عنوان کتاب نبي و وصي و وصايا
پدیدآوران: موید علی حیدر
نام ناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
1415ه.
محرر الرقمي: محمّد رادمرد
نبيٌّ ووصيُّ ووصايا
ص: 1
الطبعة الأولى
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
١٤١٥ه_ - ١٩٩٥م
مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
بيروت. شارع المطار. قرب كلية الهندسة
ملك الاعلي. ص.ب : ٧١٢٠
الهاتف : ٨٣٣٤٤٧ - ٨٣٣٤٥٣
PUBLISHED BY
Al Alami Library
BEIRUT - LEBANON
P.O. BOX 7120
ص: 2
نبيٌّ ووصيُّ ووصايا
الخطيب
الشّيخ عَلِي حَيدر المويّد
منشورات
مؤسسة الأعلمى للمطبوعات
بيروت - لبنان
ص. ب 7120
ص: 3
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
إليك أيها الممدود بين الأزل والأبد...أيها الساكن في القلوب والهاجع في ضمير الأمة وضمير الإنسان...
إليك يا شعلة الحق ومبدأ الحياة ونشيج الوجود...
يا من ورثته السماء كل خصال العظمة وسكبت فيه كل معصراتها خيراً ونوراً حتى صاغت منه أدق وأفنى تعبير عن أقصى ما في الإنسانية من معنى وما في طاقة الإنسان من قابلية النبل والسمو
إليك...يا من بكته مدامع الكون بالأحمر القاني وناحت عليه الحور في قصورها العالية...وضحت له الملائكة في السماء وهي تنظره مخضباً تريباً تحت وهج الشمس المحرقة...
إليك...أيها المقتول بالعطش لتسقي الأجيال تلو الأجيال نظافة وسمواً...
إليك يا حسين...يا منار الفداء والإباء...
يا صريع الدمعة الساكبة الدمعة الساكبة.. ويا صاحب المصيبة الراتبة.. يا من...وزعت ذاتك مصابيح منيرة تضيء للأجيال دروبها المظلمة...
ص: 5
إليك.. يا من علمتنا كيف نرسم...وكيف نسلك طريق المج والكرامة...
إليك.. يا قدوة الخالدين...
أقدم كلماتي...
المؤلف
ص: 6
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الكلمة مبدأ الحياة...
فبالكلمة أوجد اللّه العالم وقذف به إلى نور الوجود بعد أن كان نسياً منسياً قال سبحانه :
«بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1).
وقال سبحانه :
«كَذَلِكِ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (2).
وقال عزّ من قائل :
«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (3).
ص: 7
فكلمة «كن» هي صوت الحق الذي قامت به السموات والأرض وما فيهن وما بينهن واللّه قادر حكيم
كما أن الكلمة منتهى الحياة وبالكلمة يقرر المصير وتحسم العاقبة قال تعالى :
«كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي...* يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي» (1).
فالكلمة مبدأ الحياة وستظل الكلمة منتهى الحياة بل الكلمة هي التي حملت الوحي واستشرفت مرافىء الأسرار وربطت بين أعضاء العالم المادية وقيمه المعنوية.. فبالكلمة ثبتت الدعوة إلى التوحيد...
«قولوا لا إله إلا اللّه تفلحوا».
«قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (2)
وبالكلمة شق الحق - بكل مظاهره ومشتقاته - طريقه في الحياة وانتصر على الباطل - بكل صنوفه واتجاهاته -
«وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (3).
»وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ» (4).
«وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
ص: 8
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ» (1).
فبالأمس كانت الكلمة وسيلة الإرتباط بين السماء والأرض...بین عالم التجرد السامي وعالم الماديات الدانية.. ولا تزال الأرض تستوحي خطواتها من السماء عبر الكلمة والكلام إذ لخصت الكلمة أعظم الرسالات السماوية في صفحات جمعها كتاب واحد اسمه القرآن فهو كلام اللّه وحديثه إلى البشر.
فالحق أن الحياة رهينة الكلمة والكلام.. وللكلمة القيادة في كل مجال ومعترك ولا غرابة أن نجد في كل ساحة للكلمة قدم صدق تتخطى فيه رقاب الأمم إلى أقصى مواقف البطولة والانتصار..
ولولا الكلمة لضاعت الديانات وضعفت العلوم وبانت البشرية في سبات عميق.
ومن هنا طغت بطولات المنابر والخطباء على صفحات التاريخ لأنها تستوظف الكلمة وتعطيها اتجاهها وهدفيتها في الحياة.
فكانت الكلمة وما تزال للامم وجدانها المعبر عن أحاسيسها وعواطفها وأفكارها في ملاحم البقاء والمرآة الجبارة الصادقة التي تعكس أغوار النفس البشرية وما فيها من صور وإبداعات قد لا يجد المجهر إليها سبيلا بينما يصفها لسان الخطيب الملهم ويبعثها من مكامن الأسرار
ص: 9
لقد أثبتت الحياة أن المجد للكلمة.. أو لم تبهر ومضة الكلمة وميض السلام ؟ أو لم تخرس نبرة الصوت صليل الحديد ودوي المدافع وصهيل الخيول ؟
فالكلمة استخدمت ولا تزال تستخدم الجيوش والسيوف من فوق منابرها ولا تملك السيوف والجيوش إلا أن تنحني أمامها وتكون طوعها..
وهل وجدت في الناس أقوى من خطيب مفوّه يقف على قدميه متى شاء يبكي ويعبر عن كل ما يدور في خلده ليوجه الجميع إلى حيث يشاء.. الجميع أو يضحكهم أو يقودهم إلى الموت أو الحياة ! !
فكم أثرت الكلمة في رجال لم يؤثر فيهم السلاح وزجت في غمر اللّهيب أطفالاً كانوا يلاحقون الفراشات في المزاهر أو يتوجسون دبيب النمل في التراب !!
وكم من الكلمات التي ألهبت الحروب والمعارك بين الأشقاء وجمعت الأعداء في ظلال السلام !!!
هذا دور الكلمة في هذه الحياة.. وهذه مكانتها.. ولا نقصد من الكلمة هنا الألفاظ المجردة عن المعاني والأهداف بل نقصد الكلمة
ص: 10
القائدة.. الكلمة الهادفة الداعية التي تتسم بصدق الوجدان ووضوح الحقيقة ونبل الهدف.
وكم من الكلمات التي زعق فيها الشيطان على لسان متكلم طائش سرعان ما تبدّدت مع الهواء فكانت زوبعة في فنجان لا تحمل في متنها سوى الإزعاج والصخب !!
وكم من المنابر والمنصات التي شادها الحرافون للباطل صار مصيرها إلى المحرقة. إذ لا قيمة للمنبر بلا هدف حي وغرض نبيل.. ومن هنا قال الإمام علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) سلف في مجلس يزيد في الشام بعد واقعة كربلاء الدامية أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد...»(1).
ولم يصفها بالمنبر لأنها كانت موظفة لخدمة الأهواء والأغراض السياسية الباطلة..
ص: 11
إذن.. لا بد للمنبر من الهدف ليكون منبراً بل لا بد للمنبر من الهدف ليكون فناً لأن القيمة اللفظية للخطاب تنمو وتتضاءل بقيمة الهدف الكامن من وراءها.
فالمنبر بلا هدف.. بلا رسالة لا يخرج عن كونه مجموعة أعواد ركبت بطريقة هندسية جميلة.. كما أن الكلام بلا معاني مقصودة لا يخرج عن كونه لغطاً أو تعتعة من الهذيان..
إذ أن مهمة الخطابة والخطيب هي التوجيه والإرشاد.. ودوره هو اكتشاف داء المجتمع ودواءه ثم قولبة الدواء المر في كبسولات خلابة تغري
السقيم لتعقيم داءه...
فالمنبر النابض هو الذي يجنّح المجتمع للتحليق من مختلف الصعد المغمورة إلى أرفع المستويات..
ويجني على المنبر أولئك الذين يريدونه زينة أو ترفاً أو تحفة باذخة أو...فإنهم يحاولون فصله عن الحياة
فالمنبر لا بد أن يكون العصب الفكري الرئيس في الحياة ليستطيع أداء رسالته..
ص: 12
أولا ترى معي أن الخطباء الذين ركعوا أمام الغلمان والمومسات وعكفوا على الخمر والغناء وأدمنوا هجاء الملوك والسلاطين وترقيع نقاط الضعف في حياة الأمراء قد أسفوا بالمنبر إلى درك عبادة الشهوة والمال ؟ !
وأنهم لو تساموا بالبلاغة والأدب إلى قمم الفضيلة والعبقرية والبطولة لوفّروا على الأجيال من بعدهم نبلاً نفتقر إليه اليوم وكل يوم ؟!
فإن الركوع للباطل ليس فناً ولا عبقرية ولا مهارة فكل خطيب يستطيع أن يتوتر أمام الجمال والدينار والدرهم ويكرع المخدرات أباريق وأحواضاً ب__ل المهارة والفن أن تعيش بنبل وشموخ وهذه لغة لا يجيد التحدث بها كل خطيب وأديب.
فقليل أولئك الذين يقدرون على العيش بشموخ !
إذن.. لا بد للمنبر من الرسالة قبل الألفاظ والأعواد لأن الرسالة تفتح طريقها ولو بلا ألفاظ بينما الألفاظ بلا رسالة سراب كاذب يحسبه الظمآن ماء.
من هنا أعطى الإسلام منابر الكلمة والكلام هدفيتها وركز فيها الحق والانتصار لأهدافه وقيمه...ضد الباطل
سمات الخطابة العربية :
لقد امتازت الخطابة الإسلامية عن غيرها بمميزات جعلتها في قمة الأدب الهادف بل وأصبحت الخطابة الحسينية على الأخص مدرسة كبيرة تقود المجتمعات جيلا بعد جيل نحو الفضائل والخصال الإنسانية الحميدة.
قبالأمس كانت الخطابة عند العرب وهم أمراء الكلمة والكلام لا تخرج عن كونها فناً من الفنون إلى جانب الشعر والنثر ونحوهما. إذ كانت الخطابة فيهم فطرية كالشعر وللدور الكبير الذي كانت تؤديه الخطابة في حياتهم وتقرير مصيرهم كان يحظى الخطيب كالشاعر بمنزلة خاصة بينهم باعتباره لسانهم الناطق عنهم والمعبر عن آراءهم ومواقفهم..
