي (علیه السلام): والسنة ان يرش على القبر ماء.

حتى اذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه

ورُوي عن بصائر الدرجات عن ابي عبد الله (علیه السلام) انه لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هبط جبرائيل (علیه السلام) ومعه الملائكة والروح الذين كانوا يهبطون في

ص: 80


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[519].
2- المصدر السابق.

ليلة القدر، قال: ففتح لأمير المؤمنين بصره فرآهم في منتهى السماوات الى الأرض يغسلون النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) معه ويصلون معه عليه ويحفرون له والله ما حفر له غيرهم، حتى اذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه، فتكلم وفتح لأمير المؤمنين (صلی الله علیه و آله و سلم) سمعه، فسمعه (صلی الله علیه و آله و سلم) يوصيهم به، فبكى، وسمعهم يقولون: لا نألوه جهداً وإنماهو صاحبنا بعدك الا أنه ليس يعايننا ببصره بعد مرتنا هذه(1).

وان رأسه لعلى صدري، وقد سالت نفسه في كفّي

في نهج البلاغة من خطبة له (علیه السلام): ولقد علم المستحفظون من اصحاب محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) إنِّي لم ارد على الله سبحانه ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته في المواطن التي تنكص فيها الابطال وتتأخر الاقدام نجدة أكرمني الله ولقد قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وان رأسه لعلى صدري، وقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي ولقد وُلِّيت غسله والملائكة أعواني فضجت الدار والافنية ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمة (اي الكلام الخفي) منهم يصلّون عليه حتى واريناه في ضريحه فمن ذا احق به منّي حياً وميتاً(2).

ص: 81


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[513].
2- نهج البلاغة الخطبة (195).

أقول (الشيخ عباس القمي): قد يقال ان المراد بسيلان النفس هبوب النفس عند انقطاع الانفاس وقيل اراد بنفسه دمه (صلی الله علیه و آله و سلم) يقال ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قاء عند وفاته دما يسيراً وأن علياً (علیه السلام) مسح بذلك وجهه والله العالم.

ان صباحك لصباح سوء

قال المفيد: لم يحضر دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اكثر الناس لما جرى بين المهاجرين والانصار من التشاجر في أمر الخلافة وفات اكثرهم الصلاة عليه لذلك، وأصبحت فاطمة (علیها السلام) تنادي، واسوء صباحاه فسمعها ابو بكر فقال لها: ان صباحك لصباح سوء(1).

كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التراب؟

وقد روى السدي عن أشياخه قال: لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قالت فاطمة رضي الله عنها تندبه:

أبي وا أبتاه أجاب ربا دعاهجنة الفردوس مأواه من ربه ما أدناه

إلى جبرائيل أنعاه

ولما دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أقبلت على أنس بن مالك فقالت: يا أنس

ص: 82


1- بحار الأنوار / جزء 22 / صفحة[519].

كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التراب؟ ثم بكت ورثته قائلة:

أغبر آفاق السماء وكورت *** شمس النهار وأظلم العصران

فالأرض من بعد النبي كئيبة *** أسفاً عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربها *** ولتبكه مضر وكل يمان

يا خاتم الرسل المبارك ضوءه *** صلى عليك منزل القرآن

ثم أخذت قبضة من تراب القبر فجعلتها على عينيها ووجهها ثم أنشأت تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليَّ مصائب لو أنها *** صبت على الأيام عدن لياليا(1)

اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد

عن ابن عباس، قال: لما مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعنده أصحابه، قام إليه عمار بن ياسر (رضي الله عنه)، فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، من يغسلك منا، إذا كان ذلك منك؟ قال: ذاك علي بن أبي طالب، لأنه لا يهم بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة على ذلك. فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، فمن يصلي عليك منا إذا كان ذلك منك.

ص: 83


1- (أهل البيت) توفيق أبو علم ص164 - 165.

قال: مه رحمك الله.

ثم قال لعلي (علیه السلام): يا بن أبي طالب، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وأنق غسلي، وكفني في طمري هذين، أو في بياض مصر، وبرد يمان، ولا تغال في كفني، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري، فأول من يصلي علي الجبار جل جلاله من فوق عرشه، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود منالملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، ثم الحافون بالعرش، ثم سكان أهل سماء فسماء، ثم جل أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون، يومئون إيماء، ويسلمون تسليما، لا تؤذوني بصوت نادبة ولا رنة.

ثم قال: يا بلال، هلم علي بالناس، فاجتمع الناس فخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) متعصبا بعمامته، متوكئا على قوسه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

معاشر أصحابي، أي نبي كنت لكم! ألم أجاهد بين أظهركم، ألم تكسر رباعيتي، ألم يعفر جبيني، ألم تسل الدماء على حر وجهي حتى لثقت لحيتي، ألم أكابد الشدة والجهد مع جهال قومي، ألم أربط حجر المجاعة على بطني؟ قالوا: بلى يا رسول الله، لقد كنت لله صابرا، وعن منكر بلاء الله ناهيا، فجزاك الله عنا أفضل الجزاء. قال: وأنتم فجزاكم الله.

ثم قال: إن ربي عز وجل حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم،

ص: 84

فناشدتكم بالله أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلا قام فليقتص منه، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء.

فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمدا أو خطأ. فقال معاذ الله أن أكون تعمدت. ثم قال: يا بلال، قم إلى منزل فاطمة فأتني بالقضيب الممشوق. فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس، من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟ فهذا محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة!

وطرق بلال الباب على فاطمة (علیها السلام) وهو يقول: يا فاطمة، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق. فأقبلت فاطمة (علیها السلام) وهي تقول: يا بلال، وما يصنع والدي بالقضيب، وليس هذا يوم القضيب؟ فقال بلال: يا فاطمة، أما علمت أن والدك قد صعد المنبر وهو يودع أهل الدين والدنيا! فصاحت فاطمة (علیها السلام) وهي تقول:

وا غماه لغمك يا أبتاه، من للفقراء والمساكين وابن السبيل ياحبيب الله وحبيب القلوب؟

ثم ناولت بلالا القضيب، فخرج حتى ناوله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال

ص: 85

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أين الشيخ؟ فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؟ فقال: تعال فاقتص مني حتى ترضى. فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف (صلی الله علیه و آله و سلم) عن بطنه، فقال الشيخ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار يوم النار. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد(1).

فداك أبي وأمي دع الدمع يقع على الأرض.

عن المجلسي ولما أنزل الله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ )(2) قام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على الصفا ونادى في أيام الموسم: يا أيها الناس إني رسول الله رب العالمين، فرمقه الناس بأبصارهم - قالها ثلاثا - ثم انطلق حتى أتى المروة ثم وضع يده في أذنه ثم نادى ثلاثا بأعلى صوته: يا أيها الناس إني رسول الله - ثلاثا - فرمقه الناس بأبصارهم ورماه أبو جهل قبحه الله بحجر فشج بين عينيه وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ وجاء المشركون في طلبه.

ص: 86


1- الأمالي - الشيخ الصدوق - الصفحة 732.
2- سورة الحجر، الآية 94.

وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) وقال: يا علي قد قتل محمد، فانطلق إلى منزل خديجة رضي الله عنها فدق الباب.

فقالت خديجة: من هذا؟

قال: أنا علي.

قالت: يا علي ما فعل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)؟

قال: لا أدري إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة وما أدري أحي هو أم ميت فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيسوانطلقي بنا نلتمس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فإنا نجده جائعا عطشانا.

فمضى حتى جاز الجبل وخديجة معه.

فقال علي: يا خديجة استبطني الوادي حتى أستظهره، فجعل ينادي:

يا محمداه! يا رسول الله! نفسي لك الفداء في أي واد أنت ملقى؟ وجعلت خديجة تنادي: من أحس لي النبي المصطفى؟ من أحس لي الربيع المرتضى؟ من أحس لي المطرود في الله؟ من أحس لي أبا القاسم؟

وهبط جبرئيل (علیه السلام)، فلما نظر إليه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بكى وقال: ما ترى ما صنع بي قومي، كذبوني وطردوني وخرجوا علي.

فقال: يا محمد ناولني يدك، فأخذ يده فأقعده على الجبل ثم أخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدر والياقوت وبسطه حتى جلل به جبال تهامة ثم أخذ بيد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى أقعده عليه ثم قال له جبرئيل: يا محمد أتريد أن تعلم كرامتك على الله؟

ص: 87

قال: نعم.

قال: فادع إليك الشجرة تجبك، فدعاها فأقبلت حتى خرت بين يديه ساجدة.

فقال: يا محمد مرها ترجع، فأمرها، فرجعت إلى مكانها.

وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا فقال: السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك أفتأمرني أن أنثر عليهم النجم فأدقهم؟

وأقبل ملك الشمس فقال: السلام عليك يا رسول الله أتأمرني أن آخذ عليهم الشمس فأجمعها على رؤوسهم فتحرقهم؟

وأقبل ملك الأرض فقال: السلام عليك يا رسول الله إن الله عز وجل قد أمرني أن أطيعك أفتأمرني أن آمر الأرض فتجعلهم في بطنها كما هم على ظهرها؟

وأقبل ملك الجبال فقال: السلام عليك يا رسول الله إن الله قد أمرني أن أطيعك أفتأمرني أن آمر الجبال فتنقلب عليهم فتحطمهم؟

وأقبل ملك البحار فقال: السلام عليك يا رسول الله قد أمرني ربي أن أطيعك أفتأمرني أن آمر البحار فتغرقهم؟فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): قد أمرتم بطاعتي؟

قالوا: نعم.

فرفع رأسه إلى السماء ونادى: إني لم أبعث عذابا إنما بعثت رحمة

ص: 88

للعالمين دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون.

ونظر جبرئيل (علیه السلام) إلى خديجة تجول في الوادي فقال: يا رسول الله ألا ترى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ أدعها إليك فأقرئها مني السلام وقل لها: إن الله يقرئك السلام وبشرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه ولا صخب لؤلؤا مكللا بالذهب، فدعاها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والدماء تسيل من وجهه على الأرض وهو يمحسها ويردها.

قالت: فداك أبي وأمي دع الدمع يقع على الأرض.

قال: أخشى أن يغضب رب الأرض على من عليها.

فلما جن عليهم الليل انصرفت خديجة رضي الله عنها ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي (علیه السلام) ودخلت به منزلها فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة وأظلته بصخرة فوق رأسه وقامت في وجهه تستره ببردها وأقبل المشركون يرمونه بالحجارة فإذا جاءت من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط وإذا رمى من بين يديه وقته خديجة رضي الله عنها بنفسها وجعلت تنادي: يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها؟

فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه وأصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وغدا إلى المسجد يصلي(1).

ص: 89


1- البحار 18 / 241.

فخذ بجوامع كفني وأجلسني ثم سلني

عن فضيل [بن] سكرة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): جعلت فداك، هل للماء الذي يغسل به الميت حدمحدود؟ قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لعلي (علیه السلام): إذا أنا مت فاستق ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني وحنطني، فإذا فرغت من غسلي وكفني فخذ بجوامع كفني وأجلسني ثم سلني عما شئت، فوالله لا تسألني عن شئ إلا أجبتك فيه(1).

ص: 90


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - الصفحة 296.

مصائب امير المومنين علي (علیه السلام)

اشارة

ص: 91

ص: 92

أنتَ أوَّلُ مَظلومٍ، وَأوَّلُ مَغصوبٍ حَقَّهُ

زيارة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) الرابعة

رابعها: ما رواه الكلينيّ عن أبي الحسن الثالث الإمام علي بن محمّد النقي (علیه السلام) قال: تقول عند قبر أمير المؤمنين (علیه السلام) السَّلامُ عَلَيْكَ يا وَلِيَّ الله أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ وَأَوَّلُ مَنْ غُصِبَ حَقُّهُ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ حَتّى أَتاكَ اليَقِينُ فَأَشْهَدُ أَنَّكَ لَقِيْتَ الله وَأَنْتَ شَهِيدٌ عَذَّبَ الله قاتِلَكَ بِأَنْواعِ العَذابِ وَجَدَّدَ عَلَيْهِ العَذابَ.

العلامة المحقق إسماعيل الانصاري الزنجاني الخوئيني

كان أمير المؤمنين (علیه السلام) مظلوما منذ ولادته، وبلغ مظلوميته بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى حدّ صار أول مظلوم في العالم؛ فغصبوا حقه وضيّعوا قدره وهجموا على بيته وأهانوه في حريمه وألقوا الحبل على عنقه وقادوه إلى البيعة ونسوا غديره، ولم يوجد أو لم يقدر أحد في المسلمين أن ينصره ويقوم للدفاع عن حقه حتى أنه بنفسه لم يقدر على الدفاع عن حقه، وكان في وطنه كالمغترب، ليس له ناصر ومدافع. فأصبح تجاه المنافقين والغاصبين لحقوقه ولم يوجد على وجه الأرض وتحت السماء أحد يعينه في أخذ حقه ويدفع الضيم عنه وعن حريمه إلا واحد من أهل بيته، وهي ابنة عمه وزوجته بنت رسول الله الصديقة الكبرى (علیها السلام)، ولكن هذه كانت تقابل كل أهل المدينة، بل تقابل دفاعها عن علي (علیه السلام) آلاف مدافع، بل كل أهل العالم. نعم، فاطمة (علیها السلام) نصرت وأعانت ودافعت عن علي (علیه السلام) على حد تحمل كل المشكلات والظلامات

ص: 93

والأذى والضرب والجرح وكسر الضلع وتورّم العضد واسوداد المتن والظهر واحمرار العين وسقط الجنين ومواقف عسيرة أخرى، وحتى أضحت نفسه واستشهدت في سبيل الدفاع عن بعلها وإمامها أمير المؤمنين (علیه السلام)(1).

ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه

روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام): إنه لم يقم مرة على المنبر إلا قال في آخر كلامه قبل أن ينزل: «ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه».الإمام علي (علیه السلام): ما زلت مظلوما مذ كنت(2).

لقد ظلمت عدد المدر والوبر

عن المسيب بن نجبة: بينا علي يخطب إذ قام أعرابي فصاح: وامظلمتاه! فاستدناه علي (علیه السلام)، فلما دنا قال له: إنما لك مظلمة واحدة، وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر.

وفي رواية عباد بن يعقوب: إنه دعاه فقال له: ويحك، وأنا والله مظلوم أيضا، هات فلندع على من ظلمنا(3).

ص: 94


1- الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء سلام الله عليها، ج 11، ص:115.
2- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ - محمد الريشهري - ج 9 - الصفحة 415.
3- شرح نهج البلاغة: 4 / 106؛ المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 115 نحوه إلى " الوبر " وراجع الشافي: 3 / 223.

هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه

عن الحافظ ابن مردويه عن داود بن أبي عوف قال: حدثني معاوية بن ثعلبة الليثي قال: ألا أحدثك بحديث لم يختلط؟ قلت: بلى، قال: مرض أبو ذر فأوصى إلى علي فقال بعض من يعوده: لو أوصيت إلى أمير المؤمنين عمر كان أجمل لوصيتك من علي، قال: والله لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين، والله إنه الربيع الذي يسكن إليه، ولو قد فارقكم لأنكرتم الأرض قال: قلنا: يا أبا ذر إنا لنعلم إن أحبهم إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أحبهم إليك قال: هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه يعني علي بن أبي طالب(1).

لم يبق بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم

الخرائج والجرائح: إن أعرابيا أتى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو في المسجد، فقال: مظلوم! قال: ادن مني. فدنا، فقال: يا أمير المؤمنين مظلوم! قال: ادن.

فدنا حتى وضع يديه على ركبتيه، قال: ما ظلامتك؟ فشكا ظلامته. فقال: يا أعرابي أنا أعظم ظلامة منك؛ ظلمني المدروالوبر، ولم يبق بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم، وما زلت مظلوما حتى قعدت مقعدي هذا(2).

ص: 95


1- غاية المرام - السيد هاشم البحراني - ج 1 - الصفحة 77.
2- الخرائج والجرائح: 1 / 180 / 13، الصراط المستقيم: 3 / 41 نحوه.

الغارات عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: سمعت عليا (علیه السلام) وهو يقول: ما لقي أحد من الناس ما لقيت! ثم بكى(1).

الإمام علي (علیه السلام): لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي(2).

قتل أمير المؤمنين (علیه السلام)

قبض سلام الله عليه ليلة احدى وعشرين من شهر رمضان سنة اربعين، ضربه ابن ملجم الملعون بالسيف المسموم على رأسه في مسجد الكوفة، وقت التنوير ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة مضين من الشهر فبقي يومين الى نحو الثلث الأول من الليل ثم قضى نحبه شهيداً ولقي ربه تعالى مظلوماً وله يومئذ ثلاث وستون سنة.

قال المسعودي في مروج الذهب في ذكر مقتله: وفي سنة اربعين اجتمع بمكة جماعة من الخوارج، فتذاكروا الناس وما هم فيه من الحرب والفتنة، وتعاهد ثلاثة منهم على قتل عليّ (علیه السلام) ومعاوية وعمرو بن العاص وتواعدوا واتفقوا على ان لا ينكص رجل منهم عن صاحبه الذي يتوجه اليه، حتي يقتله او يقتل دونه: وهم عبد الرحمن بن ملجم (لعنه الله) وكان من تجيب.

ص: 96


1- الغارات: 2 / 583؛ شرح نهج البلاغة: 4 / 103.
2- نهج البلاغة: الخطبة 97، الإرشاد: 1 / 277.

وكان عدادهم في مراد فنسب اليهم، وحجاج بن عبد الله الصريمي ولقبه البرك، وزادويه مولى بني العنبر، فقال ابن ملجم: أنا اقتل علياً وقال البرك: انا اقتل معاوية وقال زادويه انا أقتل عمرو بن العاص. واتَّعدوا ان يكون ذلك ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، وقيل، ليلة احدى وعشرين، فخرج عبد الرحمن بن ملجم المرادي الى عليّ (علیه السلام) فلما قدم الكوفة اتى قطام بنت عمه وكان عليّ (علیه السلام) قتل اباها واخاها يوم النهروان وكانت أجمل أهل زمانها فخطبها.

فقالت: لا اتزوج حتى تسمي لي قال: لا تسأليني شيئاً الا اعطيته، فقالت: ثلاثة آلاف، وعبداً وقينة وقتل عليّ (علیه السلام)، فقال: ما سألت هو لك مهر، الا قتل عليّ (علیه السلام) فلا اراك تدركينه، قالت: فالتمس غرته فان اصبته شفيت نفسي ونفعك العيش معي، وان هلكت فما عند الله خير لك من الدنيا، فقال: والله ما جاء بي الى هذا المصر، وقد كنت هارباً منه الا ذلك، وقد اعطيتك ما سألت وخرج من عندها وهو يقول:

ثلاثة آلاف وعبد وقينة *** وقتل علي (علیه السلام) بالحسام المصمم

فلا مهر اغلى من علي وان علا *** ولا فتك الا دون فتك ابن ملجم

فلقيه رجل من اشجع، يقال له شبيب بن بجرة من الخوارج، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة، فقال: وما ذاك قال: تساعدني على قتل علي قال: ثكلتك امك، لقد جئت شيئاً إدّاً قد عرفت عناءه في الإِسلام وسابقته مع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال ابن ملجم: ويحك اما تعلم انه قد

ص: 97

حكَّم الرجال في كتاب الله وقتل اخواننا المصلين فنقتله ببعض اخواننا، فأقبل معه حتى دخل على قطام وهي في المسجد الأعظم، وقد ضربت كلة بها، وهي معتكفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، فاعلمته ان مجاشع بن وردان بن علقمة قد انتدب لقتله معهما، فدعت لهما بحرير وعصبتهما واخذوا أسيافهم وقعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها عليّ (علیه السلام) للمسجد، وكان عليّ يخرج كل غداة اول الأذان للصلاة وقد كان ابن ملجم مر بالاشعث وهو في المسجد فقال له: فضحك الصبح فسمعها حجر بن عدي فقال: قتلته يا اعور قتلك الله، وخرج علي (علیه السلام) ينادي: ايها الناس الصلاة فشد عليه ابن ملجم واصحابه، وهم يقولون: الحكم للّه لا لك، وضربه ابن ملجم على رأسه بالسيف في قرنه، واما شبيب فوقعت ضربته بعضادة الباب واما ابن وردان فهرب، وقال عليّ (علیه السلام) لا يفوتنكم الرجل وشد الناس على ابن ملجميرمونه بالحصباء ويتناولونه ويصيحون، فضرب ساقه رجل من همدان برجله، وضرب المغيرة بن نوفل الحرث بن عبد المطلب وجهه فصرعه، واقبل به الى الحسن (علیه السلام) ودخل شبيب بين الناس فنجا بنفسه، وهرب، حتى أتى رحله، فدخل عليه عبد الله بن بحرة، وهو احد بني ابيه فرآه ينزع الحرير عن صدره، فسأله عن ذلك فخبّره خبره، فانصرف عبد الله الى رحله واقبل اليه بسيفه فضربه حتى قتله.

وقيل: ان عليّاً (علیه السلام) لم ينم تلك الليلة، وانه لم يزل يمشي بين الباب

ص: 98

والحجرة، وهو يقول: والله ما كذَبت ولا كُذبت وانها الليلة التي وعدت، فلما صرخ بط (كان للصبيان) صاح بهن بعض من في الدار فقال عليّ (علیه السلام): ويحك دعن فانهن نوائح.

وقال المسعودي: أنه (علیه السلام) قد خرج الى المسجد وقد عسر عليه فتح باب داره، وكان من جذوع النخل فاقتلعه، وجعله ناحية، وانحل ازاره فشده وجعل ينشد:

أشدُدْ حيازيمك للمو *** ت فان الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت *** إذا حل بواديكا(1)

يأتيني امر الله وانا خميص

وروى الشيخ المفيد انه لما دخل شهر رمضان كان امير المؤمنين (علیه السلام) يتعشى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، (علیهم السلام)، وليلة عند عبد الله بن العباس، وكان لا يزيد على ثلاث لقم فقيل له ليلة من تلك الليالي في ذلك، فقال: يأتيني امر الله وانا خميص انما هي ليلة او ليلتان فاصيب اخر الليل(2).

ص: 99


1- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - الصفحة 73.
2- الارشاد للمفيد: 7.

و يمسح الغبار وجهي

ورُويَ عن ام موسى خادمة عليّ (علیه السلام) وهي حاضنة فاطمة ابنته، قالت: سمعت عليّاً (علیه السلام) يقول لابنته ام كلثوم: يا بنية اني أراني قلَّ ما أصحبكم، قالت: وكيف ذلك يا أبتاه، قال: إني رأيت عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وهو يمسح الغبار وجهي، ويقول: يا عليّ لا عليك قضيت ما عليك. قال: فما مكثنا الا ثلاثاً حتى ضُرب تلك الضربة، فصاحت ام كثلوم، فقال: يا بنية لا تفعلي فانّي أرى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يشير الي بكفه ويقول: يا عليّ هلم الينا فان ما عندنا هو خير لك(1).

فضربه بالسيف على ام رأسه، فوقع على ركبتيه

وروى صاحب قرب الاسناد عن جعفر بن محمد عن ابيه (علیهم السلام) ان علي بن أبي طالب (علیه السلام) خرج يوقظ الناس لصلاة الصبح فضربه عبد الرحمن بن ملجم (لعنه الله) بالسيف على ام رأسه، فوقع على ركبتيه واخذه فالتزمه، حتى أخذه الناس، وحُمل عليّ حتى افاق ثم قال للحسن والحسين (علیهم السلام): احبسوا هذا الاسير واطعموه واسقوه وأحسنوا آثاره، فان عشت فانا أول بما صنع بي، ان شئت استقدت وان شئت عفوت، وان شئت صالحت، وان مت فذلك اليكم، فان بدا لكم ان تقتلوه فلا تمثلوا به(2).

ص: 100


1- بحار الانوار / جزء 42 / صفحة [225].
2- بحار الانوار / جزء 42 / صفحة [206].

وقد علت صفرة وجهه على تلك العصابة

وروى ابن شاذان عن الاصبغ قال: لما ضرب امير المؤمنين (علیه السلام) الضربة التي كانت وفاته فيها، اجتمع اليه الناس بباب القصر وكان يراد قتل ابن ملجم، لعنه الله، فخرج الحسن (علیه السلام) فقال: معاشر الناس ان ابي اوصاني ان اترك امره الى وفاته، فان كان له الوفاة، وإلا نظر هو في حقه فانصرفوا يرحمكم الله، قال: فانصرف الناس ولم أنصرف، فخرج ثانية وقال لي: يا اصبغ اما سمعت قولي عن قول امير المؤمنين (علیه السلام)، قلت: بلى ولكني رأيت حاله فاحببت ان انظر اليه، فاسمع منه حديثاً، فاستأذن لي رحمك الله، فدخل ولم يلبث ان خرج،فقال لي: ادخل فدخلت فاذا امير المؤمنين (علیه السلام) معصب بعصابة، وقد علت صفرة وجهه على تلك العصابة، واذا هو يرفع فخذاً ويضع اخرى، من شدة الضربة وكثرة السم، فقال لي: يا اصبغ اما سمعت قول الحسن عن قولي قلت: يا امير المؤمنين ولكني رأيتك في حالة فاحببت النظر اليك، وان أسمع منك حديثاً، فقال لي: اقعد فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا، اعلم يا اصبغ اني أتيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عائداً كما جئت الساعة، فقال: يا ابا الحسن اخرج فناد في الناس الصلاة جامعة واصعد المنبر وقم دون مقامي مرقاة وقل للناس ألا من عق والديه، فلعنة الله عليه، ألا من ابق من مواليه، فلعنة الله عليه ألا من ظلم اجيراً اجرته، فلعنة الله عليه، يا اصبغ، ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقام

ص: 101

من اقصى المسجد رجل فقال: يا ابا الحسن تكلمت بثلاث كلمات وأوجزتهن فاشرحهن لنا فلم ارد جواباً حتى أتيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقلت ما كان من الرجل، قال الاصبغ: ثم اخذ بيدي وقال ابسط يدك فبسطت يدي، فتناول اصبعا من اصابع يدي وقال: يا اصبغ كذا تناول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اصبعا من اصابع يدي، كما تناولت اصبعا من قال الاصبغ: ثم اغمي عليه ثم افاق فقال لي: اقاعد انت يا اصبغ قلت: نعم يا مولاي قال: ازيدك حديثاً آخر، قلت: نعم زادك الله من مزيدات الخير، قال: يا اصبغ لقيني رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا ابا الحسن أراك مغموماً ألا احدثك بحديث لا تغتم بعده ابداً؟ قلت: نعم، قال: اذا كان يوم القيامة نصب الله منبراً يعلو منابر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله، اصعد فوقه، ثم يأمرك الله ان تصعد دوني بمرقاة، ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك، بمرقاة، فاذا استقللنا على المنبر، لا يبقى احد من الاولين والآخرين الا حضر فينادي الملك الذي دونك بمرقاة، معاشر الناس، ألا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسي: انا رضوان خازن الجنان الا ان الله بمنه وكرمه وفضله وجلاله، أمرني ان ادفع مفاتيح الجنة الى محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وان محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) أمرني ان ادفعها الى علي بن ابي طالب (علیه السلام). فاشهدوا لي عليه، ثم يقوم ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة مناديا، يسمع اهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسي: انا مالك خازن النيران

ص: 102

الا ان الله بمنه وفضله وكرمهوجلاله، قد أمرني ان ادفع مفاتيح النار الى محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وان محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) قد أمرني ان ادفعها الى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فاشهدوا لي عليه، فاخذ مفاتيح الجنان والنيران ثم قال: يا عليّ فتأخذ بحجزتي واهل بيتك يأخذون بحجزتك وشيعتك يأخذون بحجزة اهل بيتك، قال (علیه السلام): فصفقت بكلتا يدي والى الجنة يا رسول الله، قال: اي وربّ الكعبة قال الاصبغ: فلم اسمع من مولاي غير هذين الحديثين ثم توفي صلوات الله عليه(1).

قد وصلت ضربته الى أم رأسك

قال ابو الفرج ثم جمع له اطباء الكوفة فلم يكن منهم اعلم بجرحه من اثير بن عمرو بن هاني السلولي، وكان متطبباً صاحب الكرسي، يعالج الجراحات وكان من الاربعين غلاما الذين كان ابن الوليد اصابهم في عين التمر فسباهم، فلما نظر أثير إلى جرح امير المؤمنين (علیه السلام)، دعا برئة شاة حارة، فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه، ثم استخرجه واذا عليه بياض الدماغ، فقال: يا امير المؤمنين اعهد عهدك فان عدو الله قد وصلت ضربته الى أم رأسك(2).

ص: 103


1- الروضة:22 و23.
2- بحار الانوار / جزء 42 / صفحة [234].

أنت يا حسن وصيي والقائم بالامر بعدي، وانت يا حسين شريكه في الوصية

روى الشيخ يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم عن الاصبغ بن نباتة قال: دعا أمير المؤمنين الحسن والحسين (علیهم السلام) لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) فقال: اني مقبوض في ليلتي هذه ولاحق برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فاسمعا قولي، وعياه: أنت يا حسن وصيّي والقائم بالامر بعدي، وانت يا حسين شريكه في الوصية، فانصت ما نطق وكن لامره تابعاً ما بقي، فاذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالامر، وعليكما بتقوى الله الذي لا ينجو الا من اطاعه، ولا يهلك الا من عصاه، واعتصما بحبله، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ثمقال للحسن (علیه السلام): انك ولي الأمر بعدي، فان عفوت عن قاتلي فذاك، وان قتلت فضربة مكان ضربة، واياك والمثلة، فان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نهى عنها ولو بكلب عقور، واعلم ان الحسين وليّ الدم معك، يجري فيه مجراك وقد جعل الله تبارك وتعالى له على قاتلي سلطاناً كما جعل لك وان ابن ملجم ضربني ضربة فلم تعمل فثناها فعملت، فان عملت فيه ضربتك فذاك، وان لم تعمل فمر اخاك الحسين، وليضربه اخرى بحق ولايته، فانها ستعمل فيه فان الإِمامة له بعدك وجارية في ولده الى يوم القيامة، واياك ان تقتل بي غير قاتلي، فان

ص: 104

الله عز وجل يقول: ( ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ) (1) (الوصية)(2).

احملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدمه

روى الشيخ المفيد وغيره عن مولى لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) قال لما حضرت امير المؤمنين (علیه السلام) الوفاة قال للحسن والحسين ‘: اذا أنا مت فاحملاني على سريري ثم اخرجاني، ثم احملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدمه ثم اتيا بي الغريّفانكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فيها فانكما تجدان فيها ساجة، فادفناني فيها، قال فلما مات (صلوات الله عليه) اخرجناه وجعلنا نحمل مؤخر السرير ونكفى مقدمه وجعلنا نسمع دويا وحفيفاً حتى اتينا الغريين فاذا صخرة بيضاء تلمع نورها فاحتفرنا فاذا ساجة مكتوب عليها هذه مما ادخرها نوح لعلي بن ابي طالب (علیه السلام) فدفناه فيه وانصرفنا، ونحن مسرورن باكرام الله تعالى لأمير المؤمنين (علیه السلام)، فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فاخبرناهم بما جرى وباكرام الله لامير المؤمنين (علیه السلام)، فقالوا نحب ان نعاين من امره ما عاينتم فقلنا لهم ان الموضع قد عفى أثره بوصية منه (علیه السلام)، فمضوا وعادوا الينا فقالوا انهم احتفروا فلم يجدوا شيئاً. ورُوى عن جابر بن يزيد، قال: سألت ابا جعفر محمد بن عليّ الباقر (علیه السلام) اين دفن امير المؤمنين (علیه السلام)، قال: دفن بناحية

ص: 105


1- سورة فاطر، الآية 18.
2- نهج السعادة - الشيخ المحمودي - ج 8 - الصفحة 398.

الغريين ودفن قبل طلوع الفجر، ودخل قبره الحسن والحسين ومحمد بنو عليّ (علیهم السلام) وعبد الله بن جعفر، (رضي الله عنهما)(1).

ولم يزل قبره مخفيا حتى دل عليه جعفر بن محمد (علیه السلام)

وفي البحار ولم يزل قبره مخفيا حتى دل عليه جعفر بن محمد (علیهم السلام) في أيام الدولة العباسية، وقد خرج هارون الرشيد يوما يصيد، وأرسل الصقور والكلاب على الظباء بجانب الغريين فجادلتها ساعة ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فرجع الكلاب والصقور عنها فسقطت في ناحية، ثم هبطت الظباء من الأكمة فهبطت الصقور والكلاب ترجع إليها، فتراجعت الظباء إلى الأكمة فانصرفت عنها الصقور والكلاب، ففعلن ذلك ثلاثا، فتعجب هارون وسأل شيخا من بني أسد: ما هذه الأكمة: فقال: لي الأمان؟ قال: نعم، قال: فيها قبر الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فتوضأ هارون وصلى ودعا، ثم أظهر الصادق (علیه السلام) موضع قبره بتلك الأكمة(2).

ص: 106


1- فرحة الغري - السيد ابن طاووس - الصفحة 66.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 42 - الصفحة 224.

مصائب الامام الحسن (علیه السلام)

اشارة

ص: 107

ص: 108

فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون

وأما الحسن (علیه السلام) فانه ابني وولدي، ومني وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة الله على الامة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فانه مني، ومن عصاه فليس منى، وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي، فلا يزال الامر به حتى يقتل بالسم ظلما وعدوانا فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كل شئ حتى الطير في جوالسماء، والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط، يوم تزل فيه الاقدام(1).

سبع سنوات، عاش فيها معاناة جده وتجرؤ القوم على ابيه وامه

كان عمر الإمام الحسن سبع سنوات، عاش فيها معاناة جده وتجرؤ القوم على ابيه وامه الزهراء عليهما السلام، ورأى فيها تنكر الأمة لنبيها (صلی الله علیه و آله و سلم) وشاهد الأحداث الخطيرة التي مرّت بالأمة، قبل وفاة جده النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، من امتناع القوم من الإلتحاق بسرية أسامة وتمرّدهم عليه

ص: 109


1- بحار الأنوار / جزء 28 / صفحة [39].

وعدم استجابتهم للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، بشأن الدواة والكتف، بدأت معاناة الامام (علیه السلام) من اللحظة التي عهد بها الإمام علي (علیه السلام) إليه قبل شهادته بأيام قائلا: يا بني! إنه أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن أوصي إليك وأدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ ودفع إليَّ كتبه وسلاحه وأمرني أن امرك إذا حضرك الموت أن توصي بها إلى أخيك الحسين (علیه السلام)، وبعد استشهاد ابيه (علیه السلام) ضج الناس بالبكاء والعويل فخرج إليهم الإمام الحسن (علیه السلام)، وحمد الله وأثنى عليه وقال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيقيه بنفسه ثم خنقته العبرة، فبعث بأنفاسه زفرات يهز الصخر لها لوعةً وأسى، وارتفع منالناس حسرات تبعتها آهات وآهات، ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير النذير، وبعد ذلك قام ابن عباس ودعا الناس إلى بيعته فاستجابوا وبايعوه قائلين ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة، حيث كان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفا شخصا، الا ان بني امية لم يتركوا الامام ابدا فقد بعثوا بالجراح بن سنان الأسدي الى قتل الامام (علیه السلام)، فضربه بخنجرا مسموم على فخذه حتى بلغ عظمه، وهذا كله لإطفاء نور الحق الا انهم فشلوا في ذلك لان الله متم نوره كما جاء في قوله تعالى ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ

ص: 110

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(1) وكل هذه الظروف التي مر بها الامام الحسن (علیه السلام) جعلته يذق المرارة من قبل اهل زمانه لفهمهم الخاطئ لسياسته المباركة وصلحه مع معاوية هذا من جانب ومن جانب اخر ما يصدر من اتهامات التي لا تليق به كإمام معصوم مفترض الطاعة كتعدد الزوجات والمطلاق وغير ذلك التي لو نظرنا بتمعن لوجدنا بصمات الاموين من ورائها.

أساء اليه أصحابه أيما إساءة

أساء اليه أصحابه أيما إساءة فهذا (عدي بن حاتم يقول: "أخرجتنا من العدل إلى الجور". وبشير الهمداني وسليمان بن صرد الخزاعي يدخل كل منهما عليه هاتفاً: "السلام عليك يا مذل المؤمنين". وخاطبه بعض أصحابه قائلاً: "يا بن رسول الله أذللت رقابنا بتسليمك الأمر إلى هذا الطاغية).

إذ قال: "يا عار أمير المؤمنين. فيقول (علیه السلام): العار خير من النارومنهم من تمادى أكثر حتى صرَّح بتمنيه موت سبط الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث كان يقول: "أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك"(2).

ص: 111


1- سورة التوبة، الآية 32.
2- حاديث في الدين والثقافة والاجتماع ص85.

معاوية بذل لها عشرة آلاف دينار، واقطاع عشرة ضياع

رُوي ان معاوية بذل لها عشرة آلاف دينار، واقطاع عشرة ضياع من سقي سوراء وسواد الكوفة على ان تسم الحسن (علیه السلام)(1).

فاستمسك السم في بطنه

الكليني، عن ابي بكر الخضرمي، قال: ان جعدة بنت الاشعث بن قيس الكندي سمَّت الحسن بن عليّ (علیه السلام) وسمَّت مولاة له، فأما مولاته فقاءت السم، واما الحسن فاستمسك في بطنه ثم انتفط به، فمات(2).

فبقي اربعين يوماً مريضاً

وقال الشيخ المفيد ضمن معاوية ان يزوجها بابنه يزيد، وأرسل اليها معاوية الف درهم، فسقته جعدة السم، فبقي اربعين يوماً مريضاً، ومضى لسبيله في صفر(3).

وذكر ابو الفرج في مقاتل الطالبيين ان الحسن بن عليّ (علیه السلام) بعد صلحه لمعاوية انصرف الى المدينة، فأقام بها وأراد معاوية البيعة لابنه

ص: 112


1- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - الصفحة 90.
2- المصدر السابق.
3- الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 - الصفحة 15.

يزيد، فلم يكن شيء اثقل عليه من امر الحسن بن علي (علیه السلام)، وسعد بن أبي وقاص، فدس اليهما سما فماتا منه. الاحتجاج، عن الاعمش، عن سالم بن ابي الجعد، قال: حدثني رجل منا قال: اتيت الحسن بن علي (علیه السلام)، فقلت: يا ابن رسول الله اذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً، ما بقي معك رجل، قال: ومم ذاك قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية قال: والله ما سلّمت الأمر اليه الا أني لم اجد انصاراً، ولو وجدت انصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه. ولكني عرفت اهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح ليمنهم ما كان فاسداً، انهم لا وفاء لهم، ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا: ان قلوبهم معنا وان سيوفهم لمشهورة علينا، قال: وهو يكلمني: اذ تنخع الدم فدعا بطست، فحمل من بين يديه ملآن مما خرج من جوفه من الدم، فقلت له: ما هذا يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اني لأراك وجعاً قال أجل، دسّ إليّ هذا الطاغية من سقاني سمّاً، فقد وقع على كبدي فهو يخرج قطعاً كما ترى، قلت له: افلا تتداوى قال: قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا اجد لها دواء(1).

يخرج كبده قطعة قطعة من السم

وروى الثقة الجليل عليّ بن محمد الخزاز القمي بسنده عن جنادة بن

ص: 113


1- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - الصفحة 90.

أبي اميّة، قال: دخلت على الحسن بن عليّ بن ابي طالب (علیه السلام) في مرضه الذي توفّي فيه، وبين يديه طست يقذف عليه الدم، ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي اسقاه معاوية، فقلت: يا مولاي مالك لا تعالج نفسك فقال: يا عبد الله بماذا اعالج الموت، قلت: انا للّه وإنا اليه راجعون. ثم التفت اليّ فقال: والله لقد عهد الينا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ان هذا الامر يملكه اثنا عشر اماماً من ولد عليّ وفاطمة، ما منا الا مسموم او مقتول. ثم رُفعت الطست وبكى قال، فقلت له: عظني يا ابن رسول الله قال: نعم استعد لسفرك وحصّل زادك قبل حلول اجلك، واعلم انك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي انت فيه، وساق الكلام في ذكر موعظته (علیه السلام) الى أن قال: ثم انقطع نفسه واصفر لونه حتى خشيت عليه ودخل الحسين (علیه السلام)، والاسود بن ابي الاسود، فانكب، عليه حتى قبّل رأسه وعينيه، ثم قعد عنده فتسارا جميعاً، فقال ابو الأسود: إنا للّه ان الحسن قد نُعَيت اليه نفسه، وقد أوصى الى الحسين (علیه السلام)، وتوفّي يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبعة واربعون سنة ودفن بالبقيع انتهى(1).