ص: 13
وقمة الخطابة العربية كانت تمتاز بالسجع الكلامي المقارب إلى الشعر ولعل من أجمل نماذجه قول قس بن «ساعدة الأيادي» وكان حكيم العرب في الجاهلية.. إذ ركب ناقته الحمراء يوماً ووقف في سوق عكاظ «وكان نادي التباري الأدبي عندهم» يبشر بظهور نبي جديد فقال :
«أيها الناس ! اجتمعوا، واسمعوا، وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة لن تبور، ليل داج. وسماء ذات أبراج. أقسم قس حقاً».
لئن كان في الأمر رضىً ليكوننّ بعده سخط وإن للّه عزّت قدرته ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا (1) ؟ !»
وكانت خطب العرب تختلف باختلاف الغرض أيضاً الذي سيقت إليه وأبرز أغراض العرب في خطاباتهم كانت ما يلي :
١ - خطب الفخر..
ويتناول الخطيب فيها أمجاده وأمجاد قومه وعشيرته ويذكر مفاخرهم النسبية ونحوها كالتغني بالآباء والأجداد وبطولات فرسانهم وذكر وقائعهم ونحوها..
٢ - خطب الحماسة...
وهي التي يلقيها الخطباء في ساحة المعركة أو لدى التعبئة النفسية للحرب.
٣- خطب التعازي والمواساة عند وقوع المصائب والنكبات
ص: 14
٤ - خطب الإصلاح..
وكان الخطباء يوظفونها في إصلاح ذات البين وحل الخصومات الأسرية أو العشيرية.
هذا بالأمس.. وأما اليوم الذي سيقت وسائل الإعلام فيه وخاصة المنابر وراء المادة والسياسات الباطلة فإن أغراض الخطابة انحصرت بالمصالح السياسية عادة. وذلك لأن الخطابة القديمة وإن كانت بعيدة عن الفضائل والأهداف الكبيرة - لانحطاط المستوى الفكري والخلقي عند العرب قبل الإسلام –
إلا أنها كانت غالباً في خدمة الشعب واتجاهاته بالنتيجة.. فعندما يحفز الخطيب القبيلة ويدفعهم نحو الحرب في خطاب الحماسة ونحوه فإنه لم يكن يعبر عن رأيه الخاص أو رأي جماعة اشترته بالأموال والمناصب بل كان رأي القبيلة يعبر عنه خطيب من أبنائها..
بينما اليوم يقف الخطيب وراء المنصة في أغلب الأحيان ليس ليدفع الشعب نحو الهدف الأسمى والأفضل بل ليخدعه ويزيف له الحقائق ويسوقه وراء أهداف الحاكم وطموحاته الشخصية وهذا أمر مشهود في عالم اليوم.
ومن الواضح أن الإسلام لا يقر بكلا الاتجاهين.. إذ أن الإسلام وإن أقرّ موضوع الخطابة وارتضى بعض أهدافها السابقة إلا أنه لا شك هذب الخطابة من خلال تهذيب الخطيب وتربيته..
فهذّب مثلاً الخطب الحماسية التي كان يلقيها خطباء العرب في الحروب والغزوات التي كانوا يخوضونها من أجل السلب والنهب وصبها على إذكاء روح الجهاد والتضحية في سبيل اللّه سبحانه من أجل إنقاذ الشعوب المستضعفة وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
والفرق شاسع وواسع بين حرب يخوضها أصحابها من أجل العدوان والظلم وبين معركة يخوضها أصحابها من أجل الحق والعدالة..
ص: 15
من هنا أصبحت الخطابة الهادفة في الإسلام من أرقى مواقف الجهاد في سبيل اللّه حيث قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (1)
ولم يكتف الإسلام بتهذيب الأساليب القديمة للخطابة بل أضاف إليها طموحات وأهدافاً أعلى وأسمى من تلك..
ولعلّ من أبرز الإتجاهات الخطابية التي أضافها الإسلام لهذا الفن العظيم ما يلي :
١ - خطب التبليغ...
وهي التي وظفها الإسلام في مجال نشر الدعوة الإسلامية بين الناس ولعل من أهمها خطب الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) التي دعى فيها الناس إلى الإسلام وحثهم فيها إلى الفلاح.
قال تعالى :
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا» (2).
2 - خطب الوعظ والإرشاد..
وهي التي تتضمن الوعد والوعيد والتشويق للثواب الجزيل الذي أعده اللّه سبحانه للصالحين من عباده والتخويف من العذاب الأليم الذي أعده سبحانه للعاصين منهم.
ومن أبرز هذه الخطب خطابات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...كما يتضح ذلك في مراجعة خطبهم في البحار ونهج البلاغة.
ص: 16
٣- خطب التربية والتهذيب.
ويلقيها الخطيب لغرض تربية السامعين ودفعهم نحو الأخلاق والآداب والفضائل الإنسانية الرفيعة
٤ - الخطب السياسية والاجتماعية الأخرى...
وهي التي يتناول فيها الخطيب شرح موقف سياسي معين أو دعوة إلى حركة خاصة أو معالجة لأزمة مستعصية ونحو ذلك، نقداً أو دعماً وتأييداً ولعلّ من أهمها خطبة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في يوم الغدير أو يوم الدار أو الخطبة الشقشقية في موضوع الخلافة للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو خطبة الصديقة الطاهرة (عَلَيهَا السَّلَامُ) في مسجد النبي وكذلك خطبة السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الكوفه والشام حيث احتوت على أبعاد سياسية واجتماعية، إضافة إلى أبعادها الأخرى.
هذه بعض أهداف الخطابة في الإسلام..
وبعد واقعة الطف شكلت المجالس الحسينية التي يقيمها أتباع مدرسة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) على الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) القمة في مجال الخطابة الإسلامية.. لأنها حوت كل الأغراض الخطابية التي أوجدها الإسلام في هذا الصدد إذ يتناول الخطيب فيها مختلف الشؤون الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية ويلقيها على الناس بأسلوب منطقي هادىء ويحثهم نحو المواقف الصحيحة ويركز فيهم مبادىء أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ويذكرهم فيها بمصائبهم وما جرى عليهم من مآسي وويلات بأيدي الظالمين والغاصبين..
فمآتم الحسين لا تسرد فيها مصائبه العظيمة المفجعة للتاريخ والإنسانية فقط بما هي مصائب ومآسي محزنة وإن كانت تستحق ذلك أيضاً كما قال الشاعر :
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة***لكنما عيني لأجلك باكية
تبتل منكم كربلا بدم ولا***تبتل مني بالدموع الجارية
ص: 17
وإنما يسرد فيها الخطيب المصائب ويعرج منها على أسبابها ودوافعها وكل ما يحيط بها من شؤون علمية وإنسانية
لأن قضية الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليست فاجعة فقط بل هي موقف وفكرة للإنسان والحياة أيضاً.
والحق أنها تجسد عصارة الإسلام وخلاصة أهدافه وأفكاره التي أنزلها للبشر ودعاهم إلى الإيمان بها. وهل يريد الإسلام من الإنسان أكثر من العبودية للّه سبحانه وترك العبودية بكل أصنافها وأنواعها لغيره سبحانه !!
قال الحسين الشهيد (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إني لم أخرج أشراً ولا بطراً... وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» (1).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقاً» (2).
ولولا المآتم التي أقيمت على سيد الشهداء ف منذ استشهاده وحتى اليوم لما استطاعت تلك الثورة المحدودة في زمانها ومكانها أن تفتح المجال لأهدافها الإنسانية الكبيرة ولما استطاعت أن تخرق الزمان والمكان وتمر على الأجيال جيلا جيلا تدعوهم إلى الإيمان والخير والصلاح...
ولولا مجالس الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما استطاعت تلك الثورة التي طوقها الأمويون ومن بعدهم العباسيّون في صحراء كربلاء أن تجتاح حكومة أمية نفسها وحكومات تلتها وورثت انحرافها إلى اليوم.
فثورة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لو استدرجها التاريخ المكتوب بأيدي السلاطين في صيغة حادثة وقتية لم تقدر على إحراز مكاسبها الكثار البعيدة وإنما قدرت في
ص: 18
الماضي وتقدر في المستقبل بواسطة المنبر.
فمن الحق لو قلنا إن بقاء الإسلام بمفاهيمه وقيمه الصحيحة رهين منبر الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ لا توجد أية فاصلة بين الحسين والإسلام.. ولا نبالغ أو نتجاوز الحق إذا قلنا إن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في موقفه الأبي ه_و الذي خلد الإسلام وصانه من التضييع والتبديل والتحريف وهذا أحد المعاني الذي تضمنه قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«حسين مني وأنا من حسين» (1).
فإن الحسين من النبي في الولادة والنشأة وفي هذا المعنى جاء قول السيد بحر العلوم (قدّس سِرُّه) في أبيات يقول فيها :
ذادوا عن الماء ظمآناً مراضعه****من جده المصطفى الساقي أصابعه
يعطيه إبهامه آناً وآونة***لسانه فاستوت منه طبائعه
للّه مرتضع لم يرتضع أبداً***من ثدي انثى ومن طه مراضعه
غرس سقاه رسول اللّه من يده***وطاب من بعد طيب الأصل فارعه
ومبادىء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورسالته من الحسين في البقاء والاستمرار كما قال الشاعر :
إن كان دين محمد لم يستقم***إلا بقتلي يا سيوف خذيني
ص: 19
ومن هنا جاءت ولادة هذا الكتاب الذي بين يديك - عزيزي القارىء - بعدما كان عبارة عن محاضرات ومجالس حسينية القيت في شهر رمضان المبارك من عام «١٤١٣» هجرية في الكويت «حسينية الرسول الأعظم – الكربلائية» وهذه المحاضرات تتناول وصايا الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأمير المؤمنين عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمخاطب فيها وإن كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إلا أن محتويات هذه الوصايا تعمّ كافة المؤمنين من عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى انتهاء هذه الدنيا كما هو مقتضى قاعدة الاشتراك في التكاليف على ما قرره الفقهاء العظام في قواعدهم الفقهية، وقد اقترح بعض المؤمنين إعداد هذه المحاضرات والمجالس بصيغة كتاب يستفيد منه القارىء في نفس الوقت الذي يحتفظ بصيغته الخطابية من قريب أو بعيد لينتفع به الخطباء الناشئون أيضاً. فلبيت الطلب وسميت هذا الكتاب ب_ (نبيٌ ووصيٌ ووصايا) وقد أشرف على إعداده الأخ الاستاذ فاضل الصفار فشكر اللّه سعيه وجزاه خير جزاء المحسنين.
وأسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا الكتاب ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون واللّه الموفق، وهو المستعان
١٤١٤ ه_ - ١٩٩٤م. المؤلف
ص: 20
ص: 21
ص: 22
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي ثلاث فرحات للمؤمن في الدنيا لقاء الإخوان والإفطار في الصيام، والتهجد من آخر الليل» (1).
قال أهل المعقول إن حركات الإنسان وسكناته كلها تنطلق عن اللذّة والألم فباللذّة يكتسب ما ينفعه وبالألم يدفع ما يضره.
وقسّموا اللذّات والآلام إلى ثلاثة أقسام هي :
1 - اللذّة الجسمية والألم الجسمي : مثل لذّة الطعام والشراب ونحوها.
٢ - اللذّة الوهمية والألم الوهمي : مثل حب السلطة والمنصب والجاه - ونحوها فإن أصحاب هذه اللذّات لا يحبون الأطعمة والأشربة ولا يحبون الجنّة والعاقبة الحسنة والصلاح في الدنيا بل يريدون الحكم.. الحكم فقط..
ص: 23
٣ - اللذّة العقلية والألم العقلي.. مثل العلم والفضيلة والجمال ونحو ذلك...
والناس بصورة عامة يختلفون من حيث اندفاعهم نحو الأعمال والمواقف فبعض الناس تحركهم اللذّة الجسمية وبعض آخر تحركهم اللذّة الوهمية وآخرون تحركهم اللذّة العقلية وبحسب هذه الدوافع والمنطلقات أيضاً يتفاوتون من حيث السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة.
فالذي ينطلق عن اللذّة والألم الجسميين يكون مقامه المعنوي عند اللّه سبحانه وتعالى وعند الناس أقل من ذلك الذي ينطلق عن اللذّة والألم العقليين كما أن الصحة والسلامة والرضا والشعور بالسعادة وراحة الضمير في هذه الدنيا يشعر بها أولئك الذين ينطلقون عن اللذّة والألم العقلي. أما غيرهم من أصحاب اللذّات الجسمية والوهمية فشعورهم بذلك يكون أقل وأحياناً ينعدم تماماً ولذا يقدم بعضهم على الانتحار أو يعتدي على الآخرين ويفضل حياة الشقاء والتعاسة على الهدوء والاطمئنان...
فهذا الاختلاف بطبيعة الحال ناشيء من تفاوت نفس اللذّة والألم في الرتبة والمنزلة فإن اللذّة العقلية أرفع من اللذّة الجسمية وأرقى في مراتب الكمال وهذا واضح لأن اللذّة العقلية باقية غير فانية إذ أن عالم العقول أرقى العوالم الوجودية لأنه يختص بعالم المجردات أما اللذّة الجسمية فهي مرتبطة بعالم المادة الفانية الزائلة
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من اللّه في شيء وألزم قلبه أربع خصال هماً لا ينقطع عنه أبداً، وشغلاً لا ينفرج منه أبداً، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً» (1).
وهذا واضح لأنه تعلق بأمر لا قرار له ولا ثبوت بل هو زائل فاني فلذا يبقى صاحبه في حسرة وألم وشقاء دائماً.
ص: 24
ومن هذا الفرق بين اللذّة العقلية واللذّة الجسمية والألم العقلي والألم الجسمي يظهر النقص بوضوح في اللذّة والألم الوهمي لأنه ليس إلا الجهل المركب والانحراف الكامل عن إدراك الواقع وحقائقه الثابتة وهذا كلام طويل ذكره العلماء في محله من علم المعقول والأخلاق ولكن من الضروري هنا أن نجيب على سؤال يدور في أذهان البعض وهو :
هل الإنسان وحده ينطلق في حركاته وأفعاله عن اللذّة والألم أم هذه القاعدة عامة تشمل حتى الحيوانات ؟
الجواب : نعم هذه قاعدة عامة يشترك فيها الحيوان أيضاً لكن مع بعض الفوارق بين الإنسان والحيوان إذ أن المعلوم أن منطلقات الإنسان ومنطلقات الحيوان لدى القيام بوظائفهما الحيوية تتشابه في بعض الجهات وتختلف في جهات أخرى سوى أننا نعلم جهات التشابه وجهات الامتياز أحياناً وأحياناً نجهلها وأحياناً نعلم ببعضها ونجهل البعض الآخر.
فمثلاً : نحن نعلم أن الإنسان والحيوان يتشابهان من جهة الدافع الشهوي الجسمي لأن كليهما كائن حساس وكل كائن حساس له غرائز وشهوات ولذا فإنهما معاً يشتركان في الغريزة والشهوة وإن كانت الشهوة تختلف في الشّدة والضعف بينهما أحياناً
فهذه جهة مشتركة بين الإنسان والحيوان ونحن نقطع بوجودها فيهما معاً لأنها قام عليها البرهان العقلي والنقلي بالإضافة إلى الوجدان. وهنا جهة امتياز معلومة أيضاً بين الإنسان والحيوان وهي اللذّة العقلية وذلك لأن العقل من مختصات الإنسان وحده في هذا الوجود الإمكاني ومن الواضح أن الحيوان الذي يفقد العقل لا يتمتع باللذّة والألم العقلي.
ونقصد من العقل هنا هو ما يتم به معرفة القواعد العامة وإدراك الكليات كما يعبر المناطقة مثل (النقيضان لا يجتمعان) و (الواحد نصف الإثنين) و (الكل أعظم من الجزء) ونحو ذلك لا ما يدرك به الجزئيات لأن هذا ما يشترك فيه الإنسان والحيوان معاً حسب بعض النظريات كإدراك الأخطار
ص: 25
الخاصة والمنافع الخاصة في الطعام والشراب وما إلى ذلك وهذه جهة امتياز بين الإنسان والحيوان وهناك جهة أخرى بينهما...ولكننا نقطع بوجودها في الإنسان لأن الوجدان البشري يشهد عليها.. أما هل هي موجودة في الحيوان أيضاً أم لا ؟. هذا ما نجهله وهذه هي اللذّة والألم الوهمي. إذ أن الإنسان ينطلق في بعض تصرفاته عن اللذّة والألم الوهمي كحبه للرئاسة والسلطة والمنصب والجاه ولكن لا نعلم هل أن الحيوان يدرك هذه اللذّة أيضاً أم لا ؟. ونقول ذلك لأننا نجهل ما بوجدان الحيوان وما يكنه في نفسه...
وإن كان البعض يقول إن الحيوان أيضاً يمتلك هذه الغريزة الخاصة ويستدل على ذلك بحب السيطرة والغلبة والانتصار في الحيوانات ولكن على الظاهر أن هذا لم يقطع بثبوته. وعلى أي حال.
إن ما يتحكم بسلوك البشر ويحدد تصرفاتهم في الحياة سواء مع خالقهم ومعبودهم أو مع مجتمعهم أو مع أنفسهم هي هذه اللذّات والآلام الثلاثة الجسمية والوهمية والعقلية.
فبعض الناس يتحكم في سلوكهم ومصيرهم معاً اللذّة البدنية وهذا قبيح شرعاً وعقلاً وقد عبر القرآن الكريم عنه بقوله سبحانه وتعالى :
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ» (1).
أي سيرتهم سيرة الأنعام حيث آثروا اللذّات الدنيوية وشهواتها وأعرضوا عن الصبر يأكلون للشبع ويتمتعون لقضاء الوطر.
ولعل اللّه سبحانه وتعالى شبه أصحاب اللذّات الجسمية بالأنعام والبهائم لوجود وجوه عديدة للشبه بينهما منها :
ص: 26
١ - إن الأنعام يهمها الأكل لا غير وأصحاب اللذّات الجسمية غالباً هكذا أيضاً ولذا ورد عن الإمام أمير المؤمنين مالك تشبيهاً لبعض هؤلاء قائلا :
«إن البهائم همها بطونها» (1).
2 - إن الأنعام تأكل وتشرب وتتمتع بالنعم فقط ولا تستدل بالنعمة على الخالق والمنعم وهكذا من يشابهها بالفعل والعمل.
٣ - إن الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن العاقبة والمصير الذي ينتظرها لأنها لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك وكذلك الإنسان إذا صار همه بطنه وفرجه وماله ومعسكره فإنه يغفل غالباً عن مصيره الذي هو الموت وعاقبته التي هي الآخرة وما سيلاقيه فيها
قال سبحانه وتعالى :
«يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» (2).
4 - إن الأنعام تعيش يومها وتتمتع بلذاتها بلا ملاحظة قبل الأكل ولا ملاحظة بعد الأكل ودون غاية سامية وهدف رفيع وهكذا من يماثلها في هذه الشاكلة فإنه يتمتع ويلتذ أيضاً فقط بلا ملاحظة الهدف وبدون جعل لذات الدنيا وسيلة للمصير والعاقبة ولذا نجد بعض هؤلاء يأكلون ما يحصلونه من حل أو حرام ولا يلاحظون في أكلهم وشربهم وتنعمهم هدف الطاعة والعبادة ولذا أصبحوا أضلّ من الأنعام وفي الآيات الكريمة قوله تعالى :
«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (3).
لأن الأنعام عندما لا تفكر في العواقب والمقدمات لأنها فاقدة للعقل
ص: 27
والشعور أما الإنسان الذي يمتلك كل ذلك مع هذا لا يستخدمه في سبيل السعادة والكمال فإنه أضل من الحيوان.
ورد في الكلام المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في خطاب له إلى ولده الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) على اختلاف الروايات يقول فيه :
«أبني إن من الرجال بهيمة***في صورة الرجل السميع المبصر»
وهنا لا يتوهم أحد بأن الإسلام يعارض اللذّة الجسمية ولا يريد المؤمن يتمتع في الدنيا ويقضي منها وطره بل بالعكس كما أن الإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يعيش في سبيل الهدف السامي والكمال المعنوي ويهيّىء مقدماته ويستعد لسفره إلى الآخرة التي هي دار المقام والبقاء كذلك يريد للإنسان أن يقضي وطره ويتمتع في دنياه لأن الدنيا مزرعة الآخرة في نظر الإسلام.
فعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
«أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار فخذوا من ممرّكم لمقرّكم» (1).
وقال سبحانه وتعالى :
«وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (2).
نعم الإسلام يريد من الإنسان أن لا يجعل الدنيا أكبر همه ويتخذها هدفه بل يتزود من الدنيا ويستفيد من خيراتها ونعمها ليصبها في اتجاه هدفه الأكبر الذي هو الآخرة ورد في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
ص: 28
«الزهد ليس بتحريم الحلال ولكن أن يكون بما في يدي اللّه أوثق منه بما في يديه» (1).
فإن الإسلام يريد للإنسان أن لا يقع أسير الجسم والشهوة والغريزة بل يريد أن يملك كل شيء في نفس الوقت الذي يبقى فيه حراً ويكتمل ليحصل على السعادة الأكبر والحياة الدائمة.
ورد عن الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أفضل وصف للطريق الوسط بين الدنيا والدين قال : [ إجعلوا لأنفسكم حظاً في الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال وما لا يثلم المروءة وما لا سرف فيه واستعينوا بذلك على أمور الدين فإنه روي (ليس منا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه)] (2).
وسئل الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قوله تعالى :
«لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» (3) هل هي منافع الدنيا أو منافع الآخرة ؟.
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، «الكل في الآخرة» (4)
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«إياك والوله بالدنيا فإنها تورثك الشقاء والبلاء وتحدوك على بيع البقاء بالفناء» (5).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
«من كانت الدنيا همّه طال يوم القيامة شقاؤه وغمّه» (6).
وقوله تعالى :
ص: 29
«....وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُم» (1).
لأن الكافر يكفر بالآخرة والميعاد فلم يبق لديه إلا الدنيا فيتعامل معها معاملة البهائم يأكل ويلعب ويلهيه الأمل...أما المؤمن خلافه يعتقد بالمعاد والآخرة فإنه يجعل كل لذّاته ويستثمر كل نعمه في سبيل ذلك الهدف الأكبر.
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«العاقل يطلب الكمال والجاهل يطلب المال» (2).
هؤلاء أصحاب اللذّات البدنية أما أصحاب اللذّات الوهمية فواقعهم أسوء وأشد تعاسة لأنهم يعيشون في خيالات لا واقع لها ولكن مصيبتهم في أنهم لا يلتفتون إلى أنهم كانوا مخدوعين مغرورين إلا بعد فوات الأوان....
فهذا هارون العباسي الذي كان يختال ويتباهى على السحاب ويخاطب السحب «شرقي غربي أينما تمطرين فخراجك لي».
كان هائماً بحب السلطة والمال ولا يجد لذته في غير الحكم حتى إنه قال لولده حين احتج عليه بالخلافة بأنها من حقوق الأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن الملك عقيم فلو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك».
هارون هذا مرض بطوس مرضاً شديداً فأحضروا له طبيباً فارسياً في طوس فأمر أن يعرض عليه ماءه بين مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل الطبيب يستعرض قوارير المياه حتى رأى قارورة هارون.. ولمجرد أن وقع نظره عليها قال :
قولوا لصاحب هذا الماء أن يوصي بوصيته فإنه انحلت قواه وتداعت بنيته وبعد أن ذهب الطبيب يئس هارون من نفسه وتمثل قائلاً بهذه الأبيات :
ص: 30
إن الطبيب بطبه ودوائه***لا يستطيع دفاع لحب قرأتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي***قد كان يبرء قبله في ما مضى
ثم بلغه أن الناس أرجفوا بموته فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه فاسترخت فخذاه على ظهر الحمار فقال : انزلوني صدق المرجفون.
ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه وأمر فشق له قبر أمام فراشه ثمّ تطلع فيه وقرأ قوله تعالى :
«مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ» (1).
ومات في يومه (2).
هناك أدرك هارون أنه ميت فتلا هذه الآية وعرف أن الدنيا زائلة وأن السلطة هالكة ولكن قبلها كان يحلم في أيامه الوردية ولذّاته...
ومن قبله معاوية كانت قد تملكته وأسرته لذّاته الوهمية.
قد نقل المؤرخون أنه قيل لمعاوية : لماذا قاتلت علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ فأجاب بكل صراحة وجرأة :
قاتلته ليمضي مهري مكان مهره على الأوراق والكتب. والمهر هو الخاتم الذي يختم به رسائله وكتبه وهو القائل أيضاً بعد انعقاد وثيقة الصلح مع الإمام الحسن المجتبى الا عندما صعد المنبر في النخيلة يخاطب الناس :
«ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكوا وإني أعلم أنكم فاعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمر عليكم» (3).
هكذا هم أصحاب اللذّات الوهمية ولكن بعد فترة وجيزة من العمر ينتهون وتنقرض كل قدراتهم وقواهم وتزول عنهم سلطاتهم.
ص: 31
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلاً :
أتم الناس أعلمهم بنقصه***وأقمعهم لشهوته وحرصه
فلا تستغل عافية بشيء***ولا تستر خصن داء لرخصه (1)
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً
«أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها...
قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها. حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها» (2).
أما أصحاب اللذّات العقلية فهم لا يحصرون اهتمامهم في نوعية الطعام والشراب أو المسكن أو موديل السيارة ونوع القماش الذي يلبسونه ولا شكل البيت الذي يسكنونه كما أنهم لا يعيرون أهمية للمنصب والجاه ونيل المقامات الرفيعة بل كل همهم يركزونه على كسب الفضائل والارتفاع في درجات الكمال وهذه أعظم لذّة عرفها الإنسان لأنها لذّة الروح والعقل أما تلك فلذة الخيال والجسم ومن الواضح أن حساسية الروح والعقل ودركه أشد وأقوى من درك الجسم أو الخيال فتكون لذّاته أشد وأقوى.
جاء في كتاب آداب المتعلمين في ذكر العلم والصبر على تحصيله وما يجده الطالب للعلم من لذّة عظيمة لا تضاهيها لذّة أخرى قوله : «فمن صبر على ذلك» (أي طلب العلم) فقد وجد لذّة تفوق سائر لذات الدنيا ولهذا كان محمد بن الحسن الطوسي (رَحمهُ اللّه) إذا سهر الليالي وحلّ له مشكلات يقول :
«أين أبناء الملوك من هذه اللذّة» (3)
ص: 32
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» (1).
وذلك لأن الخوف من النار والطمع في الجنة هو من شؤون لذّة الجسم
عادة فالألم الجسمي يقتضي دفع النار وآلامها...واللذّة والشهوة الجسمي تقتضي نيل ملذات الجنة أما اللذّة العقلية فهي تكمن في المعرفة.. في الكمال.. في العبادة.. لذا فهي أدق وأرقى من كل هذه وتلك
وكذلك قول الإمام سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) لدى تصنيفه للعباد.
«إن قوماً عبدوا اللّه رهبةً فتلك عبادة العبيد.
وإن قوماً عبدوا اللّه طمعاً فتلك عبادة التجار.
وقوماً عبدوا اللّه رغبةً فتلك عبادة الأحرار» (2).
لأنها لذّة الحرية. والحرية من اللذّات العقلية العالية.
وعلى أي حال وبعد هذه المقدمة نشير إلى بعض فقرات الحديث الشريف الذي بدأنا بحثنا به فنقول :
إن الحديث يتضمن الإشارة إلى بعض ما يلتذ به المؤمن في دار الدنيا قبل الآخرة فإن من الواضح أن لذّة المؤمن في الآخرة هي رضى اللّه تعالى ورضوانه وهذه من أكبر اللذّات المعنوية.
قال سبحانه وتعالى :
«وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (3).
ص: 33
أما في الدنيا فرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول :
ثلاث فرحات ولذات للمؤمن في الدنيا.
1 - لقاء الإخوان. وهي فرحة عامة.
٢ - التهجد من آخر الليل، وهي فرحة خاصة.
٣ - الإفطار في الصيام. فرحة خاصة.
أما لذّة لقاء الإخوان فلأن فيها تنفيس كرب وكشف هم وقضاء حاجة وتداول في الأمور الشخصية والاجتماعية وما يجري فيها من تواصي بالحق والصبر والاستقامة والوعظ والإرشاد والمشورة في أمور الدين والدنيا.
ومن الواضح أن الرسول الأعظم لم يعبر عن لقاء الإخوان بلقاء الصديق أو الأصدقاء أو الزميل أو الزملاء بل عبر بلقاء الإخوان لأن الأخوة هي التي تتضمن هذه المعاني.
عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«جمال الاخوة إحسان العشرة والمواساة مع العسرة» (1).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«خير إخوانك من دلك على هدى فأكسبك تقى وصدك عن اتباع هوى» (2).
وهناك حديث آخر عن الإمام يشير إلى ركائز الأخوة الإيمانية والتآخي في اللّه سبحانه وتعالى يقول فيه :
ص: 34
«تبتنى الأخوة في اللّه على التناصح في اللّه والتباذل في اللّه والتعاون على طاعة اللّه والتناهي عن معاصي اللّه والتناصر في اللّه وإخلاص
المحبة» (1).
ولذا أصبحت مجالس المؤمنين الذاكرين الناصحين محبوبة في الشريعة الإسلامية وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«عليكم بمجالس الذكر» (2).
ومن حديث آخر يسميها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) برياض الجنة قال :
«ارتعوا في رياض الجنة» قيل : يا رسول اللّه وما رياض الجنة ؟
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : مجالس الذكر (3).
وفي حديث آخر قال :
إذا رأيتم روضة من رياض الجنة فارتعوا فيها
قيل : يا رسول اللّه وما روضة الجنة ؟ الجنة ؟ رى
قال : مجالس المؤمنين (4).
التهجّد بمعنى تحرج النوم والهجود هو النوم. فتهجد أي تحرج النوم نحو (نائم) وبمعنى تحرج الإثم واجتنبه
فالمؤمن يترك نوم الليل الذي هو من ألذ ساعات النوم والاستراحة ويتفرغ إلى عبادة اللّه والاستغفار منقطعاً لتزكية نفسه وضميره...ومن الثابت في الأدلة أن من أفضل أعمال التهجد في جوف الليل هي صلاة الليل ولهذا
ص: 35
قال المفسرون في تفسير قوله سبحانه وتعالى :
«وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا» (1).
إن الضمير في (به) يعود على الليل و (النافلة) أي صلاة ليست بفريضة وإنما هي زائدة على الفرائض إذ أن النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل وذلك لأن من أوليات صفات المؤمن هو أن يكون ملتزماً بالواجبات منقطعاً عن الحرمات واصول الأعمال لأنها فرائض.
تتفاوت درجات المؤمن من حيث الالتزام بالنوافل والمستحبات وعدمها التي هي زيادات اختيارية طوعية وهذه النافلة الواردة في الآية هي صلاة الإحدى عشرة ركعة.. (لك) فإنها تنفعك وليست كسائر الصلاة اليومية فريضة ملقاة على عاتق الإنسان شاء أم أبى.
و (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً).
أي لعلّ الإتيان بهذه الصلاة أو بهذه الصلوات كلها يوجب أن يعطيك اللّه سبحانه وتعالى (مقاماً محموداً)
أي يحمده الناس والملائكة لرفعته وسموه.. ومن.. ومن المناسب أن نشير إلى مسألتين :
الأولى : اتفق المفسرون على أن كلمة (عسى) من اللّه سبحانه وتعالى واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الإطماع واللّه تعالى أكرم من أن يُطمع أحداً في شيء ثم يحرمه منه أو لا يعطيه ذلك الشيء.
الثانية : إن الآية الكريمة وإن كانت خطاباً للرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما هو الظاهر من الآية إلا أنها عامة لكل أحد فما دلّ على أن ناقلة الليل كانت واجبة على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مستحبة على غيره.. كما أن ما دلّ على أن المراد من المقام المحمود هو مقام الشفاعة وما أشبه ذلك فإنما ذلك استفيد من
ص: 36
الأدلّة الخارجية الخاصة. وهو من باب تفسير الآية بالمصداق أو أظهر المصاديق المؤمنين وهو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وليست من باب الحصر وإخراج سائر المؤمنين عن عناية الآية ومضمونها.
كما أن ذكر نافلة الليل دون سائر النوافل في الآية جاء لأهمية نافلة الليل الأكيدة في الشريعة السمحاء. ولفوائدها الجمة المادية والمعنوية.
جاء في تفسير نور الثقلين قال :
جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
فقال : يا أمير المؤمنين أني قد حرمت الصلاة بالليل.
قال : فقال أمير المؤمنين : أنت رجل قد قيدتك ذنوبك (1).
وعن علل الشرائع أيضاً بإسناد إلى آدم بن إسحاق عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«عليكم بصلاة الليل فإنها سنة نبيكم ودأب الصالحين قبلكم ومطردة الداء عن أجسادكم»(2).
وفي نفس المصدر قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«صلاة الليل تبيض الوجوه وصلاة الليل تطيب الليل وصلاة الليل تجلب الرزق» (3).
وبإسناده إلى إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أخيه علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده «عليهم أفضل الصلاة والسلام» قال :
سئل علي بن الحسين من (عَلَيهِ السَّلَامُ):
ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجهاً.
قال : «لأنهم خلوا باللّه فكساهم اللّه من نوره» (4).
ص: 37
وفي هذا الحديث والحديث الذي قبله معاني ومضامين عميقة لا يسع المجال لبحثها هنا ولعلنا سنتعرض لها في بحوث قادمة إن شاء اللّه تعالى.
وفي نفس المصدر نقلا عن كتاب الصدوق (قدّس سرّه) من لا يحضره الفقيه في المقامات المعنوية لصلاة الليل مفصلا :
روى جابر بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن رجلاً سأل علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قيام الليل بالقرآن. فقال له : أبشر من صلى الليل عشر ليله اللّه تعالى مخلصاً ابتغاء مرضاة اللّه سبحانه قال اللّه عز وجل لملائكته اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما أنبت في الليل حبة وورقة وشجرة وعدد كل قصبة وخوط ومرعى.
ومن صلّى تسع ليله أعطاه اللّه عشر دعوات مستجابات وأعطاه كتابه يمينه يوم القيامة.
ومن صلى ثمن ليله خرج من قبره يوم يبعث ووجهه كالقمر ليلة البدر حتى يمر على الصراط مع الآمنين.
ومن صلى سدس ليله كتب من الأوابين وغفر له ما تقدم من ذنبه.
ومن صلى خمس ليله زاحم إبراهيم خليل الرحمن في قبته.
ومن صلى ربع ليله كان في أول الفائزين حتى يمر على الصراط كالريح العاصف ويدخل الجنة بغير حساب.
ومن صلى ثلث ليله لم يبق ملك إلا غبطه بمنزلته من اللّه عز وجل وقيل له : أدخل من أي باب من أبواب الجنة الثمانية شئت.
ومن صلى نصف ليله فلو أعطي ملء الأرض ذهباً سبعين ألف مرة لم يعدل جزاءه وكان له بذلك عند اللّه عز وجل أفضل من سبعين رقبة يعتقها من ولد إسماعيل.
ومن صلى ثلثي ليله كان له من الحسنات قدر الرمل أدناها حسنة أثقل من جبل أحد عشرة مرة.
ص: 38
ومن صلى ليلة تامة تالياً لكتاب اللّه عز وجل راكعاً وساجداً وذاكراً أعطي من الثواب ما أدناه يخرج من الذنوب كما ولدته أمه ويكتب له عدد ما خلق اللّه عز وجل من الحسنات ومثلها درجات ويثبت النور في قبره وينزع الإثم والحسد من قلبه ويجار من عذاب القبر ويعطى براءة من النار ويبعث من الآمنين ويقول الرب تبارك وتعالى لملائكته :
ملائكتي : انظروا إلى عبدي أحيى ليله ابتغاء مرضاتي أسكنوه الفردوس وله فيها ألف مدينة في كل مدينة جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ولم يخطر على بال سوى ما أعددت له من الكرامة والمزيد والقربة» (1).
ومن الواضح أن لهذه المنزلة والفضيلة الكبيرة لصلاة الليل فلسفة خاصة ذكرت في مظانها
والفرحة التي يحصل عليها المؤمن الصائم عند الإفطار لها أبعاد ثلاثة
١ - بعد جسمي. مرکزتحقیقات کامپیوتری علوم ارساری
٢ - بعد نفسي
٣- بعد روحي.
أما في البعد الجسمي فإن الصوم فيه وقاية وفيه علاج أيضاً للأجسام إذ إنه يريح جميع أجهزة الجسم من الأنسجة والخلايا والغدد والأعصاب والأوردة والشرايين وسائر الأجهزة والأعضاء الأخرى يريحها من الإنهاك والارتباك الحادثين بسبب العمل المتواصل والحركة الدائمة.
وطبعاً لا نقصد هنا أن الصوم يوقف أجهزة البدن عن العمل ويعطلها
ص: 39
بالكامل وإنما الصوم يبطىء من عمل هذه الأجهزة لتأخذ راحتها وتهدأ بعد طول اضطراب وبذلك يكون الصوم وقاية من الضعف والتخمة والامتلاء ونحو ذلك ومن الواضح أن هذا يعود على الصائم بطول العمر ونشاط الجسم حيث يستريح الإنسان من الترهل والكسل ويبتعد عن الأوجاع والأمراض بالإضافة إلى أن الصوم يسبب نشاط الفكر ويقظة الذهن وحدة الفطنة وإرهاف الذكاء وقد زخرت كتب الطب الحديث بأقوال كبار الأطباء الذين لا يدينون بالإسلام حول فوائد الصوم حتى إن البعض منهم يرى أن من الواجب على كل فرد أن يصوم في كل أسبوع يوماً وفي كل شهر أسبوعاً وفي كل سنة شهراً.
وقد نقلت بعض الصحف والمجلات أن في الغرب أنشئت مصحات تقوم بعلاج المرضى بواسطة الصيام والاجتناب المؤقت عن الطعام والشراب والنكاح ونحو ذلك...وهو ما يسمونه في اصطلاحهم (العلاج الطبيعي) وهؤلاء فقراء الهند أيضاً لا يزالون يروّضون أنفسهم بالصّوم بشكل فظيع ويجدون منه خير مطهر للنفس من الدنس فضلا من أنه يذكي العقل ويكسبه خصوبة (1) وخيالاً واسعاً ويقومون بعدة أعمال وأحوال تكاد تكون من خوارق العادات ومن الواضح أن سلامة الجسم وعافيت_ه تع_ود ب_ال_راح_ة والاستقرار والفرحة على صاحبه خاصة وإن الصائم عندما يفطر من صيامه يشعر بلذة طعامه وشرابه أكثر من غير الصائم كما أن أجهزة الجسم تنتفع بهذا الطعام والشراب أكثر من أي وقت آخر لأنها سوف تهضم هذا الطعام بعد فترة راحة واستقرار قد طواها الصّائم بالصّيام مما يشعر الصائم بلدة ما بعدها لذّة
أما في البعد النفسي فلأن الصّوم ومرور الإنسان في مرحلة الإمساك والإفطار يريح نفس الصائم وذلك لخروج نفسه من حالة الروتين والبعد الواحد الذي مشت عليه طيلة أيام السنة. فعندما يحل وقت الصوم يتغير هذا
ص: 40
المشي وتتبدل برامج الإنسان ويتجدّد عنده نظام الحياة ومن الثابت في علم النفس أن شعور النفس بتغير المناخ أو النظام ونحو ذلك يلقي على النفس شعوراً بالراحة والاطمئنان والرّضا ممّا يسبّب وقاية عن كثير من أمراض النفس الناجمة عن القلق والهم وروتين الحياة والمعيشة والملل بل ويسبب علاجاً لكثير من الأمراض المتولدة من الاضطراب الفكري والعقد النفسية...
فكما يشعر الإنسان المسافر أو المستجم بتنقل جسده من بلد إلى آخر بالراحة النفسية فتزول أمراضه كذلك يشعر الصائم باللذّة والارتياح بتنقل نفسه من وضع إلى وضع آخر فيشفى من أمراضه الكثيرة وهذا ليس ممّا أثبته علم النفس فقط بل هو ما أثبتته التجربة عند المؤمنين. خصوصاً إن الإفطار فرحة لا توازيها أية فرحة كما أشارت إليها الرواية المتقدّمة في صدر البحث إذ إن الإنسان يشعر في طول فترة الإمساك بقيود وحدود فإذا جاء وقت الإفطار شعر بالإنفلات عنها وذلك يلقي في نفسه سروراً وانبساطاً يخلق بهما إزالة كل هم وأي مناعة قوية ضد أي عقدة نفسية أو اضطراب فكري.