نحُّوا ابنكم عن بيتي فانه لا يدفن فيه

قلت: ومما اوصى (علیه السلام) الى اخيه الحسين (علیه السلام) ان قال: اذا انا متُّ فهيئني ثم وجهني الى قبر جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأجدّد به عهداً، ثم ردني

ص: 114


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 44 - الصفحة 138.

الى قبر جدتي فاطمة فادفني هناك، وستعلم يا ابن امي ان القوم يظنون انكم تريدون دفني عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيجلبون في ذلك ويمنعونك منه، وبالله اقسم عليك ان تهرق في امري محجمةدم، ثم وصى اليه باهله وولده، وتركاته، وما كان وصى اليه أمير المؤمنين (علیه السلام)، حين استخلفه، فلما قبض (سلام الله عليه) غسله الحسين (علیه السلام) وكفنه وحمله على سريره وانطلق به الى مصلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلى عليه ولم يشك مروان ومن معه من بني امية انهم سيدفنونه عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فتجمعوا ولبسوا السلاح فلما توجه به الحسين (علیه السلام) الى قبر جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ليجدد به عهداً، اقبلوا اليه في جمعهم ولحقتهم الحميراء، على بغل، وهي تقول: مالي ولكم تريدون ان تدخلوا بيتي من لا أحبُّ، نحُّوا ابنكم عن بيتي فانه لا يدفن فيه شيء ولا يهتك على رسول الله حجابه:

منعته عن حرم النَّبي ضلالةً *** وهو ابنهُ فلأيِّ امر يمنعُ

فكأنه روحُ النبَّي وقد رأت *** بالبعد بينهما العلائق تقطعُ

فقال لها الحسين (علیه السلام): قديما هتكت انت وابوك حجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قربه، وان الله تعالى يسألك عن ذلك، وجعل مروان يقول: يا رب هيجاء هي خير من دعة ايدفن عثمان في اقصى المدينة، ويدفن الحسن مع النبي، لا يكون ذلك ابدا، وانا احمل

ص: 115

السيف، وكادت الفتنة ان تقع بين بني هاشم وبين بني امية، فبادر ابن عباس الى مروان فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولكنا نريد ان نجدد به عهداً بزيارته ثم نرده الى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان اوصى بدفنه مع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لعلمت انك اقصر باعاً من ردنا عن ذلك لكنه كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من ان يطرق عليه هدما كما طرق ذلكغيره، ودخل بيته بغير اذنه(1).

ورموا بالنبال جنازته حتى سل منها سبعون نبلا

وفي المناقب وكان الحسن أوصى يجدد عهده عند جده، فلما مضى لسبيله غسله الحسين وكفنه وحمله على سريره فلما توجه بالحسن إلى قبر جده أقبلوا إليهم في جمعهم وجعل مروان يقول: يا رب هيجا هي خير من دعة، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي، أما لا يكون ذلك ابدا وانا احمل السيف. فبادر ابن عباس وكثر مقالا حتى قال: ارجع من حيث جئت فانا لا نريد دفنه ههنا ولكنا نريد ان نجدد عهدا بزيارته ثم نرده إلى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته فلو كان وصى بدفنه مع النبي لعلمت انك اقصر باعا من ردنا عن ذلك لكنه كان

ص: 116


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 44 - الصفحة 156.

أعلم بحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما ورموا بالنبال جنازته حتى سل منها سبعون نبلا(1).

وشهيد فوق الجنازة قد شكت بالسهام اكفانه

وفي زيارة امير المؤمنين: وانتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته وشهيد فوق الجنازة قد شكت بالسهام اكفانه وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ومكبل في السجن قد رضّت بالحديد اعضاؤه ومسموم قد قطعت بجرعة السم امعاؤه(2).

الشيخ عباس القمي (اقول شكت بالشين بعدها الكاف أي خرقت وشبكت بالموحدة بينهما تصحيف، ففي الحديث ان رجلا دخل بيته فوجد حية فشكها بالرمح أي خرقها وانتظمها به).

رثاء محمد بن الحنفية له

روى المسعودي في مروج الذهب عن أهل البيت (علیهم السلام)، انه لمادفن الحسن (علیه السلام)، وقف محمد بن الحنفية اخوه على قبره فقال: ابا محمد لئن طابت حياتك، لقد فجع مماتك، وكيف لا تكون كذلك وانت خامس اهل الكساء، وابن محمد المصطفى، وابن عليّ المرتضى، وابن فاطمة

ص: 117


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 - الصفحة 204.
2- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - الصفحة 93

الزهراء، وابن شجرة طوبى ثم انشأ يقول:

ءأدَهن رأسي ام تطيب مجالسي *** وخدك معفور وأنت سليبُ

ءاَشرب ماءَ المزنِ من غير مائِهِ *** وقد ضمن الاحشاءَ منكَ لهيبُ

سأبكيكَ ما ناحتْ حمامةُ ايكةٍ *** وما اخضرّ في دوح الحجازِ قضيبُ

غريب واكناف الحجازِ تحوطهُ *** الا كلّ من تحت الترابِ غريبُ

وفي المناقب، وقال الحسين (علیه السلام) لما وضع الحسن (علیه السلام) في لحده:

ءَاَدهن رأسي ام اطيب محاسني *** ورأسك معفور وأنت سليب(1)

ص: 118


1- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - الصفحة 94.

مصائب الامام علي بن الحسين السجاد (علیه السلام)

اشارة

ص: 119

ص: 120

البكَّاءون خمسة

روِيَ عَنْ الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) أَنهُ قَالَ: "الْبَكَّاءُونَ خَمْسَةٌ: آدَمُ، ويَعْقُوبُ، ويُوسُفُ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام)".

سَبَبُ بُكائهم:ثم أن الإمام الصادق (علیه السلام) بَيَّنَ سبب بكائهم وقال: "فَأَمَّا آدَمُ فَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ حَتَّى صَارَ فِي خَدَّيْهِ أَمْثَالُ الْأَوْدِيَةِ.

وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَبَكَى عَلَى يُوسُفَ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ، وحَتَّى قِيلَ لَهُ: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)(1).

وَأَمَّا يُوسُفُ فَبَكَى عَلَى يَعْقُوبَ حَتَّى تَأَذَّى بِهِ أَهْلُ السِّجْنِ، فَقَالُوا إِمَّا أَنْ تَبْكِيَ اللَّيْلَ وتَسْكُتَ بِالنَّهَارِ، وإِمَّا أَنْ تَبْكِيَ النَّهَارَ وتَسْكُتَ بِاللَّيْلِ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَأَمَّا فَاطِمَةُ (علیها السلام) فَبَكَتْ عَلَى رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حَتَّى تَأَذَّى بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهَا قَدْ آذَيْتِنَا بِكَثْرَةِ بُكَائِكِ، وكَانَتْ تَخْرُجُ إِلَى الْمَقَابِرِ مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ فَتَبْكِي حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا ثُمَّ تَنْصَرِفُ.

وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) فَبَكَى عَلَى الْحُسَيْنِ (علیه السلام) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، مَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إِلَّا بَكَى، حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ!

ص: 121


1- سورة يوسف، الآية 85.

قَالَ: ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(1)، إِنِّي لَمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إِلَّا خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ"(2).

وأخي مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس

قالت فاطمة الصغرى: (كنت واقفة بباب الخيمة، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزرين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي، يقتلوننا أويأسروننا، فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه وهنّ يلذن بعضهم ببعض، وقد أخذ ما عليهن من أسورة وأخمرة، وهنّ يصحن: واجداه وابتاه واعلياه واقلة ناصراه واحسيناه، أما من مجير يجيرنا، أما من ذائد يذود عنا، قالت: فطار فؤادي، وارتعدت مفاصلي، فجعلت أحيل طرفي يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم، خشية منه أي يأتيني، فبينما أنا على هذه الحال، فإذا به قد قصدني فذهلت خشية منه، وإذا بكعب الرمح بين

ص: 122


1- سورة يوسف، الآية 86.
2- وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): 3 / 280، للشيخ محمد بن الحسن بن علي، المعروف بالحُر العاملي، المولود سنة: 1033 هجرية بجبل عامل لبنان، والمتوفى سنة: 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا (علیه السلام) والمدفون بها، طبعة: مؤسسة آل البيت، سنة: 1409 هجرية، قم / إيران.

كتفي، فسقطت على وجهي، فخرم أذني وأخذ قرطي ومقنعتي، وترك الدماء تسيل على خدي ورأسي تصهره الشمس، وولى راجعاً للخيام وأنا مغشياً عليّ، وإذا أنا بعمتي عندي تبكي وتقول: قومي يا بنية نمضي فما أعلم ما جرى على البنات وعلى أخيك العليل، فقمت وقلت: يا عمتاه، هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظارة؟ فقالت: يا ابنتاه وعمتك مثلك. فرأيت رأسها مكشوفاً ومنتها إسودّ من الضرب، فما رجعنا إلى الخيمة إلا وقد نهبت وجميع ما فيها، وأخي مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس والقيام من كثرة الجوع والعطش والسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا)(1).

ألا تقتل هذا العليل

قال " حميد بن مسلم رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين (علیه السلام) في فسطاطهن وهم يسلبونهن اخذت سيفا وأقبلت نحو الفسطاط وقالت يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول الله لاحكم الا لله يا لثارات رسول الله فاخذها زوجها وردها إلى رحله "وانتهوا " إلى علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) وهو منبسط على فراش

ص: 123


1- ابن نما، الشيخ جعفر بن محمد: مثير الأحزان، ج 2/ 91 - 92.

وهو شديد المرض وكان مريضا بالذرب اي الاسهال وقد أشرف على الموت ومع شمر جماعة من الرجالة فقالوا له الا نقتل هذا العليل فأراد شمر قتله فقال له حميد ابن مسلم سبحان الله أتقتل الصبيان إنما هو صبي وانه لما به فلم يزل يدفعهم عنه حتى"جاء" عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين فقال لأصحابه لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء ولا تتعرضوا لهذا الغلام المريض ومن اخذ من متاعهن شيئا فليرده فلم يرد أحد شيئا"(1).

وأوداجه تشخب دما وهو مع ذلك يبكي

المجلسي في كتاب البحار عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإماره بالكوفه فبينما أنا أجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفه فأقبلت علي خادم كان معنا فقلت ما لي أري الكوفه تضج قال الساعه أتوا برأس خارجي خرج علي يزيد فقلت من هذا الخارجي فقال الحسين بن علي (علیه السلام) قال فتركت الخادم حتي خرج ولطمت وجهي حتي خشيت علي عيني أن يذهب وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلي الكناس فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤس إذ قد اقبلت الجمال فيها الحرم والنساء

ص: 124


1- لواعج الأشجان - السيد محسن الأمين - الصفحة 194.

وأولاد فاطمه (علیها السلام). وإذا بعلي بن الحسين (علیه السلام) علي بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دما وهو مع ذلك يبكي وقال صار أهل الكوفه يناولون الأطفال الذين علي المحامل بعض التمر والخبز والجوز فصاحت بهم أم كلثوم وقالت يا أهل الكوفه إن الصدقه علينا حرام وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلي الأرض قال كل ذلك والناس يبكون علي ما أصابهم / بحار الأنوار، ج 45، ص 114 مع بعض التصرف. وقال المجلسي: «رأيت في بعض الكتب المعتبره روي مرسلا عن مسلم الجصاص»(1).

وفي عُنُقِهِ الجامِعَهُ ويَدُهُ مَغلولَهٌ إلي عُنُقِهِ

الأمالي للمفيد عن حذلم بن ستير: قَدِمتُ الكوفَهَ فِي المُحَرَّمِ سَنَهَ إحدي وسِتّينَ، عِندَ مُنصَرَفِ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ (علیه السلام) بِالنِّسوَهِ مِن كربَلاءَ ومَعَهُمُ الأَجنادُ مُحيطونَ بِهِم، وقَد خَرَجَ النّاسُ لِلنَّظَرِ إلَيهِم، فَلَمّا اقبِلَ بِهِم عَلَي الجِمالِ بِغَيرِ وِطاءٍ، جَعَلَ نِساءُ أهلِ الكوفَهِ يَبكينَ ويَنتَدِبنَ.

فَسَمِعتُ عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ (علیه السلام) وهُوَ يَقولُ بِصَوتٍ ضَئيلٍ - وقَد نَهَكتهُ العِلَّهُ وفي عُنُقِهِ الجامِعَهُ ويَدُهُ مَغلولَهٌ إلي عُنُقِهِ -: ألا إنَّ هؤُلاءِ النِّسوَهَ يَبكينَ، فَمَن قَتَلَنا؟(2).

ص: 125


1- رياض الأبرار، الجزائري، ج 1، ص 242.
2- الأمالي للمفيد: ص 321 ح 8،الأمالي للطوسي:ص 91 ح 142،الاحتجاج: ج 2 ص 109 ح 170 [1] عن حذيم بن شريك نحوه، بحار الأنوار: ج 45 ص 164 ح 8 وراجع: تاريخ اليعقوبي:ج 2 ص 245.

فقل (علیه السلام) بغلين

ويحتمل انه كان مغلولا فامر بغل اخر فقل (علیه السلام) بغلين(1).

حملني علي بعير يظلع

إقبال الأعمال للسيّد ابن طاوس (رحمه الله): رأيت في كتاب المصابيح بإسناده إلي جعفر بن محمّد عليهما السّلام، قال: قال لي أبي محمّد بن علي ‘: سألت أبي عليّ بن الحسين ‘ عن حمل يزيد له، فقال (علیه السلام): حملني علي بعير يظلع (يميل في مشيته) بغير وطاء، ورأس الحسين (علیه السلام) علي علم، ونسوتنا خلفي علي بغال فأكف، والفارطه خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح، حتّي إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون(2).

وفخذا علي بن الحسين (علیه السلام) يترشحان دما

يقول سليمان القندوزي: ثم إن عمر بن سعد توجه إلى الكوفة بالسبايا على الجمال، نحو أربعين جملا، بغير وطاء ولا غطاء، وفخذا علي بن الحسين (علیه السلام) يترشحان دما(3).

ص: 126


1- الامام الحسين (علیه السلام) واصحابه القزويني ج3 ص350.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 - الصفحة 154.
3- ينابيع المودة ج 2 ص 176 ط 1.

وتقيّد رجلاه من تحت بطن الناقة

يا للعجب! أفمن كان جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وجدّه الآخر أميرالمؤمنين وجدّته فاطمة الزهراء وأبوه الحسين سيد شباب أهلالجنّة وأمّه شاه زنان بنت الملك كسرى يحمل على بعير بغير وطاء، وتوضع الجامعة في عنقه، وتقيّد رجلاه من تحت بطن الناقة، ويسار به من كربلا إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام، كما يسار سبي الروم والترك في أشدّ المصائب والهموم، وكان يبكي ويقول:

أقاد ذليلا في دمشق كأنّني *** من الزّنج عبد غاب عنه نصير

وجدّي رسول الله في كلّ مشهد *** وشيخي أميرالمؤمنين أمير

فيا ليت أمّي لم تلدني ولم أكن *** يزيد يراني في البلاد أسير(1)

حتّى تشتغل الناس بالنظر الي الراس عن النساء. ففعلت ذلك

قال سهل: ودخل الناس من باب الخيزران، فدخلتُ في جملتهم، وإذا قد أقبل تسعهٌ وتسعون بيرقاً، وإذا السبايا علي المطايا بغير وطاء، ورأس الحسين بيد خولي، وهو يقول: أنا صاحب المجد الأصيل، أنا صاحب السيف الصقيل، أنا قتلت أعداءنا أجمعين، وأتيت برؤوسهم إلي يزيد أمير المؤمنين.

ص: 127


1- نور الابصار للمازندراني المجلس الأول.

فقالت له أُمّ كلثوم: كذبتَ يا لعين ابن اللعين، ألا لعنه الله علي القوم الظالمين، يا ويلك! أتفتخر بقتل مَن ناغاه في المهد جبرئيل، وحمله ميكائيل، ومَن اسمه مكتوبٌ علي سرادق عرش ربّ العالمين، ومَن ختم الله بجدّه المرسلين، وقمع بأبيه المشركين؟ فمن أين مثل جدّي محمّدٍ المصطفي صلي الله عليه وآله، وأبي عليّ المرتضى (علیه السلام)، وأُمّي فاطمه الزهراء (علیه السلام) فأقبل عليها خولي وقال: لَعمري بأنّك من بيت الشجاعه.

وأقبل من بعد رأس الحسين (علیه السلام) رأس الحرّ بن يزيد الرياحي، يحمله شمر بن ذي الجوشن، وقد وضع في أُذنه رقعهً كتب فيها قصيده من إنشائه، ذمّ فيها بني أُميّه وابن زياد، وكان قد نظمها حينما انحاز إلي نصره الإمام المظلوم، وكان في الرقعه أيضاً أسماء المستشهدين بين يدَي الإمام، وإنّما وضع الرقعه في أُذنالحرّ ليقرأها يزيد وأعوانه فيزدادوا غيضاً وحنقاً.

ثمّ جاؤوا برأس العبّاس يحمله قشعم الجعفي، ثمّ رأس عليّ الأكبر يحمله سنان بن أنس النخعي، ومن ورائهم سبايا آل البيت يتقدّمهم الإمام زين العابدين (علیه السلام)، وأقبلَت جاريهٌ علي بعيرٍ مهزولٍ بغير غطاءٍ ولا وطاء، علي وجهها برقع خزّ أدكن، وهي تنادي: وا أبتاه، وا محمّداه، وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا عبّاساه، وا حمزتاه، وا عقيلاه، وا جعفراه، وا بُعد سفراه، وا سوء صباحاه! قال سهل: فأقبلتُ إليها، فصاحت بي فوقعتُ مغشيّاً علَيّ، فلمّا أفقتُ دنوت منها وقلت لها:

ص: 128

سيّدتي، لمَ تصيحين علَيّ؟ فقالت: أما تستحي من الله ورسوله أن تنظر إلي حرم رسول الله؟ فقلت: يا مولاتي، والله ما نظرتُ إليكم بريبه. فقالت: مَن أنت؟ فقلت: أنا سهل بن سعيد الشهرزوي، وأنا من مواليكم ومحبّيكم.

ثمّ أقبلتُ علي عليّ بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) [وقلت له: مولاي، أنا من شيعتكم، ويا ليتني كنت معكم وكنت أوّل المستشهدين بين يديكم]. وقلت له: مولاي، هل لك من حاجه؟ فقال لي: «هل عندك من الدراهم شيء؟»، فقلت: ألف دينارٍ وألف ورقه. فقال: خذ منها شيئاً وادفعه إلي حامل الرأس، وأْمُره أن يُبعده عن النساء؛ حتّي تشتغل الناس بالنظر إليه عن النساء. ففعلت ذلك، ورجعتُ إليه وقلت له: يا مولاي، فعلتُ الّذي أمرتَني به. فقال لي: «حشرك الله معنا يوم القيامه».

ثمّ إنّ عليّ بن الحسين أنشأ يقول:

«أُقاد ذليلاً في دمشق، كأنّني *** من الزنج عبدٌ غاب عنه نصيرُ

وجدّي رسول الله في كلّ مشهدٍ *** وشيخي أميرُ المؤمنين أميرُ

فيا ليت أُمّي لم تلدني،(1) ولم أكن *** يزيد يراني في البلاد أسيرُ»

ص: 129


1- يقول القزويني: حكي لي من اثق به انه راى علي بن الحسين (علیه السلام) في المنام فقال اني ما قلت (فياليت امي لم تلدني) ص265 الامام الحسين وانصا ره ج3.

وضربَ بحجر رأس الحسين (علیه السلام)

قال سهل: ورأيتُ روشناً عالياً فيه خمسه نسوه، ومعهنّ عجوزٌ محدودبه الظهر [لها زهاء ثمانون عاماً]، فلمّا صارت بأزاء الحسين (علیه السلام) وثبَت العجوز وأخذَت حجراً وضربَت به رأس الحسين (علیه السلام) فلمّا رأي عليّ بن الحسين ذلك دعا عليها وقال: «اللهمّ عجِّلْ بهلاكها وهلاك مَن معها». فما استتمّ دعاءه حتّي سقط الروشن، فسقطن بأجمعهنّ فهلكن، وهلك تحته خلقٌ كثير(1).

ائذن لي حتى أصعد هذه الاعواد

في فتوح ابن اعثم ومقتل الخوارزمي: أن يزيد أمر الخطيب أن يرقى المنبر ويثني على معاوية ويزيد وينال من الامام علي والامام الحسين عليهما السلام، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في علي والحسين (علیهم السلام)، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد.

فقال علي بن الحسين: يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الاعواد، فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب، فأبي يزيد.

فقال الناس: يا أمير المؤمنين أئذن له ليصعد، فعلنا نسمع منه شيئا، فقال لهم: آن صعد المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

ص: 130


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 194

فقالوا: وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: أنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله واثني عليه وقال:

أيها الناس، أعطينا ستا وفضلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة والفصاحة، والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا صلي الله عليه وآله، ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد الرسول، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة؛ فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبيونسبي:

أنا ابن مكة ومني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من انتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعي، أنا ابن من حج ولبي، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلي فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن محمد المصطفي. أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من بايع البيعتين، وصلى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، يعسوب المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، سمح سخي، بهلول زكي، ليث الحجاز وكبش العراق، مكي

ص: 131

مدني، أبطحي تهامي، خيفي عقبي، بدري، أحدي، شجري مهاجري، أبي السبطين الحسن والحسين علي بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن بضعة الرسول...

قال: ولم يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة.

فأمرالمؤذن أن يؤذن، فقطع عليه الكلام وسكت. فلما قال المؤذن: الله أكبر.

قال علي بن الحسين: كبرت كبيرا لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، ولا شيء أكبر من الله.

فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله.

قال علي: شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي ومخي وعظمي.

فلما قال أشهد أن محمدا رسول الله.التفت علي من أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد! محمد هذا جدي أم جدك؟ فان زعمت أنه جدك فقد كذبت، وان قلت انه جدي فلم قتلت عترته؟.

قال وفرغ المؤذن من الأذان والاقامة فتقدم يزيد وصلىالظهر(1).

ص: 132


1- فتوح ابن اعثم 247/ 5 - 249، ومقتل الخوارزمي 69/ 2 - 71، وقد أوجزنا لفظ الخطبة.

حديث علي بن الحسين (علیه السلام) مع المنهال

قال ابن اعثم: خرج علي بن الحسين (علیه السلام) ذات يوم، فجعل يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الصحابي فقال له: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟

قال: أمسينا كبني اسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بان محمدا منهم، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها، وأمسينا أهل بيت محمد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتلون مثبورون مطردون، فانا لله وإنا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال(1).

ألا تقتل هذا العليل

ومن معجزاته لمّا قتل الحسين (علیه السلام) كان عليّ بن الحسين (علیه السلام) نائما فجعل رجل منهم يدافع عنه كلّ من أراد به سوءاً.

أقول: ولولا دفع الله عنه وحفظه وصيانته مع ما به من شدّة الوجع والمرض، فكيف يمكن ويتصوّر أن يبقى سالماً ولا سيّما في ذلك الوقت الذي دخل شمر بن ذي الجوشن عليه اللعنة ومعه جماعة من الرجالة في

ص: 133


1- فتوح ابن اعثم 249/ 5 - 250.

الخيمة وزين العابدين كان نائما على نطع من الأديم وهو لا يقدر أن يقوم من شدّة المرض، فقالوا لشمر: ألا تقتل هذا العليل الخ.

التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين وقال له: من أنت؟

فقال: أنا علي بن الحسين.

فقال: أليس الله قد قتل علي بن الحسين؟

فقال علي: قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين، قتله الناس.فقال ابن زياد: بل الله قتله.

فقال علي بن الحسين: الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: ولك جرأة على جوابي وفيك بقية للرد علي؟! إذهبوا به فاضربوا عنقه.

فتعلقت به زينب عمته، وقالت: يا بن زياد! حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة، ثم قال: عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به(1).

خُطبَهُ الإِمامِ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ (علیه السلام) في أهلِ الكوفَهِ

الملهوف: إنَّ زَينَ العابِدينَ (علیه السلام) أومَأَ إلَي النّاسِ أنِ اسكتوا، فَسَكتوا،

ص: 134


1- الإرشاد للشيخ المفيد ص 243 - 244، وكتاب الملهوف، لابن طاووس، ص 201 - 202، وتاريخ الطبري ج 5 ص 457.

فَقامَ قائِماً، فَحَمِدَ الله وأثني عَلَيهِ، وذَكرَ النَّبِيَّ بِما هُوَ أهلُهُ فَصَلّي عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ:

أيُّهَا النّاسُ! مَن عَرَفَني فَقَد عَرَفَني،ومَن لَم يَعرِفني فَأَنَا اعَرِّفُهُ بِنَفسي:أنَا عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ، أنَا ابنُ المَذبوحِ بِشَطِّ الفُراتِ مِن غَيرِ ذَحلٍ ولا تِراتٍ، أنَا ابنُ مَنِ انتُهِك حَريمُهُ وسُلِبَ نَعيمُهُ وَانتُهِبَ مالُهُ وسُبِيَ عِيالُهُ، أنَا ابنُ مَن قُتِلَ صَبراً وكفي بِذلِك فَخراً.

أيُّهَا النّاسُ! ناشَدتُكمُ الله، هَل تَعلَمونَ أنَّكم كتَبتُم إلي أبي وخَدَعتُموهُ، وأعطَيتُموهُ مِن أنفُسِكمُ العَهدَ وَالميثاقَ وَالبَيعَهَ وقاتَلتُموهُ وخَذَلتُموهُ؟! فَتَبّاً لِما قَدَّمتُم لِأَنفُسِكم فَقالَ (علیه السلام): رَحِمَ الله امرَأً قَبِلَ نَصيحَتي وحَفِظَ وَصِيَّتي فِي الله وفي رَسولِهِ وأهلِ بَيتِهِ، فَإِنَّ لَنا في رَسولِ الله اسوَهً حَسَنَهً.

فَقالوا بِأَجمَعِهِم: نَحنُ كلُّنا يَابنَ رَسولِ الله سامِعونَ مُطيعونَ، حافِظونَ لِذِمامِك غَيرَ زاهِدينَ فيك ولا راغِبينَ عَنك، فَأمُرنا بِأَمرِك يَرحَمُك الله، فَإِنّا حَربٌ لِحَربِك وسِلمٌ لِسِلمِك، لَنَأخُذَنَّ يَزيدَ ونَبرَأُ مِمَّن ظَلَمَك وظَلَمَنا.

فَقالَ (علیه السلام): هَيهاتَ هَيهاتَ! أيُّهَا الغَدَرَهُ المَكرَهُ، حيلَ بَينَكم وبَينَشَهَواتِ أنفُسِكم، أتُريدونَ أن تَأتوا إلَيَّ كما أتَيتُم إلي أبي مِن قَبلُ؟! كلّا ورَبِّ الرّاقِصاتِ، فَإِنَّ الجُرحَ لَمّا يَندَمِل، قُتِلَ أبي صَلَواتُ الله عَلَيهِ بِالأَمسِ وأهلُ بَيتِهِ مَعَهُ، ولَم يُنسِني ثُكلَ رَسولِ الله صلي الله عليه وآله

ص: 135

وثُكلَ أبي وبَني أبي،ووَجدُهُ بَينَ لَهَواتي،ومَرارَتُهُ بَينَ حَناجِري وحَلقي، وغُصَصُهُ تَجري في فِراشِ صَدري،ومَسأَلَتي أن لا تَكونوا لَنا ولا عَلَينا.

ثُمَّ قالَ:لا غَروَ إن قُتِلَ الحُسَينُ وشَيخُهُ ثُمَّ قالَ (علیه السلام): رَضينا مِنكم رَأساً بِرَأسٍ، فَلا يَومَ لَنا ولا عَلَينا(1).

فقال بعض القوم: إنّه ليهجر

ومن معجزاته ما ظهر منه ليلة وفاته، لمّا حضرته الوفاة قال لولده: يا محمّد! أيّ ليلة هذه؟ قال: ليلة كذا وكذا. قال: وكم مضى من الشهر؟ قال: كذا وكذا. قال: إنّها الليلة التي وعدتها، ودعا بوضوء، فلمّا جيئ به قال: إنّ فيه فأرة. فقال بعض القوم: إنّه ليهجر. فقال: هاتوا المصباح، فجيء فإذا فيه فأرة، فأمر بذلك الماء فأهرق، وآتوه بماء آخرفتوضّأوصلّى حتى إذا كان آخرالليل مدّالثوب عليه فمات (علیه السلام)(2).

وتقيّد رجلاه من تحت بطن الناقة

ومن معجزاته ما روي عن الزهري قال: شهدت عليّ بن الحسين (علیه السلام) يوم حمله عبدالملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديداً، ووكّل به حفّاظاً في عدّة وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له، فأذنوا

ص: 136


1- الملهوف: ص 199، الاحتجاج: ج 2 ص 117 ح 171.
2- نور الابصار المجلس الرابع.

لي، فدخلت عليه وهو في قبّة والأقياد في رجليه والغلّ في يديه، فبكيت وقلت: وددت أنّي مكانك وأنت سالم، فقال لي: يا زهري! أو تظنّ هذا ممّا ترى عليّ وفي عنقي ممّا يكربني، امّا لو شئت الخلاص ما كان عليّ بعسير، وإنّه ليذكّرني عذاب الله، ثمّ أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد ثمّ قال: يا زهرى، لا جزت معهم على ذا منزلتين من المدينة.

قال: فما لبثنا إلاّ أربع ليال حتّى قدم الموكّلون به يطلبونه من المدينة، فما وجدوه، فكنت ممّن سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنّا كنّا نحفظه ونحرسه ولا ننام بالليل وكنّا نترصّده إذا أصبحنا وما وجدناه في مكانه إلاّ الغلّ والحديد.

قال الزهري: فقدمت بعد ذلك على عبدالملك بن مروان، فسألني عن عليّ بن الحسين (علیه السلام)، فأخبرته، فقال لي: إنّه قد جاءني في يوم فقده الأعوان والحرسة، فدخل عليّ في غاية السطوة والهيبة بحيث قد خفت ودخلني رعب عظيم، فقال لي: ما أنا وأنت، فقلت له: أقم عندي، فقال: لا أحبّ، ثمّ خرج، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة.

قال الزهرى: فقلت: يا أميرالمؤمنين! ليس عليّ بن الحسين حيث تظن، وإنّه مشغول بربّه. فقال: حبّذا شغل مثله.

هذا يوم يخلّص نفسه من الحرسة ويفكّ الغل والحديد عن يديه ورجليه، وتطوى له الأرض حتى يدخل على عبدالملك في غاية السطوة والهيبة، وينجّي نفسه منهم، ويدخل المدينة، ويوم آخر يضع يده على يده

ص: 137

حتى توضع في عنقه الجامعة ويحمل على بعير أعجف، وتقيّد رجلاه من تحت بطن الناقة، ولعمري لولا حلمه عنهم لما استطاعوا أن يذهبوا به خطوة واحدة:

قيّدوه من حلمه بقيود *** ربّ حلم يقيّد الضرغاما(1)

فوقف الصياد وهو ينظر إلى السبايا والعيال

ومن معجزاته (علیه السلام) ما ظهر منه في دمشق الشام كما ذكر في كتاب اليد والمنبر للمرحوم المحدث الخبير الحاج ملاّ إسماعيل السبزواري (رحمه الله) هو أنّه بينما كان الإمام (علیه السلام) أسيراً في أيدي الأعداء ومعه عمّاته وأخواته وعيالات أبي عبدالله (علیه السلام)، وقد أنزلهم يزيد في تلك الخربة، إذ مرّ بهم رجلاً صيّاد ومعه خشفة غزالة قد صادها،وهو يريد إهداءها إلى يزيد لولده حتّى يأخذ منه إنعاماً جزيلا. فوقف الصياد وهو ينظر إلى السبايا والعيال، ويرقّ قلبه عليهم وهو لا يعرفهم، فلمّا نظر الأطفال إلى الخشفة تعلّقوا بعمّتهم زينب الكبرى وبكوا وقالوا: يا عمة!، ونحن نريد خشفة (غزالة) نلعب بها، قولي لهذا الرجل حتى يعطينا هذه الخشفة ونحن نستأنس بها. فبقيت زينب (علیه السلام) متحيّرة كيف تجيبهم وكيف تسكّنهم، فالتفت الإمام زين العابدين (علیه السلام) إلى الصياد وقال: أيها الرجل! أتبيع

ص: 138


1- نور الابصار للمازندراني المجلس الرابع.

هذه الخشفة؟ قال: لا، لأنّي أريد أن أهديها إلى الأمير يزيد - لعنه الله - فيثيبني على ذلك أحسن الثواب، ويعطيني أجزل العطاء ما أعيش به سنتي هذه.

فقال الإمام (علیه السلام): أعطنيها وأنا أعطيك أكثر ممّا يعطيك يزيد بأضعاف مضاعفة، واسمح بها حتى يستأنس بها هؤلاء الأطفال، فإنّهم أيتام صغار منكسرة قلوبهم، باكية عيونهم، فتعجّب الصياد من كلام الإمام وضحك وقال في نفسه: ما عنده حتى يعطيني أكثر من عطاء يزيد، ثمّ رقّ قلبه على الأيتام وشدّ حبلاً بعنق الخشفة شدّاً وثيقاً وسرّحها في الخربة بين الأطفال ليستأنسوا بها ساعة ثمّ يأخذها ويذهب بها إلى يزيد، فاجتمعوا عليها يستأنسون بها ويلعبون معها وهم مشغوفون بها، فعند ذلك مدّ الإمام زين العابدين (علیه السلام) يده إلى الأرض ورفع حصيات عن وجه الأرض ورمى بها إلى الصياد، فانقلبت جواهر فاخرة ما رأت العيون مثلها.

فتحيّر الرجل وقال: يا غلام! من أنت ومن هؤلاء النسوة والأطفال؟ فقال الإمام (علیه السلام): ما الذي سمعت أنت من هؤلاء القوم، وما بلغك؟ فقال: يقولون إنّكم من الخوارج، قتلكم عبيدالله بن زياد. فبكى الإمام (علیه السلام) وقال: لا والله بل الدين لنا ومن عندنا ونحن ديّنّاكم بدين محمّد، وهو جدّنا، وما استقام الدين إلاّ بسيف جدّنا. فقال الصياد: من أنت وما اسمك؟ قال: أنا عليّ بن الحسين. قال: الحسين بن علي وأمّه

ص: 139

فاطمة بنت رسول الله؟! قال: نعم. قال: سيدي وأين أبوك الحسين؟ قال: قتلوه عطشاناً ظمآناً وتركوه في رمضاء كربلا عرياناً بلا غسل ولا كفن، ورأسه قد أهدي إلى يزيد، وها هو بين يدي يزيد في طشت من الذهب. فبكى الصياد وجعل يلطم على رأسه ويقول: وا أسفاه عليك يا أبا عبدالله! لعن الله قاتلك، ثمّ وهبالخشفة ومضى باكياً.

بلغ الخبر إلى يزيد، أمر بإحضار الصياد، فأحضر، فلمّا نظر الصياد إلى رأس الحسين (علیه السلام) في طشت من الذهب، فوثب إلى الرأس الشريف وأخذ الرأس وجعل يقبّله ويبكي ويقول: لعن قاتلك يا سيدي. فأمر يزيد بقتله، فقتل، وقال اللعين: لا تدفنوه، فلمّا جنّ الليل اجتمع جماعة من الشيعة بدفن الصياد، فدفن، فأقبلت نساؤه وعياله وأطفاله إلى الإمام وتضرّعوا إليه وبكوا، فجاء الإمام إلى قبره ووقف ودعى الله بدعوات، ثمّ قال: يا عبدالله قم بإذن الله، فإذا القبر قد انشقّ.

وخرج الرجل حيّاً وسلّم على الإمام، فقال (علیه السلام): إنّ أهلك لا يطيب لهم فراقك، وأنا سألت الله أن يردّك إليهم فتعيش معهم مدّة مديدة، ثمّ قبض قبضة من التراب والحصا ورمى بها إليه وقال: خذها، فانقلبت جواهر، فقال الإمام: أخرج من بلادك ولا يظفر بك أحد.

انهم انزلوا بنا سبعة مصائب

آه من الشام

ص: 140

ورد في الخبر الشريف أنّ أحدهم سأل من الإمام السجّاد (علیه السلام) فقال: أي المصائب كانت أشدّ عليكم؟ وإذا بالإمام (علیه السلام) يجيب ثلاثاً: الشام الشام الشام. أو أنّه قال: آه من الشام قالها ثلاثاً. وفي خبر آخر أنّ الإمام (علیه السلام) قال للمنذر بن النعمان ما مضمونه: لقد نزلت علينا في الشام سبع مصائب لم نر مثلها من قبل أصلاً منها:

1- أنّ قادة العسكر كانوا يقدوننا في الشام وهم شاهرون سيوفهم حاملون الرماح وكانوا بين الحين والآخر يتجاسرون علينا بكعب الرماح والناس محدقين بنا من كلّ جانب وهم يضربون بالدفوف ويرقصون فرحاً بما يجري علينا.

2- إنّهم مرّوا بالرؤوس الشريفة بين هوادج المخدّرات وجعلوا رأس عمّي العبّاس (علیه السلام) مقابل عمّاتي زينب وأُمّ كلثوم، كما يجعلوا رأس علي الأكبر والقاسم قبال عيني سكينة وفاطمة أُختي، وكانوا يلعبون بالرؤوس تهوي على الأرض أحياناً وتصبح موطأ لأقدام الخيول.3- كانت النساء الشاميات فوق السطوح ترمينا بالماء والنار حتّى احترقت عمّاتي وحيث إنّني مقيّد لم أستطع إخماد النيران فوصلت النار إلى رأسي واحترق بألسنة النار.

4- أوقفونا منذ طلوع الشمس إلى قريب الغروب بين المغنّين وأهل اللهو فأصبحنا فرجة للناس الذين كانوا يأتون من كلّ مكان ليتفرّجوا علينا، وكان أزلام يزيد يقولون لهم: إنّ هؤلاء الناس لا احترام لهم في

ص: 141

الإسلام أصلاً.

5- قيّدونا بالحبال ومرّوا بنا إلى جانب منازل اليهود والنصارى وقالوا لهم: هؤلاء الذين قتلوا أبوهم آباءكم في معركة خيبر فهلمّوا وخذوا بثاراتكم منهم. وقد قال الإمام السجّاد (علیه السلام) أيضاً: يا نعمان فما بقي أحد منهم إلّا وقد ألقى علينا ما أراد من التراب والأحجار والأخشاب.

6- أخذونا إلى سوق النخاسين وأرادوا أن يبيعونا كما يبيعوا العبيد والجواري لو لا أنّ الله عزّوجلّ حال دون ذلك.

7- جعلونا في دار لم يكن لها سقف، فكانت لا تقينا من الحرّ والبرد(1).

واعتذر لنا عند زوجتك لأنّها عتبت علينا

قال المجلسي (قدّس سرّه): رأيت في بعض مؤلفات أصحابنا روى أنّ رجلا مؤمناً من أكابر بلاد بلخ كان يحج البيت ويزور النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في أكثر الأعوام، وكان يأتي عليّ بن الحسين (علیه السلام) ويزوره ويحمل إليه الهدايا والتحف، ويأخذ مصالح دينه منه، ثمّ يرجع إلى بلاده.

فقالت له زوجته: أراك تهدي تحفاً كثيرة لسيّدك ومولاك يا هذا، ولا أراه يجازيك عنها بشيء. فقال: إنّ الرجل الذي نهدي إليه هدايانا هو

ص: 142


1- تذكرة الشهداء للملّا حبيب الله الكاشاني ص 412.

ملك الدنيا والآخرة، وجميع ما في أيدي الناس تحت ملكه، لأنّه خليفة الله في أرضه وحجّته على عباده، وهو ابن رسول الله وإمامنا. فلمّا سمعت ذلك منه أمسكت وسكنت عن ملامته.