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه» (1).
وأما في البعد الروحي فلأن الصائم يحس باطمئنان وهدوء خاصة نتيجة شعوره بالاتصال بإله السماء وخالق الكون لأن الصّائم في ضيافة اللّه سبحانه وتعالى ويقع تحت العناية الرحيمية المباشرة. ومن الواضح أن الشعور بالاستناد إلى القوي الكبير والحظوة برضاه يشيع في النفس بهجة وفي الروح رضاً.
ص: 41
وقال سبحانه وتعالى :
«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (1).
وهذا الإطمئنان الروحى من أقوى مطاردات الخوف والقلق والاضطراب التي هي بدورها أسباب لأمراض كثيرة جسدية وعقلية وعاطفية فإذا حصل هذا الاطمئنان ارتاحت النفس واستنار الضمير وشعت الروح واندفع بذلك الإنسان إلى الطاعة والعبادة والتزكية والتهذيب لنيل المقامات المعنوية الرفيعة والشامخة.
وفي هذه لذّة عظيمة لا تضاهيها أي لذّة أخرى.
وفي بعض الروايات كما أشرنا في المقدمة أن اللذّة الروحية والعقلية أرقى مراتب اللذّة.
سُئل فضل بن شاذان من الرضا عن علة الصّوم فقال :
«إنما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فق_ر الآخرة وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش فيستوجب الثواب مع ما فيه من الإمساك عن الشهوات ويكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورائداً لهم على أداء ما كلفهم ودليلا لهم في الآجل وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا لهم ما افترض اللّه لهم في أموالهم» (2).
وفي حكمة الصوم وفلسفته بحوث عميقة ومفصلة في كتب الروايات والعبادات والأخلاق والآداب لم تسنح الفرصة لبحثها هنا فراجع في ذلك منابعها.
ص: 42
ص: 43
ص: 44
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي ثلاث خصال من مكارم الأخلاق: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك» (1).
من أهم الأمور التي تثبت مركزية الإنسان في مجتمعه بل تثبت مركزية المجتمع نفسه وتقوده إلى التقدم والرفاه هي المداراة.
ولذا أصبحت من الأمور المستحبة شرعاً وجاءت فيها روايات عديدة.
عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» (2).
فجعل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أداء الفرائض من أداء الفرائض من الصلاة والزكاة والحج ونحوها من الواجبات في كفة والمداراة في كفة موازية.
وفي حديث آخر عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه قال :
ص: 45
«قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش» (1).
وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً قال :
«خالطوا الأبرار سراً وخالطوا الفجار جهراً (جهاراً) ولا تميلوا عليهم فيظلمونكم فإنه سيأتي عليكم زمان لا ينجو منه من ذوي الدين إلا من ظنوا أنه أبله وصبر نفسك على أن يقال إنه أبله.. لا عقل له» (2).
وواضح أنه عبّر عن مداراة الناس ب_ (نصف الإيمان) يقابل النصف الآ. للإيمان وهو ما يرتبط باللّه سبحانه وتعالى.
وعبّر عن الرفق الاجتماعي للإنسان بالناس ب_ (نصف العيش) يقابله النصف الآخر وهو ما يرتبط بالإنسان نفسه بدون ربط بالمجتمع وذلك لأن المداراة من «درء» بمعنى رفع الشر والرفق بمعنى الارتباط الحسن والعلاقات الرحيمة.
ومن هنا يظهر أن المداراة من نتائج الرفق والرحمة وحسن الصحبة واحتمال أذى الناس وعدم مجابهتهم بما يكرهون.
عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته لمحمد بن الحنفية قال :
«وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك وارض لهم ما ترضاه لنفسك واستقبح لهم ما تستقبحه من غيرك وأحسن مع الناس خلقك إذا غبت عنهم حنوا إليك وإذا مت بكوا عليك وقالوا : إنا للّه وإنا إليه راجعون ولا تكن من الذين يقال عند موتهم الحمد للّه رب العالمين.
واعلم أن رأس العقل بعد الإيمان باللّه عزّ وجلّ مداراة الناس ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف، من لا بد معاشرته حتى يجعل اللّه إلى الخلاص منه سبيلا فإني وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعاشرون ملء مكيال
ص: 46
ثلثاه استحسان وثلثه تغافل» (1).
قال بعض الأعلام في توضيح هذا المعنى :
«سيّئات الناس غالباً أقل من حسناتهم فإن كان الأمر بين الثلث والثلثين ولو عرفياً لا دقياً كان غفلة الإنسان عن سيئات الناس واستحسانه لحسناتهم موجبين لصفاء الود بينهم وبذلك يكون بينهم تعاشر حسن» (2).
ولكن هنا توهم خطر في بال البعض في المداراة إذ قال :
إن مداراة الناس يعد نوعاً من النفاق لأن المداري يتظاهر بشيء ويكتم في باطنه شيئاً آخر وأشياء عن الطرف الآخر وهل هذا إلا النفاق ؟
الجواب : إن النفاق غير المداراة.
فإن النفاق هو أن يكون الإنسان ذا وجهين يلقى صاحبه بوجه حسن ويغيب عنه بوجه قبيح مع إظهار كلا الوجهين.. ففي الوجه يتظاهر بالحسن وفي الغيب يُظهر القبح والإساءة والمداراة ليست منه في شيء...المداراة تعني اللين والرفق والحكمة في التعامل مع الناس إذ إن الإنسان المداري يكتم مساوىء الناس ويكتم تصوراته وانطباعاته الواقعية عنهم.
ولذا فإن المداراة تحتاج إلى نفس صبور وإرادة قوية وعقل رزين وحكمة بالغة إذ كيف يتسنى للإنسان أن يلاقي الناس برفق ويتعامل معهم بالإحسان والمودة وفيهم الخرق والتحامل والعداء أحياناً فإن هذا النوع من التعامل يعد من أصعب المصاعب ولذا فإنه يحتاج إلى مقام رفيع وشخصية متعالية على الأخطاء والنواقص كي يتمكن الإنسان من المداراة. وخاصة إذا نظر الإنسان المداري إلى عواقب المداراة ونتائجها الإيجابية الكثيرة.
ص: 47
فإن عاقبة المداراة حلوة دائماً كعواقب الأخلاق الفاضلة وذلك لأن من لا يتحمل جفاء الناس وحزمهم لا بد وأن ينتخب أحد طريقين أمامه وهما :
1 - أن يفر عن الناس ويعتزل المجتمع وفي هذا مساوىء ومخاطر كبيرة على الإنسان لأن فيها كبتاً لمواهبه وقابلياته وطاقاته التي تنمو بالاجتماع والتعاون والاحتكاك المستمر مع الناس.
2 - أن يصطدم بالناس في كل صغيرة وكبيرة مما يعود على الإنسان بالإرهاق والتعب وانهيار الأعصاب وملل الحياة وسأم المجتمع. ومفاسد هذا لا تقل خطورة عن الأول.
ولهذا فإن العقلاء يفضلون المداراة في التعامل على هذين الطريقين في المعاملات الاجتماعية لأن المداراة فيها راحة النفس والعقل والضمير بل وراحة البدن أيضاً ولذا فإن المداري تكون نفسه في أغلب الأحيان في راحة مرتقية مدارج الكمال والفضيلة. بعكس العنيف الذي لا يمتلك حظاً من المداراة فإنه خسر راحة الروح وفضيلة النفس.
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن قوماً من الناس قلت مداراتهم للناس ففروا من قريش وأيم اللّه ما كان بأحسابهم بأس. وإن قوماً من غير قريش حسنت مداراتهم فأكفوا بالبيت الرفيع. ثم قال :
من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يداً واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة» (1).
وقد فسّر بعض الأعلام بعض جمل الحديث فقال (فروا من قريش) أي طردوا منهم ولم ينسبوا إليهم (البيت الرفيع) كسلمان حيث قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
ص: 48
«سلمان منا أهل البيت».
وهذا واضح لأن المداري يداري الناس وهو واحد ولكن يداريه كثيرون وإن كان قد قابلهم بخرقة واحدة فقط.
«عن سفيان بن عيينة قال : قلت للزهري لقيت علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال : نعم لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه وما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية. فقيل له : وكيف ذلك ؟
قال : لأني لم أر أحداً وإن كان يحبه إلا وه_و ل_ش_دة م_ع_رفت_ه بفضله يحسده ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه» (1).
قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ):
جاء جبرائيل إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يا محمد ربك يقرؤك السلام ويقول : «داري خلقي» (2).
وفي هذا المضمون أيضاً ورد حديث موضح له عن إسحاق بن عمار قال :
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا إسحاق صانع المنافق بلسانك واخلص ودّك للمؤمن» (3).
وقال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«في التوراة مكتوب فيما ناجی اللّه عزّ وجل به موسى بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
يا موسى أكتم مكتوم سري في سريرتك وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي. ولا تستسب لي عندهم بإظهار مكتوم سرّي فتشرك عدوك وعدوي في سبّي» (4).
ص: 49
ولعل المراد من مكتوم سري أحد احتمالين :
١ - من باب البيان أي السر المكتوم
٢ - أو من باب السر الشديد كتمانه في قبال ما ليس بهذه السرية.
قال سبحانه وتعالى :
«وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (1).
قال الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وددت واللّه أنّي افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي : النزق وقلّة الكتمان» (2).
ومما جاء في فضل المداراة وأهميتها في العلاقات الاجتماعية ومضار عدم المداراة :
عن محمد بن أحمد الكاتب رفعه إن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال لبنيه :
«يا بني إياكم ومعاداة الرجال فإنهم لا يخلون من ضربين من عاقل يمكر بكم أو جاهل يعجل «يجهل» عليكم والكلام ذكر والجواب أنثى فإذا اجتمع الزوجان فلا بد من النتاج».. ثم أنشأ يقول :
سليم العرض من حذر الجوابا***ومن دارى الرجال فقد أصابا
ومن هاب الرجال تهيَّبوه***ومن حقر الرجال فلن يهابا (3)
وبعد هذه المقدمة نقول إن الحديث الذي بدأنا بحثنا به يصب في
ص: 50
اتجاه المداراة أيضاً. ذكر الحديث ثلاثة أُمور من أهم مظاهر المداراة السياسية والاجتماعية الحكيمة التي تدعو إلى مقابلة الخشونة باللين والعنف بالرحمة :
1 - إعطاء من حرمك ومنعك والتودد إليه والرفق به.
2 - معاملة من اعتزل عنك وجفاك وقطع معك روابط المحبة والتعاون والإخاء ونحوها بالوصل إليه وفتح باب العلاقات والحفاظ على الروابط.
٣ - العفو والسماحة عمن أساء واعتدى عليك.
في حديث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والذي ذكرناه سابقاً يقول :
ثلاث خصال من مكارم الأخلاق :
- تعطي من حرمك - وتصل من قطعك - وتعفو عمن ظلمك.
ومن الثابت المعلوم في علم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومن بلاغته أن تكون الوصايا الثلاثة قد جاءت لبيان حقائق نفسية واجتماعية خاصة فلا بد أن تكون كلّ وصيّة وخصلة مرتبطة بجانب من جوانب الحياة ولعلّ هذه الجوانب هي :
١ - المعاملات - ويشير إليها بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) [تعطي من حرمك].
١ - العلاقات - ويشير إليها بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) [تصل من قطعك].
٣ - المواقف - ويشير إليها بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) [تعفو عمن ظلمك.
فإن الفرق بين (تعطي من حرمك) و (تصل من قطعك) مع أن كليهما عطاء وصلة هو أن الأولى مرتبطة بالماديات والأمور المالية ونحوها لأنها من المنح والعطاء.
أما الثانية فمرتبطة بالمعنويات والروابط الاجتماعية لأنها من الصداقة والجمع والوئام كما في بعض كتب اللغة فعلى هذا تكون الجملتان من باب الظرف والجار والمجرور أو الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فإذا ذكرت (تعطي من حرمك) وحدها تشمل الماديات والمعنويات وكذلك (تصل من قطعك)...
ص: 51
أما إذا ذكرتهما منفصلتين فواحدة تشير إلى الماديات والأخرى إلى المعنويات.
ولا يبعد أيضاً أن تكون جملة (تصل من قطعك) أعم من (تعطي من حرمك) لأن الصلة تشمل الماديات والمعنويات معاً أما العطاء فيشمل الماديات فقط.
وسنأتي إلى بيان المزيد فيها واللّه العالم.
ومن الواضح أن هذه من أنبل وأفضل الشيم الإنسانية التي يتمتع بها أولئك المتفوقون في الحياة الذين لهم الحظ ال_واف_ر في القيادة والت_وجي_ه والمكانة الاجتماعية في النفوس والمجتمعات.
وذلك لأن من أبرز سمات العظماء والقادة في المجتمع هو التمتع بالروح العالية والنظرة الإيجابية إلى الأمور فإن الروح التي ترتفع عن النواقص والهامشيات هي التي تحظى بالرفعة والسمو التي تحظى بالرفعة والسمو.. وصاحب النظرة الإيجابية في الحياة هو الذي يتربع على قمتها لأنه لا يعرف الملل أو البؤس والشقاء.. كيف ؟.
لنشرح بعض مضامين الحديث كي نتعرف على مدى الربط بين مقام الوجاهة والقيادة في المجتمع بل والسعادة الاجتماعية وبين هذه الخصال الثلاث بعد أن نوضح العلاقة بين الخصال الثلاث
النفس الإنسانية منها حليمة رزنة لا تتحرك بشتم شاتم أو نهب لص سارق أو تثار بتحامل جاهل أو إيذاء أحمق.. ومنها خفيفة وضيعة يستفزها أدنى إزعاج وتؤلمها أقل كلمة أو موقف ساذج.
والإسلام يريد من الإنسان تنقية ملكاته وتهذيب طباعه وصفاته وتقويم ما انحرف واعوج منها لكي يكون إنساناً بمعنى الكلمة ولذا يحرص الإسلام
ص: 52
على اكتساب كل فضيلة والنفرة عن كل رذيلة.
وبما أن الحلم من أفضل الفضائل وردت الأحاديث بشأنه ترن في مسامع البشر عن لسان النبي وآله الطاهرين تحريضاً على هذه الفضيلة لما في الحلم من أثر كبير في تهذيب التعامل بين أبناء البشر.
ولما في الغضب من مساوىء تقود الإنسانية إلى الخسة والأنانية والعيش في غابات بعيدة عن القلب والضمير.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
اللّهمَّ اغنني بالعلم وزيني بالحلم.
وقال : خمسة من سنن المرسلين ..وعدها منها الحلم» (1).
الحلم زينة ونعمة الزينة هي لأن الإنسان بالحلم يرتقي مستوى اجتماعياً كبيراً ولهذا زود اللّه عز وجل أنبيائه وأوليائه (عليهم أفضل الصلاة والسلام) بالحلم فيما زودهم من فضائل ومحاسن لأنهم بالحلم يدخلون المجتمع وينفذون إلى القلوب.
إن الناس بطبعهم ميالون إلى الحلماء والرحماء ويفرون من الغضوب فرارهم من الأسد لأن العبوس القمطرير ينكد عيشهم ويكدر صفوهم بأخلاقه الشرسة ومواقفه الخشنة.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
ابتغوا الرفعة عند اللّه قالوا : وما هي يا رسول اللّه ؟
قال : «تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك» (2).
ولعل من أرقى مراتب الأخلاق الإنسانية هو أن يعطي الإنسان من حرمه لأن في ذلك الموقف تعبيراً واضحاً وصريحاً عن الرحمة الإنسانية والنفسية
ص: 53
الصافية والوجدان الناصع الكبير الذي لا تشوبه الأحقاد والأنانيات حقاً إنها جواهر الأخلاق أن يمنعك إنسان وأنت تعطيه.. لعلّ بعض الناس لا يعطي من يعطيه فكيف بمن يمنعه فيعطيه بل لعلّ بعض الناس يحرم من يعطيه فكيف بمن يحرمه ؟.
ولكن هكذا الإسلام يريدنا أن نتسم بصفات الصالحين ونتأسى بالأنبياء والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام). فإن هذا النوع من الناس هو الذي يحبه الإسلام وهكذا يحبه اللّه تعالى...
ولذا ورد في الصحيفة السجادية في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ).. نص خاص بهذا المعنى فقال :
«اللّهم صل على محمد وآله...وسددني لأن أع__ارض من غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبر.. وأثيب من حرمني بالبذل وأكافيء من قطعني بالصلة» (1).
إذ كان الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يطوف بالليل متنكراً على بيوت الفقراء يوزع عليهم الدراهم والدنانير ومن بينهم ابن عم له وكان إذا أعطاه يأخذ المال ويقول : ابن عمي علي بن الحسين لا يوصلني فلا جزاه اللّه عني خيراً.
فيتحمل الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا يعرفه بنفسه واستمر الإمام بالعطاء واستمر هو على هذا الدعاء حتى استشهد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وانتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطعت الصلة فعندها عرف المصدر «وأجزي من هجرني بالبر» وأيضاً «وأثيب من حرمني بالبذل» :
كان هشام بن إسماعيل والياً على المدينة في عهد الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكان أشد الناس قسوة على زين العابدين وأهله حتى قاسوا منه ألواناً من الأذى والتنكيل ولما عزله الوليد بن عبد الملك أوقفه الناس وأتاح لكل من ظلمه وأساء إليه أن يقتص منه كيف يشاء.
ص: 54
فقال هشام : لا أخاف إلا من علي بن الحسين لعلمه بما صنعت يداه تجاه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولكن لما مرّ به الإمام زين العباد (عَلَيهِ السَّلَامُ) سلم عليه وقال :
«طب نفساً منا ومن كل من يطيعنا فإن أعجزك المال لتذب به عن نفسك فعندنا منه ما يسعفك ويسعدك».
فقال هشام : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته (1).
وهذه لم تكن سيرة الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحده بل هي سيرة آبائه وأجداده وأولاده (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالتفاهم من بعده إذ هم يعاملون الإساءة بالحسنة ويكافئون الشر بالإحسان. وحقاً قال الشاعر :
وحسبكم هذا التفاوت بيننا***وكل إناء بالذي فيه ينضح
ولعلّ من هذا الباب ما جاء في بعض المصادر في أحوال الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله :
قال يحيى بن خالد لبعض ثقاته :
أتعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج إليه يريد التعرف منه على أخبار الإمام الكاظم تر فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد فحمل إليه يحيى بن خالد مالا وكان موسى يأنس إليه ويصله وربما أفضى له بأسراره كلها فكتب ليشخص به...فأحسن موسى بذلك فدعاه فقال له : إلى أين يا بن أخي ؟ قال، إلى بغداد.
قال : وما تصنع ؟ قال : علي دين وأنا مُملق.
قال : أنا أقضي لك دينك وأفعل بك وأصنع.. فلم يلتفت إلى ذلك فقال له : أنظر يابن أخي لا تؤاتم أولادي وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)لمن حضره واللّه ليسعين في دمي ويؤتمن أولادي.
ص: 55
فقالوا له : جعلنا فداك فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟
فقال لهم : نعم.
قالوا : فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد فتعرف منه خبر موسى بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فدفعه إلى الرشيد وزاد فيه ثم أوصله إلى الرشيد فسأله عن ابن عمه.. فسعى به إليه.
وقال له : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب وإنه اشترى ضيعة سمّاها (اليسيرية) بثلاثين ألف دينار فقال له صاحبها وقد أحضر المال !
لا آخذ هذا النقد ولا آخذ إلا نقد كذا وكذا فأمر بذلك المال فردّ وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه.
قسمع الرشيد ذلك منه وأمر له بمائتي ألف درهم يسبب بها على بعض النواحي فاختار علي كور المشرق ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظر وصوله فدخل تلك الأيام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته كلها فسقط وجهدوا في ردّها فلم يقدروا فوقع لما به.
وجاءه المال وهو ينزع. فقال :
«ما أصنع به وأنا في الموت فرد المال إلى خزانة الرشيد وخسر علي الدنيا والآخرة....» (1).