ثمّ إنّ الرجل تهيّأ للحجّ مرّة أخرى في السنة القابلة، وقصد دارعليّ بن الحسين (علیه السلام)، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل فسلّم عليه وقبّل يديه ووجد بين يديه طعاماً، فقرّبه إليه وأمره بالأكل معه، فأكل الرجل، ثمّ دعا بطشت وإبريق فيه ماء. فقام الرجل وأخذ الإبريق وصبّ الماء على يدي الإمام، فقال (علیه السلام): يا شيخ! أنت ضيفنا فكيف تصبّ على يدي الماء فقال: إنّي أحبّ ذلك. فقال الإمام (علیه السلام): فإذا أنت تحبّ ذلك، فأنا والله لأرينّك ما تحبّ وترضى وتقرّ به عيناك.

فصبّ الرجل على يديه الماء حتى امتلأ ثلث الطشت، فقال الإمام (علیه السلام) للرجل: ما هذا؟ فقال: ماء. قال الإمام (علیه السلام): بل هو ياقوت أحمر، فنظر الرجل فإذا هو قد صار ياقوتاً أحمر بإذن الله تعالى. ثمّ قال: يا رجل! صبّ الماء، فصبّ حتى امتلأ ثلثا الطشت، فقال: ما هذا؟ قال: هذا ماء. فقال (علیه السلام): بل هذا زمرّد أخضر، فنظر الرجل فإذا هو زمرّد أخضر. ثمّ قال (علیه السلام): صبّ الماء، فصبّ حتى امتلأ الطشت، فقال: ما هذا؟ قال: هذا ماء. قال (علیه السلام): بل هذا درّ أبيض، فنظر الرجل فإذا هو درّ أبيض، فامتلأ الطشت من ثلاثة ألوان ; درّ وياقوت وزمرّد، فتعجّب الرجل وانكبّ على يديه (علیه السلام) يقبّلهما.

ص: 143

فقال (علیه السلام): يا شيخ! لم يكن عندنا شيء نكافيك على هداياك إلينا، فخذ هذه الجواهر عوضاً عن هديّتك واعتذر لنا عند زوجتك لأنّها عتبت علينا. فأطرق الرجل رأسه وقال: يا سيّدي! من أنبأك بكلام زوجتي، فلا أشكّ أنّك من أهل بيت النبوّة. ثمّ إنّ الرجل ودّع الإمام (علیه السلام) وأخذ الجواهر معه وسار بها إلى زوجته وحدّثها بالقصّة، فسجدت لله شكراً وأقسمت على بعلها بالله العظيم أن يحملها معه إليه (علیه السلام).

فلمّا تجهّز بعلها للحج في السنة القابلة أخذها معه، فمرضت في الطريق وماتت قريباً من المدينة. فأتى الرجل الإمام (علیه السلام) باكياً وأخبره بموتها، فقام الإمام (علیه السلام) وصلّى ركعتين ودعا الله سبحانه بدعوات، ثمّ التفت إلى الرجل وقال له: إرجع إلى زوجتك فإنّ الله عزّوجلّ قد أحياها بقدرته وحكمته وهو يحيي العظام وهي رميم. فقام الرجل مسرعاً، فلمّا دخل خيمته وجد زوجته جالسة في غاية الصحّة، فقال لها: كيف أحياك الله؟ قالت: والله لقد جاءني ملك الموت وقبض روحي، وهمّ أن يصعد بها، فإذا أنا برجل صفته كذا وكذا، وجعلت تعدّ أوصافه (علیه السلام) وبعلها يقول: نعم، صدقت هذه صفته، سيّدي ومولاي عليّ بن الحسين (علیه السلام). قالت: فلمّا رآه ملكالموت مقبلاً، إنكبّ على قدميه يقبّلهما ويقول: السلام عليك يا حجّة الله في أرضه، السلام عليك يا زين العابدين. فردّ (علیه السلام) وقال له: يا ملك الموت! أعد روح هذه المرأة إلى جسدها، فإنّها كانت قاصدة إلينا، وإنّي قد سألت ربي أن يبقيها ثلاثين سنة أخرى، ويحييها حياة طيّبة

ص: 144

لقدومها إلينا زائرة لنا. فقال الملك: سمعاً وطاعة لك يا وليّ الله، ثمّ أعاد روحي إلى جسدي، وأنا أنظر إلى ملك الموت قد قبّل يده (علیه السلام) وخرج عنّي.

فأخذ الرجل بيده زوجته وأدخلها إليه (علیه السلام) وهو مابين أصحابه، فانكبّت على ركبتيه تقبّلهما وهي تقول: هذا والله سيّدي ومولاي، وهذا هو الذي أحياني الله ببركة دعائه. قال: فلم تزل المرأة مع بعلها مجاورين عند الإمام (علیه السلام) بقيّة أعمارهما إلى أن ماتا رحمة الله عليهما.

ومن معجزاته ما روى البرسي في (مشارق الأنوار) أنّ رجلاً قال لعليّ بن الحسين (علیه السلام): بماذا فضّلنا على أعدائنا وفيهم من هو أجمل منّا؟ فقال له الإمام (علیه السلام): أتحبّ أن ترى فضلك عليهم؟ فقال: نعم. فمسح يده على وجهه وقال: أنظر، فنظر فاضطرب وقال: جعلت فداك ردّني إلى ما كنت، فإنّي لم أر في المسجد إلاّ دبّاً وقرداً وكلباً، فمسح يده على وجهه فعاد إلى حاله.

وهل يعدّ البكاء إلاّ للمصائب والمحن الكبار

ومن معجزاته (علیه السلام) ما روي عن الزهري قال: كنت عند عليّ بن الحسين (علیه السلام) فجاءه رجل من أصحابه فقال له عليّ بن الحسين (علیه السلام): ما خبرك أيها الرجل؟ فقال الرجل: خبري يابن رسول الله أنّي أصبحت

ص: 145

وعليّ أربع مائة دينار دين لا قضاء عندي لها، ولي عيال ثقال ليس لي ما أعود عليهم به.

قال: فبكى عليّ بن الحسين (علیه السلام) بكاءاً شديداً، فقلت له: ما يبكيك يابن رسول الله؟ فقال: وهل يعدّ البكاء إلاّ للمصائب والمحن الكبار. قالوا: كذلك يابن رسول الله، قال: فأيّة محنة ومصيبة أعظم على حرّ مؤمن من أن يرى بأخيه المؤمن خلّة فلا يمكنه سدّها، ويشاهده على فاقة فلا يطيق رفعها.قال: فتفرّقوا عن مجلسهم ذلك، فقال بعض المخالفين وهو يطعن على عليّ بن الحسين (علیه السلام): عجباً لهؤلاء يدعون مرّة أنّ السماء والأرض وكلّ شيء يطيعهم وأنّ الله لا يردّهم عن شيء من طلباتهم، ثمّ يعترفون أخرى بالعجز عن إصلاح خواصّ إخوانهم. فاتّصل ذلك بالرجل صاحب القصة، فجاء عليّ بن الحسين (علیه السلام) فقال له: يابن رسول الله! بلغني عن فلان كذا وكذا، وكان ذلك أغلظ عليّ من محنتي.

فقال عليّ بن الحسين (علیه السلام): فقد أذن الله في فرجك، يا فلانة! احملي سحوري وفطوري، فحملت قرصين، فقال عليّ بن الحسين (علیه السلام) للرجل: فليس عندنا غيرهما، فإنّ الله يكشف عنك بهما وينبيك خيراً. فأخذهما الرجل ودخل السوق لا يدري ما يصنع بهما، ويتفكر في ثقل دينه وسوء حاله وحال عياله، ويوسوس إليه الشيطان: أين موقع هاتين من حاجتك؟ فمرّ بسمّاك قد بارت عليه سمكته قد أراحت، فقال له:

ص: 146

سمكتك هذه بائرة عليك وإحدى قرصتي هاتين بائرة عليّ، فهل لك أن تعطيني سمكتك البائرة وتأخذ قرصتي هذه البائرة؟ فقال: نعم، فأعطاه السمكة وأخذ القرصة. فمرّ برجل معه ملح قليل مزهود فيه، فقال: هل لك أن تعطيني ملحك هذا المزهود فيه؟ قال: نعم، ففعل ذلك، فجاء الرجل بالسمكة والملح، فقال: أصلح هذه بهذا، فلمّا شقّ بطن السمكة وجد فيه لؤلؤتين فاخرتين، فحمد الله عليهما.

فبينما هو في سروره ذلك إذ قرع بابه، فخرج ينظر من بالباب، فإذا صاحب السمكة وصاحب الملح قد جاءا يقول كلّ واحد منهما له: يا عبدالله! جهدنا أن يأكل واحد من عيالنا هذا القرص، فلم تعمل فيه أسناناً، وما نظنّك إلاّ وقد تناهيت في سوء الحال، قد رددنا إليك هذا الخبز، وطيّبنا لك ما أخذته، فأخذ القرصتين منهما، فلمّا استقرّ بعد انصرافهما عنه قرع بابه، فإذا رسول عليّ بن الحسين (علیه السلام)، فدخل فقال: إنّ زين العابدين (علیه السلام) يقول لك: إنّ الله قد أتاك بالفرج، فاردد إلينا طعامنا، فإنّه لا يأكله غيرنا.

وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه، وحسنت بعد ذلك أحواله، فقال بعض المخالفين: ما أشدّ هذا التفاوت ; بينا عليّ بن الحسين لا يقدر أن يسدّ منه فاقة إذا أغناه هذا الغناء العظيم،كيف يكون هذا؟ وكيف يعجز عن سدّ الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم؟! فقال عليّ بن الحسين (علیه السلام): هكذا قالت قريش للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم): كيف يمضي إلى

ص: 147

بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة من لا يقدر أن يبلغ من مكّة إلى المدينة إلاّ في إثنى عشر يوماً، وذلك حين هاجر منها. ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیه السلام): جهلوا والله أمر الله، وأمر الله أوليائه معه أنّ المراتب الرفيعة لا تنال إلاّ بالتسليم لله جلّ ثناؤه، وترك الإقتراح عليه، والرضا بما يدبّرهم به، إنّ أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عزّوجلّ عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنّهم مع ذلك لا يريدون منه إلاّ ما يريده لهم.

نعم، هكذا كانوا مع أنّ الله جازاهم على صبرهم على المكاره والمحن نجح طلباتهم، لا يطلبون من الله إلاّ ما يريده (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)»«لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(1) كما قال الحسين (علیه السلام): رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين.

علم زين العابدين (علیه السلام) بأنّ الله شاء أن يراه أسيراً في أيدي الأعادي محمولاً على بعير أضلع والجامعة في عنقه والقيد في رجليه، يسار به من كربلا إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام، رضي بذلك وسلّم الأمر إلى الله، بأبي وأمّي سمع منه في أسواق الشام يقول:

أقاد ذليلاً في دمشق كأنّني *** من الزنج عبد غاب عنه نصير

ص: 148


1- سورة الأنبياء، الآيتان 26 و 27.

الإمام زين العابدين (علیه السلام) مع الشيخ الشامي

بعد أن أقيم السبي على درج باب المسجد، إذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم، وقال: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم!".

قال له الإمام زين العابدين (علیه السلام): "يا شيخ هل قرأت القران؟".

فقال: "نعم قرأته".قال (علیه السلام): "فعرفت هذه (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(1)؟".

قال الشيخ: "قرأت ذلك..".

فقال (علیه السلام): "فنحن القربى يا شيخ! فهل قرأت في "بني إسرائيل" (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (2)؟".

فقال الشيخ: "قد قرأت ذلك..".

قال (علیه السلام): "نحن القربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)(3)؟ فنحن ذو القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )(4) ؟".

ص: 149


1- سورة الشورى، الآية 23.
2- سورة الإسراء، الآية 26.
3- سورة الأنفال، الآية 41.
4- سورة الأحزاب، الآية 33.

فقال الشيخ: "قد قرأت ذلك".

فقال (علیه السلام): "فنحن أهل البيت الذين خُصِصنا باية الطهارة..".

فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك من عدو ال محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، من الجن والانس، ثم قال: هل لي من توبة؟".

فقال (علیه السلام): "نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا..".

فقال: "أنا تائب..".

فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر بقتله(1).

حتى بعث سمّاً قتّالاً

فلمّا هلك عبدالملك وجلس ابنه اللّعين وليد بن عبدالملك على سرير الخلافة، جعل يحتال في قتل إمامنا زين العابدين (علیه السلام)، حتى بعث سمّاً قتّالاً إلى والي المدينة، وأمره أن يسقي زين العابدين ذلك السمّ، ويقتله بالسمّ سرّاً، ففعل الوالي، فلمّا سقى إمامنا زينالعابدين (علیه السلام) مرض مرضاً شديداً(2).

ص: 150


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 - الصفحة 129.
2- نور الابصار للمازندراني المجلس الثالث.

وقد غلب عليه الضعف إذ مرّ به شخص له هيبة وجلال

في بعض التواريخ: فرشوا له بساطاً على باب داره قبل وفاته بيوم، ووضعوا له وسادة، وكان متّكأ على وسادته، وقد غلب عليه الضعف إذ مرّ به شخص له هيبة وجلال، وجعل زين العابدين (علیه السلام) ينظر إليه حتّى غاب عن عينه، فقال لولده الباقر (علیه السلام): ولدي! عرفت هذا الشخص الذي مرّ عليّ وهو ينظر وكنت أنظر إليه؟ قال: لا يا أبتاه. قال: كان سيدي وأبي الحسين (علیه السلام) مرّ بي وهو يقول: ولدي! عجّل، فإنّا منتظروك، فما أمامك خير الخ. ويغشى عليه ساعة بعد ساعة حتى كانت ليلة وفاته وهي الليلة الخامسة والعشرون أو الثانية والعشرون أو الثامنة عشرة من المحرم، غشي عليه في تلك الليلة ثلاث مرّات، فلمّا أفاق من غشيته الأخرى تلا هذه الآية: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )(1) ثمّ دعا بولده الباقر (علیه السلام)، وأوصى إليه، فأوّل ما أوصاه به هذه الوصية: قال الباقر (علیه السلام): ضمّني أبي إلى صدره الشريف وقال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي الحسين (علیه السلام) حين حضرته الوفاة وقال: إنّ أباه أوصاه به قال: يا بني! إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله، ثمّ قال: يا بني! ائتني بوضوء، قال: فجئته بوضوء، قال: لا أبغي هذا، فإنّ فيه ميتة. قال:

ص: 151


1- سورة الزمر، الآية 74.

فخرجت وجئت بالمصباح فإذا فيه فارة ميتة، فجئته بوضوء غيره فتوضّأ وقال: يا بني! هذه الليلة هي الليلة وعدتها، فإذا قضيت نحبي فغسّلني وحنّطني وكفّنّي وادفنّي(1).

وأوصيك بناقتي أن تربطها في الحظيرة

وأوصيك بناقتي أن تربطها في الحظيرة وتجعل لها علفاً، ولقدحججت على ناقتي هذه عشرين حجة فما قرعتها بسوط قرعة، فإذا نفقت فادفنها لئلاّ تأكل السّباع لحمها، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلاّ جعله الله من نعم الجنّة وبارك في نسله.

يا للمصيبة! أفمن يوصي بدفن ناقته، فكيف بحاله يوم رأى ذلك الجسد الطيّب الطّاهر جسد أبيه الحسين (علیه السلام) طريحاً عارياً بلا غسل ولا كفن ولا دفن:

ملقىً ثلاثاً بلا غسل ولا كفن *** تُرْبُ الفلا والدما الأكفان والغسل

ما غسّلوه ولا لفّوه في كفن *** يوم الطّفوف ولا مدّوا عليه ردا(2)

ص: 152


1- نور الابصار للمازندراني المجلس الثالث.
2- نور الابصار للمازندراني.

الوصية

ثمّ أوصاه بجميع وصاياه وأتي بشراب، فقيل له: أشرب، فقال (علیه السلام): هذه ويغشى عليه ساعة بعد ساعة حتى كانت ليلة وفاته وهي الليلة الخامسة والعشرون أو الثانية والعشرون أو الثامنة عشرة من المحرم، غشي عليه في تلك الليلة ثلاث مرّات، فلمّا أفاق من غشيته الأخرى تلا هذه الآية: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)(1) ثمّ دعا بولده الباقر (علیه السلام)، وأوصى إليه، فأوّل ما أوصاه به هذه الوصية: قال الباقر (علیه السلام): ضمّني أبي إلى صدره الشريف وقال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي الحسين (علیه السلام) حين حضرته الوفاة وقال: إنّ أباه أوصاه به قال: يا بني! إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله، ثمّ قال: يا بني! ائتني بوضوء، قال: فجئته بوضوء، قال: لا أبغي هذا، فإنّ فيه ميتة. قال: فخرجت وجئت بالمصباح فإذا فيه فارة ميتة، فجئته بوضوء غيره فتوضّأ وقال: يا بني! هذه الليلة هي الليلة وعدتها، فإذا قضيت نحبي فغسّلني وحنّطني وكفّنّي وادفنّي، وأوصيك بناقتي أن تربطها في الحظيرة وتجعل لها علفاً، ولقد حججت على ناقتي هذه عشرينحجة فما قرعتها بسوط قرعة، فإذا نفقت فادفنها لئلاّ تأكل السّباع لحمها، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: ما

ص: 153


1- سورة الزمر، الآية 74.

من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلاّ جعله الله من نعم الجنّة وبارك في نسله.

يا للمصيبة! أفمن يوصي بدفن ناقته، فكيف بحاله يوم رأى ذلك الجسد الطيّب الطّاهر جسد أبيه الحسين (علیه السلام) طريحاً عارياً بلا غسل ولا كفن ولا دفن:

ملقىً ثلاثاً بلا غسل ولا كفن *** تُرْبُ الفلا والدما الأكفان والغسل

ما غسّلوه ولا لفّوه في كفن *** يوم الطّفوف ولا مدّوا عليه ردا

ثمّ أوصاه بجميع وصاياه وأتي بشراب، فقيل له: أشرب، فقال (علیه السلام): هذه الليلة التي وعدت أن أقبض فيها، فلمّا شرب فارقت روحه الشريفة(1).

وغسّل أباه وحنّطه ثمّ كفّنه وحمل جنازته

قام الباقر (علیه السلام) وغسّل أباه وحنّطه ثمّ كفّنه وحمل جنازته، ولم يبق رجل ولا امرأة ولا البرّ ولا الفاجر ولا صالح ولا طالح إلاّ وخرج وشهد جنازة عليّ بن الحسين (علیه السلام)، فلمّا جاؤا به إلى البقيع ووضعوه على الأرض، قام الباقر (علیه السلام) ليصلّي عليه. قال الراوي: فلمّا كبّر جاء تكبير من السماء وأجابه تكبير من الأرض وكبّر من في السماء سبعاً ومن في

ص: 154


1- نور الابصار للمازندراني المجلس الثالث.

الأرض سبعاً. نعم، صلّت ملائكة السماوات والأرضين على إمامنا زين العابدين (علیه السلام) كما أنّهم صلّوا على جسد الحسين (علیه السلام) على ما في خبر أمّ أيمن: فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرّد مملوّة من ماء الحياة، وحلل من حلل الجنّة، وطيب من طيب الجنّة، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء، وألبسوها الحلل، وحنّطوها بذلك الطيب وصلّى الملائكة صفاً صفاً عليهم، ولنعم ما قال الراثي مخاطباً للحسين (علیه السلام):

ما إن بقيت من الهوان على الثّرى *** ملقى ثلاثاً في ربى ووهاد

لكن لكي تقضي عليك صلاتها *** زمر الملائك فوق سبع شداد

وأمّا من الآدميّين، فما صلّى عليه أحد غير بني أسد كما في الخبر أنّ بني أسد كانوا يفتخرون على قبائل العرب بأنّا صلّينا على الحسين وأصحابه ودفنّاهم. تبّاً وتعساً لقوم قتلوا ابن بنت نبيّهم وتركوه طريحاً جريحاً عارياً بلا غسل ولا كفن وما صلّوا عليه بل كبّروا لقتله كما قال الراثي:

ويكبّرون بأن قتلت وإنّما *** قتلوا بك التكبير والتهليلا

متى كبّروا؟ حين أنّ الشمر فرّق بين رأس الحسين (علیه السلام) وجسده كبّر اللعين وكبّر أهل الكوفة ثلاثاً. الليلة التي وعدت أن أقبض فيها، فلمّا

ص: 155

شرب فارقت روحه الشريفة.

قام الباقر (علیه السلام) وغسّل أباه وحنّطه ثمّ كفّنه وحمل جنازته، ولم يبق رجل ولا امرأة ولا البرّ ولا الفاجر ولا صالح ولا طالح إلاّ وخرج وشهد جنازة عليّ بن الحسين (علیه السلام)، فلمّا جاؤا به إلى البقيع ووضعوه على الأرض، قام الباقر (علیه السلام) ليصلّي عليه. قال الراوي: فلمّا كبّر جاء تكبير من السماء وأجابه تكبير من الأرض وكبّر من في السماء سبعاً ومن في الأرض سبعاً. نعم، صلّت ملائكة السماوات والأرضين على إمامنا زين العابدين (علیه السلام) كما أنّهم صلّوا على جسد الحسين (علیه السلام) على ما في خبر أمّ أيمن: فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرّد مملوّة من ماء الحياة، وحلل من حلل الجنّة، وطيب من طيب الجنّة، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء، وألبسوها الحلل، وحنّطوها بذلك الطيب وصلّى الملائكة صفاً صفاً عليهم، ولنعم ما قال الراثي مخاطباً للحسين (علیه السلام):

ما إن بقيت من الهوان على الثّرى *** ملقى ثلاثاً في ربى ووهاد

لكن لكي تقضي عليك صلاتها *** زمر الملائك فوق سبع شداد

وأمّا من الآدميّين، فما صلّى عليه أحد غير بني أسد كما فيالخبر أنّ بني أسد كانوا يفتخرون على قبائل العرب بأنّا صلّينا على الحسين وأصحابه ودفنّاهم. تبّاً وتعساً لقوم قتلوا ابن بنت نبيّهم وتركوه طريحاً

ص: 156

جريحاً عارياً بلا غسل ولا كفن وما صلّوا عليه بل كبّروا لقتله كما قال الراثي:

ويكبّرون بأن قتلت وإنّما *** قتلوا بك التكبير والتهليلا

متى كبّروا؟ حين أنّ الشمر فرّق بين رأس الحسين (علیه السلام) وجسده كبّر اللعين وكبّر أهل الكوفة ثلاثاً. والحاصل، فلمّا فرغ إمامنا الباقر (علیه السلام) من الصلاة على أبيه، دفنه مع عمّه الحسن (علیه السلام)، فلمّا دفن زين العابدين (علیه السلام)، فلم تلبث أن خرجت الناقة إلى القبر، فضربت بجبرانها الأرض ورغت رغاءً عالياً وهملت عيناها، فأخبر بذلك الباقر (علیه السلام)، وقال لها: مه الآن وقومي بارك الله فيك، فقامت ودخلت موضعها، فما مضت إلاّ هنيئة إذ خرجت الناقة ثانية ورغت رغاءً عالياً وضربت بجبرانها القبر وهملت عيناها، فأخبر الباقر (علیه السلام) ثانية، فقال (علیه السلام): دعوها، فإنّها مودعة، فلم تلبث إلاّ ثلاثة أيام حتى نفقت وماتت، فأمر الباقر (علیه السلام) بدفنها، فدفنت.

وأعجب ممّا فعلت هذه الناقة ممّا فعل جواد الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء، لأنّه فعل فعلاً أعجب كلّ من حضر، وآخر ما فعل أن جعل يضرب برأسه الأرض عند باب الخيمة، ولم يزل يضرب حتى وقع ومات الخ.

ص: 157

ص: 158

مصائب الامام محمد الباقر (علیه السلام)

اشارة

ص: 159

ص: 160

ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد

روي أن أبا جعفر محمد ابن علي الباقر (علیه السلام) قال لبعض أصحابه: يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤد حتى قتل. فبويع الحسن ابنه وعوهد، ثم غدر به، واسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه وانتهب عسكره، وعولجت خلاخيل امهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل. ثم بايع الحسين (علیه السلام) من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم فقتلوه. ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصي ونمتهن، ونحرم ونقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أولياءنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله ولم نفعله ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية، بعد موت الحسين (علیه السلام) فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي

ص: 161

والأرجل على الظنة، وكان من ذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (علیه السلام) ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئا منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع(1).

باب شهادته (علیه السلام)

1- قال الكلينى: قبض أبو جعفر (علیه السلام) سنة اربع عشر ومائة وولد سنة سبع وخمسون سنة ودفن بالبقيع بالمدينة فى القبر الذي دفن فيه أبوه على بن الحسين (علیه السلام)(2).

2- قال الشيخ المفيد (رضوان الله عليه): قبض (علیه السلام) بالمدينة سنة أربع عشرة ومائة وسنه يومئذ سبع وخمسون سنة، قبره بالبقيع من مدينه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)(3).

ص: 162


1- بحار الأنوار / جزء 44 / صفحة [ 68].
2- الكافى: 1/ 469.
3- الارشاد: 245.

3- قال ابو جعفر الطبرى الامامى: قبض ابو جعفر محمّد الباقر (علیه السلام) فى أول ملك ابراهيم فى شهر ربيع الاول سنة مائة وأربع عشرة من الهجرة، فكانت ايام امامته تسع عشر سنة وشهرين وصار الى كرامة الله سبحانه وقد كمل عمره سبعا وخمسين سنة وكان سبب وفاته ان ابراهيم بن الوليد سمه، ودفن بالبقيع مع ابيه وعم أبيه الحسن (علیهم السلام)(1).

4- قال الشيخ ابو جعفر الطوسى: قبض أبو جعفر الباقر (علیه السلام) بالمدينة سنة أربع عشرة ومائة وكان سنّه يومئذ سبعا وخمسين سنة(2).

5- قال الطبرسى: قبض الامام الباقر (علیه السلام) سنة أربع عشرة ومائة من ذى الحجة وقيل فى شهر ربيع الأول وقد تمّ عمره سبعا وخمسين سنة وقبره بالبقيع من مدينة الرسول الى جانب ابيه زين العابدين وعم ابيه الحسن بن على (علیهم السلام).

فعاش مع جده الحسين (علیه السلام) اربع سنين ومع ابيه تسعا وثلاثين وكانت مدة امامته ثمانى عشرة سنة، وكان فى ايام امامته بقية ملك الوليد بن عبد الملك وملك سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبدالعزيز ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك وتوفى فى ملكه(3).

6- قال الفتال النيسابوريّ: قبض الباقر (علیه السلام) بالمدينة فى ذى الحجة

ص: 163


1- دلائل الامامة: 94.
2- التهذيب: 6/ 77.
3- اعلام الورى: 259.

ويقال فى شهر ربيع الاول ويقال فى شهر ربيع الآخر سنة اربع عشرة ومائة من الهجرة وله يومئذ سبع وخمسون سنة(1).

انى لست بميت من وجعى هذا

الصفار، حدّثنا محمّد بن عبد الجبار، عن محمّد بن اسماعيل، عن على بن السمان عن عمر بن مسلم صاحب الهروى عن سدير قال: سمعت ابا عبد الله (علیه السلام) يقول:إنّ أبى مرض مرضا شديدا حتّى خفنا عليه، فبكا بعض أهله عند رأسه فنظر، فقال: انى لست بميت من وجعى هذا. إنه أتانى اثنان فأخبرانى أنى لست بميت من وجعى هذا، قال: فبرأ ومكث ما شاء الله أن يمكث، فبينا هو صحيح ليس به بأس، قال: يا بنىّ إنّ الذين أتيانى من وجعى ذلك أتيانى، فأخبرانى أنى ميّت يوم كذا وكذا، قال: فمات فى ذلك اليوم(2).

يا بنيّ إن هذه الليلة الّتي اقبض فيها

عن الحسن بن على بن عقبة، قال: حدثني جدّى عن أبى عبد الله (علیه السلام)، أنه أتى أبا جعفر بليلة قبض وهو يناجى فأومأ إليه بيده ان تأخر، فتأخر

ص: 164


1- روضة الواعظين: 177.
2- بصائر الدرجات: 482.

حتى فرغ من المناجاة، ثم أتاه، فقال: يا بنيّ إن هذه الليلة الّتي اقبض فيها وهى الليلة الّتي قبض فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال: وحدثني أن أباه على بن الحسين أتاه بشراب فى اللّيلة الّتي قبض فيها وقال: اشرب هذا، فقال: يا بنيّ إن هذا الليلة الّتي وعدت أن اقبض فيها، فقبض فيها(1).

اني لأعرف الشجرة التي قد عمل منها السرج

دخل زيد بن عليّ بن الحسين (علیه السلام) على هشام، فقال اللعين: يا زيد! ما فعل أخوك البقرة. فقال زيد: سمّاه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) باقر العلم وأنت تسمّيه بقرة؟! إذاً لاختلفتما، ولم يزل اللعين مغتاظاً ويحتال في قتل أبي جعفر حتى أرسل إليه بسرج فرس قد عمل فيه السمّ على يدي زيد بن الحسن، فلمّا أتي به قال (علیه السلام): ويحك يازيد! ما أعظم ما أتيت به وما يجري على يديك؟! إنّي لأعرف الشجرة التي قد عمل منها السرج، ولكن هكذا قدّر، فويل لمن أجرى الله على يديه الشر، فأسرج له فركب، فلمّا نزل تورّم جسده، فأمر بأكفان له، وكان فيه ثوب أبيض أحرم فيه وقال: اجعلوه في أكفاني، وعاش ثلاثاً ثمّ مضى لسبيله(2).

ص: 165


1- بصائر الدرجات: 482.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 46 - الصفحة 296.

وذلك السرج عندنا معلّق

قال الصادق (علیه السلام): وذلك السرج عندنا معلّق ليكون حاضراً يوم ينتقم من الكافر. وشبيه ذلك السرج، القميص الذي سلب من الحسين (علیه السلام) وهو أيضاً معلّق وتنظر إليه فاطمة كلّ يوم وتصرخ إذا كان يوم القيامة(1).

كان كلّ واحد منّا مغلولة يده إلى عنقه

في نور الابصار المجلس الثاني

قال الباقر (علیه السلام): تي بنا يزيد بن معاوية بعد ما قتل الحسين ونحن إثنا عشر غلاما وكان أكبرنا يومئذ علي بن الحسين، فأدخلنا عليه، وكان كل واحد منا مغلولة يده إلى عنقه، فقال لنا: أحرزت أنفسكمعبيد أهل العراق، وما علمت بخروج أبي عبد الله ولا بقتله(2).

وهنّ مربّقات بحبل طويل

وفي الأنوار النعمانيّة: أدخلوهنّ وهنّ مربّقات بحبل طويل، وزجر بن قيس يجرّهنّ، وقال عليّ بن الحسين (علیه السلام): أدخلونا على يزيد الخ(3).

ص: 166


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 46 - الصفحة 331.
2- موسوعة شهادة المعصومين (علیهم السلام) - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (علیه السلام) - ج 2 - الصفحة 369.
3- موسوعة كربلاء - الصفحة 456.

ناداني من وراء الجدار: يا محمّد! عجّل

في نور الابصار المجلس الثالث

الليلة التي أقبض فيها، لأنّي سمعت صوت أبي زين العابدين (علیه السلام) ناداني من وراء الجدار: يا محمّد! عجّل، وأتاني بشراب وقال: إشرب هذا.

أقول: ونودي الحسين (علیه السلام) أيضاً في يوم عاشوراء بمثل هذا النداء وجيء بشراب ليشرب بمثل هذا الشراب كما قال شبيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عليّ الأكبر (علیه السلام) لمّا سقط من على ظهر جواده، نادى: يا أبه! هذا جدّي قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً وإنّ لك كأساً مذخورة تشربها الساعة، وهو يقرؤك السلام ويقول لك: العجل(1).

وكفّنّي في ثلاثة أثواب

ثمّ إنّ الباقر (علیه السلام) أوصى بجميع وصاياه لولده وقال: ولدي إذا أنا قضيت نحبي، فغسّلني وحنّطني وكفّنّي في ثلاثة أثواب ; أحدها رداء له حبرة كان يصلّي فيه يوم الجمعة، وثوب آخر وقميص، وعمّمني بعمامة، وليس تعدّ العمامة من الكفن.

يكفّن الباقر (علیه السلام) في ثلاثة أثواب أو أربع والحسين (علیه السلام) دفن بلا كفن:

ص: 167


1- نور الابصار المجلس الثالث.

غسّلته دماؤه قلبّته أرجل *** الخيل كفّنته الرمول

النوادب تندبني عشر سنين بمنى

وممّا أوصى به الباقر (علیه السلام) أن قال: ولدي جعفر! أوقف لي من مالي كذا وكذا النوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى.

والحسين (علیه السلام) أوصى بأن تندبه شيعته وقال:

شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني *** أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني

فلمّا أكمل وصيته تهيّأ للقاء ربّه ; غمّض عينيه، ومدّ يديه ورجليه، عرق جبينه، وسكن أنينه، وفارقت روحه الطيّبة. فقام الصادق (علیه السلام) لتجهيزه فغسّله وحنّطه وكفّنه وصلّى عليه.

الملائكة تغسّله في البقيع

قيل: إنّ رجلاً كان على أميال من المدينة، فرأى في منامه قيل له: انطلق وصلّ على أبي جعفر الباقر (علیه السلام)، فإنّ الملائكة تغسّله في البقيع. فجاء الرجل فوجد أبا جعفر قد توفّي، فوقف حتى صلّى عليه.

ثمّ إنّ الصادق (علیه السلام) بعد ما صلّى عليه، دفنه عند والده زين العابدين (علیه السلام)، ورثاه زيد بن عليّ بن الحسين (علیه السلام):

ثوى باقر العلم في ملحد ***إمام الورى طيّب المولد

ص: 168

فمن لي سوى جعفر بعده *** إمام الورى الأوحد الأمجد

أبا جعفر الخير أنت الإمام *** وأنت المرجّى لبلوى غد

والآخر يقول:

إذا غاب بدر الدجى فانظرن *** إلى ابن النبي أبي جعفر

ترى خلفاً منه يرزى به *** وبالفرقدين وبالمشتري

إمام ولكن بلا شيعة *** ولا بمصلّى ولا منبر

اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا.

توفي أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين (علیه السلام) بالمدينة يومالإثنين سابع ذي الحجة سنة أربع عشرة ومائة وله سبع وخمسون سنة، وقبره في البقيع مع والده وعمّه الحسن (علیه السلام) في القبّة التي فيها العباس، وأوصى بل وكتب أن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن يربع قبره ويرفع أربعة أصابع، وأوصى بثمان مائة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السنّة، لأنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا.

نعم، اتخاذ الطعام للمصابين سنّة، ولا سيّما أيام اشتغالهم بالبكاء على فقيدهم، وأهل الكوفة أرادوا أن يعملوا بهذه السنّة حيث أطعموا آل الرسول وأيتام أبي عبدالله (علیه السلام) بعض التمر والخبز والجوز.

ص: 169

ممّ كان بكاؤك وأنت تُغسّل أباك

عن جابر الجعفي قال: لمّا جرّد مولاي محمَّدٌ الباقر مولاي عليَّ بنَ الحسين (علیهم السلام) ثيابه ووضعه على المُغتسل، وكان قد ضرب دونه حجاباً، سمعتُه ينشج ويبكي حتّى أطال ذلك، فأمهلته عن السّؤال حتّى إذا فرغ من غسله ودفنه فأتيت إليه وسلّمت عليه، وقلتُ له: جُعلت فداك! ممّ كان بكاؤك وأنت تُغسّل أباك؟ أكان ذلك حُزناً عليه؟ قال: «لا يا جابر، لكن لمّا جرّدت أبي ثيابه ووضعته على المُغتسل، رأيت آثار الجامعة في عُنقه، وآثارَ جُرحِ القيد في ساقيه وفخذيه، فأخذتني الرّقة لذلك وبكيت».

ص: 170

مصائب الامام جعفر الصادق (علیه السلام)

اشارة

ص: 171

ص: 172

في الخرائج عن الامام الرضا (علیه السلام) قال: جاء رجل إلى جعفر بن محمد (علیه السلام): فقال انج بنفسك فهذا فلان بن فلان قد وشا عليك عند المنصور وذكر أنك تأخذ البيعة لنفسك على الناس لتخرج عليه، فتبسم (علیه السلام) وقال: يا عبد الله لا ترع فإن الله تعالى إذا أراد إظهار فضيلة كتمت أو حجة جحدت أثار عليها حاسدا باغيا حتى تشاهد فيحركها حتى يبينها، اقعد معي حتى يأتيني الطلب فتمضي معي إلى هناك تشاهد ما يمضي من قدرة الله تعالى التي لا معزل عنها لمؤمن، فجاؤوا وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرج الصادق ودخل على المنصور وقد امتلأ المنصور عليه غيظا وحنقا، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين تريد أن تفرق بين جماعتهم وتسعى في هلاكهم وتفسد ذات بينهم؟ فقال الصادق (علیه السلام): ما فعلت شيئا من هذا فقال المنصور: فهذا فلان يزعم أنك فعلت فقال (علیه السلام): إنه كاذب قال المنصور: إني أحلفه فإن حلف كفيت بنفسي مؤنتك فقال الصادق (علیه السلام): إنه إذا حلف كاذبا باء بإثمي وإثمه، فقال المنصور: حلف هذا الرجل على ما حكاه فقال الحاجب للرجل: قل والله الذي لا إله إلا هو وجعل يغلظ عليه اليمين.

فقال الصادق (علیه السلام): لا تحلفه هكذا فإني سمعت أبي (علیه السلام) يذكر عن آبائه (علیه السلام) عن جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: إن من الناس من يحلف كاذبا فيعظم الله تعالى في يمينه ويصفه بصفاته الحسنى فيأتي تعظيمه لله تعالى على إثم كذبه ويمينه فيتأخر عنه البلاء، ولكن دعني أحلفه باليمين

ص: 173

الذي حدثني أبي (علیه السلام) عن آبائي (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنه لا يحلف بها حالف إلا باء بإثمه في ساعته فقال المنصور: حلفه يا أبا عبد الله فقال الصادق للرجل: قل إن كنت كاذبا عليك فقد برئت من حول الله وقوته ولجأت إلى حولي وقوتي فقالها الرجل فقال الصادق (علیه السلام): اللهم إن كان كاذبا فأمته الساعة، فما استتم كلامه حتى سقط الرجل ميتا واحتمل ومضى إلى النار، وأقبل المنصور على الصادق وسأله عن حوائجه فقال (علیه السلام): ما لي إلا حاجة وهي أن أسرع إلى أهلي فإن قلوبهم متعلقة بي فقال: ذلك إليك فافعل ما بدا لك، فخرج من عنده مكرما قد تحير منه المنصور.

فقال بعض منهم: هذا رجل فاجأه الموت وجعل الناس يخوضون أمر ذلك الميت وينظرون إليه، وإذا هو قد استوى جالساعلى السرير والناس يخوضون في أمره فمن ذام له وحامد إذ قعد على سريره وكشف الغطاء عن وجهه وقال: أيها الناس إني لقيت ربي فتلقاني بالسخط واللعنة وأشد غضب زبانيته علي على الذي كان مني إلى جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام)، فاتقوا الله ولا تهلكوا فيه كما هلكت أنا، ثم أعاد كفنه على وجهه وعاد في موته فرأوه لا حراك به وهو ميت فدفنوه(1).

وائتني به على الحالة التي تجده عليها

وفي كتاب المهج عن علي بن يقطين عن محمد بن الربيع الحاجب

ص: 174


1- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 232.

قال: قعد المنصور يوما في قصره في القبة الخضراء وكانت قبل قتل محمد وإبراهيم تسمى الحمراء، وكان له يوما يقعد فيه ويسمى ذلك اليوم يوم الذبح، وكان قد أشخص جعفر (علیه السلام) بن محمد من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كله حتى جاء الليل ومضى أكثره قال: ثم دعا أبي، فقال: يا ربيع أنت تعرف موضعك مني وإني يكون لي الخبر ولا تظهر عليه أمهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، فقال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك من فضل الله علي وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت سر الساعة إلى جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) وائتني به على الحالة التي تجده عليها لا يغير شيئا منها، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن هذا والله هو العطب إن أتيت به على ما أراد من غضبه قتله وذهبت مني الآخرة، وإن لم آت به وداهنت في قتله قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فأنا أخير نفسي بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا.

قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظ ولده وأغلظهم قلبا فقال لي: امض إلى جعفر بن محمد الصادق بن علي (علیه السلام)، فتسلل عليه حائطه ولا تفتح له بابا فيغير ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولا وائت به على الحال التي هو فيها فأتيته وقد ذهب الليل إلا أقله، فأمرت بنصب السلاليم وتسللت عليه الحائط فنزلت عليه في داره فوجدته قائما يصلي وعليه قميص ومنديل قد اتزر به، فلماسلم من الصلاة قلت له: أجب الأمير فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي قلت: ما لي إلى ذلك من سبيل

ص: 175

قال: دعني أدخل المغتسل فأتطهر قلت: وليس إلى ذلك من سبيل فلا تشغل نفسك، فإني لا أدعك تغير شيئا فأخرجته حافيا في قميص ومنديل وكان قد تجاوز الستين.

فلما مضى بعض الطريق ضعف عن المشي فرحمته فقلت له: اركب فركب (علیه السلام) بغلا شاكريا كان معنا ثم سرنا إلى الربيع فسمعته وهو يقول: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل، وجعل يحثه استحثاثا شديدا، فلما وقعت عين الربيع على جعفر (علیه السلام) وهو على تلك الحالة بكى وكان الربيع يتشيع فقال له جعفر بن محمد (علیه السلام): يا ربيع أنا أعلم بميلك إلينا فدعني أصلي ركعتين وأدعو قال:

شأنك وما تريد، فصلي ركعتين خففهما ثم دعا بدعاء لم أفهمه لأنه دعاء طويل والمنصور في ذلك كله يستحث الربيع.

فلما فرغ من دعائه بطوله أخذ الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور، فلما سار في صحن الإيوان وقف ثم حرك شفتيه بشئ لم أدر ما هو، ثم أدخلته بين يديه فلما نظر إليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على أهل هذا البيت من بني العباس وما يزيدك الله تعالى بذلك إلا شدة حسد ونكد ما تبلغ ما تقدره فقال له والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من هذا، ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعداؤنا وأعدى الخلق علينا وعليكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الامر فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفائهم الذي كان بي،

ص: 176

وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمي وأمس الخلق رحما بي وأكثرهم عطاء وبرا فكيف أفعل هذا؟

فأطرق المنصور رأسه ساعة وكان على يساره رقعة جرمقانية، وتحت لبدته سيف ذو فقار، وكان لا يفارقه إذا قعد في القبة قال أبطلت وأثمت، ثم رفع الوسادة فأخرج صرة كتب فرمى بها إليه وقال: هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني فقال (علیه السلام): يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا استحل ذلك ولا هو من مذهبي، وإني لمن يعتقد طاعتك على كل حال، وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك، ولو أردته فصيرني فيبعض سجونك حتى تأتيني منيتي وهي مني قريب. فقال: لا ولا كرامة، ثم أطرق وضرب يده على السيف، فسل منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله الرجل ثم رد السيف ثم قال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل، وتشق عصى المسلمين، وتريد أن تريق الدماء، وتطرح الفتنة بين الأمة والأولياء.

فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي فانتضى من السيف ذراعا، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مضى الرجل، وقلت في نفسي: إن أمرني فيه بأمر لأعصينه وما ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفرا فقلت: إن أمرني ضربت عنق المنصور وإن أتى ذلك علي وعلى ولدي وتبت إلى الله عز وجل مما كنت

ص: 177

نويت أولا، فأقبل يعاتبه وهو يعتذر ثم انتضى السيف وأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال: أظنك صادقا يا ربيع هات العيبة من موضع كذا، فأتيته بها فقال: ادخل يدك فيها وأخرجها مملوءة غالية ووضعها في لحيته، ففعلت ذلك وكانت لحيته (علیه السلام) بيضاء فاسودت، وقال لي: أركبه دابتي التي كنت أركبها، وأعطه عشرة آلاف درهم وشيعه إلى منزله مكرما، وخيره إذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه أو الانصراف إلى مدينة جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح بسلامة جعفر (علیه السلام) وهو متعجب مما أراد المنصور وما صار إليه من أمره، فلما صرنا في الصحن قلت له: يا بن رسول الله إني لأعجب مما عهد إلي هذا اللعين من شأنك وما جعلك الله إليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر الله عز وجل وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو، فقال لي: أما الأول فدعاء الكرب والشدائد، لم أدع به على أحد قبل، يومئذ جعلته عوضا عن دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي، وهذه الليلة لم أترك أن أدعو بما كنت أدعو به، وأما الذي حركت به شفتاي هو دعاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم الأحزاب ثم ذكر الدعاء ثم قال: ولولا الخوف من أمير المؤمنين لدفعت هذا المال، ولكنك طلبت مني أرضا بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف درهم أو دينار فلم أبعك إياها وقد وهبتها لك.

قلت: يا بن رسول الله إنما رغبتي في الدعاء الأول والثاني فإذا فعلت

ص: 178

هذا فهو البر، ولا حاجة الآن في الأرض فقال (علیه السلام): إنا أهل البيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلم إليك الأرض فقال: سر معي إلى المنزل، فسرت معه، وكتب لي بعهدة الأرض وأملى علي دعاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والدعاء الذي هو بعد الركعتين، فقلت: يا بن رسول الله لقد أكثر المنصور استحثاثه واستعجاله إياي، وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهلا كأن لم تخشه قال: فقال لي: نعم، قد كنت أدعو به بعد الفجر ولا بد منه، وأما الركعتان فهما صلاة الغداة خففتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما، فقلت له: أما خفت المنصور وقد أعد لك ما أعد؟ قال: خيفة الله أعظم من خيفته، وكان الله في صدري أعظم قال الربيع: كان فيما قد رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر (علیه السلام) ومن الجلالة له في ساعة ما لم أظنه يكون في بشر، فلما وجدت منه خلوة وطابت نفسه قلت: يا أمير المؤمنين رأيت منك عجبا قال: ما هو؟

قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر (علیه السلام) غضبا شديدا لم أرك غضبته على أحد قط، ولا على عبد الله بن الحسن (رضي الله عنه) ولا غيره من كل الناس، حتى بلغ منك الامر أن تقتله بالسيف وحتى أنك أخرجت من سيفك شبرا ثم أغمدته ثم عاتبته، ثم أخرجت منه ذراع ثم أغمدته ثم عاتبته، ثم أخرجته كله إلا شيئا يسيرا فلم أشك في قتلك إياه، ثم انجلى ذلك كله حتى أمرتني فسودت لحيته بالغالية التي لا يتغلف منها إلا أولا يتغلف منها ولدك المهدي، ولا من وليته عهدك

ص: 179

ولا عمومتك، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرما.

فقال: ويحك يا ربيع ليس هو مما ينبغي أن تحدث به وستره أولى، ولا أحب أن يبلغ أولاد فاطمة فيفتخرون ويتباهون بذلك علينا، لكن لا أكتمك شيئا انظر من في الدار فأخرجهم قال: فنحيت كل من في الدار، ثم قال لي:

ارجع ولا تبق أحدا ثم قال: ليس إلا أنت وأنا، والله لئن سمعت ما ألقيته عليك من أحد لأقتلنك وولدك وأهلهم أجمعين ولآخذن مالك قال: قلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله.

قال: يا ربيع قد كنت مصرا على قتل جعفر (علیه السلام) ولا اسمع له قولا ولا أقبل له عذرا، وكان أمره ممن لا يخرج علي بسيف أغلظ عندي وأهم علي من أمر عبد الله بن الحسن (رضوان الله عليه)، وقد كنت أعلم هذا منه ومن آبائه (علیه السلام) على عهد بني أمية، فلما هممت به في المرة الأولى تمثل لي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حائل بيني وبينه باسط، كفيه حاسر عن ذراعيه، قد عبس وقطب في وجهي فأمسكت، ثم هممت به في المرة الثانية وانتضيت من السيف أكثر من المرة الأولى وإذا برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد قرب مني ودنا دنوا شديدا وهم لي أن فعلت لفعل (صلی الله علیه و آله و سلم) فأمسكت، ثم تجاسرت وقلت هذا بعض أفعال الرؤيا ثم انتضيت السيف ثالثة فمثل لي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) باسط ذراعيه مشمر عنهما واحمر وجهه وعبس وقطب حتى كاد أن يضع يده علي، فخفت والله لو فعلت (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان من أمري ما رأيت وهؤلاء

ص: 180

من بني فاطمة (علیها السلام) لا يجهل حقهم إلا جاهل لا حظ له في الشريعة فإياك أن يسمع منك أحد.

قال محمد بن الربيع فما حدثني به أبي حتى مات المنصور، وما حدثت به أنا حتى مات المهدي وموسى وهارون(1).

فدس إليه سما نقيعا في عنب ورمان

في رواية عن عبد الله بن الفضل بن الربيع عن أبيه قال، حج المنصور سنة سبع وأربعين ومائة فقدم المدينة وقال للربيع: ابعث إلي جعفر بن محمد (علیه السلام) وأتنا به متعبا قتلني الله إن لم أقتله، فتغافل الربيع عنه لينساه فأعاد ذكره الربيع وقال: ابعث من يأتيني به قتلني الله إن لم أقتله، فتغافل الربيع عنه فأرسل إلى الربيع رسالة قبيحة أغلظ فيها عليه بما لا دافع له إلا الله تعالى من القتل، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم أن الربيع أحضر جعفرا (علیه السلام) فلما دخل جعفر (علیه السلام) أوعده وتهدده بالقتل وقال: أي عدو الله أتخذك أهل العراق إماما يبعثون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني وتبتغي لي الغوائل، فوالله لأقتلنك ولا مانع لي من ذلك، فقال (علیه السلام): يا أمير المؤمنينإن سليمان (علیه السلام) أعطي فشكر، وإن أيوب (علیه السلام) ابتلي فصبر، وإن يوسف (علیه السلام) ظلم فغفر، وأنت من ذلك السنخ، فلما

ص: 181


1- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 235.

سمع المنصور ذلك قال: وأنت يا أبا عبد الله عندي أبر للسماحة وأسلم للنجاحة القابل للغاية، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما جزى ذوي الأرحام عن أرحامهم، ثم تناوله بيده فأجلسه على فراشه ثم أمر بطيب فطيب به لحية جعفر (علیه السلام) وقال له: قم في حفظ الله تعالى وكفايته، فخرج (علیه السلام) فقال المنصور للربيع: الحق جعفر (علیه السلام) بالكسوة والجائزة، فلحقه بهما وقال له: يا جعفر ما قلت حين دخلت وما قلت حين خرجت.

قال (علیه السلام) قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، ففعل الله تعالى بي ما رأيت وهكذا دأبه صلوات الله عليه مع المنصور في جميع الأوقات والشهور لا زال يغتنم فيه الفرص ويوقعه في المحذور والغصص، وقد طلبه مرارا وعزم على قتله سرا وجهارا، وحيث لم يحتم المقدور صرف الله تعالى عنه ذلك البلاء والشرور فلما أحب الله تعالى شهادته وحضر وقته وأحب لقائه أغار عليه المنصور، فدس إليه سما نقيعا في عنب ورمان فأكله سلام الله عليه فجعل يجود بنفسه وقد اخضر لونه وصار يتقيأ كبده قطعا قطعا حتى قضى نحبه ولقي ربه شهيدا مظلوما(1).

فغسله وحنطه كما أمره وكفنه

وقد نص على ابنه موسى ابن جعفر وأسر إليه تلك الوصاية

ص: 182


1- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 242.

وأظهرها وأشهد عليها جملة من الأوصياء والأعداء، فقام موسى (علیه السلام) في جهاز أبيه (علیه السلام) فغسله وحنطه كما أمره وكفنه وعيناه تهملان دموعا، وحمل جنازته (علیه السلام) إلى البقيع ودفنه جوار أبيه وعمه (علیهم السلام). وقد روي أنه لما حملت جنازته ورفع سريره رثاه أبو هريرة الأبار في تلك الحال فأنشأ يقول:

أقول وقد راحوا به يحملونه *** على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون من ذا تحملون على الثرى *** ثبير ثوى من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه *** ترابا وأولى كان فوق المرافق

فيا صادق بن الصادقين إليه *** بآبائك الأطهار حلفة صادق

عجلوا به إلي قتلني الله إن لم أقتله

عن زرارة بن مسلم (رحمه الله) مولى خالد بن عبد الله القسري، قال: إن المنصور قال لحاجبه: إذا دخل علي جعفر بن محمد (علیه السلام) فاقتله قبل أن يصل إلي، فدخل أبو عبد الله (علیه السلام) وجلس، فأرسل إلى الحاجب فنظر إليه فوجده قاعدا. قال: ثم قال: عد مكانك. قال: فأقبل يضرب يدا على يد فلما قام أبو عبد الله (علیه السلام) وخرج دعا حاجبه وقال: بأي شئ أمرتك؟ فقال: والله ما رأيته حين دخل ولا حين خرج إلا عندك وهو قاعد.

وعن عبد الله بن أبي ليلى قال: كنت بالربذة مع المنصور وقد كان

ص: 183

وجه إلى أبي عبد الله (علیه السلام) فأتي به وبعث إلي المنصور فدعاني، فلما انتهيت إلى الباب قال: عجلوا به إلي قتلني الله إن لم أقتله، سقا الله الارض من دمي إن لم أسق الارض من دمه، فسألت الحاجب من يعني قال: يعني جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام)، فإذا قد أتي به ومعه عدة جلاوزة، فلما انتهى إلى الباب قبل أن يرفع الستر رأيته (علیه السلام) قد حرك شفتيه عند رفع الستر، فلما بصربه المنصور قال: مرحبا يابن رسول الله، مرحبا بك يا بن العم، فما زال يرفعه حتى أجلسه على وسادته ودعا بالطعام فرفعت رأسي وأقبلت أنظر إليه فقال: يا داوود اقض حوائجه وأمره بالانصراف، فلما خرج قال: قد عرفت موالاتي لك وما قد بليت به في دخولي عليهم، وسمعت كلام الرجل وما كان يقول، فلما صرت إلى الباب رأيتك قد تململت شفتاك وما أشك إلا أنه شئ قلته فعلمنيه أقوله إذا أنا دخلت عليه قال: نعم قال: ما شاء الله لا يأتي الخير إلا من عند الله، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا هو، ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله(1).

قل لهم هذا عدوي فقطعوه

روي أن المنصور لما أراد قتل الصادق (علیه السلام) دعا قوما من الاعاجم لا يعرفون الاسلام ولا يفهمون ولا يعقلون، فخلع عليهم الديباج

ص: 184


1- بحار الأنوار ج92 ص218.

والوشى وحمل إليهم الاموال ثم استدعاهم وكانوا مائة رجل، فقال للترجمان: قل لهم: إن للملك عدوا يدخل عليه الليلة فاقتلوه إذا دخل عليه، قال: فأخذوا أسلحتهم ممتثلين لامره فاستدعى جعفرا (علیه السلام) وأمره أن يدخل عليه وحده، ثم قال للترجمان: قل لهم هذا عدوي فقطعوه، فلما دخل (علیه السلام) ونظروا إليه تعاووا كعوي الكلاب ورموا أسلحتهم وكتفوا أيديهم إلى ظهورهم وخروا له سجدا ومرغوا وجوههم على التراب، فلما رأى المنصور ذلك خاف على نفسه وقال: ما جاء بك؟ قال (علیه السلام) أرسلت إلي فأجبتك وما جئتك إلا مغتسلا متحنطا فقال المنصور: معاذ الله أن يكون ما تزعم ارجع راشدا، فرجع جعفر (علیه السلام) والقوم على وجوههم سجدا فقال المنصور للترجمان: قل لهم لم لا قتلتم عدو الملك فقالوا: نقتل ولينا والذي يلقانا كل يوم ويدبر أمورنا كما يدبر الرجل ولده ولا نعرف لنا وليا سواه، فخاف المنصور من قولهم وسرحهم تحت الليل ثم قتله بعد ذلك بالسم(1).

شتم الامام (علیه السلام)

وفي رواية عن عبد الله بن الفضل بن الربيع عن أبيه قال، حج المنصور سنة سبع وأربعين ومائة فقدم المدينة وقال للربيع: ابعث إلي جعفر بن محمد (علیه السلام) واتنا به متعبا قتلني الله إن لم أقتله، فتغافل الربيع عنه

ص: 185


1- مشارق أنوار اليقين - الحافظ رجب البرسي - الصفحة 143.

لينساه فأعاد ذكره الربيع وقال: ابعث من يأتيني به قتلني الله إن لم أقتله، فتغافل الربيع عنه فأرسل إلى الربيع رسالة قبيحة أغلظ فيها عليه بما لا دافع له إلا الله تعالى من القتل، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم أن الربيع أحضر جعفرا (علیه السلام) فلما دخل جعفر (علیه السلام) أوعده وتهدده بالقتل وقال: أي عدو الله اتخذك أهل العراق إماما يبعثون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني وتبتغي لي الغوائل، فوالله لاقتلنك ولا مانع لي من ذلك، فقال (علیه السلام): يا أميرالمؤمنين إن سليمان (علیه السلام) أعطي فشكر، وإن أيوب (علیه السلام) ابتلي فصبر، وإن يوسف (علیه السلام) ظلم فغفر، وأنت من ذلك السنخ، فلما سمع المنصور ذلك قال: وأنت يا أبا عبد الله عندي أبر للسماحة وأسلم للنجاحة القابل للغاية، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما جزى ذوي الارحام عن أرحامهم، ثم تناوله بيده فأجلسه على فراشه ثم أمر بطيب فطيب به لحية جعفر (علیه السلام) وقال له: قم في حفظ الله تعالى وكفايته، فخرج (علیه السلام) فقال المنصور للربيع: الحق جعفر (علیه السلام) بالكسوة والجائزة، فلحقه بهما وقال له: يا جعفر ما قلت حين دخلت وما قلت حين خرجت. قال (علیه السلام) قلت: أللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، ففعل الله تعالى بي ما رأيت وهكذا دأبه صلوات الله عليه مع المنصور في جميع الاوقات والشهور لا زال يغتنم فيه الفرص ويوقعه في المحذور والغصص، وقد طلبه مرارا وعزم على قتله سرا وجهارا، وحيث لم يحتم المقدور صرف الله تعالى عنه ذلك

ص: 186

البلاء والشرور فلما أحب الله تعالى شهادته وحضر وقته وأحب لقائه أغار عليه المنصور، فدس إليه سما نقيعا في عنب ورمان فأكله سلام الله عليه فجعل يجود بنفسه وقد اخضر لونه وصار يتقيأ كبده قطعا قطعا حتى قضى نحبه ولقي ربه شهيدا مظلوما، فلما مات (علیه السلام) تزعزعت المدينة بسكانها، وخرجت المخدرات من خدورها وأوطانها ناشرات للشعور هاتكات للستور شاقات للجيوب خامشات للوجوه لاطمات للخدود خادشات للنواصي والعيون، كل تنادي: وا إماماه، وا جعفراه، وا سيداه، وخرج المساكين والايتام ينادون: وا ضيعتاه وا محنتاه وا قلة ناصراه. وبكاه ابنه موسى الكاظم (علیه السلام) قائلا يا أبتاه من [لنا] بعدك وا طول حزناه وا حسرتاه من بعدك يا أبتاه وا انقطاع ظهراه، وقد نص على ابنه موسى بن جعفر وأسر إليه تلك الوصاية وأظهرها وأشهد عليها جملة من الاوصياء والاعداء، وقد مر ذكرها سابقا فقام موسى (علیه السلام) في جهاز أبيه (علیه السلام) فغسله وحنطه كما أمره وكفنه وعيناه تهملان دموعا وحمل جنازته (علیه السلام) إلى البقيع ودفنه جوار أبيه وعمه (علیه السلام)(1).

لما حملت جنازته ورفع سريره

وقد روي أنه لما حملت جنازته ورفع سريره رثاه ابن هريرة الشاعر في تلك الحال فانشأ يقول:

ص: 187


1- وفيات الائمة، من علماء البحرين والقطيف ص 242.

أقول وقد راحوا به يحملونه

أتدرون من ذاتحملون على الثرى

غداة حثا الحاثون فوق ظريحه

فيا صادق بن الصادقين ألية

فحق بكم ذوالعرش أقسم في الورى

نجوم هي اثنا عشر قد كن سبقا

ولا عجبا لو أنزلوك إلى الثرى

وساخت بأهليها ولم تك ساعة

سأبكيك مادامت عيوني في الثرى

ألا لعن الله الذين تبوأوا

أتقتل ياشر البرية جعفرا

وتترك هذا الدين من غير واليا

سألبس أثواب الضنا مدة البقا

وكيف تلذ العين غمضا وقد جرى

فيا نكبة ما مثلها قط نكبة

صلاة إله العرش مثل سلامه

على كاهل من حامليه وعاتق

ثبير ثوى من رأس علياء شاهق

ترابا وأولى كان فوق المرافق

بآبائك الاطهار حلفة صادق

فقال تعالى الله رب المشارق

إلى الناس في علم من الناس سابق

فلولاك فيها لم تكن في الحقائق

بسالمة من حل تلك البوائق

إلى يوم حشري عند ربي وخالقي

مقاما منكم لا سيما ابن الدوانق

ومن قال فيه خالقي خير صادق

وصامته أضحى به غير ناطق

وأهجر صفو العيش غير مرافق

على خير خلق الله شمس المشارق

لقد عطلت تلك السما بعد طارق

وتسليمه ماذر نور المشارق

أقول وقد راحوا به يحملونه*** على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون من ذاتحملون على الثرى *** ثبير ثوى من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ظريحه *** ترابا وأولى كان فوق المرافق

فيا صادق بن الصادقين ألية *** بآبائك الاطهار حلفة صادق

فحق بكم ذوالعرش أقسم في الورى *** فقال تعالى الله رب المشارق

نجوم هي اثنا عشر قد كن سبقا *** إلى الناس في علم من الناس سابق

ولا عجبا لو أنزلوك إلى الثرى *** فلولاك فيها لم تكن في الحقائق

وساخت بأهليها ولم تك ساعة *** بسالمة من حل تلك البوائق

سأبكيك مادامت عيوني في الثرى *** إلى يوم حشري عند ربي وخالقي

ألا لعن الله الذين تبوأوا *** مقاما منكم لا سيما ابن الدوانق

أتقتل ياشر البرية جعفرا *** ومن قال فيه خالقي خير صادق

وتترك هذا الدين من غير واليا *** وصامته أضحى به غير ناطق

سألبس أثواب الضنا مدة البقا *** وأهجر صفو العيش غير مرافق

وكيف تلذ العين غمضا وقد جرى *** على خير خلق الله شمس المشارق

فيا نكبة ما مثلها قط نكبة *** لقد عطلت تلك السما بعد طارق

صلاة إله العرش مثل سلامه *** وتسليمه ماذر نور المشارق

يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل

زرارة بن أعين قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) وقدامه مرقد

ص: 188

مغطى فقال لي: يا زرارة آتني بداود الرقي وحمران وأبي بصير، ودخل عليه المفضل بن عمر فخرجت فأحضرت ما أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحدا أثر واحد حتى حضرنا في البيت ثلاثون نفرا فلما حشد المجلس قال: يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل (رضي الله عنه) فكشف عن وجهه فقال أبو عبد الله (علیه السلام): حي هو أم ميت؟ فقال: يا مولاي هو ميت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل حتى أتى على آخر من بالمجلس وكل يقول: هو ميت يا مولاي فقال (علیه السلام): اللهم اشهد، ثم أمر (علیه السلام) بغسله وحنوطه وأدرجه في أثوابه فلما فرغ قال للمفضل: احسر عن وجهه فحسر عن وجهه وقال للجماعة أحي هو أم ميت؟ فقالوا له: ميت فقال: اللهم اشهد فإنه سيرتاب المبطلون يريدون اطفاء نور الله بأفواههم، ثم أومي لى موسى (علیه السلام) والله متم نوره ولو كره المشركون ثم حثوا عليه التراب، ثم أعاد علينا القول وقال: الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو؟ فقلنا: ابنك اسماعيل فقال (علیه السلام): اللهم اشهد، ثم أخذ بيد موسى (علیه السلام) وقال: هذا هو الحق والحق معه ومنه إلى أن يرث الله الارض ومن عليها(1).

محبة إسماعيل في قلب الامام الصادق (علیه السلام)

وروى الكشي أيضاً في ترجمة عبد الله بن شريك العامري، عن أبي

ص: 189


1- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ج 1 - الصفحة 345.

خديجة الجمّال، قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: إنّي سألت الله في إسماعيل أن يُبقيه بعدي فأبى، ولكنّه قد أعطاني فيه منزلة أُخرى، انّه يكون أوّل منشور في عشرة من أصحابه، ومنهم عبد الله بن شريك وهو صاحب لوائه(1).

والحديث يدل على انّ الاِمام الصادق (علیه السلام) كان يحبّه كثيراً، ولعلّ إسماعيل مرض، فدعا أبوه الله تعالى أن يشفيه ولكن الله قدّر موته،كما يدل على وثاقته أيضاً.

الامام الصادق (علیه السلام) يستأجر من يحجّ عن إسماعيل

روى الكليني بسنده، عن عبد الله بن سنان، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) إذ دخل عليه رجل فأعطاه ثلاثين ديناراً يحجّ بها عن إسماعيل، ولم يترك شيئاً من العمرةِ إلى الحجّ إلاّ اشترط عليه أن يسعى في وادي مُحسِّر، ثمّ قال: يا هذا، إذا أنت فعلتَ هذا كانَ لاِسماعيل حجة بما أنفق من ماله، وكانت لك تسْع بما أتعبَت من بدنك(2).

ص: 190


1- الكشي: الرجال: 190، برقم 97.
2- الوسائل: الجزء 8، الباب 1 من أبواب النيابة في الحجّ، الحديث 1.

مصائب الامام موسى بن جعفر (علیه السلام)

اشارة

ص: 191

ص: 192

ذي السّاقِ المرضُوضِ بِحَلقِ القُيودِ، وَالجَنازة المُنادى عَلَيها بِذَلِّ الإستِخفافِ

اللهُمّ صَلّ عَلى محمّد وأهلَ بَيتِهِ، وَصَلِّ عَلى موسى بن جَعْفَر وَصِيّ الأبرارِ، وإمام الأخيارِ، وَعَيْبَةِ الأنوارِ، ووارِثِ السكينَةِ وَالوِقارِ، وَالحِكمِ والأثار، الذي كان يحي اللّيلِ بالسَّهرِ إلى السَّحرِ بمُواصِلَةِ الإستغفار، حَليفِ السَّجدَة الطَويلَةِ، والدُمُوعِ الغَزيَرة، والمناجاة الكثيرةِ، والتضرّعات المُتّصلة، ومَظهر النّهي والعَدلِ، والخَيرِ والفَضلِ، وَالنَّدى والبَذلِ، وَمَألفِ البلوى والصبرِ، والمُضطَهَدِ بالظِلمِ، وَالمقبُور بالجورِ، والمعذّب في قَعرِ السُّجونِ، وَظُلَمِ المَطاميرِ، ذي السّاقِ المرضُوضِ بِحَلقِ القُيودِ، وَالجَنازة المُنادى عَلَيها بِذَلِّ الإستِخفافِ، وَالواردِ عَلى جَدّهِ المُصطفى وَأبيهِ المُرتضى وأمِّهِ سَيِّدةِ النساء بأرث مَغصُوب، وولاء مَسلوب، وَأمرَ مغلوب، ودم مَطلوب، وَسُمّ مَشروب. اللهُمَّ وَكَما صَبرَ عَلى غَليظِ المحَنِ، وَتَجرَّعَ غُصَص الكُرَبِ، واستَسْلَمَ لِرِضاكَ، وأخلَصَ الطّاعَةَ لَكَ، وَمَحِضَ الخُشُوعِ، وَاستَشعَرَ الخُضُوعَ، وَعادى البدِعَة وَأَهْلَها، وَلَمْ يَلحَقْهُ فِي شَيء مِنْ أَوامِرِكَ وَنَواهِيكَ لَومَةُ لائم، صَلِّ عَلَيهِ صلاةً ناميةً منيفةً زاكيةً تُوجِبُ لَهُ شَفاعَةَ أمم مِنْ خَلقِكَ، وَقُرون مِن بَراياكَ، وَبَلّغِهُ عنَّا تحيّةً وَسَلاماً، وآتِنا مِنْ لَدُنكَ فِي مُوالاتِهِ فضلاً وَإحساناً وَمَغِفَرةً وَرِضواناً، إنّك ذُو الفَضلِ

ص: 193

العَميم، والتّجاوزِ العظيمِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ(1).

لأخذتُ الذي فيه عينيك فان المُلك عقيم

يقول المأمون، فقد قال لندمائه، أتدرون من علّمني التشيّع؟ فانبروا جميعاً قائلين: لا والله ما نعلم، علّمني ذلك الرشيد، فقالوا كيف ذلك؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟ قال: كان يقتلهم على الملك لانَّ المُلك عقيم ثمّ أخد يحدثهم عن ذلك قائلاً: لقد حججت معه سنة فلمّا انتهى إلى المدينة قال لا يدخل عليَّ رجل من أهلها أمن المكيّين سواء كان من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتّى يعرفني بنسبه وأسرته، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجببأنسابها، فيأذن لها، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها، وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه وهو يقول له: رجل على الباب، زعم أنّه موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)، فلمّا سمع ذلك هارون أمر جلساءه بالوقار والهدوء ثمّ قال لرئيس تشريفاته إئذن له، ولا ينزل إلّا على بساطي. وأقبل الامام (علیه السلام) وقد وصفه المأمون فقال إنّه شيخٌ قد انهكته العبادة كأنّه شن بال قد كلمَّ السجود وجهه، فلمّا رآه هارون قام إليه وأراد الامام أن ينزل عن دابّته، فصاح الرشيد لا والله إلّا على بساطي فمنعه

ص: 194


1- زيارة الامام (علیه السلام).

الحجاب من الترجل ونظرنا إليه بالإجلال والإكبار والاعظام، وسار راكب إلى البساط، والحجاب وكبار القوم محدقون به، واستقبله هارون فقبل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتّى صيّره في صدر مجلسه وأقبل يسأله عن أحواله ويحدّثه ثمّ قال له:

يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟ قال الامام: يزيدون على الخمسمائة. قال هارون: أولاد كلّهم؟ قال الامام: لا أكثرهم موالي وحشمي وأمّا الولد فلي نيف وثلاثون ثمّ بين له عدد الذكور والإناث، فقال هارون: لم لا تتزوّج النسوة من بني عمومتهنّ؟ فقال الامام (علیه السلام): اليد تقصر عن ذلك. فقال هارون: ما حالُ الضيعة؟ قال الامام (علیه السلام): تعطي في وقت وتمنع في آخر، قال هارون: فهل عليك دين؟ قال الامام (علیه السلام): نعم، قال هارون: كم؟ قال الامام (علیه السلام): نحو من عشرة آلاف دينار، قال هارون: يا بن عمّ، أنا أعطيك من المال ما تزوّج به أولادك وتعمر به الضياع. قال الامام (علیه السلام): وصلتك رحم يابن العمّ، وشكر الله لك هذه النيّة الجميلة، والرحم ماسة واشجة، والنسب واحد، والعبّاس عمّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وصِنو أبيه وعمّ علي بن أبي طالب (علیه السلام) وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك وأكرم عنصرك وأعلى محتدك، فقال هارون: أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة، فقال له الامام (علیه السلام): إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا على الغارمين، ويؤدّوا عن المثقل ويكسو العاري وأنت أولى من يفعل ذلك.

ص: 195

قال هارون: أفعل ذلك يا أبا الحسن.

ثمّ انصرف الامام (علیه السلام) فقام هارون تكريماً له فقبّل ما بين عينيهووجهه ثمّ التفت إلى أولاده فقال لهم: قوموا بين يدي عمّكم وسيّدكم، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيّعوه إلى منزله، فانطلقوا مع الامام بخدمته وأسر (علیه السلام) إلى المأمون فبشَّرهُ بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى ولده، ولمّا فرغوا من القيام بخدمة الامام وإيصاله إلى داره قال المأمون: كنتُ أجراُ ولد أبي عليه، فلمّا خلا المجلس قلت له: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل؟ الذي عظمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له. قال هارون: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده، قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟

قال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر (علیه السلام) إمام حقّ، والله يا بني إنّه لأحقّ بمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) منّي ومن الخلق جميعاً والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذتُ الذي فيه عينيك فان المُلك عقيم... الخ(1).

حقد هارون لعنة الله عليه

كان الحقدُ من مقومات ذات الرشيد، ومن أبرز صفاته النفسيّة لقد

ص: 196


1- حياة موسى بن جعفر (علیه السلام) للشيخ باقر شريف القرشي: 2 / 443 - 446.

حَسَدَ الرشيد البرامكة لما ذاع اسمهم وتحدثت الناس عن مكارمهم فقد أخذ الحقد ينخر في قلبه حتّى أنزل بهم العقاب الأليم فمحا وجودهم وأزال ظلهم.

وكذلك لم يرق لهارون أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه، والجماهير تؤمن بأن الامام الكاظم (علیه السلام) هو أولى بالأمر من غيره، وانّه في القمة العليا علماً وفضلاً وأن المسلمين أجمعوا على تعظيمه، فساءه ذلك فقدم على ارتكاب الجريمة فأودع الامام في ظلمات السجون(1).

ولقد حبسه الرشيد مرارا وأغرى بقتله سرا وجهارا ولما استتم النص عليه من أبيه (علیه السلام) وأكده غاية التأكيد سعت به الوشاة إلى ذلكالرجيم العنيد أبي جعفر المنصور، وأضمر له العداوة والشرور، وبالغ في إطفاء ذلك النور، ثم من بعده ولده المهدي إلى أن مضت عشر سنين وعشرة أشهر وأيام، ثم من بعده ولده الهادي سنة وخمسة عشر يوما، ثم هارون الرشيد ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وسبعة عشر يوما، لكنه (علیه السلام) لم يكن في أيام خلافة الرشيد إلا خمسة عشر سنة، ولقد حبسه الرشيد مرارا وأغرى بقتله سرا وجهارا، فلم يزل يلقيه في سجونه مرة بعد أخرى ويغري به من لا دين له لقتله سرا(2).

وفي كتاب الاختصاص مسندا إلى محمد بن الزبرقان الدامغاني قال

ص: 197


1- حياة موسى بن جعفر (علیه السلام) للقرشي: 449 - 450.
2- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 251.

أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام): لما أمر هارون الرشيد بحملي، دخلت فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فرأيته مغضبا فرمى إلي بطومار وقال لي: اقرأه فإذا فيه كلام قد علم الله عزوجل براءتي منه، وفيه أن موسى بن جعفر (علیه السلام) يجئ إليه الخراج من الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقول بإمامته يدينون الله تعالى بذلك، ويزعمون أنه فرض عليهم أن يرث الله الارض ومن عليها، ويزعمون أنه من لم يذهب إليه بالعشر، ولم يصل بإمامتهم ويحج بإذنهم ويجاهد بأمرهم ويحمل الغنيمة إليهم ويفضلهم على جميع الخلق ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) فهو كافر، حلل الله ماله ودمه وفيه كلام شناعة مثل استحلال الفروج بأمره (علیه السلام) ولو بدرهم، والبراءة من السلف ويلعنونهم في صلاتهم ويزعمون أنه من لم يتبرأ منهم فقد بانت منه امرأته، ومن أخر الوقت للوقت فلا صلاة له لقول الله عزوجل فقد (أضاعوا الصلاة)، ويزعمون أن غيا واد في جهنم والكتاب طويل وأنا قائم بين يديه اقرأه وهو ساكت فرفع رأسه وقال: إنك اكتفيت بما قرأت فتكلم بحجتك فقلت: يا أمير المؤمنين والذي بعث محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) بالنبوة ما حمل إلي أحد درهما ولا دينارا من طريق الخراج، لكنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي أحلها الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) لقوله: لو أهدي إلى كراع لقبلت، ولو دعيت على ذراع لاجبت، وقد علم أمير المؤمنين ضيقما نحن فيه وكثرة عدونا وما منعنا

ص: 198

السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب فضاق بنا الامر، وقد حرمت علينا الصدقة وعوضنا الله تعالى عنها الخمس، فاضطررنا إلى قبول الهدية وكل ذلك مما علمته يا أمير، فلما تم كلامي سكت ثم قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فكأنه اغتنمها فقال: مأذون لك هاته فقلت: حدثني أبي (علیه السلام) عن آبائي (علیه السلام) يرفعونه إلى رسول الله أن يد الرحيم إذا مست رحما تحركت واضطربت، فإن تناولني يدك فأشار بيده إلي ثم قال، ادن مني، فدنوت منه فصافحني وجذبني إلى نفسه مليا ثم فارقني، فدمعت عيناه وقال: اجلس يا موسى فليس عليك بأس، صدقت وصدق آبائك وصدق جدك النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، لقد تحرك دمي واضطربت عروقي واعلم أنك لحمي ودمي، وأن الذي حدثتني به صحيح، وإني أريد أن أن أسألك عن مسألة فإن أجبتني علمت أنك صدقتني وخليت عنك ووصلتك ولم أصدق ما قيل فيك؟ فقلت: ما كان علمه عندي أجبتك فيه، فقال: لم لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم: يا ابن رسول الله وأنتم ولد علي وفاطمة إنما هي وعاء والولد ينسب إلى الاب لا إلى الام؟ فقلت: إن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة، فقال: لست أفعل أو تجيب فقلت: أنا في أمانك أن لا يصيبني من آفة السلطان شئ فقال: لك الامان فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (وَوَهَبْنَا لَهُ

ص: 199

إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ)(1) (علیه السلام) فمن أبو عيسى؟ فقال: ليس له أب، إنما خلق من كلام الله وروح القدس، فقلت: إنما ألحق عيسى بذراري الانبياء بمريم (علیه السلام)، ونحن ألحقنا بذراري الانبياء بفاطمة (علیه السلام) لا من قبل علي (علیه السلام) فقال: أحسنت يا موسى زدني من مثله فقلت: اجتمعت الامة برها وفاجرها أن حديث النجراني حين دعاه النبي للمباهلة لم يكن في الكساء إلا هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين (علیه السلام)، فقال الله تبارك وتعالى: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ)(2) فكان تأويل ابنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب، ثم قال: أحسنت ثم قال: أخبرني عن قولك ليس لابن العم مع ولد الصلب ميراث، فقلت: اسألك بحق الله وحق رسوله يا أمير المؤمنين أن تعفيني من هذه المسألة وكشفها وهي عند العلماء مستورة، فقال: إنك ضمنت لي أن تجيب فيما اسألك ولست أعفيك فقلت له: جدد لي الامان ثانية، فقال: قد آمنتك(3).

ص: 200


1- سورة الأنعام، الآيتان 84 و 85.
2- سورة آل عمران، الآية 61.
3- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 48 - الصفحة 122.

يا موسى بن جعفر خليفتين يجبى إليهما الخراج

وفي العيون بإسناده إلى موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: لما دخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يجبى إليهما الخراج، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تبوأ بأثمي واثمك وتقبل الباطل من أعدائنا. فقد علمت أنه كذب علينا منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإني أسألك بقرابتك من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن تأذن إلي أحدثك بحديث أخبرني به عن آبائه (علیه السلام) عن جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). قال: هات فقلت: إن رسول الله قال: إن يد الرحيم إذا مست رحما تحرك دمه واضطربت عروقه، فناولني يدك فقال: ادن مني فدنوت منه فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني وقال: اجلس فليس عليك بأس، فنظرت إليه وإذا هو قد دمعت عيناه فرجعت إلى نفسي فقال: صدقت يا موسى وصدق جدك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت علي الرقة وفاضت عيناي(1).

يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء

وفي العيون عن إبراهيم بن هاشم قال: سمعت رجلا من أصحابنا يقول: لما حبس الرشيد موسى بن جعفر (علیه السلام) أجن عليه الليل فخاف

ص: 201


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 70 - الصفحة 273.

ناحية هارون أن يقتله فجدد موسى (علیه السلام) طهوره واستقبل القبلة وصلى لله عزوجل أربع ركعات، ثم دعا بهذه الدعوات قائلا: يا سيدي نجني من حبس هارون وخلصني من يده يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ومخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الاحشاء والامعاء خلصني من هذا الرجل. قال: فلما دعا موسى بهذا الدعاء أتى هارون رجل أسود وبيده سيف مسلول وهو نائم فوقف عليه وهو يقول: يا عدو الله أطلق موسى بن جعفر (علیه السلام) من الحبس والحديد وإلا ضربت عاليك بهذا السيف، فخاف هارون من هيبته ثم دعا الحاجب وقال له: إذهب إلى السجن واطلق موسى، فخرج الحاجب وطرق باب دار السجان فأجابه السجان وقال: من؟ فقال: رسول الخليفة يقول لك اطلق موسى بن جعفر (علیه السلام)، فصاح السجان: يا موسى إن الخليفة يدعوك، فقام موسى فزعا وهو يقول: ما يدعوني في هذا الليل إلا لشر في نفسه، فقام حزينا مغموما آيسا من الحياة فجاء إلى هارون وهو (علیه السلام) ترتعد فرائصه، فسلم على هارون فرد (علیه السلام) ثم قال له هارون: يا موسى هل دعوت الله تعالى في هذه الليلة؟ فقال: نعم قال: وما هو؟ فقال (علیه السلام): جددت طهوري وصليت لله أربع ركعات ورفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا سيدي خلصني من يد هارون وشره، وذكر له ما كان من دعائه، فقال هارون: قد استجاب الله تعالى دعاءك، يا

ص: 202

حاجب اطلق عنه، ثم دعا بخلعة وخلع عليه ثيابا وحمله على فرس وأكرمه وصيره نديما لنفسه، ثم قال هارون: هات الكلمات فعلمه وأطلق عنه وسلمه إلى الحاجب ليسلمه (علیه السلام) ويكون معه إلى الدار، وصار موسى بن جعفر كريما شريفا عند هارون الرشيد وكان يدخل عليه في كل خميس إلى أن حبسه الثالثة فلم يطلقه حتى سلمه إلى السندي لعنه الله فقتله بالسم(1).

وأخذ سلكا ففركه بالسم وأدخله في سم الخياط

في خبر عن عمر بن واقد، قال: إن هارون لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر (علیه السلام)، وما كان يبلغه من قول الشيعة بإمامته واختلافهم بالليل والنهار خشية منه على نفسه وملكه، ففكر في نفسه أن يقتله بالسم، ثم دعا برطب فأكل منه ثم أحضر صينية فوضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكا ففركه بالسم وأدخله في سم الخياط وأخذ رطبة من ذلك الرطب وأقبل يردد ذلك السم فيها واستكثر منه ثم ردها في ذلك الرطب، وقال للخادم: احمل هذه الصينية إلى موسى بن جعفر وقل له إن أمير المؤمنين قد أكل من هذا الرطب وتنغص لك وهو يقسم عليك إلا ما أكلتها عن آخرها لاني اخترتها بيدي، فلا تتركه يبقي منه شيئا ولا تطعم منه أحدا، فأتاه به الخادم وأبلغه الرسالة وقال: آتني

ص: 203


1- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 260.

بخلال: فناوله خلالا وقام بازائه وهو يأكل (علیه السلام) من ذلك الرطب وكان للرشيد كلبة تعز عليه فجذبت نفسها وخرجت وكان فيها سلاسل من ذهب وجوهر، فجاءت عند موسى بن جعفر (علیه السلام) فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة فرمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت برجلها الارض وتقطعت قطعة قطعة، واستوفى (علیه السلام) باقي الرطب وحمل الغلام الصينية وأتى بها الرشيد فقال الرشيد: قد أكل الرطب عن آخره؟ قال: نعم فقال: كيف رأيته حين أكله؟ قال: ما أنكرت منه شيئا يا أمير المؤمنين، ثم أورد عليه خبر الكلبة وأنها قد تهرأت وماتت، فقلق الرشيد قلقا شديدا ثم وقف على الكلبة فوجدها متهرتة بالسم، فأحضر الخادم ودعا له بسيف ونطع وقال له تصدقني عن خبر الرطب والكلبة وإلا قتلتك فقال: يا أمير المؤمنين إني حملت الرطب إليه وبلغته رسالتك وقمت بازائه فطلب مني خلالا فدفعته إليه فأقبل يغرز رطبة بعد رطبة ويأكلها حتى جاءت الكلبة فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرطب ورمى بها للكلبة فأكلتها فما لبثت أن تهرأت وأكل هو باقي الرطب فكان الامر كما كان، فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما ربحنا من موسى إلا أنه أطعمناه جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا فما في موسى حيلة(1).

ص: 204


1- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 263.

ورأيتني قد انتفخت وارتفع بطني واخضر لوني واحمر وتلون ألوانا

ان سيدنا موسى بن جعفر (علیه السلام) دعا بالمسيب وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام وكان موكلا به فقال: يا مسيب فقال: لبيك يا سيدي، قال: إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول الله لاعهد إلى ابني علي بن موسى الرضا بما عهد إلي أبي جعفر واجعله وصيي وخليفتي وأمره بأمري، فقال المسيب: كيف تأمرني يا مولاي أن افتح لك الابواب وأقفالها مغلقة والحرس على الابواب؟ فقال (علیه السلام): يا مسيب أضعف يقينك في الله تعالى وفينا؟ قلت: لا يا سيدي قال: قم، قلت يا سيدي ادع الله أن يثبتني فقال (علیه السلام): اللهم ثبته، ثم قال: أعوذ بالله عزوجل وباسمه العظيم الاعظم الذي دعا به آصف بن برخيا (علیه السلام) حتى جاء بسرير بلقيس فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه اجمع بيني وبين ابني في المدينة. قال المسيب (رحمه الله) سمعته يدعو ففقدته من مصلاه فلم أزل قائما على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجله فخررت ساجدا لله وشكرا على ما أنعم الله به علي من معرفته، فقال لي: ارفع رأسك يا مسيب واعلم أني راحل إلى الله تعالى في ثالث هذا اليوم قال: فبكيت فقال (علیه السلام) تبكي فإن عليا ابني إمامك من بعدي فاستمسك بولايته فإنك لن تضل ما لزمته فقلت: الحمد لله. ثم ان سيدي دعاني ليلة اليوم الثالث فقال لي: إني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله تعالى

ص: 205

فإذا دعوت بشربة من الماء، فشربتها ورأيتني قد انتفخت وارتفع بطني واخضر لوني واحمر وتلون ألوانا فخبر الطاغية بوفاتي، وإذا رأيت هذا الحدث فإياك أن تظهر عليه أحدا إلا بعد وفاتي، قال المسيب بن زهير: فلم أزل أرقب وعده (علیه السلام) حتى دعا بالشربة فشربها ثم دعاني فقال: يا مسيب إن هذا الرجل اللعين السندي بن شاهك لعنه الله سيزعم أنه تولى غسلي ودفني هيهات هيهات لا يكون ذلك أبدا، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدني فيها ولا ترفعوا قبري فوق أربع أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئا فتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين (علیه السلام) فإن الله عزوجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا، ثم رأيت شخصا أشبه الخلق به جالسا إلىجانبه وكان عهدي بسيدي الرضا (علیه السلام) وهو قائم، فأردت سؤاله فصاح بي سيدي موسى (علیه السلام)، أليس نهيتك يا مسيب؟ فلم أزل صابرا حتى مضى وغابت الشمس ثم إني أتيت بالخبر إلى الرشيد فوافاني السندي بن شاهك، فوالله لقد رأيتهم وهم يظنون بأنهم يغسلونه ولا تصل أيديهم إليه ويظنون أنهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم لا يصنعون به شيئا، ورأيت ذلك الشخص يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه، فلما فرغ من تجهيزه قال ذلك الشخص: يا مسيب مهما شككت فيه فلا تشك في فإني إمامك ومولاك وحجة الله تعالى عليك بعد أبي، يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق (علیه السلام)، ومثلهم مثل اخوته حين دخلوا

ص: 206

فعرفهم وهم له منكرون، ثم حمل حتى دفن في مقابر قريش وأمر برفع قبره أكثر مما أمر به (علیه السلام) ثم رفعوا بعد ذلك قبره وبنوا عليه(1).

وإيذائه أشد الإيذاء

كان السندي بن شاهك يهودياً فضاً غليظاً، قسي القلب، سيء الخلق والعمل، وقد أمره هارون بسجن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) عنده، وإيذائه أشد الإيذاء. فكان السندي يقوم بتعذيب الإمام (علیه السلام) في سجنه كثيراً، إلى أن جاءه أمر هارون بقتل الإمام بالسم(2).

يضربه بالسياط، ويكثر من تعذيبه الوحشي

وقام السندي بخطة خبيثة للتغطية على جرمه حين ما دفع السم إلى الإمام، حيث جمع ثمانين رجلاً من مشايخ وعلماء ووجهاء بغداد إلى بيته، وجاء بالإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) من السجن إلى غرفة أخرى. وقال: انظروا إلى موسى بن جعفر هو عندنا معزز مكرم، وكلما تسمعون من هنا وهناك بأنه في الشدة وتحت التعذيب فهو كذب محض، ولم ينو الخليفة هارون بالنسبة إليه سوءاً أبداً، وإذا حصل شيء بالنسبة

ص: 207


1- وفيات الائمة - من علماء البحرين والقطيف ص 264.
2- من حياةالإمام الكاظم (علیه السلام) السيد محمد الحسيني الشيرازي.

إلى الإمام فهو من أمر الله، فإنه الآن فيصحة وعافية تامة.

يقول الراوي: وكان أهل المجلس ينتظرون رد الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام)، وقد رأوا في الإمام سيماء الأنبياء، وآثار العلم والعبادة، وأنوار السيادة والنجابة، والزهد والتقوى، وإذا بالإمام نطق بعد كلام السندي وقال: (ما سمعتموه فهو تظاهر منه وكذب، وما ترونه من البيت والفرش فهو تصنع، وإنه قد أطعمني تسعة تمرات مسمومات، وسينقلب لوني يوم غد إلى الأخضر، وسأموت بعده بيوم، وأتخلص من الدنيا ومآسيها، وانتقل إلى جوار ربي، وأرد على جدي رسول الله، فلا تصدقوا السندي فيما يقول).

فلما سمع السندي بكلام الإمام، أخذ يرتجف حيث افتضح أمام الجميع، وعلم الناس بخبث هارون ومكره، وأنه قام بقتل الإمام.

فانتظر السندي إلى أن خرج الناس من بيته، فجاء مغضباً نحو الإمام وأخذ يضربه بالسياط، ويكثر من تعذيبه الوحشي.

قال في المناقب: فلمّا أنزل (علیه السلام) في حبس فضل بن يحيى البرمكي، كان يبعث إليه في كلّ ليلة مائدة، ومنع أن يدخل من عند غيره حتى مضى ثلاثة أيام، فلمّاكانت الليلة الرابعة قدّمت إليه مائدة فيها طعام مسموم، فرفع رأسه (علیه السلام) إلى السماء وقال: يا رب! إنّك تعلم أنّي لو أكلت قبل هذا اليوم مثل هذا الطعام كنت أعنت على نفسي، واليوم ليس لي بدّ منها، فأكل

ص: 208

ومرض، فلمّا كان من الغد بعثوا إليه بالطبيب فرفع كفّه إليه وقال (علیه السلام): هذه علّتي وكانت خضرة في راحته تدلّ على أنّه سمّ، فانصرف الطبيب إليهم وقال: والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم، ثمّ انتفخ بطنه واصفرّ لونه ومات مسموماً.

فلمّا مات أخرجوه ووضعوه على الجسر ببغداد ونودي: هذا موسى بن جعفر الّذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه. ونودي على جسد الحسين (علیه السلام)يوم الحادي عشر من المحرم: يا قوم! من ينتدب للحسين فيوطىء الخيل صدره وظهره الخ(1).

لا تطلقوا عنّي حديداً، ولا تغسلوا عنّي دماً

نقل عن كتاب الفرق للشيخ أبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي قال في تاريخ وفاة الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): ويقال في رواية أخرى أنّه دفن بقيوده، وإنّه أوصى بذلك ليخاصمهم يوم القيامة كما أوصى حجر بن عدي بذلك، قال لمن حضره من قومه: لا تطلقوا عنّي حديداً، ولا تغسلوا عنّي دماً، فإنّي لاق معاوية على الجادة، وقصة حجر بن عدي قد ذكرناها في كتابنا المسمّى ب«شجرة طوبى» فليراجع هناك(2).

ص: 209


1- من حياة الإمام الكاظم (علیه السلام) السيد محمد الحسيني الشيرازي.
2- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار المازندراني.

فكتبوا إلاّ أحمد بن حنبل فكلّما زجروه لم يكتب شيئاً

قال الراوي: فحمل (علیه السلام) على نعش ونودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه، ثمّ أتي به إلى السوق فوضع هناك ثمّ نودي عليه: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه، ألا فانظروا إليه، فحفّ به الناس وجعلوا ينظرون إليه لا أثر به من جراحة ولا خنق، وكان في رجله أثر الحناء، ثمّ أمروا العلماء والفقهاء أن يكتبوا شهادتهم في ذلك، فكتبوا إلاّ أحمد بن حنبل فكلّما زجروه لم يكتب شيئاً(1).

فأخبرنا مضيت موتاً أو قتلا؟

وفي اثباة الهداة للشيخ الحرّ العاملي قال في تاريخ أحوال موسى بن جعفر (علیه السلام): ولمّا مات أمر السندي بوضعه على الجسر، واظهر للناس أنّه مات بقضاء الله تعالى، فكان الناس ينظرون إليه وليس به جرح، فجاء رجل من المخلصين من الشيعة حينئذ والناس مجتمعون وهم يقولون: مات بغير قتل. فقال لهم: أنا أستخبر منه بماذا مات. فقالوا: إنّه ميّت، فكيف يخبرك، فدنا منه وقال: يابن رسول الله! أنت صادق وأبوك صادق، فأخبرنا مضيت موتاً أو قتلا؟ فنطق (علیه السلام) وقال: قتلاً قتلاً قتلا، ثمّ غسّل وكفّن وكانالمتولي لذلك ذلك الرجل، وصلّى عليه ودفن

ص: 210


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار المازندراني.

بالزوراء في مقابر قريش الخ(1).

مدة حبس الإمام

حبس الإمام الكاظم في سجون هارون في البصرة وبغداد وغيرهما، أربعة عشر عاماً، وفي بعض التواريخ أربع سنوات وأكثر منها، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه وكان الإمام في هذه الفترة تحت الشدة والتعذيب الروحي والجسدي، ولكن التعذيب في سجن السندي بن شاهك اليهودي كان أكثر وأشد(2).

إن القيود أربعمائة كيلو

وقد ذكر بعض المؤرخين إن القيود التي وضعت على الإمام في رقبته ويديه ورجليه كانت قرابة أربعمائة كيلو(3).

إني قد سُقيت السم

عن الحسن بن محمد بن بشار، قال: حدثني شيخ من أهل قطيعة

ص: 211


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار المازندراني.
2- من حياة الإمام الكاظم (علیه السلام) السيد محمد الحسيني الشيرازي.
3- المصدر السابق.

الربيع من العامة، ممن كان يقبل قوله. قال: جُمعنا أيام السندي بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه، ممن ينسب إلى الخير، فأدخلنا على موسى بن جعفر. فقال لنا السندي: يا هؤلاء، انظروا إلى هذا الرجل، هل حدث به حدث، فإن الناس يزعمون أنه قد فُعل مكروه به، ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفرشه، موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به الأمير سوءاً، وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره الأمير، وها هو ذا صحيح موسع عليه في جميع أمره، فاسألوه. قال: ونحن ليس لنا هم إلا النظر إلى الرجل، وإلى فضله وسمته. فقال: إني أخبركم أيها النفر، أني قد سقيت السم في تسعتمرات، وأني أخضر غداً، وبعد غد أموت. قال: فنظرت إلى السندي بن شاهك يرتعد ويضطرب مثل السعفة(1).

وكانت خضرة وسط راحته تدل على أنه سم

وفي رواية: جاء بالطعام المسموم للإمام، وأجبروه على التناول منه. فرفع الإمام يده إلى السماء وقال: يا رب إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي. فلما أكل منه مرض، ولما سأله الطبيب عن العلة، أخرج إليه راحته فأراها الطبيب، ثم قال: هذه علتي. وكانت خضرة وسط راحته تدل على أنه سم، قال: فانصرف الطبيب إليهم

ص: 212


1- الكافي: ج 1 ص 258 - 259 باب أن الأئمة (يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم) ح 2.

وقال: والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم، ثم توفي مسموماً(1).

خطة سليمان بن أبي جعفر

ثم إنه لما حصل هذا الظلم من هارون بالنسبة إلى الإمام موسى بن جعفر وجنازته، خاف الفتنة وثورة الناس والهاشميين عليه. فإنهم لما قتلوا موسى بن جعفر نادوا عليه بذلّ الاستخفاف: هذا إمام الرافضة فاعرفوه، ولما أتي به مجلس الشرطة أقاموا عليه أربعة نفر ونادوا: ألا من أراد أن يرى الخبيث ابن الخبيث! - والعياذ بالله - فليخرج.

فلم يتحمل الناس هذا الجفاء على أولاد رسول الله، وخاف هارون الفتنة.

فأرسل سليمان ليتدارك الوضع، وأخذ هارون يلعن السندي بن شاهك، ويتظاهر بأنه هو الذي قتل الإمام بالسم من دون علم هارون.

وكان سليمان بن أبي جعفر أحد جلاوزة هارون، ومن السفاكين والمجرمين، ومن أعوان السلطة الظالمة، وقد جنى جنايات كبيرة في قصة الشهيد حسين الفخ.

وقد أشار إليه هارون بأن يتدارك الموقف، فأخذ سليمان يتظاهر بالحزن واحترام جنازة الإمام، حيث نزل من قصره، ورمى العمامة من رأسه، وشق جيبه في مصيبة الإمام ليخدع الناس، وأمر غلمانه وشرطته

ص: 213


1- عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 106 - 107 ب 8 ح 10.

بإبعاد تلك الزمرة المجرمة عن جنازة الإمام، ثم أخذ يمشي حافياً في التشييع، وأمر المنادي أن ينادي: من أراد أن ينظر إلى الطيب بن الطيب والطاهر بن الطاهر فليحضر جنازة الإمام.

ثم هيأ سليمان كفناً ثميناً، قيل إنه يقدر بخسمة آلاف دينار، وقد كتب عليه القرآن الكريم بأكمله، كل ذلك لكي يمتص النقمة الشعبية ضد الحكم العباسي(1).

وأوصى إلى ابنه الرضا (علیه السلام) أن ينام على باب بيته أبداً حتى يأتي خبره.

وكان أولاده من الذكور والإناث على ما ذكر سبعاً وثلاثين من زوجات مختلفة، وإحدى أزواجه أمّ أحمد، وكان الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) أودع عندها سفطاً وأربعة آلاف دينار عند خروجه من المدينة وقال لها: احتفظي بهذه الوديعة ولا تطلعي عليها أحداً ما دمت حيّاً، فمن أتاك من ولدي وطلبها منك فادفعيها إليه واعلمي إنّي قد متّ، وأوصى إلى ابنه الرضا (علیه السلام) أن ينام على باب بيته أبداً حتى يأتي خبره.

قال مسافر خادم أبي إبراهيم موسى بن جعفر (علیه السلام): كنّا نفرش للرضا (علیه السلام) في الدهليز، فيأتي بعد العشاء فينام، فإذا أصبح انصرف إلى منزله فمكث على هذه الحال اربع سنين، فلمّا كانت ليلة من الليالي أبطأ الرضا (علیه السلام) عنّا وفرشنا له، فلم يأت كما كان يأتي، فاستوحش العيال

ص: 214


1- من حياة الإمام الكاظم (علیه السلام) السيد محمد الحسيني الشيرازي.

وفزعوا ودخلنا أمر عظيم من إبطائه، فلمّا كان من الغد أقبل الرضا (علیه السلام) كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر على خدّيه، دخل الدار وقصد أمّ أحمد زوجة الإمام وقال لها: هاتي ما أودعك أبي، فصرخت ولطمت وجهها وشقّت جيبها وقالت: مات والله سيدي، فسكّتها الإمام (علیه السلام) وقال لها: لا تكلّمي بشيء حتى يجيء الخبر إلى الوالي وأمرهم بالإمساك جميعاً.قال الراوي: فما لبثنا إلاّ أيّاماً يسيرة حتى جاءت الخريطة بنعي موسى بن جعفر (علیه السلام)، فصرخن الهاشميّات صرخة واحدة، لمّا بلغ والي المدينة خبر قتل الحسين وهو عمرو بن سعيد قال للناعي: أخرج في سكك المدينة وناد بقتل الحسين (علیه السلام)قال: فناديت فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهنّ على الحسين حتى سمعوا النداء بقتله، وخرجت أمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب (علیه السلام) حين سمعت نعي الحسين حاسرة ومعها أخواتها تبكي قتلاها بالطف وتقول:

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم *** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم الخ

وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، وأصفر غدا صفرة شديدة

عيون المعجزات: في كتاب الوصايا لأبي الحسن علي بن محمد بن زياد الصيمري وروي من جهات صحيحة أن السندي بن شاهك حضر

ص: 215

بعد ما كان بين يديه السم في الرطب وأنه (علیه السلام) أكل منها عشر رطبات، فقال له السندي: تزداد؟

فقال (علیه السلام) له: حسبك قد بلغت ما يحتاج إليه فيما أمرت به، ثم إنه أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام وأخرجه إليهم وقال: إن الناس يقولون: إن أبا الحسن موسى في ضنك وضر، وها هو ذا لا علة به ولا مرض ولا ضر.

فالتفت (علیه السلام) فقال لهم: اشهدوا على أني مقتول بالسم، منذ ثلاثة أيام اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، وأصفر غدا صفرة شديدة، وأبيض بعد غد وأمضي إلى رحمة الله ورضوانه فمضى (علیه السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث في سنة ثلاث وثمانين ومائة من الهجرة وكان سنه (علیه السلام) أربعا وخمسين سنة، أقام منها مع أبي عبد الله (علیه السلام) عشرين سنة، ومنفردا بالإمامة أربعا وثلاثين سنة (1).

لفّ في بساط وغمز حتى مات

وقيل: بل لفّ في بساط وغمز حتى مات، ثمّ أخرجت جنازته ونودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه. فلمّا أتوا به مجلس الشرطة وهو محلّ اجتماع ندماء السلطان قام أربعة نفر فنادوا: ألا من أراد أن يرى

ص: 216


1- عيون المعجزات ص 95.

الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج، وتركوه منذ ثلاثة أيام على الطريق، وينادي المنادي: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، فيأتي من يأتي وينظر إليه، ثمّ يكتب بموته حتف أنفه(1).

ألا من أراد الطيّب ابن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج

حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار النيسابوري بنيسابور في شعبان سنه اثنتين وخمسين وثلاث مائه قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة عن حمدان بن سليمان النيسابوري عن الحسن بن عبد الله الصيرفي عن أبيه قال. توفى موسى بن جعفر (علیهم السلام) في يد السندي بن شاهك فحمل على نعش ونودي عليه: هذا امام الرافضة فاعرفوه فلما اتى به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر فنادوا: إلا من أراد ان يرى الخبيث بن الخبيث فليخرج وخرج سليمان بن أبي جعفر الجعفري عن قصره إلى الشط فسمع الصياح والضوضاء فقال لغلمانه ولولده: ما هذا؟ قالوا: السندي بن شاهك ينادى على موسى بن جعفر (علیهم السلام) على نعشه لولده وغلمانه:

يوشك ان يفعل هذا به في الجانب الغربي فإذا عبر به فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم فان مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من السواد فلما عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم

ص: 217


1- موسوعة المصطفى والعترة (علیهم السلام) - الحاج حسين الشاكري - الصفحة 415.

وخرقوا عليهم من سوادهم ووضعوه في مفرق أربعة طرق وأقام المنادين ينادى إلا ومن أراد ان يرى الطيب بن الطيب موسى بن جعفر (علیه السلام) فليخرج وحضر الخلق وغسل وحنط بحنوط فاخر وكفنه بكفن فيه حبره استعملت بألفين وخمس مائه دينار عليها القرآن كله واحتفى ومشى في جنازته متسلبا مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه (علیه السلام) هناك وكتب بخبره إلى الرشيد فكتب الرشيد إلى سليمان بن أبي جعفر وصلتك رحم يا عم وأحسن اللهجزاك والله ما فعل السندي شاهك لعنه الله تعالى ما فعله عن أمرنا(1).

دفن مع تلك القيود والسلاسل

روى المحدث الحاج النوري من كتاب الفرق في تاريخ الإمام الكاظم (عليه الصلاة والسلام) أن الإمام (وصى بأن يدفن مع تلك القيود والسلاسل التي كانت عليه، فدفن معها(2).

بماذا قتل

1- انه قتل بالسم

وأخذ سلكا ففركه بالسم وأدخله في سم الخياط

ص: 218


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) - الشيخ الصدوق - ج 2 - الصفحة 93.
2- مستدرك الوسائل: ج 2 ص 485 ب 79 ح 2527.

في خبر عن عمر بن واقد، قال: إن هارون لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر (علیه السلام)، وما كان يبلغه من قول الشيعة بإمامته واختلافهم بالليل والنهار خشية منه على نفسه وملكه، ففكر في نفسه أن يقتله بالسم، ثم دعا برطب فأكل منه ثم أحضر صينية فوضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكا ففركه بالسم وأدخله في سم الخياط وأخذ رطبة من ذلك الرطب وأقبل يردد ذلك السم فيها واستكثر منه ثم ردها في ذلك الرطب، وقال للخادم: احمل هذه الصينية إلى موسى بن جعفر وقل له إن أمير المؤمنين قد أكل من هذا الرطب وتنغص لك وهو يقسم عليك إلا ما أكلتها عن آخرها لاني اخترتها بيدي، فلا تتركه يبقي منه شيئا ولا تطعم منه أحدا، فأتاه به الخادم وأبلغه الرسالة وقال: آتني بخلال: فناوله خلالا وقام بازائه وهو يأكل (علیه السلام) من ذلك الرطب وكان للرشيد كلبة تعز عليه فجذبت نفسها وخرجت وكان فيها سلاسل من ذهب وجوهر، فجاءت عند موسى بن جعفر (علیه السلام) فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة فرمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت برجلها الارض وتقطعت قطعة قطعة، واستوفى (علیه السلام) باقي الرطب وحملالغلام الصينية وأتى بها الرشيد فقال الرشيد: قد أكل الرطب عن آخره؟ قال: نعم فقال: كيف رأيته حين أكله؟ قال: ما أنكرت منه شيئا يا أمير المؤمنين، ثم أورد عليه خبر الكلبة وأنها قد تهرأت وماتت، فقلق الرشيد قلقا شديدا ثم وقف على الكلبة فوجدها متهرتة بالسم، فأحضر

ص: 219

الخادم ودعا له بسيف ونطع وقال له تصدقني عن خبر الرطب والكلبة وإلا قتلتك فقال: يا أمير المؤمنين إني حملت الرطب إليه وبلغته رسالتك وقمت بازائه فطلب مني خلالا فدفعته إليه فأقبل يغرز رطبة بعد رطبة ويأكلها حتى جاءت الكلبة فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرطب ورمى بها للكلبة فأكلتها فما لبثت أن تهرأت وأكل هو باقي الرطب فكان الامر كما كان، فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما ربحنا من موسى إلا أنه أطعمناه جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا فما في موسى حيلة(1).

2- لف في الفراش وضغط

لفّ في بساط وغمز حتى مات

وقيل: بل لفّ في بساط وغمز حتى مات، ثمّ أخرجت جنازته ونودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه. فلمّا أتوا به مجلس الشرطة وهو محلّ اجتماع ندماء السلطان قام أربعة نفر فنادوا: ألا من أراد أن يرى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج، وتركوه منذ ثلاثة أيام على الطريق، وينادي المنادي: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، فيأتي من يأتي وينظر إليه، ثمّ يكتب بموته حتف أنفه(2).

وفي روايات اخرى تشير الى انه لف في الفراش وضغط عليه حتى مات(3).

ص: 220


1- وفيات الأئمة - من علماء البحرين والقطيف - الصفحة 263.
2- موسوعة المصطفى والعترة (علیهم السلام) - الحاج حسين الشاكري - الصفحة 415.
3- مقاتل الطالبيين ص336.

3- اذيب ثم صب فى فمه

رواية شاذة ونادرة نقلها المستوفي تقول:«يقول الشيعة انهارون الرشيد امر بالرصاص فاذيب ثم صب فى فمه»(1).

4- قتلاً قتلاً قتلا

فأخبرنا مضيت موتاً أو قتلا؟

وفي اثباة الهداة للشيخ الحرّ العاملي قال في تاريخ أحوال موسى بن جعفر (علیه السلام): ولمّا مات أمر السندي بوضعه على الجسر، واظهر للناس أنّه مات بقضاء الله تعالى، فكان الناس ينظرون إليه وليس به جرح، فجاء رجل من المخلصين من الشيعة حينئذ والناس مجتمعون وهم يقولون: مات بغير قتل. فقال لهم: أنا أستخبر منه بماذا مات. فقالوا: إنّه ميّت، فكيف يخبرك، فدنا منه وقال: يابن رسول الله! أنت صادق وأبوك صادق، فأخبرنا مضيت موتاً أو قتلا؟ فنطق (علیه السلام) وقال: قتلاً قتلاً قتلا، ثمّ غسّل وكفّن وكان المتولي لذلك ذلك الرجل، وصلّى عليه ودفن بالزوراء في مقابر قريش الخ(2).

ص: 221


1- الحياة الفكرية والسياسية ص40عن المختار من التاريخ ص 204 (بالفارسية).
2- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار المازندراني.

ص: 222

مصائب الامام علي بن موسى الرضا (علیه السلام)

اشارة

ص: 223

ص: 224

غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفضلها وحكمتها

أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن أبي الحكم الأرمني قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن يزيد بن سليط الزيدي، قال أبو الحكم: وأخبرني عبد الله بن محمد بن عمارة الجرمي، عن يزيد بن سليط قال: لقيت أبا إبراهيم (علیه السلام) - ونحن نريد العمرة - في بعض الطريق، فقلت:

جعلت فداك هل تثبت هذا الموضع الذي نحن فيه؟ قال: نعم فهل تثبته أنت؟ قلت:

نعم إني أنا وأبي لقيناك ههنا وأنت مع أبي عبد الله (علیه السلام) ومعه إخوتك، فقال له أبي: بأبي أنت وأمي أنتم كلكم أئمة مطهرون، والموت لا يعرى منه أحد، فأحدث إلي شيئا أحدث به من يخلفني من بعدي فلا يضل، قال: نعم يا أبا عبد الله هؤلاء ولدي وهذا سيدهم - وأشار إليك - وقد علم الحكم والفهم والسخاء، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس، وما اختلفوا فيه من أمر دينهم ودنياهم وفيه حسن الخلق وحسن الجواب وهو باب من أبواب الله عز وجل وفيه أخرى خير من هذا كله.

فقال له أبي: وما هي؟ - بأبي أنت وأمي - قال (علیه السلام): يخرج الله عز وجل منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفضلها وحكمتها، خير مولد وخير ناشئ، يحقن الله عز وجل به الدماء، ويصلح به ذات

ص: 225

البين، ويلم به الشعث، ويشعب به الصدع، ويكسو به العاري، ويشبع به الجائع، ويؤمن به الخائف، وينزل الله به القطر، ويرحم به العباد، خير كهل وخير ناشئ قوله حكم وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه، ويسود عشيرته من قبل أوان حلمه، فقال له أبي: بأبي أنت وأمي وهل ولد؟ قال: نعم ومرت به سنون، قال يزيد: فجاءنا من لم نستطع معه كلاما.

قال يزيد: فقلت لأبي إبراهيم (علیه السلام): فأخبرني أنت بمثل ما أخبرني به أبوك (علیه السلام)، فقال لي: نعم إن أبي (علیه السلام) كان في زمان ليس هذا زمانه، فقلت له: فمن يرضى منك بهذا فعليه لعنة الله، قال: فضحك أبو إبراهيم ضحكا شديدا، ثم قال:

أخبرك يا أبا عمارة أني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابنيفلان، وأشركت معه بني في الظاهر، وأوصيته في الباطن، فأفردته وحده ولم كان الامر إلي لجعلته في القاسم ابني، لحبي إياه ورأفتي عليه ولكن ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء، ولقد جاء ني بخبره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثمن أرانيه وأراني من يكون معه وكذلك لا يوصي إلى أحد منا حتى يأتي بخبره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وجدي علي صلوات الله عليه ورأيت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خاتما وسيفا وعصا وكتابا وعمامة، فقلت: ما هذا يا رسول الله؟ فقال لي: أما العمامة فسلطان الله عز وجل، وأما السيف فعز الله تبارك وتعالى، وأما الكتاب فنور الله تبارك وتعالى، وأما العصا فقوة الله، وأما

ص: 226

الخاتم فجامع هذه الأمور، ثم قال لي: والامر قد خرج منك إلى غيرك، فقلت: يا رسول الله أرنيه أيهم هو؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ما رأيت من الأئمة أحدا أجزع على فراق هذا الامر منك ولو كانت الإمامة بالمحبة لكان إسماعيل أحب إلى أبيك منك ولكن ذلك من الله عز وجل.

ثم قال أبو إبراهيم: ورأيت ولدي جميعا الاحياء منهم والأموات، فقال لي أمير المؤمنين: هذا سيدهم وأشار إلى ابني علي فهو مني وأنا منه والله مع المحسنين، قال يزيد: ثم قال أبو إبراهيم (علیه السلام): يا يزيد إنها وديعة عندك قال تخبر بها إلا عاقلا أو عبدا تعرفه صادقا وإن سئلت عن الشهادة فاشهد بها، وهو قول الله عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا)(1) وقال لنا أيضا: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ ) (2) قال: فقال أبو إبراهيم (علیه السلام)، فأقبلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقلت: قد جمعتهم لي - بأبي وأمي - فأيهم هو؟ فقال: هو الذي ينظر بنور الله عز وجل ويسمع بفهمه وينطق بحكمته يصيب فلا يخطئ، ويعلم فلا يجهل، معلما حكما وعلما، هو هذا - وأخذ بيد علي ابني - ثم قال: ما أقل مقامك معه، فإذا رجعت من سفرك فأوض وأصلح أمرك وافرغ مما أردت، فإنك منتقل عنهم ومجاور غيرهم، فإذا أردت فادع عليا فليغسلك وليكفنك، فإنه طهر لك، ولايستقيم إلا ذلك وذلك

ص: 227


1- سورة النساء، الآية 58.
2- سورة البقرة، الآية 140.

سنة قد مضت، فاضطجع بين يديه وصف إخوته خلفه وعمومته، ومره فليكبر عليك تسعا، فإنه قد استقامت وصيته ووليك وأنت حي، ثم أجمع له ولدك من بعدهم، فأشهد عليهم وأشهد الله عز وجل وكفى بالله شهيدا، قال يزيد ثم قال لي أبو إبراهيم (علیه السلام): إني أؤخذ في هذه السنة والامر هو إلى ابني علي، سمي علي وعلي: فأما علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأما الآخر فعلي بن الحسين ‘، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره ووده ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره وليس له أن يتكلم إلا بعد موت هارون بأربع سنين.

ثم قال لي: يا يزيد وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه فبشره أنه سيولد له غلام، أمين، مأمون، مبارك وسيعلمك أنك قد لقيتني فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية جارية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أم إبراهيم، فان قدرت أن تبلغها مني السلام فافعل، قال يزيد؟ فلقيت بعد مضي أبي إبراهيم (علیه السلام) عليا (علیه السلام) فبدأني، فقال لي يا يزيد ما تقول في العمرة؟ فقلت: بأبي أنت وأمي ذلك إليك وما عندي نفقة، فقال: سبحان الله ما كنا نكلفك ولا نكفيك، فخرجنا حتى انتهينا إلى ذلك الموضع فابدأني فقال: يا يزيد إن هذا الموضع كثيرا ما لقيت فيه جيرتك وعمومتك، قلت. نعم ثم قصصت عليه الخبر فقال لي: أما الجارية فلم تجئ بعد، فإذا جاءت بلغتها منه السلام، فانطلقنا إلى مكة فاشتراها في تلك السنة، فلم تلبث إلا قليلا

ص: 228

حتى حملت فولدت ذلك الغلام، قال يزيد: وكان إخوة علي يرجون أن يرتوه فعادوني إخوته من غير ذنب، فقال لهم إسحاق بن جعفر: والله لقد رأيته وإنه ليقعد من أبي إبراهيم بالمجلس الذي لا أجلس فيه أنا(1).

الإمام الرضا (علیه السلام) يموت مسموما بالعنب

الرواية الأولى

قال الحائري في نور الأبصار: رأى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وسلم في منامهرجل من أهل خراسان فلما انتبه من نومه جاء إلى الرضا (علیه السلام) وقال: يا ابن رسول الله رأيت رسول الله في المنام كأنه يقول لي: كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي واستحفظتم وديعتي وغُيّب في ثراكم نجمي؟ فقال له الإمام الرضا (علیه السلام): أنا المدفون في أرضكم وأنا بضعة نبيكم وأنا الوديعة والنجم ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تبارك وتعالى من حقي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة ومن كنا شفعاءه يوم القيامة نجى ولو كان عليه وزر الثقلين الإنس والجن. وقال (علیه السلام): والله ما منا إلا متقول شهيد. فقيل: فمن يقتلك يا ابن رسول الله؟ قال: شر خلق الله في زماني يقتلني بالسم ثم يدفنني في دار مضيعة وبلاد غربة ألا فمن زارني في غربتي كتب الله عز وجل له أجر مائة ألف شهيد ومائة ألف حاج

ص: 229


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - الصفحة 313.

ومعتمر ومائة ألف مجاهد وحشر في زمرتنا وجعل في الدرجات العلى رفيقنا.

وفي روضة الواعظين عن أبي الصلت الهروي أنه قال: بينما أنا واقف بين يدي الرضا (علیه السلام) إذ قال لي: يا أب الصلت ادخل إلى هذه القبة التي فيها قبر هارون وأتني بتراب من أربع جوانبها، فقال: فأتيت به فأخذ يشمه ثم رمى به وقال: سيحفر لي هاهنا قبر ثم أوصى بما أوصى وجلس في محرابه.

قال الراوي: إذ دعاه المأمون فلما أتاه، وثب إليه وعانقه ما بين عينيه وأجلسه معه وناوله عنقود عنب وكان بيده قد أكل بعضه وقال: يا ابن رسول الله ما رأيت عنبا أحسن من هذا قال الرضا (علیه السلام) ربما كان عنبا حسنا فيكون في الجنة فقال له: كل منه، فقال: تعفيني منه قال: لابد من ذلك ما يمنعك منه لعلك تتهمنا بشيء فتناول (علیه السلام) العنقود فأكل منه ثلاث حبات ثم رمى به وقام فقال: المأمون: إلى أين؟ قال: إلى حيث وجهتني وخرج حتى دخل الدار وأمر أن يغلق الباب ونام على فراشه فمكثت واقفا في صحن الدار مهموما محزونا والإمام بين قائم وقاعد من شدة السم إذ دخل عليَّ شاب حسن الوجه أشبه الناس بالرضا فقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ قال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار فقلت: ومن أنت؟ قال أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت أنا محمد بن علي ثم مضى نحو أبيه فدخل وأمرني بالدخول معه فلما نظر إليه الرضا (علیه السلام) وثب إليه فعانقه وضمه إلى صدره

ص: 230

وقبل ما بين عينيه ثم سحبه سحبا في فراشه وجعل يكلمه شيئا لم أفهمه وبينما ولده الجواد عنده وإذا بإمامنا الرضا قد غمض عينيه وأسبل يديه ومدّ رجليه وعرق جبينه وسكن أنينه وفاضت روحه الطاهرة(1).

الإمام الرضا (علیه السلام) يموت مسموما بالرمان

الرواية الثانية

قال المفيد في الإرشاد: كان علي بن موسى الرضا (علیه السلام) يكثر وعظ المأمون إذا خلا به ويخوفه بالله ويقيم له ما يدليه من خلافه وكان المأمون يظهر قبلو ذلك منه ويبطن كراهيته واستثقاله ودخل الرضا (علیه السلام) يوما عليه فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصب الماء على يديه فقال: لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحدا. فصرف المأمون الغلام وتولى تمام وضوئه بنفسه وزاد ذلك في غيظه ووجده.

لقد كان هذا سببا من أسباب كثيرة دعت المأمون إلى قتل الإمام علي بن موسى الرضا (علیه السلام) فأخذ يتربص الفرصة المناسبة ليقضي عليه فاغتنم فرصة مرض الرضا (علیه السلام) فدعا غلامه له اسمه عبد الله بن بشر وأمره أن يطوّل أظافره ولا يظهر لأحد ثم استدعاه فأخرج سما شبيها بالتمر الهندي وقال له: اعجن هذا بيديك جميعا وسر معي ففعل الغلام وقام المأمون وركب حتى دخل على الرضا (علیه السلام) وجلس عنده وقال: ما

ص: 231


1- المجالس السنية للسيد محسن الأمين. المناقب ج 2 لابن شهر آشوب.

خبرك؟ قال (علیه السلام): أرجو أن أكون صالحا، قال له: أنا اليوم بحمد الله أيضا صالح فهل جاءك أحد من المترفقين في هذا اليوم؟ قال: لا فغضب المأمون وصاح على غلمانه وقال: خذوا ماء الرمان الساعة فإنه ماء لا يستغنى عنه. قال عبد الله بن بشر: ثم دعاني المأمون وقال: ائتني بالرمان فأتيته به فقال لي: اعصره بيديك ففعلت فأخذ المأمون ماء الرمان بيده وناوله الإمام فشرب منه (علیه السلام) قليلا ثم امتنع فطلب منه المأمون الزيادة، قال له (علیه السلام) حسبك قد أتيت على ما احتجت إليه وبلغتمرادك فنهض المأمون وخرج.

قال أبو الصلت: دخلت عليه وقد خرج المأمون من عنده فقال لي: يا أبا الصلت قد فعلوها وجعل يوحّد الله ويمجده فما صلينا العصر حتى قام الرضا (علیه السلام) خمسين مجلسا - من شدة الألم - وزاد الأمر في الليل فلم يلبث إلا يومين حتى قضى نحبه ولقي ربه شهيدا مسموما صابرا محتسبا(1).

فصار الجلودي إلى باب الرضا (علیه السلام) وهجم على داره مع خيله

وكان جماعة من حفدة المأمون أنكروا هذا الأمر على المأمون، منهم الفضل بن سهل ومنهم ثلاثة نفر من قوّاد الجيش، وكلّما أجهد المأمون أن يرضيهم ويقنّعهم لم يتمكّن حتى أعطاهم أموالا جزيلة وهم أصرّوا

ص: 232


1- الإرشاد للشيخ المفيد. نور الأبصار للحائري. المجالس السنية للسيد محسن الأمين.

على العناد، فأمر المأمون بهم فحبسوا ثمّ قتلوا بأجمعهم، منهم عيسى الجلودي، ومنهم علي بن أبي عمران، ومنهم ابن يونس، وكانوا في غاية الشقاوة ونهاية القساوة والعداوة لعليّ بن موسى (علیه السلام).

جلس المأمون يوماً وأجلس أبا الحسن الرضا (علیه السلام) بجنبه، وأمر بإحضارهؤلاء، لمّا دخل علي بن أبي عمران ونظر إلى الرضا (علیه السلام) بجنب المأمون قال: أعيذك بالله يا أميرالمؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم وخصّكم به وتجعله في أيدي أعاديكم ومن كان آباؤك يقتلونهم ويشرّدونهم في البلاد. فغضب المأمون وقال: يابن الزانية! وأنت بعد على هذا، قدّمه يا فلان واضرب عنقه، فضرب عنقه. ثمّ دخل ابن يونس لعنه الله، فلمّا نظر إلى الرضا (علیه السلام) بجنب المأمون قال: يا أميرالمؤمنين! بجنبك صنم يعبد من دون الله. قال المأمون: يابن الزانية! وأنت بعد على هذا، يا فلان قدّمه واضرب عنقه، فضرب عنقه. وكان آخر من دخل عيسى الجلودي وله حكاية مع أبي الحسن الرضا (علیه السلام) وهو أنّ:

محمّد بن جعفر بن محمّد لمّا خرج بالمدينة، بعثه الرشيد إلى حربه وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه وأن يخرب دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهنّ إلاّ ثوباًواحداً. ففعل الجلودي ذلك، وكان ذلك بعد وفاة أبي الحسن موسى بن جعفر، فصار الجلودي إلى باب الرضا (علیه السلام) وهجم على داره مع خيله، فلمّا نظر إليه الرضا (علیه السلام) جعل النساء كلّهنّ في بيت واحد ووقف على باب البيت،

ص: 233

فقال الجلودي لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): أنا أسلبهنّ لك وأحلف أنّي لا أدع عليهنّ شيئاً إلاّ أخذته. فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبوالحسن (علیه السلام) فلم يدع عليهنّ شيئاً حتى أقراطهنّ وخلاخيلهنّ وإزارهنّ إلاّ أخذه منهنّ وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير وسلّم إلى الجلودي.

فلمّا كان في هذا اليوم وأدخل الجلودي على المأمون، قال الرضا (علیه السلام): يا أميرالمؤمنين! هب لي هذا الشيخ. فقال المأمون: يا سيدي! هذا الذي فعل ببنات رسول الله ما فعل من سلبهنّ. فنظر الجلودي إلى الرضا (علیه السلام) وهو يكلّم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه، فظنّ أنّه يعين عليه لما كان بينه وبينه فقال الجلودي: يا أميرالمؤمنين! أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا فيّ. فقال المأمون: يا أباالحسن! قد استعفى ونحن نبرّ قسمه، ثمّ قال: لا والله لا أقبل فيك قوله، ألحقوه بصاحبيه، فقدّم وضرب عنقه. أقول: إنّ بني العباس أيضاً سلبوا بنات رسول الله كما أنّ أهل الكوفة سلبوهنّ وأخذوا ما عليهنّ من أخمرة وأسورة.

أقول: لمّا هجموا على دار الرضا (علیه السلام) كان حاضراً واقفاً وجعل يحامي عن حريمه، لكن لمّا هجموا على فسطاط زين العابدين وهو مريض لم يقدر أن يحامي عن الفاطميّات والهاشميّات حتى جعل أهل الكوفة ينتزعون الملاحف عن ظهور الهاشميّات:

وحائرات أطار القوم أعينها *** رعباً غداة عليها خدرها هجموا

ص: 234

كانت بحيث عليها قومها ضربت *** سرادقاً أرضه من عزّهم حرم الخ(1)

قد جلس أبو جعفر (علیه السلام) في الحجر وهو يأبى أن يقوم

روى الشيخ الأربلي عن دلائل الحميري عن أمية بن علي قال: كنت مع أبي الحسن (علیه السلام) بمكة في السنة التي حجّ فيها ثمّ صار إلى خراسان، ومعه أبو جعفر (علیه السلام)، وأبوالحسن يودّع البيت، فلمّا قضى طوافه عدل إلى المقام، فصلّى عنده، فصار أبو جعفر الجواد (علیه السلام) على عنق موفّق يطوف به، فصار أبو جعفر (علیه السلام) إلى الحجر، فجلس فيه فأطال، فقال له موفّق: قم جعلت فداك، فقال (علیه السلام): ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلاّ أن يشاء الله، واستبان في وجهه الغم.

فأتى موفّق أبا الحسن الرضا (علیه السلام) فقال: جعلت فداك، قد جلس أبو جعفر (علیه السلام) في الحجر وهو يأبى أن يقوم. فقام الرضا (علیه السلام) فأتى أبا جعفر فقال له: قم يا حبيبي. فقال: ما أريد أن أبرح من مكاني هذا. قال: بلى يا حبيبي، ثمّ قال: كيف أقوم وقد ودّعت البيت وداعاً لا رجعت إليه. فقال: قم يا حبيبي، فقام معه(2).

ص: 235


1- نور الابصار للمازندراني.
2- المصدر السابق.

فودّعه مراراً، كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب

عن السجستاني قال: لمّا ورد البريد بإشخاص الرضا (علیه السلام) من المدينة إلى خراسان، كنت بالمدينة، فدخل الرضا بالمسجد ليودّع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فودّعه مراراً، كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدّمت إليه وسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام وهنّيته لسفره، فقال: ذرني فإنّي أخرج من جوار جدّي فأموت في غربة وأدفن في غربة في جنب هارون(1).

حتى سقي السمّ وبقي يجود بنفسه مكروباً، ويغشى عليه

ولمّا أراد أن يخرج من المدينة جمع عياله وأهل بيته وأمرهم أن يبكوا عليه، ثمّ فرّق فيهم اثنى عشر ألف دينار وقال: أمّا إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً، فخرج من المدينة حزيناً كئيباً مهموماً مغموماً، ودخل خراسان كذلك، ولم يزل مكروباً يكابد جميع الشدائد من المعاشرة مع المأمون لعنه الله حتى سقي السمّ وبقييجود بنفسه مكروباً، ويغشى عليه. قال ياسر الخادم: فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه، كان ضعيفاً فقال لي بعد ما صلّى الظهر: يا ياسر! أكل الناس شيئاً؟ قلت: يا سيدي! من يأكل هاهنا مع ما أنت فيه؟! فانتصب ثمّ قال: هاتوا المائدة، ولم يدع من حشمه

ص: 236


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) - الشيخ الصدوق - ج 1 - الصفحة 234.

أحداً إلاّ أقعده معه على المائدة يتفقّدهم واحداً واحداً، فلمّا أكلوا قال: إبعثوا إلى النساء بالطعام، فحمل الطعام إلى النساء، فلمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه وضعف، فوقعت الصيحة وجاءت جواريه ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوجبة بطوس، وجاء المأمون حافياً حاسراً يضرب على رأسه ويقبض على لحيته ويتأسّف ويبكي ويسيل الدموع على خدّيه، فوقف على الرضا (علیه السلام) وقد أفاق، وقال: يا سيدي! والله ما أدري أيّ المصيبتين أعظم فقدي لك وفراقي إياك أو تهمة الناس أنّي اغتلتك وقتلتك؟ فرفع الرضا (علیه السلام) طرفه إليه وقال: أحسن يا أميرالمؤمنين معاشرة أبي جعفر، فإنّ عمرك وعمره هكذا، وجمع بين سبّابيته وبكى(1).

تشييع جنازة الإمام الرضا (علیه السلام) ودفنه

عن ياسر الخادم قال: لما كان بيننا وبين طوس سبعة منازل اعتلَّ أبو الحسن الرضا فبقينا بطوس أياما فكان المأمون يأتي في كل يوم مرتين فلما كان في آخر يومه الذي قبض فيه كان ضعيفا في ذلك اليوم فقال لي بعدما صلى الظهر: يا ياسر أكل النساء شيئا؟ قلت: سيدي من يأكل هاهنا مع ما أنت فيه فانتصب (علیه السلام) ثم قال: هاتوا المائدة ولم يترك من حشمه أحدا إلا أقعده معه على المائدة يتفقد واحدا واحدا فما أكلوا قال: ابعثوا إلى النساء بالطعام فحمل الطعام إلى النساء فلما فرغوا من الأكل أغمى عليه

ص: 237


1- نور الابصار للمازندراني.

وضعف فوقعت الصيحة وا إماماه وا سيداه وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات ووقعت الضجة بطوس وجاء المأمون حافيا حاسراً يضرب على رأسه ويقبض على لحيته ويتأسف ويبكي وتسيل الدموع على خديه فوقف على الرضا (علیه السلام) وقد أفاق فقال: يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم عليَّ فقدي لكوفراقي إياك أو تهمة الناس لي أني اغتلتك فرفع الرضا (علیه السلام) طرفه إليه ثم قال: أحسن معاشرة أبي جعفر (محمد الجواد) فلما كانت تلك الليلة قضى بأبي وأمي غريبا شهيدا مسموما بعدما ذهب من الليل بعضه. ثم أحضر المأمون محمد بن جعفر الصادق (علیه السلام) وجماعة من آل أبي طالب كانوا في طوس فلما حضروا نعاه اليهم وبكى وأظهر حزنا شديدا وتوجدا وأراهم إياه صحيح البدن وقال: يعز علي يا أخي أن أراك في هذه الحال قد كنت اُاَمِّل أن أقدم قبلك فأبى الله إلا ما أراد. ثم أمر بتغسيله وتكفينه وتحنيطه وخرج مع جنازة الإمام حافيا حاسرا يقول: يا أخي لقد ثلم الإسلام بموتك وغلب تقديري فيك حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه قبره والناس يعزونه بالمصاب الأليم(1).

دعبل بن علي الخزاعي في مجلس الإمام الرضا (علیه السلام)

عيون أخبار الرضا (علیه السلام): المكتب والوراق معا، عن علي، عن أبيه،

ص: 238


1- المجالس السنية ج 2 للسيد محسن الأمين. نور الأبصار للحائري.

عن الهروي قال:

دخل دعبل بن علي الخزاعي رحمه الله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (علیهم السلام) بمرو فقال له: يا ابن رسول الله إني قد قلت فيك قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك، فقال (علیه السلام): هاتها فأنشده:

مدارس آيات خلت عن تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات

(فلما بلغ إلى قوله)

أرى فيئهم في غيرهم متقسما *** وأيديهم من فيئهم صفرات

فلما بلغ إلى قوله هذا، بكى أبو الحسن الرضا (علیه السلام) وقال له: صدقت يا خزاعي فلما بلغ إلى قوله:

إذا وتروا مدوا إلى واتريهم *** أكفا عن الأوتار منقبضات

جعل أبو الحسن (علیه السلام) يقلب كفيه ويقول: أجل والله منقبضات، فلما بلغ إلى قوله:

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها *** وإني لأرجو الامن بعد وفاتي

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها *** وإني لأرجو الامن بعد وفاتي

قال الرضا (علیه السلام): أمنك الله يوم الفزع الأكبر، فلما انتهى إلى قوله:

وقبر بغداد لنفس زكية *** تضمنها الرحمان في الغرفات

قال له الرضا (علیه السلام): أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين، بهما تمام قصيدتك؟

فقال: بلى يا ابن رسول الله، فقال (علیه السلام):

ص: 239

وقبر بطوس يا لها من مصيبة *** توقد بالأحشاء في الحرقات

إلى الحشر حتى يبعث الله قائما *** يفرج عنا الهم والكربات

فقال دعبل: يا ابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو؟ فقال الرضا (علیهم السلام): قبري! ولا تنقضي الأيام والليالي حتى يصير طوس مختلف شيعتي وزواري، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة(1).

وتأججت حسراته وتحدرت دموعه

قال في كتاب وفاة الرضا (علیه السلام): قال دعبل: فعلت زفرات الرضا (علیه السلام) وتأججت حسراته وتحدرت دموعه وقال: وا قتيلاه، وا غيريباه، وا حسيناه، واعظم مصيبتاه، ليت الموت أعدمني الحياة، بنفسي أفدي جدي أسير الكربات وساكب العبرات وقتيل الطغاة يا لها من مصيبة ما أعظمها من رزية ما أكبرها يا دعبل هيجت عليّ أحزانا ساكنة وقد كانت في فؤادي كامنة لقد حل بهم الرزء العظيم والخطب الجسيم والمصيبة العظمى التي تزلزلت لها الجبال الرواسي وبكت لها السماء دما. فلما بلغ دعبل إلى قوله هذا:

أرى فيأَهم في غيرهم متقسما *** وأيديهمُ من فيئِهم صَفِراتِ

ص: 240


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 49 - الصفحة 239.

بكى أبو الحسن الرضا (علیه السلام) وقال: صدقت يا خزاعي فلما بلغ إلى قوله:

إذا وُتروا مدُّوا إلى واتريهمُ *** أكفاً عن الأوتار منقبضات

جعل أبو الحسن الرضا (علیه السلام) يقلب كفه ويقول: أجل والله منقبضات فلما بلغ إلى قوله:

لقد خفتُ في الدنيا وأيامِ سعيها *** وإني لأرجو الأمنَ بعد وفاتي

قال الرضا (علیه السلام) آمنك الله يوم الفزع الأكبر. ثم قال دعبل:

وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيةٍ *** تضمَّنها الرحمنُ في الغرفات

قال له الرضا (علیه السلام): أفلا اُلحق لك هذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا ابن رسول الله، فقال (علیه السلام):

وقبرٌ بطوسٍ يالها من مصيبةٍ *** أَلحَّت على الأحشاء بالزفرات

إلى الحشر يبعثَ اللهُ قائما *** يُفرِّج عنا الهمَّ والكربات

فقال دعبل: يا ابن رسول الله هذا القبر بطوس قبر من هو؟ فقال له: ذلك قبري ولا تمضي الأيام والليالي حتى يصير مختلف شيعتي وزواري ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة(1).

عيون أخبار الرضا (علیه السلام): عن هرثمة بن أعين كان من خدم المأمون وموالياً لأهل البيت ومحبّاً للعترة الطاهرة (علیهم السلام)، قال: كنت ليلة بين يدي

ص: 241


1- مجمع مصائب اهل البيت (علیهم السلام) ج3 شهادة الامام الرضا (علیه السلام).

المأمون حتى مضى من الليل أربع ساعات، ثمّ أذن لي بالإنصراف، فانصرفت، فلمّا مضى من الليل نصفه قرع قارع الباب فأجابه بعض غلماني، فقال له: قل لهرثمة أجب سيدك عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام)، فقمت مسرعاً وأخذت على أثوابي وأسرعت إلى سيدي الرضا (علیه السلام)، فدخل الغلام بين يديّ ودخلت وراءه فإذا أنا بسيدي في صحن داره جالس، فقال: يا هرثمة! فقلت: لبيك يا مولاي. فقال لي: اجلس، فجلست.

فقال لي: إسمع وع يا هرثمة هذا وإنّ رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وآبائي (علیه السلام)، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الرجل على سمّي في عنب ورمّان مفروك ; فأمّا العنبفإنّه يغمّس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط في العنب، وأمّا الرمان فإنّه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويأمره أن يفرّك الرمان بيده ليلطّخ حبّه فى ذلك السمّ، وإنّه سيدعوني في ذلك اليوم المقبل، ويقرّب إليّ الرمان والعنب ويسألني أن آكلهما، فآكلهما ثمّ ينفذ الحكم ويحضر القضاء. فإذا أنا متّ فسيقول: أنا أغسله بيدي، فإذا قال ذلك فقل له عنّي بينك وبينه: إنّه قال لي: لا تتعرّض لغسلي ولا لتكفيني ولا لدفني، فإنّك إن فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أخّر عنك، وحلّ بك أليم ما تحذر، فإنّه سينتهي.

قال: قلت: نعم يا سيدي. قال: فإذا خلّى بينك وبين غسلي، فسيجلس في علوٍّ من ابنيته مشرفاً على موضع غسلي لينظر فلا تعرّض يا

ص: 242

هرثمة لشيء من غسلي حتى ترى فسطاطاً أبيض قد ضربت في جانب الدار، فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها فضعني من وراء الفسطاط وقف من ورائه ومن يكون معكدونك ولا تكشف عن الفسطاط حتّى تراني فتهلك، فإنّه سيشرف عليك ويقول: يا هرثمة! أليس زعمتم أنّ الإمام لا يغسّله إلاّ إمام مثله، فمن يغسّل أباالحسن عليّ بن موسى وابنه محمّد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس؟! فإذا قال ذلك فأجبه وقل له: إنّا نقول إنّ الإمام لا يجب أن يغسّله إلاّ إمام، فان تعدّى متعدّ وغسّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّي غاسله، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بأن غلب على غسل أبيه، ولو ترك أبوالحسن عليّ بن موسى بالمدينة لغسله ابنه محمّد ظاهراً مكشوفاً، ولا يغسّله الآن أيضاً إلاّ هو من حيث يخفى.

فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرّجا في أكفاني فضعني على نعش واحملني فإذا أراد أن يحفر قبري فإنّه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري، ولا يكون ذلك أبداً، فإذا ضربت المعاول نبت على الأرض حجر ولم ينحفر لهم منه شيء ولا مثل قلامة ظفر، فإذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم فخذ المعول منهم واضرب به الأرض معولاً واحداً في قبله قبر الرشيد، فإذا ضربت ظهر قبر محفور وضريح قائم، فإذا انفرج ذلك القبر فلا تنزلني فيه حتى يفور من الضريح ماء أبيض فيمتلي منه ذلك القبر، ثم يضطرب فيه حوت بطوله، فإذا اضطرب فلا

ص: 243

تنزلني في القبرحتى إذا غاب الحوت وغار الماء فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح، ولا تتركهم يأتوا بتراب يلقونه عليّ، فإنّ القبر ينطبق بنفسه ويمتلي.

قال: قلت: نعم يا سيدي. ثمّ قال لي: احفظ ما عهدت إليك واعمل به، ولا تخالف. قلت: أعوذ بالله أن أخالفك أمراً يا سيدي. قال هرثمة: ثمّ خرجت باكياً حزيناً، فلم أزل كالحبّة على المقلاة لا يعلم ما في نفسي إلاّ الله، ثمّ دعاني المأمون فدخلت إليه فلم أزل قائماً إلى ضحى النهار، ثمّ قال المأمون: إمض يا هرثمة إلى أبي الحسن (علیه السلام) فاقرأه منّي السلام وقل له: تصير إلينا أو نصير إليك ; فإن قال لك: بل نصير إليه، فتسأله عنّي أن يقدّم ذلك. قال: فجئته، فلمّا أطلعت عليه قال لي: يا هرثمة! أليس قد حفظت ما أوصيتك به؟ قلت: بلى. قال: قدّموا نعلي، فقد علمت ما أرسلك به. قال: فقدّمت نعله ومشى إليه، فلمّا دخل المجلس قام إليه المأمون قائماً فعانقه وقبّل بين عينيه وأجلسه إلى جانبه على سريره وأقبل عليه يحادثه ساعة من النهار طويلاً، ثمّ قال لبعض غلمانه يؤتى بعنب ورمّان.

قال هرثمة: فلمّا سمعت ذلك لم أستطع الصبر ورأيت النفضة قد عرضت في بدني، فكرهت أن يتبيّن ذلك في وجهي، فتراجعت القهقري حتى خرجت فرميت نفسي في موضع من الدار، فلمّا قرب زوال الشمس أحسست بسيّدي قد خرج من عنده ورجع إلى داره، ثمّ رأيت

ص: 244

الأمر قد خرج من عند المأمون بإحضار الأطبّاء والمترفّقين. قلت: ما هذا؟ فقيل لي: علّة عرضت لأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام)، فكان الناس في شك وكنت على يقين لما أعرفه منه.

قال: فلمّا كان في الثلث الثاني من الليل علا الصياح وسمعت الوجبة من الدار، فأسرعت فيمن أسرع، فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس محلّ الأزرار قائماً على قدميه ينتحب ويبكي، فسألت، فقيل: إنّ عليّ بن موسى قد قضى نحبه، قال: فوقفت فيمن وقفوا وأنا أتنفّس الصعداء، ثمّ أصبحنا فجلس المأمون للتعزية ثمّ قام ومشى إلى الموضع الذي فيه سيدنا (علیه السلام)، فقال: أصلحوا لنا موضعاً فإنّي أريد أن أغسّله، فدنوت منه وقلت له ما قال سيديبسبب الغسل والتكفين والدفن، فقال لي: لست أعرض لذلك، ثمّ قال: شأنك يا هرثمة وما تريد.

قال: فلم أزل قائماً حتى رأيت الفسطاط قد ضرب إلى أن غسّل وحنّط وكفّن وظهر جميع ما أخبر الإمام (علیه السلام) حتى دفن (علیه السلام) في حفرته وانصرف المأمون إلى بيته فاخلّى مجلسه وقال لي: يا هرثمة أسألك بالله لمّا أصدقتني عن أبي الحسن قدّس الله روحه بما سمعته منك. فقلت: قد أخبرت أميرالمؤمنين بما قال لي. فقال: بالله إلاّما قد صدقتني عمّا أخبرك به غير الذي قلت لي. قلت: يا أميرالمؤمنين! فعمّا تسألني؟ فقال: يا هرثمة! هل أسرّ إليك شيئاً غير هذا؟ قلت: نعم. قال: ما هو؟ قلت: خبر العنب والرمّان.

ص: 245

قال: فأقبل المأمون يتلوّن ألواناً يصفرّ مرّة ويحمرّ أخرى ويسودّ أخرى ثمّ تمدّد مغشيّاً عليه، فسمعته في غشيته وهو يهجر ويقول: ويل للمأمون من الله! ويل له من رسول الله! ويل له من عليّ! ويل للمأمون من فاطمة! ويل للمأمون من الحسن والحسين! ويل للمأمون من عليّ بن الحسين! ويل للمأمون من محمّد بن علي! ويل للمأمون من جعفر بن محمّد! ويل للمأمون من موسى بن جعفر! ويل للمأمون من عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) هذا والله هو الخسران المبين، يقول هذا القول ويكرّره ندماً، ولا ينفعه الندم كما ندم أشباهه ونظائره وشركاؤه ممّن أساؤا بالعترة الطاهرة منهم يزيد بن معاوية لعنه الله كما قالت زوجته هند:

فانتبهت من نومي فزعة مرعوبة فجعلت أطلب يزيد، فرأيته وقد دخل في بيت مظلم ودار وجهه إلى الحائط ويقول: مالي وللحسين.

قال هرثمة: فلمّا رأيته قد أطال ذلك ولّيت عنه وجلست في بعض نواحي الدار. قال: فجلس ودعاني فدخلت إليه وهو جالس كالسكران فقال: والله ما أنت أعزّ عليّ منه، ولا من جميع من في الأرض والسماء، والله لئن بلغني أنّك أعدت بعد ما سمعت ورأيت شيئاً ليكوننّ هلاكك فيه. قال: فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن ظهرت عليّ شيء من ذلك منّي فأنت في حلّ من دمي. قال: لا والله أو تعطيني عهداً أو ميثاقاً على كتمان هذا وترك إعادته، فأخذ عليّ العهد والميثاق وأكّده عليّ. قال: فلمّا ولّيت عنه صفق بيده وقال:(یَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لَا یَستَخفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ

ص: 246

مَعَهُم إِذ يُبَيِتُنَ مَا لَا یَرضَی مِنَ القَولِ وَ کانَ اللهُ بِما یَعمَلُونَ مُحِیطاً )(1).

وخرج مغطّى الرأس، فلم أكلّمه

في البحار عن عيون أخبار الرضا عن أبي الصلت الهروي قال: بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن (علیه السلام) إذ قال لي: يا أبا الصلت! أدخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون وائتني بتراب من أربعة جوانبها. قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثّلت بين يديه قال لي: ناولني هذا التراب وهو من عند الباب، فناولته فأخذه وشمّه ثمّ رمى به وقال: سيحفر لي هاهنا، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها، ثمّ قال في الذي عند الرجل والذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: ناولني هذا التراب فهو من تربتي.

ثمّ قال: سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا إلى سبع مراقي إلى أسفل، وأن تشقّ لي ضريحة، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً، فإنّ الله تعالى سيوسّعه ما يشاء، وإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوة، فتكلّم بالكلام الذي أعلّمك فإنّه ينبع الماء حتى يمتلي اللحد وترى فيه حيتاناً صغاراً، ففتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة

ص: 247


1- مدينة المعاجز - السيد هاشم البحراني - ج 7 - الصفحة 165.

فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقى منها شيء ثمّ تغيب، فإذا غابت فضع يدك على الماء ثمّ تكلّم بالكلام الذي أعلّمك، فإنّه ينصبّ الماء ولا يبقى منه شيء، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون.

ثمّ قال (علیه السلام): يا أبا الصلت! غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن أنا خرجت مكشوف الرأس فتكلّم أكلّمك، وإذا خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني. قال أبوالصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس فجعل في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال له: أجب أميرالمؤمنين، فلبس نعله ورداءه وقام ومشى وأنا أتبعه، حتى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليهعنب وأطباقفاكهة وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه، فلمّا أبصر ألرضا (علیه السلام) وثب إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود وقال: يابن رسول الله! ما رأيت عنباً أحسن من هذا. فقال له الرضا (علیه السلام): ربما يكون حسناً يكون من الجنّة فقال له كل منه فقال له الرضا (علیه السلام) تعفيني عنه؟ فقال: لابدّ من ذلك وما يمنعك منه، لعلّك تتّهمنا بشيء؟ فتناول العنقود فأكل منه ثمّ ناوله فأكل منه الرضا (علیه السلام) ثلاث حبّات ثمّ رمى به وقام.

فقال المأمون: إلى أين؟ فقال: إلى حيث وجّهتني. وخرج مغطّى الرأس، فلم أكلّمه حتى دخل الدار، فأمر أن يغلّق الباب، فغلق ثمّ نام على فراشه ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً، فبينا أنا كذلك

ص: 248

إذ دخل علي شابّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا (علیه السلام)، فبادرت إليه وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق. فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: أنا حجّة الله عليك يا أبا الصلت، أنا محمّد بن علي، ثمّ مضى نحو أبيه (علیه السلام) فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا (علیه السلام)وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ثمّ سحبه سحباً في فراشه وأكبّ عليه محمّد بن علي (علیه السلام) يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه، ورأيت في شفتي الرضا (علیه السلام) زبداً أشدّ بياضاً من الثلج، ورأيت أبا جعفر (علیه السلام) يلحسه بلسانه، ثمّ أدخل يده بين ثوبيه وصدره فاستخرج منه شيئاً شبيهاً بالعصفور فابتلعه أبوجعفر (علیه السلام) ومضى الرضا (علیه السلام).

فقال أبو جعفر (علیه السلام): يا أبا الصلت! قم ائتني بالمغتسل والماء من الخزانة. فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولا ماء. فقال لي: انته إلى ما آمرك به، فدخلت الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء، فأخرجته وشمّرت ثيابي لأغسله معه، فقال لي: تنحّ يا أباالصلت، فإنّ لي من يعينني غيرك. فغسّله ثمّ قال لي: أدخل الخزانة فاخرج لي السفط الذي فيه كفنه وحنوطه، فدخلت فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة قط، فحملته إليه فكفّنه وحنّطه وصلّى عليه، ثمّ قال لي: ائتني بالتابوت. فقلت: أمضي إلى النجار حتى يصلح التابوت؟ قال: قم فإنّ في الخزانة تابوتاً، فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قط، فأتيته به فأخذ الرضا (علیه السلام) بعد ما صلّى

ص: 249

عليه فوضعه فيالتابوت وصفّ قدميه وصلّى ركعتين لم يفرغ منهما حتى علا التابوت فانشق السقف فخرج منها التابوت ومضى. فقلت: يابن رسول الله! الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضا (علیه السلام) فما نصنع؟ فقال لي: أسكت فإنّه سيعود يا أبا الصلت، ما من نبي يموت بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلاّ وجمع الله تعالى بين أرواحهما وأجسادهما، فما أتمّ الحديث حتى انشقّ السقف ونزل التابوت، فقام (علیه السلام) فاستخرج الرضا (علیه السلام) من التابوت ووضعه على فراشه كأنّه لم يغسّل ولم يكفّن.

ثمّ قال لي: يا أباالصلت قم فافتح الباب للمأمون، ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه ولطم رأسه وهو يقول: يا سيداه! فجعت بك يا سيدي، ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال: خذوا في تجهيزه، فأمر بحفر القبر فحفرت الموضع فظهر كلّ شيء على ما وصفه الرضا (علیه السلام)، فقال له بعض جلسائه: ألست تزعم أنّه إمام؟ قال: بلى، قال: لا يكون إلاّ مقدّم الناس، فأمر أن يحفر له في القبلة، فقلت: أمرني أن أحفر له سبع مراقي، وأن أشقّ له ضريحة، فقال: انتهوا إلى ما يأمر به أبوالصّلت سوى الضّريح ولكن يحفر له ويلحد، فلمّا رأى ما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك. قال المأمون: لم يزل الرضا (علیه السلام) يرينا عجائبه في حياته حتى أراناها بعد وفاته أيضاً.

فقال له وزير كان معه: أتدري ما أخبرك به الرضا (علیه السلام)؟ قال: لا، قال: إنّهأخبرك أنّ ملككم يا بني العباس مع كثرتكم وطول مدتكم مثل

ص: 250

هذه الحيتان حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلّط الله تعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم. قال له: صدقت، ثمّ قال لي: يا أباالصلت! علّمني الكلام الذي تكلّمت به. قلت: والله لقد نسيت الكلام من ساعتي، وقد كنت صدقت، فأمر بحبسي ودفن الرضا (علیه السلام)، فحبست سنة، فضاق عليّ الحبس، وسهرت الليلة ودعوت الله تعالى بدعاء ذكرت فيه محمّداً وآله صلوات الله عليهم وسئلت الله تعالى بحقّهم أن يفرّج عنّي، فما استتمّ الدعاء حتى دخل عليّ أبو جعفر محمّد بن علي (علیه السلام) فقال: يا أباالصلت! ضاق صدرك؟ فقلت: إي والله، قال: قم واخرج، ثمّ ضرب يده إلى القيود التي كانت، ففكّها وأخذ بيدي وأخرجني منالدار والحرسة والغلمة يروني فلم يستطيعوا أن يكلّموني، وخرجت من باب الدار، ثمّ قال لي: إمض في ودايع الله، فإنّك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبداً. فقال أبوالصلت: فلم ألتق إلى هذا الوقت مع المأمون(1).

وغسل أبوالحسن في الليل ودفن ليلاً

عيون أخبار الرضا (علیه السلام): الهمداني، عن علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم قال: لما كان بيننا وبين طوس سبعة منازل اعتل أبو الحسن (علیه السلام)

ص: 251


1- مسند الإمام الرضا (علیه السلام) - الشيخ عزيز الله عطاردي - ج 1 - الصفحة 196 وفي البحار وعيون أخبار الرضا ونور الابصار للمازندراني وغيرعا.

فدخلنا طوس وقد اشتدت به العلة، فبقينا بطوس أياما فكان المأمون يأتيه في كل يوم مرتين فلما كان في آخر يومه الذي قبض فيه كان ضعيفا في ذلك اليوم فقال لي بعد ما صلى الظهر: يا ياسر أكل الناس شيئا؟ قلت: يا سيدي من يأكل ههنا مع ما أنت فيه.

فانتصب (علیه السلام) ثم قال: هاتوا المائدة ولم يدع من حشمه أحدا إلا أقعده معه على المائدة يتفقد واحدا واحدا، فلما أكلوا قال: ابعثوا إلى النساء بالطعام فحمل الطعام إلى النساء فلما فرغوا من الأكل أغمي عليه وضعف، فوقعت الصيحة وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوجبة بطوس وجاء المأمون حافيا وحاسرا يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويتأسف ويبكي وتسيل الدموع على خديه فوقف على الرضا (علیه السلام) وقد أفاق فقال: يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم علي فقدي لك وفراقي إياك أو تهمة الناس لي أني اغتلتك وقتلتك، قال: فرفع طرفه إليه ثم قال: أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر، فان عمرك وعمره هكذا وجمع بين سبابتيه.

قال: فلما كان من تلك الليلة قضى عليه بعد ما ذهب من الليل بعضه، فلما أصبح اجتمع الخلق وقالوا: هذا قتله واغتاله يعني المأمون وقالوا: قتل ابن رسول الله وأكثروا القول والجلبة، وكان محمد بن جعفر بن محمد عليهما السلام استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان وكان عم أبي الحسن فقال له المأمون: يا أبا جعفراخرج إلى الناس وأعلمهم أن أبا

ص: 252

الحسن لا يخرج اليوم وكره أن يخرجه فتقع الفتنة فخرج محمد بن جعفر إلى الناس فقال: أيها الناس تفرقوا فان أبا الحسن لا يخرج اليوم، فتفرق الناس وغسل أبو الحسن في الليل، ودفن(1).

نعم: دفن الرضا (علیه السلام) ليلاً ودفن أميرالمؤمنين (علیه السلام) ليلاً ودفنت فاطمة (علیها السلام) ليلاً:

ولأيّ الأمور تدفن سرّاً *** بضعة المصطفى ويعفى ثراها

وهو مدفون بأرض الغربة

وروى الشيخ الصدوق أنّ رجلاً من الصالحين رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيما يرى النائم، فقال له: يا رسول الله! من أزور من أولادك؟ فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): إنّ من أولادي من أتاني مسموماً، وإنّ من أولادي من أتاني مقتولا. قال: فقلت له: من أزور منهم يا رسول الله مع تشتّت أماكنهم ومشاهدهم؟ قال: من هو أقرب منك يعني بالمجاورة، وهو مدفون بأرض الغربة. قال: فقلت: يا رسول الله! تعني الرضا (علیه السلام). فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): قل: صلّى الله عليه وآله قل: صلّى الله عليه وآله، قل: صلّى الله عليه وآله(2).

ما أشجى هذه الكلمة وأحرقها للقلوب، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إنّ

ص: 253


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 49 - الصفحة 299.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) - الشيخ الصدوق - ج 1 - الصفحة 314.

من أولادي من أتاني مسموماً، وإنّ من أولادي من أتاني مقتولا، وممّن ورد عليه مسموماً شهيداً مظلوماً عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) وهو الذي أشير إليه في زيارة أئمّة المؤمنين: ومسموم قد قطّعت بجرع السمّ أمعاؤه، وقطّعت كبده بسمّ سقاه المأمون.

الامام الجواد (علیه السلام) يقيم ماتما على ابيه (علیه السلام)

في (كشف الغمّة) عن معمر بن خلاّد قال: قال لي أبو جعفر (علیه السلام): يا معمر! أركب. قلت: إلى أين؟ قال: أركب كما يقال لك. قال:فركبت فانتهيت إلى واد، فقال لي: قف هاهنا، فمضى، فوقفت فأتاني بعد زمان، فقلت له: جعلت فداك، أين كنت؟ قال: مضيت إلى خراسان، ودفنت أبي الساعة، وكان أهل بيته وعمومة أبيه يأتونه ويسلّمون عليه في كلّ يوم، فلمّا دخل الدار دعا الجارية فقال (علیه السلام): قولي لهم يتهيّأون للمأتم، فلمّا تفرّقوا قالوا: ما سألناه مأتم من؟ فلمّا كان من الغد فعل مثل ذلك، وقال مثل قوله، فقالوا: مأتم من؟ فقال: مأتم خير من على ظهرها، مأتم أبي، فقد قضى مسموماً. قال: فأتانا خبر أبي الحسن الرضا (علیه السلام) بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم مسموماً(1).

ص: 254


1- نور الابصار للمازندراني.

حتى قام الرضا (علیه السلام) خمسين مجلساً

ورواه الصدوق بتفاوت وفيه كان الرمان في شجرة في بستان في دار الرضا (علیه السلام) وقال المأمون للرضا (علیه السلام) مص منه شيئاً، فقال: حتى يخرج امير المؤمنين فقال: لا والله الا بحضرتي ولولا خوفي ان يرطب معدتي لمصصته معك، فمص منه ملاعق وخرج المأمون فما صليت العصر حتى قام الرضا (علیه السلام) خمسين مجلساً وزاد الأمر في الليل، قلت قد اشير الى ذلك في زيارة ائمة المؤمنين في هذه الفقرة، ومسموم قد قطعت بجرع السم امعاؤه(1).

ص: 255


1- نور الابصار للمازندراني.

ص: 256

مصائب الامام محمد الجواد (علیه السلام)

اشارة

ص: 257

ص: 258

يقتل غصبا، فيبكي له وعليه أهل السماء

عن كليم بن عمران قال: قلت للرضا (علیه السلام): ادع الله أن يرزقك ولدا، فقال: إنما ارزق ولدا واحدا وهو يرثني فلما ولد أبو جعفر (علیه السلام) قال الرضا (علیه السلام) لاصحابه: قد ولد لي شبيه موسى بن عمران، فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم قدست ام ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة، ثم قال الرضا (علیه السلام): يقتل غصبا فيبكي له وعليه أهل السماء، ويغضب الله تعالى على عدوه وظالمه، فلا يلبث إلا يسيرا حتى يعجل الله به إلى عذابه الاليم وعقابه الشديد، وكان طول ليلته يناغيه في مهده. بيان: قال الجوهري: المرأة تناغي الصبي أي تلكمه بما يعجبه ويسره(1).

فرجي بعد المأمون بثلاثين شهرا

الفرج له معنى كلّى وهو من الانفراج أى الانكشاف، فرج: أصل صحيح يدلّ على تفتّح في الشي ء، من ذلك الفرجة في الحائط وغيره فرّج الله غمّك تفريجا، وكذلك فرّج الله غمَّك يفرج، أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو حصول مطلق انفراج بين الشيئين، في مادّىّ أو معنوىّ، وسبق في موادّ - الفتح، والفتق، والفجّ، والفجر، والفجور: امتياز كلّ منها.

ص: 259


1- بحار الأنوار / جزء 50 / صفحة [15].

تأخر ولادته

عن الحسين بن يسار الواسطي، قال: سئلني الحسين بن قياما الصيرفي، وكذا في إثبات الوصية، ونوادر المعجزات.

إمام؟ قال: نعم! قال: إني أشهد الله أنك لست بإمام! قال: فنكت (علیه السلام) في الأرض طويلا منكس الرأس، ثم رفع رأسه إليه، فقال له: ما علمك أني لست بإمام؟ قال له: إنا قد روينا عن أبي عبد الله (علیه السلام): إن الأمام لا يكون عقيما، وأنت قد بلغت السن، وليس لك ولد. قال: فنكس رأسه أطول من المرة الأولى، ثم رفع رأسه، فقال: إني أشهد اللهأنه لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولدا مني(1).

قال عبد الرحمان بن أبي نجران: فعددنا الشهور من الوقت الذي قال، فوهب الله له أبا جعفر (علیه السلام) في أقل من سنة. قال: وكان الحسين بن قياما هذا واقفا في الطواف، فنظر إليه أبو الحسن الأول (علیه السلام) فقال: مالك حيرك الله تعالى؟! فوقف عليه بعد الدعوة(2).

القيافة والاتهام

عن أبي محمد الحسن بن علي، قال: كان أبو جعفر شديد الأُدمة (حائل اللون) ولقد قال فيه الشاكّون المرتابون - وسنّه خمسة وعشرون

ص: 260


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) - الشيخ الصدوق - ج 1 - الصفحة 226.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 49 - الصفحة 34.

شهراً -: إنّه ليس هو من ولد الرضا.

وقالوا لعنهم الله: إنّه من شُنيف الأسود مولاه، وقالوا: من لؤلؤ؛ وإنّهم، أخذوه، والرضا عند المأمون، فحملوه إلى القافة، وهو طفل بمكّة في مجمع من الناس بالمسجد الحرام، فعرضوه عليهم، فلمّا نظروا إليه، وزرقوه بأعينهم، خرّوا لوجوههم سجّداً، ثمّ قاموا.

فقالوا لهم: يا ويحكم! مثل هذا الكوكب الدرّي، والنور المنير، يعرض على أمثالنا، وهذا والله، الحسب الزكي، والنسب المهذّب الطاهر، والله ما تردّد إلّا في أصلاب زاكية، وأرحام طاهرة، ووالله ما هو إلّا من ذرّيّة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، ورسول الله، فارجعوا واستقيلوا الله، واستغفروه، ولاتشكّوا في مثله.

وكان في ذلك الوقت سنّه خمسة وعشرين شهراً؛ فنطق بلسان أرهف من السيف، وأفصح من الفصاحة، يقول:

الحمد للّه الذي خلقنا من نوره بيده، واصطفانا من بريّته، وجعلنا أُمناءه على خلقه ووحيه. معاشر الناس! أنا محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي سيّد العابدين بن الحسين الشهيد بن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، وابن فاطمة الزهراء، وابن محمد المصطفى. ففي مثلييشكّ، وعليّ وعلى أبوىّ يفترى، وأُعرض على القافة!؟

وقال: والله! إنّني لأعلم بأنسابهم من آبائهم، إنّي والله لأعلم

ص: 261

بواطنهم وظواهرهم، وإنّي لأعلم بهم أجمعين، وما هم إليه صائرون، أقوله حقّاً، واُظهره صدقاً، علماً ورّثناه الله قبل الخلق أجمعين، وبعد بناء السماوات والأرضين(1).

فقه القيافة

قال الفقهاء في الفتوى:لايجوز العمل بالقافة حرام فعله والاعتماد عليه.

فيما صنع بأمّي فاطمة (علیه السلام)

البحار روى عن زكريا بن آدم قال: إنّي لعند الرضا (علیه السلام) إذ جيئ بأبي جعفر (علیه السلام) وسنّه أقل من أربع سنين، فضرب بيده إلى الأرض ورفع رأسه إلى السماء وأطال الفكر. فقال له الرضا (علیه السلام): بنفسي فلم طال فكرك؟ فقال: فيما صنع بأمّي فاطمة (علیها السلام)، أما والله لأخرجنّهما ثمّ لأحرقنّهما ثمّ لأذرّنّهما ثمّ لأنسفنّهما في أليم نسفاً. فاسندناه وقبّل بين عينيه ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي، أنت لها يعني الإمامة(2).

وعلق البعض: فإذا كان إمامنا الجواد (علیه السلام) يتفكر ويتذكّر مصائب

ص: 262


1- دلائل الامامة - محمد بن جرير الطبري (الشيعي) - الصفحة (384).
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 50 - الصفحة 59.

جدّته فاطمة (علیها السلام) ويبكي ويرتعش ويتحسّر ويحزن إذاً ما حال أميرالمؤمنين (علیه السلام) يوم نظر إلى وجه فاطمة (علیها السلام) فرأى أثر اللطم على خدّها ولمّا وضعها على المغتسل وجد ضلعها مكسوراً.

وبكسر ذاك الضلع رضّت أضلع *** في طيّها سرّ الإله مصون

لولا سقوط جنين فاطمة لما *** أردى لها في كربلاء جنين

فتنة صغر سنة والامامة

واختلف الناس في جميع الامصار، واجتمع الريان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمان بن الحجاج، ويونس بن عبد الرحمان، وجماعة من وجوه العصابة في دار عبد الرحمان بن الحجاج، في بركة زلزل، يبكون ويتوجعون من المصيبة. فقال لهم يونس: دعوا البكاء، من لهذا الأمر يفتي بالمسائل إلى أن يكبر هذا الصبي؟ يعني أبا جعفر (علیه السلام) وكان له ست سنين وشهور. ثم قال: أنا ومن مثلي! فقام إليه الريان بن الصلت، فوضع يده في حلقه، ولم يزل يلطم وجهه ويضرب رأسه، ثم قال له: يا ابن الفاعلة! إن كان أمر من الله جل وعلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة، وإن لم يكن من عند الله فلو عمر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة عليهم السلام أو ببعضه، أو هذا مما ينبغي أن ينظر فيه؟ وأقبلت العصابة على

ص: 263

يونس تعذله. وقرب الحج، واجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلا، وخرجوا إلى المدينة، وأتوا دار أبي عبد الله (علیه السلام)، فدخلوها، وبسط لهم بساط حمر، وخرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس، وقام مناد فنادى: هذا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن أراد السؤال، فليسأل. فقام إليه رجل من القوم فقال له: ما تقول في رجل قال لأمرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ قال: طلقت ثلاث دون الجوزاء. فورد على الشيعة ما زاد في غمهم وحزنهم. ثم قام إليه رجل آخر فقال: ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ قال: تقطع يده، ويجلد مائة جلدة، وينفى. فضج الناس بالبكاء. وكان قد اجتمع فقهاء الأمصار. فهم في ذلك إذ فتح باب من صدر المجلس، وخرج موفق. ثم خرج أبو جعفر (علیه السلام)، وعليه قميصان، وإزار، وعمامة بذؤابتين، إحداهما من قدام، والاخرى من خلف، ونعل بقبالين، فجلس وأمسك الناس كلهم، ثم قام إليه صاحب المسألة الاولى، فقال: يا ابن رسول الله! ما تقول فيمن قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فقال له: يا هذا! اقرأ كتاب الله، قا ل الله تبارك وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)(1). في الثالثة. قال: فإن عمك أفتاني. بكيت وكيت!! فقال له: يا عم! اتق الله، ولاتفت وفيالأمة من هو أعلم منك. فقال إليه

ص: 264


1- سورة البقرة، الآية 229.

صاحب المسألة الثانية، فقال له: يا ابن رسول الله! ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ فقال: يعزر ويحمى ظهر البهيمة، وتخرج من البلد، لا يبقى على الرجل عارها. فقال: إن عمك أفتاني. بكيت وكيت. فالتفت وقال بأعلى صوته: لا إله إلا الله، يا عبد الله! إنه عظيم عند الله أن تقف غدا بين يدي الله، فيقول لك: لم أفتيت عبادي بما لاتعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك؟! فقال له عبد الله بن موسى: رأيت أخي الرضا (علیه السلام) وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب. فقال له أبو جعفر (علیه السلام): إنما سئل الرضا (علیه السلام) عن نباش نبش قبر امرأة ففجر بها، وأخذ ثيابها، فأمر بقطعه للسرقة، وجلده للزنا، ونفيه للمثلة. ففرح القوم(1).

قبوله الامام (علیه السلام) الزواج

تعبيرا عن آلامه النفسيّه التي كان (علیه السلام) يتحمّلها بسببه، وتجسيدا لما كان يلاقيه ويراه منه.

أنّ قبوله (علیه السلام) الزواج من ابنه المأمون كان كقبول والده (علیه السلام) - من قبل - ولايه العهد صوريّا، وكان بإرادته جلّ وعلا ومن ألطافه ذلك أنّ جذور الرساله المحمّديّه الّتي أرساها آباؤه وأجداده الميامين (علیهم السلام) والّتي أثمرت فيما بعد عن المدرسه الباقريّه والجعفريّه الكبري، كانت قد تعرّضت وكذا أتباعها ومريدوها إلي العديد من الضغو طات

ص: 265


1- دلائل الأمامة: ص 388، ح 343.

والتهديدات من قبل الحكام الامويّين، والّتي بلغت ذروتها أيّام الحكم الهاروني، حيث اودع الإمام الكاظم (علیه السلام) غياهب السجون؛ إلّا أنّ دخول الإمام الرضا (علیه السلام) أروقه قصر الخلافه، ونفوذ كلمته بتنصيبه - مكرها - وليّا للعهد مع علمه (علیه السلام) بشهادته قبل وفاه المأمون؛و كذلك مصاهره ابنه الجواد (علیه السلام) للخليفه ساعدا علي ازدهار هذه المدرسه، وانتعاش حال أتباعها وتلاميذها أيّام إمامتيهما (علیهم السلام).

تزويجه شر خلق الله

أم الفضل: بنت المأمون العباسي وزوجة الامام الجواد (علیه السلام) تلكالزوجة المشؤومة، تلك المرأة المعقدة بالعقدة النفسية، لأنها لم تنجب طفلا للامام الجواد. وكان من ألطاف الله تعالي أن هذه المرأة ما انجبت من الامام الجواد، لأن الله عزوجل لم ير فيها المؤهلات لتكون اما للامام فتفوز بسعادة الدنيا والآخرة. انها كانت تتوقع أن يبقي الامام الجواد معها مقطوع النسل، محروما عن الذرية كرامة لعدائها ومشاغباتها ضده (علیه السلام). ان كانت أم الفضل لا تفهم القيم والمعنويات، ولا يهمها الا عواطفها فقط فان الامام الجواد (علیه السلام) يجب ان يحافظ علي نسله، ولا يكتفي بالمرأة العقيم العاقر. يجب علي الامام أن يتزوج امرأة اخري كي لا ينقطع حبل الامامة، وهو يعلم أن ثلاثة من ائمة الهدي سيكونون من نسله، آخرهم الامام المهدي صاحب الزمان (علیه السلام). فاذا كانت أم الفضل تنزعج من زواج الامام الجواد بامرأة

ص: 266

اخري فليكن، فليس هذا مهما أمام ذلك الهدف العظيم الأسمي.

فقد تزوج الامام الجواد (علیه السلام) بامرأة اخري، وبعبارة اخري: اشتري جارية مغربية اسمها سمانة، وهي السيدة التي أنجبت للامام الجواد اولادا وبنات، فثارت في أم الفضل رذيلة الحقد والحسد. وكانت تشكو الامام الجواد (علیه السلام) الي أبيها المأمون بسبب زواجه أو شرائه الجارية، وكان المأمون لا يبالي بكلامها، ولم يعبأ بقولها، لأن قصور المأمون كانت حافلة بالجواري، وكان يقضي أكثر أوقاته معهن.

أنواع الانحرافات والآفات الاجتماعية المتعدِّدة

مَنْ منّا لم يعتصر قلبه الألم وهو يشاهد أنواع الانحرافات والآفات الاجتماعية المتعدِّدة، حيث إنَّ المرحلة الراهنة تشهد ما يلي: - الضياع الأخلاقي وضعف العواطف والمشاعر الأُسرية بشكل يتجاوز حدود الوصف.

صفات المعتصم

أما صفات المعتصم ونزعاته التي عُرِف بها فهي كما يلي:

الحماقة

وكان من صفات المعتصم الحماقة، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه إذا

ص: 267

غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل وهذا منتهى الحمق الذي هو من أرذل نزعات الإنسان.

كراهته للعلم

وكان المعتصم يكره العلم، ويبغض حملته، وقد كان معه غلام يقرأ معه في الكتاب، فتوفّي الغلام فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك قال: نعم يا سيدي واستراح من الكتاب، فقال له الرشيد: وان الكتاب ليبلغ منك هذا دعوه لا تعلّموه.

وبقي أمّياً، وحينما ولي الخلافة كان لا يقرأ ولا يكتب، وكان له وزير عامّي، وقد وصفه أحمد بن عامر بقوله: (خليفة أمّي ووزير عامّي).

لقد كان عارياً من العلم، والفضل، وعارياً من كل صفة شريفة يستحق بها منصب الخلافة في الإسلام التي هي أخطر منصب يناط به إقامة الحق والعدل بين الناس، هذه بعض الصفات الماثلة فيه.

بغضه للعرب

وكان المعتصم شديد الكراهية والبغض للعرب وقد بالغ في إذلالهم والاستهانة بهم فقد أخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء كما منعهم الولايات.

ص: 268

ولاؤه للأتراك

كان المعتصم يكنّ في أعماق نفسه خالص الولاء والحب للأتراك، فقد أخذ يستعين بهم في بناء دولته، ويعود السبب في ذلك إلى أن أمه (ماردة) كانت تركية فكان يحكي الأتراك في طباعهم ونزعاتهم، وقد بعث في طلبهم من فرغانة، واشروسنة واستكثر منهم(5) وقد بلغ عددهم في عهده سبعين ألفاً، وقد حرص المعتصم على أن تبقى دماؤهم متميزة فجلب لهم نساءً من جنسهم فزوجهم بهن، ومنعهم من الزواج بغيرهن وقد ألبسهم أنواع الديباج، والمناطق الذهبية وقد أسند لهم قيادة الجيش، وجعل لهم مراكز في مجال السياسة والحرب وحرم العرب ممّا كان لهم من قيادةالجيوش، وقد آثرهم على الفرس والعرب في كلّ شيء.

وقد أساء الأتراك إلى المواطنين فكانوا يسيرون في شوارع بغداد راكبين خيولهم دون أن يعبأوا بالمارّة فكانوا يسحقون الشيخ والمرأة والطفل وقد ضجّت بغداد من اعتدائهم وعدم مبالاتهم.

وقد وصف دعبل الخزاعي مدى تسلّط الأتراك على المعتصم وبنوع خاصّ وصيف واشناس التركيّين يقول:

لقد ضاع أمر الناس إذ ساس ملكهم *** وصيف واشناس وقد عظم الكرب

وذكر دعبل أنّ المعتصم عهد بوزارته إلى الفضل بن مروان وكان نصرانيّاً في الأصل قال:

وفضل بن مروان سيثلم ثلمة *** يظلّ لها الإسلام ليس لها شعب

ص: 269

المعتصم مع الإمام الجواد (علیه السلام)

وأترعت نفس المعتصم بالحقد والكراهية للإمام الجواد (علیه السلام) فكان يتميّز من الغيظ حينما يسمع بفضائل الإمام ومآثره، وقد دفعه حسده له أن قدم على اغتياله كما سنتحدّث عن ذلك.

إشخاص الإمام إلى بغداد:

وأشخص المعتصم الإمام الجواد (علیه السلام) إلى بغداد فورد إليها لليلتين بقيتا من المحرم سنة (220 ه).

وقد فرض عليه الإقامة الجبرية فيها ليكون على علم بجميع شؤونه وأحواله كما فرض عليه في نفس الوقت الرقابة الشديدة، وحجبه من الاتصال بشيعته، والقائلين بإمامته.

الوشاية بالإمام

الوشاية بالإمام الجواد (علیه السلام) من أبي داود السجستاني الذي كان من أعلام ذلك العصر، أمّا السبب في ذلك فيعود إلى حسده للإمام (علیه السلام).

والحسد داء خبيث ألقى الناس في شرّ عظيم، لقد حقد أبو داود على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد وذلك حينما أخذ المعتصم برأيه في مسألة فقهية وترك بقية آراء الفقهاء، فتميّز أبو داود غيظاً وغضباًعلى الإمام (علیه السلام)، وسعى إلى الوشاية به، وتدبير الحيلة في قتله، وبيان ذلك ما رواه زرقان

ص: 270

الصديق الحميم لأبي داود قال: إنّه رجع من عند المعتصم وهو مغتمّ، فقلت له: في ذلك.. قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمد بن عليّ (علیه السلام) فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمّم: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)(1) واتّفق معي على ذلك قوم، وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ الله قال: ( وَأَيْدِيكُمْ إلَی ألمَرَافِقِ)(2) قال: فالتفت إلى محمد بن علي (علیه السلام) فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ قال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين قال: دعني ممّا تكلّموا به، أي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرتني بما عندك فيه، فقال: إذا أقسمت عليّ بالله إنّي أقول: إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ، قال: لِمَ؟ قال: لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى: ( وَ أَنَّ ألمَسَجِدَ اللَّهَ)(3) يعني به هذه الأعضاء السبعة

ص: 271


1- سورة النساء، الآية 43.
2- سورة المائدة، الآية 6.
3- سورة الجن، الآية 18.

التي يسجد عليها (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)(1) وما كان لله لم يقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.

قال زرقان: إنّ أبا داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم إنّي أدخل به النار قال: ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين فسألهمعن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك.

وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزرائه، وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم، لقول رجل: يقول شطر هذه الأمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء.

قال: فتغيّر لونه، وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً..(2).

الكذب على الامام (علیه السلام)

عن [محمد] بن أورمة قال: إن المعتصم دعا جماعة من وزرائه وقال:

ص: 272


1- سورة الجن، الآية 18.
2- تفسير العياشي: ج 1 ص 319، البرهان: ج 1 ص 471، البحار: ج 12 ص 99، وسائل الشيعة: ج 18 ص 490.

اشهدوا لي على محمد بن علي بن موسى الرضا زورا واكتبوا بأنه أراد أن يخرج. ثم دعاه فقال: إنك أردت أن تخرج علي. فقال: والله ما فعلت شيئا من ذلك. قال: إن فلانا وفلانا شهدوا عليك. وأحضروا، فقالوا: نعم، هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك. قال: وكان جالسا في [بهو] فرفع أبو جعفر (علیه السلام) يده وقال: اللهم إن كانوا كذبوا علي فخذهم. قال: فنظرنا إلى ذلك البهو يرجف ويذهب ويجئ، وكلما قام واحد وقع، فقال المعتصم: يا بن رسول الله، تبت مما قلت، فادع ربك أن يسكنه. فقال: اللهم سكنه وإنك تعلم بأنهم أعداؤك وأعدائي، فسكن(1).

حتى قطعته قطعة قطعة ثمّ وضعت سيفك على حلقه فذبحته

فبينما نحن نتذاكر فضل محمّد وكرمه وما أعطاه الله من العلم والحكمة إذ قالت امرأته أمّ الفضل: يا حكيمة! أخبرك عن أبي جعفر بن الرضا بأعجوبة لم يسمع أحد بمثلها. قلت: وما ذاك؟ قالت: إنّه كان ربّما آغارني مرّة بجارية ومرّة بتزويج، فكنت أشكوه إلى المأمون، فيقول لي: يا بنيّة احتملي فإنّه ابن رسول الله،فبينا أنا ذات ليلة جالسة إذ أتت امرأته فقلت: من أنت؟ فكأنّها قضيب بان أو غصن خيزران، قالت: أنا زوجة لأبي جعفر (علیه السلام). قلت: من أبو جعفر؟ قالت: محمّد بن الرضا (علیه السلام)،

ص: 273


1- الثاقب في المناقب: ص 524.

وأنا امرأته من ولد عمار بن ياسر. فخرّ المأمون ساجداً ووهب لياسر ألف دينار وقال: الحمد لله الذي لم يبتليني بدمه، ثمّ قال: يا ياسر! كلّما كان من مجيء هذه الملعونة إلي وبكاؤها بين يدي فاذكره، وأمّا مصيري إليه فلست أذكره. فقال ياسر: والله ما زلت تضربه بالسيف وأنا وهذه ننظر إليك وإليه حتى قطعته قطعة قطعة ثمّ وضعت سيفك على حلقه فذبحته وأنت تزبد كما يزبد البعير. فقال: الحمد لله ثمّ قال: والله لئن عدت بعدها في شيء ممّا جرى لأقتلنّك.

ثمّ قال لياسر: إحمل إليه عشرة آلاف دينار وسله الركوب إلي وابعث إلى الهاشميين والأشراف والقوّاد معه ليركبوا معه إلى عندي ويبدؤا بالدخول إليه والتسليم عليه، ففعل ياسر ذلك وصار الجميع بين يديه وأذن للجميع فقال (علیه السلام): يا ياسر! هكذا كان العهد بيني وبينه. قلت: يابن رسول الله! ليس هذا وقت العتاب، فوحقّ محمّد وعلي ما كان يعقل من أمره شيئاً، فأذن للأشراف كلّهم بالدخول إلاّ عبدالله وحمزة ابني الحسن لأنّهما كانا وقعا فيه عند المأمون وسعيا به مرّة بعد أخرى، ثمّ قام وركب مع الجماعة وصار إلى المأمون فتلقّاه وقبّل ما بين عينيه وأقعده على البساط في الصدر، وأمر أن يجلس الناس ناحية، فجعل يعتذر إليه، فقال أبو جعفر (علیه السلام): لك عندي نصيحة فاسمعها منّي. قال: هاتها. قال: أشير عليك بترك الشراب المسكر. قال: فداك ابن

ص: 274

عمّك قد قبلت نصيحتك(1).

تنبّأ الإمام بوفاته

واستشفّ الإمام الجواد (علیه السلام) من وراء الغيب أنّ الأجل المحتوم سيوافيه وأنّ عمره كعمر الزهور، وقد أعلن ذلك لشيعته في كثير من المواطن وهذه بعضها:1- روى محمد بن الفرج قال: كتب إليّ أبو جعفر (علیه السلام): احملوا إليّ الخمس، لست آخذ منكم سوى عامي هذا، ولم يلبث (علیه السلام) إلاّ قليلاً حتى قبض واختاره الله إلى جواره(2).

2- روى أبو طالب القمّي، قال: كتبت إلى أبي جعفر بن الرضا (علیه السلام) أن يأذن لي أن أندب أبا الحسن - يعني أباه - قال: فكتب أن اندبني واندب أبي(3).

3- وأخبر (علیه السلام) عن وفاته في أيام المأمون، فقد قال: (الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً) ولم يلبث بعد المأمون بثلاثين شهراً حتى قبض واختاره الله إلى جواره(4).

ص: 275


1- الخرائج والجرائح - قطب الدين الراوندي - ج 1 - الصفحة 375.
2- المحجّة البيضاء: ج 4 ص 308.
3- الكشيّ: ج 2 ص 838.
4- إثبات الهداة: ج 6 ص 190.

4- روى إسماعيل بن مهران أنّ المعتصم العباسي لمّا أشخص الإمام أبا جعفر (علیه السلام) إلى بغداد قال: قلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثمّ التفت إليّ فقال: عند هذه يخاف عليّ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ(1).

من أمرك أن تسمّني في هذا الطعام؟

نقل أبو جعفر المشهدي باسناده: (عن محمد بن القاسم، عن أبيه، وعن غير واحد من أصحابنا أنّه قد سمع عمر بن الفرج أنّه قال: سمعتُ من أبي جعفر (علیه السلام) شيئاً لو رآه محمداً أخي لكفر.

فقلت: وما هو أصلحك الله؟قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قرب الطعام، فقال: «أمسكوا».

فقلت: فداك أبي، قد جاءكم الغيب!

فقال: «عليَّ بالخباز». فجيء به، فعاتبه وقال: «من أمرك أن تسمّني في هذا الطعام؟». فقال له: جُعلت فداك (فلان)، ثم أمربالطعام فرُفع وأُتي بغيره)(2).

ص: 276


1- الإرشاد: ص 369.
2- الثاقب في المناقب - ابن حمزة الطوسي - الصفحة 517.

وكانت الملعونة شديدة العداوة

فلمّا كانت سنة ثمان وعشرة بعد المائتين من الهجرة مات المأمون العباسي وبويع أبو إسحاق محمّد بن هارون المعتصم، وجلس على سرير الملك، ومن كثرة ماسمع من فضايل أبي جعفر (علیه السلام) ومناقبه غلب عليه الحسد وكتب إلى أبي جعفر (علیه السلام) ودعاه من المدينة إلى بغداد، فلمّا عزم الإمام على التوجه إلى بغداد خلف ابنه أباالحسن الهادي (علیه السلام) بالمدينة وهو صغير وسلّم إليه المواريث والسلاح ونصّ على إمامته بمشهد من ثقاته وأصحابه، ثمّ ودّعه وودّع قبر جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقبور آبائه وانصرف إلى بغداد، فلمّا ورد (علیه السلام) جعل المعتصم يعمل الحيلة في قتله، وأشار على ابنة المأمون أمّ الفضل أن تسقيه السمّ لأنّه يعلم انحرافها عن أبي جعفر (علیه السلام)، فأجابته إلى ذلك، وكانت الملعونة شديدة العداوة لأبي جعفر (علیه السلام) بحيث تؤذيه كثيراً، وأبو جعفر (علیه السلام) يصبر على ذلك(1).

ويلك قتلتيني قاتلك الله

وقيل السبب في عداوتها أنّ أبا جعفر (علیه السلام) كان يفضل عليها السيدة أمّ أبي الحسن النقي (سمانة) والدة ابنه الهادي (علیه السلام) عليها، ولأنّها لم ترزق من أبي جعفر ولداً، أرسل المعتصم إليها بسمّ قاتل، فأخذت السمّ

ص: 277


1- نور الابصار للمازندراني.

وجعلته في عنب رازقي، ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه أبو جعفر (علیه السلام) تغيّر حاله وأحس بذلك، فقال (علیه السلام): ويلك قتلتيني قاتلك الله. وقيل: إنّها سمّته في منديل وندمت بعد ذلك وجعلت تبكي، فقال (علیه السلام): أبلاك الله بداء لا دواء له، فوقعت الآكلة في فرجها وكانت ترجع إلى الأطباء ويشيرون إليها بالدواء فلا ينفع ذلك حتى أنفقت جميع مالها على تلك العلّة واحتاجت إلىالسؤال(1).

والله ليضربنّك بفقر لا ينجي وبلاء لا يتستّر

وقال المسعودي في (إثبات الوصيّة): لمّا انصرف أبو جعفر (علیه السلام) إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبّرون ويعملون الحيلة في قتله (علیه السلام)، فقال جعفر بن المأمون لاخته أمّ الفضل وكانت لأمّه وأبيه في ذلك لأنّه وقف على انحرافها عنه، وغيرتها عليه لتفضيله أمّ أبي الحسن ابنه عليها مع شدّة محبّتها له، ولأنّها لم ترزق منه ولداً، فأجابت أخاها جعفراً وجعلوا سمّاً في شيء من عنب رازقي، وكان يعجبه العنب الرازقي، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي، فقال (علیه السلام): ما بكاؤك والله ليضربنّك بفقر لا ينجي وبلاء لا يتستّر، فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صار ناسوراً ينتقض عليها في كلّ وقت، فأنفقت مالها

ص: 278


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار للمازندراني.

وجميع ملكها على العلّة حتى احتاجت إلى رفد الناس، ويروى إنّ الناسور كان في فرجها، وتردى جعفر بن المأمون في بئر وكان سكراناً فأخرج ميتاً(1).

فلما أُطعم منها أحسَّ السم، فدعا بدابته

ولعلَّ أقدم نصٍّ توفّرنا عليه الخبر الذي أورده العياشي المتوفّى سنة «320 ه» في تفسيره.

قال العياشي: (...قال زرقان: إنّ ابن أبي دؤاد قال: صرت إلى المعتصم بعد ثلاثة، فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار.

قال: وما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لاَمر واقع من اُمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراءبابه، ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الاُمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء!!

قال: فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً، قال: فأمر (المعتصم) يوم الرابع فلاناً من كتّاب وزرائه بأن يدعوه

ص: 279


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار للمازندراني.

إلى منزله، فدعاه. فأبى أن يجيبه وقال: «قد علمت أني لا أحضر مجالسكم». فقال: إنّي إنّما أدعوك إلى الطعام، وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان (من وزراء الخليفة) لقاءك.

فصار إليه، فلما أُطعم منها أحسَّ السم، فدعا بدابته، فسأله ربّ المنزل أن يُقيم، قال: «خروجي من دارك خير لك».

فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفة حتى قُبض (علیه السلام))(1).

فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة

وفي موضع آخر ذكر أن مثلث الاغتيال (المعتصم - جعفر - أم الفضل) كانوا قد تشاوروا وتعاونوا على قتل الاِمام والتخلّص منه بعد قدومه إلى بغداد، بل ما استدعي إلاّ للغرض ذاته. فقال: (..وجعلوا - المعتصم بن هارون وجعفر بن المأمون وأخته أم الفضل - سمّاً في شيء من عنب رازقي وكان يعجبه العنب الرازقي، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي. فقال لها: «ما بكاؤك؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر»، فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناسوراً ينتقض عليها في كلِّ وقت. فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتى احتاجت إلى رفد الناس. وتردّى جعفر في بئر

ص: 280


1- تفسير العياشي 1: 320 / 109 وعنه بحار الأنوار 50: 5 ص 7.

فأُخرج ميتاً، وكان سكراناً..

ولما حضرت الاِمام (علیه السلام) الوفاة نصّ على أبي الحسن وأوصى إليه، وكان قد سلّم المواريث والسلاح إليه بالمدينة)(1).أبلاك الله بداء لا دواء له

وأضاف ابن شهرآشوب السروي المازندراني (ت 588 ه)، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري الاِمامي (من أعلام القرن الخامس الهجري)، «إنّ امرأته أم الفضل بنت المأمون سمّته في فرجه بمنديل، فلمّا أحس بذلك قال لها: «أبلاك الله بداء لا دواء له»، فوقعت الاَكلة في فرجها، وكانت تنصب للطبيب فينظرون إليها ويسرون - أو يشيرون - بالدواء عليها فلا ينفع ذلك حتى ماتت من علّتها)(2).

أنفذ إليه شراب حُمّاض الاَترُجّ

وقال ابن شهرآشوب قبل ذلك أن الاِمام (علیه السلام) لمّا تجهّز (وخرج إلى بغداد فأكرمه - أي المعتصم - وعظّمه، وأنفذ أشناس بالتحف إليه وإلى أم الفضل، ثم أنفذ إليه شراب حُمّاض الاَترُجّ (الأتروج أو الأترنج: ثمر

ص: 281


1- دلائل الإمامة: 395. وعيون المعجزات: 131 وعنه بحار الأنوار 50: 16 / 26.
2- مناقب آل أبي طالب 4: 391. ودلائل الإمامة: 395.

من جنس الحمضيات ويقال له (الترنج) أيضاً والحماض: ما في جوف الأترج من اللب). تحت ختمه على يدي أشناس، وقال: إنّ أمير المؤمنين ذاقه قبل أحمد بن أبي دؤاد، وسعد بن الخضيب وجماعة من المعروفين، ويأمرك أن تشرب منها بماء الثلج، وصُنع في الحال. فقال - أي الاِمام (علیه السلام) -: «أشربها بالليل». قال: إنّها تنفع بارداً، وقد ذاب الثلج، وأصر على ذلك، فشربها عالماً بفعلهم)(1).

جاؤا بطعام مسموم ووضعوه بين يديه

قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من كتّاب وزرائه بأن يدعو الإمام إلى منزله، فدعاه فأبى أن يجيبه، وقال: قد علمت بأنّي لا أحضر مجالسكم، فقال: إنّي إنّما أدعوك إلى الطعام، وأحبّ أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك، فقد أحبّ فلان بن فلان من وزراءالخليفة لقاءك. فصار إليه، فلمّا وضعوا المائدة جاؤا بطعام مسموم ووضعوه بين يديه، فلمّا أكل وطعم منها أحسّ بالسمّ، فدعا بدابّته فسأله صاحب المنزل أن يقيم، قال: خروجي من دارك خيرلك، فلم يزل يومه وليله في حلقه حتى قبض (علیه السلام)(2).

ص: 282


1- مناقب آل أبي طالب 4: 384.
2- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار للمازندراني.

عطش عطشاً شديداً ومنعته الماء أمّ الفضل

قبض أبو جعفر الجواد مسموماً ببغداد، وقيل: قبض عطشاناً لأنّه لمّا سمّ عطش عطشاً شديداً ومنعته الماء أمّ الفضل، وبقي يجود بنفسه حتى مات عطشاناً، وواسى جدّه الحسين (علیه السلام) في ذلك ولكن شتّان بين امامنا الجواد (علیه السلام) وبين الحسين (علیه السلام) لأنّ الحسين قضى عطشاناً وهو في جوّ الظهيرة في حرّ الشمس، وعليه من الجراح عدد النجوم في السماء، وجراحاته تشخب دماً، وكلّما يطلب جرعة من الماء يضربونه بالسيف والرماح والحجارة والعصا قال جبرئيل: يا آدم! فلم يجبه أحد إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من القفا الخ(1).

تورّم جسده الشريف وكان يتقلّب على الأرض يميناً وشمالاً

وعلى خبر: إنّ المعتصم أشار على أمّ الفضل ابنة المأمون بأن تسمّه، فسمّته في طعام مسموم أو عنب رازقي. وقال ابن شهراشوب: سمّته في منديل مسموم عند المواقعة، فلمّا أخذه إليه وضمّه إلى نفسه واستعمله تورّم جسده الشريف وكان يتقلّب على الأرض يميناً وشمالاً من شدّة الوجع ويجود بنفسه.

ص: 283


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار للمازندراني.

تورّم جسده وكان يقطر جلده شبه الدم

وفي جنّات الخلود: تورّم جسده وكان يقطر جلده شبه الدم، فلمّا قضى نحبه أمر المعتصم بأن يرموا جسده الشريف من أعلى السطح إلى الأرض، ومنع الناس أن يحملوه ويشيّعوه ويدفنونه ويدنوا منه، وبقي جسده ملقى على الأرض أياماً بلا غسل ولا كفنولا دفن، وكان يسطع منه رائحة المسك والعنبر، فلمّا علم المعتصم ذلك خاف الفتنة وخشي الفضيحة أمر بدفنه(1).

وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً

وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً، فقد تفاعل مع جميع أجزاء بدنه وأخذ يعاني منه آلاماً مرهقة، فقد تقطّعت أمعاؤه من شدّة الألم، وقد عهدت الحكومة العباسية إلى أحمد بن عيسى أن يأتيه في السحر ليتعرّف خبر علّته(2). وقد أخبر الإمام (علیه السلام) بوفاته من كان عنده في الليلة التي توفّي فيها فقال لهم: نحن معشر إذا لم يرض الله لأحدنا الدنيا نقلنا إليه(3).

ص: 284


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار للمازندراني.
2- الإرشاد: ص 369.
3- بحار الأنوار: ج 12 ص 99.

اجتمعت الشيعة وحلفوا على أن يقتلوا دونه أو يدفنوه

وقال في الكبريت الأحمر: اجتمعت الشيعة وحلفوا على أن يقتلوا دونه أو يدفنوه، فقال المعتصم: دعوهم وما يريدون، فعملوا له شأناً عظيماً حتى دفنوه ; أسفي على غريب كربلا أبي عبدالله (علیه السلام) حيث ما غسّلوه ولا لفّوه في كفن، ولا حملوا جنازته، نعم حملوا رأسه الشريف من بلد إلى بلد من كربلا إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام:

الجسم منه بكربلاء مضرّج *** والرأس منه على القناة يدار(1)

خرج أبوالحسن ودموعه تجري على خدّيه

كان مولانا أبوالحسن الهادي (علیه السلام) جالساً بالمدينة مع مؤدب له يقال له (أبو زكريا) وهو يقرء اللّوح على مؤدبه، وهو طفل صغير، إذ بكى بكاءاً شديداً، فسأله المؤدب ما بكاؤك؟ فلم يجبهوقال: ائذن لي بالدخول إلى البيت، فأذن له، فلمّا دخل ارتفعت الأصوات بالبكاء والنياح، ثمّ خرج أبوالحسن ودموعه تجري على خدّيه وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فسألناه عن ذلك فقال: إنّ أبي توفّي الساعة في بغداد. فقلنا: بما علمت؟ قال: دخلني من إجلال الله تعالى ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنّه قد مضى(2).

ص: 285


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمّة التسعة الأبرار.
2- المصدر السابق.

وغسّل أباه وحنّطه وكفّنه ودفنه

ويظهر من الأخبار وأشار المجلسي (رحمه الله) في جلاء العيون إنّ علياً الهادي (علیه السلام) أقبل بطيّ الأرض إلى بغداد وغسّل أباه وحنّطه وكفّنه ودفنه، ثمّ رجع إلى المدينة في يومه، فلمّا رجع إلى المدينة ارتفعت الأصوات من الهاشميات في دورهنّ كما أنّهارتفعت أصوات الهاشميات يوم ورود الناعي بقتل الحسين (علیه السلام) وخرجت أمّ لقمان بنت عقيل وجعلت تبكي وتقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم *** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي *** منهم أسارى ومنهم ضرّجوا بدم

وروي أن ابنه علي الهادي (علیه السلام) قام في جهازه وغسله وتحنيطه وتكفينه كما أمره وأوصاه، فغسّله وحنّطه وأدرجه في أكفانه وصلّى عليه في جماعةمن شيعته ومواليه(1).

وجاء في الاَخبار أن الواثق صلّى عليه بحضور جماهير غفيرة من الناس، ثم حُمل جثمانه في موكب مهيب تشيعه عشرات الآلاف من الناس إلى مقابر قريش حيث مثوى جدّه الاِمام الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام، فأُقبر إلى جواره في ملحودة أصبحت اليوم عمارة شامخة تناطح السماء بمآذنها الذهبية، وقبلة يؤمها آلاف المسلمين يومياً للتبرك

ص: 286


1- مجموعة وفيات الأئمة: 342.

بأعتابها، وطلب الحوائج من ساكنيها. ولطالما انقلب الملمّون والمستغيثون إلى أهلهم فرحين بما وجدوا من إنجاز طلباتهم التي تعسّر حلّ مشكلها، بل وإن البعض منها كان في حكم المحال حلّ معضله.وله أربع أبناء.

نعم.. لقد مضى الإمام الجواد (علیه السلام).. وله أربع أبناء.

صبيان: الإمام علي الهادي (علیه السلام) وموسى.وبنتان: فاطمة، وأمامة..

عمده الطالب: وأمّا موسي المبرقع بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسي الكاظم (علیه السلام) وهو لاُمّ ولد، مات بقم وقبره بها يقال لولده: الرضويّون، وهم بقم، إلاّ من شدّه منهم إلي غيرها.

قل للذي أخرجك من الشام أن يخرجك من حبسي

عن علي بن خالد، قال: كنت بالعسكر، فبلغني أن هناك رجلا محبوسا، أتى به من ناحية الشام مكبولا [بالحديد] وقالوا: إنه تنبأ. فأتيت الباب، وداريت البوابين حتى وصلت إليه، فإذا رجل له فهم وعقل، فقلت له: ما قصتك؟ قال: إني رجل كنت بالشام أعبد الله في الموضع الذي يقال: إنه نصب فيه رأس الحسين (علیه السلام) فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب أذكر الله إذ رأيت شخصا (بين يدى، فنظرت) إليه، فقال [لي]: قم. فقمت معه فمشى بي قليلا، فإذا أنا في

ص: 287

مسجد الكوفة. فقال لي: أتعرف هذا المسجد؟ قلت: نعم! هذا مسجد الكوفة. فصلى وصليت معه، ثم انصرف، وانصرفت معه. فمشى [بي] قليلا، وإذا نحن بمسجد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) فسلم على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسلم وسلمت، وصلى وصليت معه، ثم خرج وخرجت معه. فمشى بي قليلا، فإذا نحن بمكة، فطاف بالبيت وطفت معه، وخرج فخرجت معه. فمشى [بي] قليلا، فإذا أنا بموضعي الذي كنت أعبد الله فيه بالشام، وغاب الشخص عن عيني، فتعجبت مما رأيت. فلما كان في العام المقبل، رأيت ذلك الشخص، فاستبشرت به، ودعاني فأجبته، ففعل كما فعل في العام الأول، فلما أراد مفارقتي بالشام، قلت: سألتك بحق الذي أقدرك على ما رأيت، من أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر. فحدثت من كان يصير إلي بخبره، فرقي ذلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فبعث إلي فأخذني، وكبلني في الحديد، وحملني إلى العراقوحبست كما ترى، وادعى علي المحال. فقلت له: أرفععنك قصة إلى محمد بن عبد الملك الزيات؟ قال: افعل. فكتبت عنه قصة، شرحت أمره فيها، ورفعتها إلى الزيات، فوقع في ظهرها: قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة [و] إلى المدينة [و] إلى مكة أن يخرجك من حبسي هذا. قال علي بن خالد: فغمني ذلك من أمره، ورققت له، وانصرفت محزونا فلما كان من الغد، باكرت الحبس لأعلمه بالحال، وآمره بالصبر والعزاء. فوجدت الجند، وأصحاب الحرس، وصاحب

ص: 288

السجن، وخلقا عظيما من الناس يهرعون، فسألت (عنهم وعن حالهم)؟ فقيل: المحمول من الشام المتنبي، افتقد البارحة من الحبس، فلا يدري خسفت الأرض به، أو اختطفته الطير؟ وكان هذا الرجل أعني: علي بن خالد زيديا، فقال بالأمامة لما رأى ذلك وحسن اعتقاده(1).

ص: 289


1- الخرائج والجرائح: ج 1، ص 380، ح 10. عنه البحار: ج 25، ص 376، ح 25.

ص: 290

مصائب الامام الهادي (علیه السلام)

اشارة

ص: 291

ص: 292

دخلني من إجلال الله تعالى

قال في نور الأبصار: كان مولانا أبو الحسن الهادي (علیه السلام) جالسا بالمدينة مع صاحب له يقال له أبا زكريا إذ بكى بكاء شديدا فسأله الرجل ما بكاؤك؟ فلم يجبه فتركه ودخل البيت باكيا وهو يقول: إن أبي توفي الساعة فارتفعت الأصواب بالبكاء والنياح ثم خرج أبو الحسن ودموعه تجري على خديه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فسُئل عن ذلك فقال: إن أبي توفي الساعة في بغداد قفلنا: بما علمت؟ قال: دخلني من إجلال الله تعالى ما لم أكن أعرفه قبل ذلك فعلمت أنه قد مضى(1).

خروجه من المدينة

روى المسعودي عن يحيى بن هرثمة قال: وجّهني المتوكل إلى المدينة لإشخاص عليّ بن محمّد الهادي (علیه السلام) لشيء بلغه عنه، فلمّا صرت إلى المدينة ضجّ أهلها وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله، ما أشبه بيوم خرج الحسين (علیه السلام) من المدينة ضجّ الناس ضجّة عظيمة من الرجال والنساء والصغير والكبير، فجعلت أسكنهم وأحلف أنّي لم أؤمر فيه بمكروه وفتشت بيته فلم أصب فيه إلاّ مصحفاً ودعاء، وما أشبه ذلك(2).

ص: 293


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 50 - الصفحة 2.
2- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار.

في (خان الصعاليك)

قال صالح بن سعيد: دخلت على أبي الحسن (علیه السلام) يوم وروده بسرّ من رأى وقد أنزلوه في (خان الصعاليك) وهو منزل الفقراء والمساكين، فقلت له: جعلت فداك! في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك. فقال: هاهنا أنت يابن سعيد، ثمّ أومى بيده فإذا أنا بروضات أنقات وأنهار جاريات وجنّات بينها خيرات عطرات وولدان كأنّهنّ اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي. فقال: حيث كنّا فهذا لنا يابنسعيد، لسنا في خان الصعاليك.

أقول: لمّا نزل أبوالحسن الهادي (علیه السلام) بسرّ من رأى، أنزله المتوكل في خان الصعاليك وهو منزل الفقراء والمساكين:

فلله من خطب له كلّ مهجة *** يحقّ من الوجد المبرّح تتلف

وفي تذكرة السبط: فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته حتى وصل سرّ من رأى، فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يقال له (خان الصعاليك) وأقام به يومه ثمّ تقدّم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها(1).

ص: 294


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار.

المجلس المشؤم

وكان قد سعي بأبي الحسن (علیه السلام) إلى المتوكل وقيل له إنّ في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممّن في داره فوجد في بيت وحده مغلق عليه وعليه مدرعة من شعر ولا بساط في البيت إلاّ الرمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجهاً إلى ربّه يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأخذ على ما وجد عليه وحمل الإمام (علیه السلام) إلى المتوكل في جوف الليل، فمثّل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كاس، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه. وقال من أتى به: يا أميرالمؤمنين! لم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه، ولا حالة يتعلّل عليه بها، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال (علیه السلام): يا أميرالمؤمنين! ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه، فعافاه. وقال: أنشدني شعراً أستحسنه. فقال: إنّي لقليل الرواية للأشعار. فقال: لابدّ أن تنشدني فأنشده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فما أغناهم القلل

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأودعوا حفراً يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعّمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود تنتقل

ص: 295

قد طال ما أكلوا قدماً وقد شربوا *** وأصبحوا بعدطول الأكل قد أُكلوا

وطالما عمروا دوراً لتحصنهم *** ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا *** فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفراً معطّلة *** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

وأشفق من حضر على أبي الحسن الهادي (علیه السلام) وبكى المتوكل بكاء شديداً حتى بلّت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثمّ أمر برفع الشراب ثم قال يا أبا الحسن أعليك دين قال نعم أربعة الآلف دينار فأمر بدفعها إليه وردّه إلى منزله مكرماً من ساعته(1).

ربط المجلس المشؤم بمجلس الشام

موقف الإمام الهادي (علیه السلام) في مجلس المتوكل:

الأولى: إن أكبر مصيبة هي إحضار الإمام إلى مجلس شرب الخمر، وأعظم من ذلك هو أنَّ المتوكل قرَّب الكأس إلى فم الإمام وطلب منه أن يشرب.

الثانية: كان في مجلس المتوكل خمر ولكن لم يكن هناك رأس (إشارة إلى رأس الإمام الحسين (علیه السلام)) وكان العدو حاضراً ولم تكن الأخت موجودة (إشارة إلى حضور عقيلة بني هاشم زينب (علیها السلام)في مجلس يزيد بن معاوية).

ص: 296


1- نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار.

هجموا عليه ليلاً

ومرّة أخرى أيضاً هجموا عليه ليلاً وذلك لمّا سعى البطحائي به يعني بأبي الحسن (علیه السلام) إلى المتوكل وقال: عنده أموال وسلاح، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما يجدهعنده من الأموال والسلاح، ويحمل. قال إبراهيم بن محمّد: قال لي سعيد: صرت إلى دار أبي الحسن (علیه السلام) بالليل ومعي سلّم، فصعدت منه إلى السطح ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة فلم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني أبوالحسن (علیه السلام) من الدار: يا سعيد! مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن آتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة، فقال لي: دونك البيوت، فدخلتها وفتّشتها فلم أجد شيئاً فيها، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أمّ المتوكل، وكيساً مختوماً معها، فقال لي أبوالحسن (علیه السلام): دونك المصلّى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن ملبوس، فأخذت ذلك وصرت إليه، فلمّا نظر إلى خاتم أمّه على البدرة بعث إليها، فخرجت إليه أمّه فسألها عن البدرة.

فأخبرني بعض خدم الخاصة أنّها قالت: كنت نذرت في علّتك إن عوفيت أن أحمل إلى أبي الحسن من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس ما حرّكها، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه

ص: 297

أربعمائة دينار، فأمر أن يضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي: إحمل ذلك إلى أبي الحسن واردد عليه السيف والكيس بما فيه، فحملت ذلك إليه واستحييت منه، فقلت: يا سيدي! عزّ عليّ دخولي دارك بغير إذنك، ولكنّي مأمور. فقال لي: ( ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ)(1).

ربط بين دار الامام الهادي (علیه السلام) وبين دار امير المومنين (علیه السلام)

أقول: هذا اعتذار هذا الرجل في دخوله دار أبي الحسن الهادي (علیه السلام) بغير إذنه ويقول: أعذرني فإنّي مأمور، ليت شعري فما اعتذار قوم دخلوا دار أبي الحسن أميرالمؤمنين بغير إذنه وما اكتفوا بذلك حتى أحرقوا باب داره وعصروا ابنة رسول الله مابين الحايط والباب، ولكزوها بنعل السيف حتى كسرت أضلاعها وأسقطت جنينها وضربوها بالسياط حتى تورّم عضدها ماتت وإنّ في عضدها كمثلالدملج، وما اعتذار قوم هجموا عشيّة يوم العاشر، وما اعتذار قوم هجموا عشيّة يوم العاشر على مخيّم أبي عبدالله ونهبوا ما في الخيم وجعلو ينتزعون ملاحف النساء عن ظهورهن.

ماذا لقينا في يوم الإثنين

وقال المسعودي: وكانت وفاة أبي الحسن (علیه السلام) في خلافة المعتزّ بالله

ص: 298


1- سورة الشعراء، الآية 227، نور الأبصارفي أحوال الأئمة التسعة الأبرار.

وذلك في يوم الإثنين لأربع بقين من جمادي الآخرة سنة 254 وهو ابن أربعين سنة، وسمع في جنازته جارية تقول: ماذا لقينا في يوم الإثنين قديماً وحديثاً(1).

ربط بين ماحل وما مضى

الأولى: أشارت الجارية بهذه الكلمة إلى يوم وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وجلافة المنافقين الطغام والبيعة التي عمّ شؤمها الإسلام.

الثانية: وأخذت الجارية هذه عن عقيلة الهاشميين زينب بنت أميرالمؤمنين (علیه السلام) في ندبتها على الحسين (علیه السلام): بأبي من أضحى عسكره يوم الإثنين نهباً.

خرج أبو محمّد (علیه السلام) حاسراً مكشوف الرأس

وقال المسعودي في إثبات الوصية: حدّثنا جماعة كلّ واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار يعني دار أبي الحسن الهادي (علیه السلام) يوم وفاته وقد اجتمع فيها جلّ بني هاشم من الطالبيين والعباسيين واجتمع خلق كثير من الشيعة ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمّد (علیه السلام) يعني أمر إمامته ولا عرف خبره إلاّ الثقات الذين نصّ أبوالحسن (علیه السلام) عندهم عليه، فحكوا أنّهم كانوا في

ص: 299


1- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - الصفحة 298.

مصيبة وحيرة وهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم فصاح بخادم آخر: يا رياش! خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أميرالمؤمنين وادفعها إلى فلان وقل له: هذه رقعة الحسن بن علي، فاستشرف الناس لذلك، ثمّ فتح من صدر الرواق باب وخرج خادم أسود ثمّ خرج بعده أبو محمّد (علیه السلام) حاسراً مكشوف الرأس مشقوقالثياب وعليه مبطنة ملحم بيضاء وكان وجهه وجه أبيه يحظى منه شيئاً وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهد، فلم يبق أحد إلاّ قام على رجله، ووثب إليه أبو أحمد الموفق فقصده أبو محمّد (علیه السلام) فعانقه ثمّ قال له: مرحباً يابن العمّ وجلس بين بابي الرواق، والناس كلّهم بين يديه. وكانت الدار كالسوق بالأحاديث، فلمّا خرج وجلس أمسك الناس، فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أباالحسن (علیه السلام)، فقال أبو محمّد (علیه السلام): ما هاهنا من يكفي مؤنة هذه الجارية، فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار، ثمّ خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد فنهض صلّى الله عليه وأخرجت الجنازة وخرج يمشي حتى أخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغاء، وقد كان أبو محمّد (علیه السلام) صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس وصلّى عليه لمّا أخرج المعتمد ودفن صلّى الله عليه في دار من دوره(1).

ص: 300


1- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 2 - الصفحة 457.

شقّ موسى على هارون

أحمد بن علي بن كلثوم السرخسي، قال: حدثني أبو يعقوب إسحاق بن محمد البصري، قال: حدثني محمد بن الحسن بن شمون، وغيره قال: خرج أبو محمد (علیه السلام) في جنازة أبي الحسن (علیه السلام) وقميصه مشقوق، فكتب إليه أبو عون الأبرش قرابة نجاح بن سلمة: من رأيت أو بلغت من الأئمة شق ثوبه في مثل هذا.

فكتب إليه أبو محمد (علیه السلام): يا أحمق وما يدريك ما هذا قد شق موسى على هارون عليهما السلام(1).

ربط بين الامام الهادي (علیه السلام) وبين الامام الحسين (علیه السلام)

في منتهى الآمال: ولم يكن عنده حين وفاته غير ابنه الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) فلما توفي حضر جميع الأشراف والأمراء ثم انصرف - الإمام العسكري (علیه السلام) - إلى غسله وتكفينه ودفنه فيالحجرة التي كانت محلا لعبادته. أقول ليت الذي حصل لأبي الحسن الهادي من دفن وتشييع مهيب كما تنقل الروايات انه من شدة الزحام في تشييعه (علیه السلام) اشتد الحر على أبي محمد العسكري، أقول ليت ذلك حصل لجده أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ويم يبق ثلاثة أيام على رمضاء كربلاء تصهره الشمس بحرارتها.

ص: 301


1- اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - الصفحة 842.

ربط الصلاة عليه

لكن أيها المحب كما علمت لقد قام الأعيان والوزراء وجمع من بني العباس بالإضافة إلى جمع من بني هاشم وسائر الشيعة من سامراء يتقدمهم الإمام العسكري (علیه السلام) هؤلاء جميعا قاموا بتجهيز الإمام الهادي على أكمل وجه حتى دفنوه في داره.

وكما ذكرت الروايات أن الإمام الهادي صُلِّيَ عليه مرتين مرة من قبل الإمام العسكري (علیه السلام) وأخرى من قبل الواثق والي العهد العباسي والحسين (علیه السلام) صلي عليه مرتين مرة من قبل الإمام السجاد ومرة من قبل السيوف والنبال والرماح.

فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك

نقل الدرازي في كتابه وفاة الإمام علي الهادي (علیه السلام)، عن أحمد بن داود بن محمد بن عبد الله الطلحي القمي قال: حملنا مالا من خمس ونذر من عين ووَرِق ودنانير وحلي وجواهر وثياب من (قم) وما يليها فخرجنا نريد أبا الحسن (علیه السلام) فلما صرنا إلى دسكرة الحكم تلقانا رجل راكب على جمل ونحن في قافلة عظيمة فَقَصَدَنا ونحن سائرون في جملة الناس وهو يعارضنا بجمله فقال: يا أحمد بن داود ويا محمد بن إسحاق معي رسالة إليكما فقلنا ممن؟ فقال: مِن سيدكما أبي الحسن الهادي (علیه السلام)، يقول لكما إني

ص: 302

راحل إلى الله تعالى في هذه الليلة فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر من أبي محمد الحسن (علیه السلام) فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك ولم نظهره ونزلنا دسكرة الملك واستأجرنا منزلا وأحرزنا ما كان معنا فيه وأصبحنا والخبر شائع بوفاة إمامِنا (علیه السلام) فلما تعالى النهار رأينا قوما من شيعة علي أشد قلقا مما نحن فيه فلما جن الليل جلسنا بلا ضوء ولاسراج حزنا على الهادي (علیه السلام) نبكي ونشكو إلى الله فقده(1).

ص: 303


1- مدينة المعاجز - السيد هاشم البحراني - ج 7 - الصفحة 526.

ص: 304

مصائب الامام الحسن العسكري (علیه السلام)

اشارة

ص: 305

ص: 306

دفن في البيت الذي دفن فيه

قال شيخنا المفيد (رحمه الله): ومرض أبو محمّد (علیه السلام) في أول شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين ومات في يوم الجمعة لثمان ليال خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة، وله يوم وفاته ثمان وعشرون سنة، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه من دارهما بسرّ من رأى(1).

كان قد أراد قتله الملوك الثلاثة

قال السيد بن طاوس: إعلم أنّ مولانا الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) كان قد أراد قتله الملوك الثلاثة ملوك الذين كانوا في زمانه حيث بلغهم أنّ مولانا المهدي (علیه السلام) يكون من ظهره صلوات الله عليه، وحبسوه عدّة دفعات، واضطربت الشيعة وأقلقهم ذلك، فدعا عليهم فهلكوا في سريع من الأوقات، ولمّا ولد الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) قال أبو محمّد العسكري (علیه السلام): زعمت الظلمة أنّهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، كيف رأوا قدرة القادر ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(2).

ص: 307


1- الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - ص 329.
2- سورة الصف، الآية 8، الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية ص255.

وجرى عليه منهم ما لم نقدر على بيان

كان مقامه مع أبيه ثلاثاً وعشرين سنة وأشهراً، وبعد أبيه خمس سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، وكانت في سني إمامته بقية ملك المعتزّ، وفي رواية المستعين، ثمّ المعتزّ أشهراً، ثمّ المهتدي بالله أحد عشر شهراً، ثمّ ملك أحمد الملقّب بالمعتمد على الله ابن جعفر المتوكل، وبعد مضي أربع سنين من ملك المعتمد قبض العسكري مسموماً.

ولقد تحمّل (علیه السلام) مع قصر عمره من هؤلاء الخلفاء الثلاثة أو الأربعة ما لم يتحمّله أحد، وجرى عليه منهم ما لم نقدر على بيانه،منهم المستعين بالله همّ الرجل بقتله وتقدّم إلى سعيد الحاجب وقال: أخرج أبا محمّد العسكري إلى الكوفة واضرب عنقه في الطريق، انتشر الخبر بذلك وبلغ الشيعة وأقلقهم، وكان (علیه السلام) فيالحبس، فكتبوا إليه: بلغنا جعلنا الله فداك خبراً أقلقنا وغمّنا وبلغ منّا. فكتب (علیه السلام): بعد ثلاث يأتيكم الفرج. فخلع المستعين في اليوم الثالث وأقعد المعتزّ ونجا الإمام وخرج من الحبس، فما مضت إلاّ أيام قلائل حتى أمر المعتزّ بقبض أبي محمّد العسكري (علیه السلام) مع عدّة من الطالبيين وحبسهم في السجن وضيّق عليهم الأمر بحيث لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد(1).

ص: 308


1- نور الابصار المجلس الثالث: في تاريخ ولادته وشهادته (علیه السلام).

ولمّا سقي السمّ مرض مرضاً شديداً

كان المعتمد يؤذيه كثيراً حتى سقاه السمّ، ولمّا سقي السمّ مرض مرضاً شديداً، فبلغ ذلك المعتمد في مرضه قيل له: إنّ ابن الرضا قد اعتلّ ومرض، فأمرالرجل نفراً من المتطبّبين بالإختلاف إليه، وتعاهده صباحاً ومساءاً، وبعث خمسة نفر كلّهم من ثقاته وخاصّته وأمرهم بلزوم دار أبي محمّد العسكري وتعرّف خبره وحاله، فلّما كان بعد ذلك بيومين جاء من أخبره بأنّ العسكري قد ضعف، فركب المعتمد حتى بكر إليه، ثمّ أمر المتطبّبين بلزومه وبعث إلى قاضي القضاة وعشرة من أصحابه ممّن يثق به، وأرسلهم إلى الحسن العسكري (علیه السلام) وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى كانت الليلة التي قبض فيها، فرأوه وقد اشتدّ به المرض يغشي عليه ساعة بعد ساعة، علموا أنّه قد قرب به الموت، تفرّقوا عنه، فلم يكن عنده في تلك الليلة إلاّ جاريته صيقل وعقيد الخادم وولده الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وقد مضى من عمر الحجة في ذلك الوقت خمس سنين(1).

وأخذ القدح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه

قال عقيد: فدعا (علیه السلام) بماء قد أغلي بالمصطكي، فجئنا به إليه، فقال (علیه السلام):

ص: 309


1- نور الابصار المجلس الثالث: في تاريخ ولادته وشهادته (علیه السلام).

أبدأ بالصلاة، فجيئوني بماء لأتوضّأ به، فجئنا به وبسط في حجره المنديل وتوضّأ ثمّ صلّى صلاة الغداة في فراشه، وأخذ القدح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد، فشرب منه جرعة وأخذت صيقل القدح من يده، ثمّ أخذ ولده الحجة وضمّه إلى صدره الشريف وجعل يقبّله ويودّعه ويبكي ويوصيه بوصاياه وسلّمه ودائع الإمامة، ثمّ سكن أنينه وعرق جبينه وغمّض عينيه ومدّ يديه ورجليه، ومضى من ساعته وهو يوم الجمعة مع صلاة الغداة.

قال الراوي: فما طلعت الشمس حتى سمعنا المنادي ينادي: ألا مات العسكري، فصارت سرّ من رأى ضجّة واحدة، وكانت شبيهة بالقيامة، وعطّلت الأسواق وحضر السلطان والأشراف وبنو هاشم إلى جنازته، وأخذوا في تجهيزه، فلمّا غسّلوه وحنّطوه وكفّنوه بعث المعتمد إلى قاضي القضاة وهو أبو عيسى المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى فكشف عن وجههفعرضه على بني هاشم والعلويين والأشراف وقال: هذا الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، حضره من خدم أميرالمؤمنين ومن ثقاته فلان وفلان ومن الأطباء فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان، ثمّ غطّى وجهه وقام وصلّى عليه(1).

ص: 310


1- نور الابصار المجلس الثالث: في تاريخ ولادته وشهادته (علیه السلام).

حملوه من وسط داره ودفنوه في البيت

فلمّا فرغوا من الصلاة على سيدنا أبي محمّد العسكري حملوه من وسط داره ودفنوه في البيت الذي دفن فيه أبوه عليّ الهادي (علیه السلام)، هذا هو المرسوم، يدفن المرء في مكان دفن فيه أقاربه وإن لم يوص به، ولاسيّما إذا كانت القرابة قريبة كالوالد والولد، وما أشبههما أما ترى أنّ زين العابدين لمّا وارى أباه وبني هاشم خصّ من بينهم شبيه رسول الله عليّ الأكبر (علیه السلام) وجاء به ودفنه عند رجلي الحسين (علیه السلام) إذاً ساعد الله قلب الحسين (علیه السلام) وهو ينظر في كلّ حين إلىولده فيراه مشقوق الرأس مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً الخ(1).

فلمّا راى ولده الحسن العسكري (علیه السلام) بكى

وفي البحار: قال إسماعيل النوبختي: دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي في المرضة التي مات فيها، وأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد، وكان الخادم أسود نوبيّاً قد خدم من قبله عليّ بن محمّد وهو ربيّ الحسن (علیه السلام)، فقال له: يا عقيد! أغل لي ماء بمصطكي، فأغلى له، ثمّ جاءت به صيقل الجارية أمّ الخلف، فلمّا صار القدح في يديه وهمّ بشربه جعلت يده ترتعد

ص: 311


1- نور الابصار المجلس الثالث: في تاريخ ولادته وشهادته (علیه السلام).

حتى ضرب القدح ثنايا الحسن، فتركه من يده. وقال لعقيد: أدخل البيت فإنّك ترى صبيّا ساجداً فأتني به. قال أبو سهيل: قال عقيد: فدخلت أتحرى، فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء فسلّمت عليه فأوجز في صلاته، فقلت: إنّ سيدي يأمرك بالخروج إليه، إذ جاءت أمّه صيقل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (علیه السلام).

قال أبو سهيل: فلمّا مثلّ الصبي بين يديه، سلّم وإذا هو درّيّ اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلمّا رآه الحسن بكى وقال: يا سيد أهل بيته! إسقني الماء، فإنّي ذاهب إلى ربّي، وأخذ الصبي القدح المغلى بالمصطكي بيده وحرّك شفتيه بيده الأخرى ثمّ سقاه، فلمّا شربه قال: هيّئوني للصلاة، فطرح في حجره منديل، فوضّأه الصبي واحدة واحدة، ومسح على رأسه وقدميه، فقال له أبو محمّد: إبشر يا بني فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي، وأنا ولدتك وأنت م ح م د بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) ولدك رسول الله وأنت خاتم الأئمّة الطاهرين، وبّر بك رسول الله وسمّاك وكنّاك بذلك ; عهد إليّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت ربّناإنّه حميد مجيد(1).

ص: 312


1- نور الابصار المجلس الرابع في رحلته وشهادته (علیه السلام).

من يصلي علي فهو القائم بعدي

قال أبو الحسن علي بن محمد بن حباب: حدثنا أبو الأديان قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) وأحمل كتبه إلى الامصار، فدخلت إليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه فكتب معي كتبا وقال: تمضي بها إلى المدائن فانك ستغيب خمسة عشر يوما فتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري، وتجدني على المغتسل. قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم بعدي؟ فقلت: زدني، فقال من يصلي علي فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي. ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان؟ وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي (علیه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار، والشيعة حوله يعزونه ويهنؤنه. فقلت في نفسي: إن يكن هذا الامام فقد حالت الامامة، لاني كنت أعرفه بشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت فلم يسألني عن شئ ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفن أخوك فقم للصلاة عليه فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي

ص: 313

قتيل المعتصم المعروف بسلمة. فلما صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن علي (علیه السلام) على نعشه مكفنا، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط بأسنانه تفليج، فجبذ رداء جعفر بن على وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي فتأخر جعفر، وقد اربد وجهه، فتقدم الصبي فصلى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه. ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه، وقلت في نفسي: هذه اثنتان بقي الهميان، ثم خرجت إلى جعفر بنعلي وهو يزفر فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي؟ ليقيم عليه الحجة فقال: والله ما رأيت قط ولاعرفته. فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا موته فقالوا: فمن؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعزوه وهنؤوه، وقالوا معنا كتب ومال، فتقول: ممن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: يريدون منا أن نعلم الغيب. قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلية فدفعوا الكتب والمال، وقالوا: الذي وجه بك لاجل ذلك هو الامام. فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك فوجه المعتمد خدمه فقبضوا على صقيل الجارية، وطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حملا بها لتغطي على حال الصبي فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فجاءة وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن

ص: 314

الجارية، فخرجت عن أيديهم والحمد لله رب العالمين لا شريك له(1).

تم بحمدالله تعالى وله المنة عليه ارجوا من الله عز وجل ان يتقبل هذا العمل وان يشملني شفاعة ورعاية وعناية حبيبه النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) واله الاطيبين الاطهرين (علیهم السلام).

الحمد لله رب العالمين

اللهم عجل لوليك الفرج

عباس عزيز الحلفي

الخميس 17ربيع الأول 1444

ص: 315


1- بحار الأنوار / جزء 50 / صفحة [332].

ص: 316

الفهرس

الاهداء. 5

والله ما منا إلا مقتول أو شهيد. 7

تمهيد في اثبات الشهادة لكل المعصومين 8

الرويات في ذكر الشهادة لهم (علیهم السلام). 9

مصائب الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)

قد اذهب الجزع صبره واذهل عقله 16

إنّهما سمّتاه 17

إشارات... 18

كيف نعالجُ التعارض؟. 23

تعرضه (صلی الله علیه و آله و سلم) للاغتيال أكثر من مرة، ومن أكثر من جهة. 26

نماذج من محاولات اغتياله. 27

نصوص مأثورة عامة. 29

الروايات حول سم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) 30

نظرة في النصوص المتقدمة. 35

الحديث من طرق الشيعة. 40

ص: 317

نقد الروايات... 44

حديث لد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) خرافة. 55

نعى إلينا حبيبنا ونبينا 66

فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً ثمَّ خرج الى المسجد معصوب الرأس 67

يا احمد ان الله تبارك وتعالى قد اشتاق الى لقائك 68

انه أُغمي على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في مرضه، فدُقّ بابه 69

غشي عليه فاخذت بقدميه اقبلهما وأبكي 70

لا كرب على ابيك بعد اليوم يا فاطمة 70

اذا أنا متُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً 71

ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي واستعن بالله تعالى 71

فجاء الحسن والحسين (علیهم السلام) يصيحان ويبكيان حتى وقعا عليه 72

ثم وجَّهه وغمضه ومد عليه ازاره واشتغل بالنظر في أمره 73

هذا اخي الخضر جاء يعزيكم بنبيكم 73

أطول ليلة حتى ظنوا ان لا سماء تظلهم ولا أرض تُقِلُّهم 74

دخل عليها من الحزن ما لا يعلمه الا الله عز وجل 75

يا عليّ من اصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي 75

شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به الى سرته 75

فانه أمرني بغسله وكفنه ودفنه. 76

لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك 76

نظر في عينيه فرأى فيهما شيئاً 77

ص: 318

فصل في دفن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) 77

ثم ادخل عليه عشرة فداروا حوله 78

حتى صلى عليه الاقرباء والخواص 79

ثم وضع عليه اللبن واهال عليه التراب 79

حتى اذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه 80

وان رأسه لعلى صدري، وقد سالت نفسه في كفّي 81

ان صباحك لصباح سوء. 82

كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التراب؟ 82

اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد 83

فداك أبي وأمي دع الدمع يقع على الأرض. 86

فخذ بجوامع كفني وأجلسني ثم سلني 90

مصائب امير المومنين علي (علیه السلام)

أنتَ أوَّلُ مَظلومٍ، وَأوَّلُ مَغصوبٍ حَقَّهُ 92

ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه 94

لقد ظلمت عدد المدر والوبر. 94

هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه 95

لم يبق بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم 95

قتل أمير المؤمنين (علیه السلام).. 96

يأتيني امر الله وانا خميص.... 99

ص: 319

إني رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وهو يمسح الغبار وجهي 100

فضربه بالسيف على ام رأسه، فوقع على ركبتيه 100

وقد علت صفرة وجهه على تلك العصابة 101

قد وصلت ضربته الى أم رأسك.. 103

أنت يا حسن وصيّي والقائم بالامر بعدي، وانت يا حسين شريكه في الوصية 104

احملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدمه 105

ولم يزل قبره مخفيا حتى دل عليه جعفر بن محمد (علیه السلام) 106

مصائب الامام الحسن (علیه السلام)

فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون 108

سبع سنوات، عاش فيها معاناة جده وتجرؤ القوم على ابيه وامه 109

أساء اليه أصحابه أيما إساءة 111

معاوية بذل لها عشرة آلاف دينار، واقطاع عشرة ضياع 112

فاستمسك السم في بطنه. 112

فبقي اربعين يوماً مريضاً 112

يخرج كبده قطعة قطعة من السم 113

ورموا بالنبال جنازته حتى سل منها سبعون نبلا 116

وشهيد فوق الجنازة قد شكت بالسهام اكفانه 117

رثاء محمد بن الحنفية له. 117

ص: 320

مصائب الامام علي بن الحسين السجاد (علیه السلام)

الْبَكَّاءُونَ خَمْسَةٌ. 120

وأخي مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس 122

ألا تقتل هذا العليل.. 123

وأوداجه تشخب دما وهو مع ذلك يبكي 124

وفي عُنُقِهِ الجامِعَهُ ويَدُهُ مَغلولَهٌ إلي عُنُقِهِ 125

فقل (علیه السلام) بغلين.. 126

حملني علي بعير يظلع. 126

وفخذا علي بن الحسين (علیه السلام) يترشحان دما 126

وتقيّد رجلاه من تحت بطن الناقة 127

حتّى تشتغل الناس بالنظر الي الراس عن النساء. ففعلت ذلك 127

وضربَ بحجر رأس الحسين (علیه السلام).. 130

ائذن لي حتى أصعد هذه الاعواد 130

حديث علي بن الحسين (علیه السلام) مع المنهال 133

ألا تقتل هذا العليل.. 133

خُطبَهُ الإِمامِ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ (علیه السلام) في أهلِ الكوفَهِ 134

فقال بعض القوم: إنّه ليهجر. 136

وتقيّد رجلاه من تحت بطن الناقة 136

فوقف الصياد وهو ينظر إلى السبايا والعيال 138

انهم انزلوا بنا سبعة مصائب... 140

ص: 321

واعتذر لنا عند زوجتك لأنّها عتبت علينا 142

وهل يعدّ البكاء إلاّ للمصائب والمحن الكبار 145

الإمام زين العابدين (علیه السلام) مع الشيخ الشامي 149

حتى بعث سمّاً قتّالاً.. 150

وقد غلب عليه الضعف إذ مرّ به شخص له هيبة وجلال 151

وأوصيك بناقتي أن تربطها في الحظيرة 152

الوصية. 153

وغسّل أباه وحنّطه ثمّ كفّنه وحمل جنازته 154

مصائب الامام محمد الباقر (علیه السلام)

ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد. 160

باب شهادته (علیه السلام).. 162

انى لست بميت من وجعى هذا 164

يا بنيّ إن هذه الليلة الّتي اقبض فيها 164

اني لأعرف الشجرة التي قد عمل منها السرج 165

وذلك السرج عندنا معلّق.. 166

كان كلّ واحد منّا مغلولة يده إلى عنقه 166

وهنّ مربّقات بحبل طويل.. 166

ناداني من وراء الجدار: يا محمّد! عجّل 167

وكفّنّي في ثلاثة أثواب... 167

ص: 322

النوادب تندبني عشر سنين بمنى 168

الملائكة تغسّله في البقيع. 168

اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا. 169

ممّ كان بكاؤك وأنت تُغسّل أباك.. 170

مصائب الامام جعفر الصادق (علیه السلام)

وائتني به على الحالة التي تجده عليها 174

فدس إليه سما نقيعا في عنب ورمان 181

فغسله وحنطه كما أمره وكفنه. 182

عجلوا به إلي قتلني الله إن لم أقتله 183

قل لهم هذا عدوي فقطعوه 184

شتم الامام (علیه السلام).. 185

لما حملت جنازته ورفع سريره 187

محبة إسماعيل في قلب الامام الصاق (علیه السلام) 189

الامام الصادق (علیه السلام) يستأجر من يحجّ عن إسماعيل 190

مصائب الامام موسى بن جعفر (علیه السلام)

ذي السّاقِ المرضُوضِ بِحَلقِ القُيودِ، وَالجَنازة المُنادى عَلَيها بِذَلِّ الإستِخفافِ 192

لأخذتُ الذي فيه عينيك فان المُلك عقيم 194

حقد هارون لعنة الله عليه. 196

ص: 323

يا موسى بن جعفر خليفتين يجبى إليهما الخراج 201

يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء 201

وأخذ سلكا ففركه بالسم وأدخله في سم الخياط 203

ورأيتني قد انتفخت وارتفع بطني واخضر لوني واحمر وتلون ألوانا 205

وإيذائه أشد الإيذاء. 207

يضربه بالسياط، ويكثر من تعذيبه الوحشي 207

لا تطلقوا عنّي حديداً، ولا تغسلوا عنّي دماً 209

فكتبوا إلاّ أحمد بن حنبل فكلّما زجروه لم يكتب شيئاً 210

فأخبرنا مضيت موتاً أو قتلا؟. 210

مدة حبس الإمام. 211

إن القيود أربعمائة كيلو. 211

إني قد سُقيت السم. 211

وكانت خضرة وسط راحته تدل على أنه سم 212

خطة سليمان بن أبي جعفر. 213

وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، وأصفر غدا صفرة شديدة 215

لفّ في بساط وغمز حتى مات... 216

ألا من أراد الطيّب ابن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج 217

دفن مع تلك القيود والسلاسل.. 218

بماذا قتل.. 218

1- انه قتل بالسم. 218

ص: 324

2- لف في الفراش وضغط.. 220

3- اذيب ثم صب في فمه 221

4- قتلاً قتلاً قتلا.. 218

مصائب الامام علي بن موسى الرضا (علیه السلام)

غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفضلها وحكمتها 224

الإمام الرضا (علیه السلام) يموت مسموما بالعنب 229

الإمام الرضا (علیه السلام) يموت مسموما بالرمان 231

فصار الجلودي إلى باب الرضا (علیه السلام) وهجم على داره مع خيله 232

قد جلس أبو جعفر (علیه السلام) في الحجر وهو يأبى أن يقوم 235

فودّعه مراراً، كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب 236

حتى سقي السمّ وبقي يجود بنفسه مكروباً، ويغشى عليه 236

تشييع جنازة الإمام الرضا (علیه السلام) ودفنه 237

دعبل بن علي الخزاعي في مجلس الإمام الرضا (علیه السلام) 238

وتأججت حسراته وتحدرت دموعه 240

وخرج مغطّى الرأس، فلم أكلّمه 247

وغسل أبوالحسن في الليل ودفن ليلاً 251

وهو مدفون بأرض الغربة. 253

الامام الجواد (علیه السلام) يقيم ماتما على ابيه (علیه السلام) 254

حتى قام الرضا (علیه السلام) خمسين مجلساً 255

ص: 325

مصائب الامام محمد الجواد (علیه السلام)

يقتل غصبا، فيبكي له وعليه أهل السماء 258

فرجي بعد المأمون بثلاثين شهرا 259

تأخر ولادته. 260

القيافة والاتهام. 260

فقه القيافة. 262

فيما صنع بأمّي فاطمة (علیه السلام).. 262

فتنة صغر سنة والامامة. 263

قبوله الامام (علیه السلام) الزواج.. 265

تزويجه شر خلق الله... 266

أنواع الانحرافات والآفات الاجتماعية المتعدِّدة. 267

صفات المعتصم. 267

الحماقة. 267

كراهته للعلم. 268

بغضه للعرب... 268

ولاؤه للأتراك.. 269

المعتصم مع الإمام الجواد (علیه السلام).. 270

الوشاية بالإمام. 270

الكذب على الامام (علیه السلام).. 272

حتى قطعته قطعة قطعة ثمّ وضعت سيفك على حلقه فذبحته. 273

ص: 326

تنبّأ الإمام بوفاته. 275

من أمرك أن تسمّني في هذا الطعام؟ 276

وكانت الملعونة شديدة العداوة 277

ويلك قتلتيني قاتلك الله... 277

والله ليضربنّك بفقر لا ينجي وبلاء لا يتستّر 278

فلما أُطعم منها أحسَّ السم، فدعا بدابته 279

فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة 280

أبلاك الله بداء لا دواء له. 281

أنفذ إليه شراب حُمّاض الاَترُجّ.. 281

جاؤا بطعام مسموم ووضعوه بين يديه 282

عطش عطشاً شديداً ومنعته الماء أمّ الفضل 283

تورّم جسده الشريف وكان يتقلّب على الأرض يميناً وشمالاً 283

تورّم جسده وكان يقطر جلده شبه الدم 284

وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً 284

اجتمعت الشيعة وحلفوا على أن يقتلوا دونه أو يدفنوه 285

خرج أبوالحسن ودموعه تجري على خدّيه 285

وغسّل أباه وحنّطه وكفّنه ودفنه 286

قل للذي أخرجك من الشام أن يخرجك من حبسي 287

ص: 327

مصائب الامام الهادي (علیه السلام)

دخلني من إجلال الله تعالى.. 292

خروجه من المدينة. 293

في (خان الصعاليك). 294

المجلس المشؤم. 295

ربط المجلس المشؤم بمجلس الشام 296

هجموا عليه ليلاً.. 297

ربط بين دار الامام الهادي (علیه السلام) وبين دار امير المومنين (علیه السلام) 298

ماذا لقينا في يوم الإثنين.. 298

ربط بين ماحل وما مضى.. 299

خرج أبو محمّد (علیه السلام) حاسراً مكشوف الرأس 299

شقّ موسى على هارون.. 301

ربط بين الامام الهادي (علیه السلام) وبين الامام الحسين (علیه السلام) 301

ربط الصلاة عليه. 302

فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك 302

مصائب الامام الحسن العسكري (علیه السلام)

دفن في البيت الذي دفن فيه. 306

كان قد أراد قتله الملوك الثلاثة. 307

وجرى عليه منهم ما لم نقدر على بيان. 308

ص: 328

ولمّا سقي السمّ مرض مرضاً شديداً 309

وأخذ القدح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه 309

حملوه من وسط داره ودفنوه في البيت 311

فلمّا راى ولده الحسن العسكري (علیه السلام) بكى 311

من يصلي علي فهو القائم بعدي.. 313

الفهرس. 313

ص: 329

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.