قال سبحانه وتعالى :
«فَمَنْ يَعمَل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقَال ذرّةٍ َشرَّاً یَرَهُ» (2).
لقد جهد الإسلام في حث المسلمين وتربيتهم على الصلات الحسنة
ص: 56
والتآزر والتعاطف ليجعلهم أمة مثالية في اتحادها وتعاضدها وتماسكها في سبيل تحقيق أهدافها ورفع آلامها ومخاطرها ودأب على غرس مفاهيم المحبة والولاء والعلاقات والروابط الحسنة في نفوس المسلمين ليزدادوا قوة ومنعة وتجاوباً في أحاسيس الود ومشاعر الإخاء.
ولقد أوصى اللّه سبحانه المسلمين برعاية هذه الروابط وتكريسها بينهم بشكل عام فقال تبارك وتعالى :
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا» (1).
والمراد بالجار ذي القربى.. كما في بعض التفاسير الجار القريب داراً ومحلاً أو نسباً أو عشيرة.. والجار الجنب هو الجار البعيد جواراً ونسباً.
والصاحب بالجنب الرفيق في السفر والزميل في التعلم أو في الحرفة والصنعة، ونحو ذلك. وابن السبيل : المسافر أو الضعيف. وما ملكت أيمانكم : الأهل والخ_دم.. وهذه كلها أوصى الإسلام فيها المعاملة بالإحسان وتوطيد الصلات الحسنة معها وبالخصوص صلة الأرحام.. فالإسلام جعل فيها حكمين إلزاميين أحدهما فعل والآخر ترك.
إذ يفتي بعض علماء الشريعة بحرمة قطيعة الرحم ويعدها من الذنوب الكبيرة التي وعد اللّه تبارك وتعالى عليها النار في الآخرة.
وإن اختلفت فتواهم من جهة صلة الرحم فإن بعضهم أفتى ب_وج_وب صلة الرحم في مقابل حرمة القطع. وبعضهم قال بالاستحباب وعلى أي حال فإن الإسلام الذي حبذ الصلة وشجع عليها. من حقه أن من حقه أن يوجب صلة
ص: 57
الرحم بالخصوص وهذا مما قامت عليه الأدلة الشرعية الكثيرة. والآيات والروايات كما سيمر عليك معنى (الرحم)
وقبل أن نخوض في بعض هذه المضامين لا بد أن نتعرف على الرحم أولاً فما هو الرحم ؟ وما هي فلسفة الإلتزام في صلاته ؟
إن الذي جمعك إياه رحم واحد قريبة : كالإخوة والأخوات. أو متوسطة كالأعمام والأخوال. أو بعيدة كسائر من يمت إليك بصلة ممن يصدق عليه الرحم عرفاً والأرحام لا بد وأن يتقاربوا في الجوار أو في الدار أو في الكسب أو المدينة أو ما إلى ذلك لأنهم اشتقوا من أصل واحد. وإلى ذلك لا بد وأن تكون بينهم بعض الحساسيات والعداوات والسوابق ونحو ذلك من الآثار السلبية فهم بشر وطبيعة البشر أنه يسري شره إلى الأقرب منه فالأقرب. ولهذين السببين :
١ - قرب الجوار.
٢ – والغضاضة.
لا بد أن تقع بينهم بعض المشاحنات وتتفاقم عندهم بعض العقد والأزمات ولذا أسرع الإسلام إلى التوصية الكافية بالأرحام بصورة عامة من ناحيتين مهمتين.
الأولى : إيجابية فالتزم بالمواصلة والتبار والتراحم. وتفقد الأرحام بعضهم البعض الآخر ولو بالخير والسلام والهدية وما إلى ذلك.
الثانية : سلبية فحرم القطيعة بشتى أشكالها حتى في الصدقة.
فعن السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
سئل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أي الصدقة أفضل ؟
ص: 58
قال : «على ذي الرحم الكاشح» (1).
والكاشح هو الذي أعرض بكشحه - أي ما بين الظهر والبطن المسامت لمنبت اليدين - فإن الإنسان إذا أراد أن يعرض بوجهه لوى كشحه ثم أدار ظهره حتى ينصرف.. والكاشح لعلّه كناية عن المغضب وهذا من باب أنه حتى إذا كان معرضاً عن الإنسان كانت الصدقة ل_ه أفضل فكيف بالرحم إذا كان غير كاشح وعن محمد بن علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال :
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا صدقة وذو رحم محتاج» (2).
بل إن ثواب صلة الأرحام لا يضاهيها حتى ثواب بعض العبادات.
عن جابر عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أعجل الخير ثواباً صلة الرحم» (3).
والظاهر أن المراد من (وصل قريباً بحجة) أي حج عنه أو اعتمر وكذا من حمل أي أن الصديق كالقريب في ذلك. نعم إن القريب، أكثر ثواباً وسر الأمر أن مثل هذا التأكيد يوجب تماسك المجتمع أكثر فأكثر حسب المراتب.
فأولاً الأقرباء ثم ما بعدهم الأصدقاء...ومن الواضح أن التماسك والمحبة في العلاقات الاجتماعية هي أصل المجتمع السليم وبنيته التحتية.
هل تدري ما هي أفضل الفضائل ؟
نعم : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك» (4).
ص: 59
وهل نتمكن من تحصيل أفضل الفضائل ؟
نعم...ولكن بعد جهد جهيد وسعي ومثابرة وتذكير مستمر بالعواقب.
ومن يقدر على أن يصل من قطعه ! أو يعطي من حرمه ! أو يعفو عمن ظلمه ! وهي من أصعب المصاعب التي تحتاج إلى عقل رزين ونفس كبيرة وقلب واسع مطمئن.. ولكن يجب أن نعرف أن النفع الذي يجنيه الوصول المعطي والعفو السموح من هذه الخصال أكثر بكثير من النفع الذي يربحه القاطع المانع الظالم لأنه ينتفع...
أولاً : وداً في القلوب وانتشاراً في الصيت والسمعة بين الناس والمجتمع.
ثانياً : راحة القلب وهدوء البال وراحة الضمير.
ثالثاً : القرب من اللّه سبحانه وتعالى ونيل رضاه ورضوان اللّه أكبر من أي شيء آخر. قال سبحانه وتعالى :
«...رِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (1).
وهذا مقام لا يناله إلا صاحب المعرفة والبصيرة النافذة قال سبحانه وتعالى :
«وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (2).
وطبعاً إن الإسلام لا يكلف الناس فوق طاقتهم فلا يريد من ذي الرحم الفقير أن يبذل مالاً لأرحامه فقط أو ينفق بل يكتفي ولو بالسلام والسؤال عن الحال والأحوال فإن سلام المعوز يقوم مقام ثراء المثري عند اللّه عز وجل بين الأرحام وبذلك يساوي الإسلام في فرصة صلة الأرحام بين الأرحام الأغنياء
ص: 60
والفقراء لكي لا يتعامل الفقير بقطع رحمه فالصلة للأرحام أي نوع من العمل الذي يعده العرف صلة مهما كان صغيراً حتى الابتداء بالسلام أو رد السلام بالأحسن.
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«صلوا أرحامكم ولو بالسلام»(1).
وقال اللّه تبارك وتعالى :
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» (2).
هناك في صلة الرحم مراتب ودرجات...
نسب إلى الشهيد الثاني (قدّس سرّه) في بيان مراتب صلة الرحم قوله (بتصرف) (3).
إن أعظم مراتبه الصلة بالنفس وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة.
وبعده الصلة بدفع الضرر بمعنى دفع الضرر عن الرحم إذا توجه له.
وبعده الصلة بإيصال المنفعة وبعده صلة من تجب نفقته على الرحم مثل زوجة الأب وزوجة الأخ وأدنى مراتب الصلة أداء السلام للرحم وأدنى منه إرسال السلام له وهكذا الدعاء له في غيبته والقول الحسن حال حضوره.
أما قطيعة الرحم فقد جعل الإسلام له لعناً وبيلا وعذاباً أليماً وقد وعد
ص: 61
عليه في القرآن المجيد بالنار واعتبر صاحبه خاسراً
روي عن الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
إياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب اللّه عزّ وجلّ في ثلاث مواضع قال اللّه عزّ وجلّ :
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» (1).
وقال عزّ وجلّ :
«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (2).
وقال تعالى :
«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (3).
جاء رجل إلى أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فشكى إليه أقاربه : فقال لك : اكظم غيظك وافعل (أحسن إليهم).
فقال : إنهم يفعلون ويفعلون (من أنواع الإساءة)
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أتريد أن تكون مثلهم فلا ينظر اللّه إليكم» (4).
والظاهر أن القطع كالصلة موضوع عرفي يرجع في تحديد مصداقها إلى الصرف نحو عبارة عن كل فعل أو تصرف يفهم منه العرف أنه قطع العرف أنه قطع...مثل عدم التحية أو التهجم أو الإعراض أو ترك الاحترام والآداب أو عدم جواب
ص: 62
الرسالة في السفر أو الحضر إذ أسماها العرف قطعاً، قطع الزيارة والملاقاة أو عدم عيادته إذا كان مريضاً أو إذا كان عائداً من السفر ونحو ذلك.
وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة وهي :
إن هناك حقيقة مجربة لم يغفلها الإسلام في الأرحام وهي أن التجاور يوجب القطيعة في غالب الناس ولذا فمن الأفضل أن لا يتجاور الأرحام خوفاً من الوقوع في هذا الإثم العظيم
كتب الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بعض عماله :
«مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا» (1).
هذا الاهتمام في الأرحام.. أما في غيره.. فهناك قصة طريفة لا بأس بإيرادها توضح لنا مدى عناية غير المسلمين بالأرحام.
قال بعض من توطن الغرب من المسلمين : مرض ذات مرة ابن خال لي فذهبنا به إلى المستشفى وكنت أختلف إليه كما _فى وكنت أختلف إليه كما هي عادة المسلمين في زيارة المرضى فحدث أن سألني ذات مرة جماعة من أهالي المنطقة عن سبب اختلافي إلى المستشفى بهذه الكثرة فقصصت لهم القصة.. ثم رأيتهم لا يميزون بين ابن الخال والخال وابن العم والعم فيطلقون لفظاً واحداً على كلا الطائفتين فاستغربت وكنت أعلم أن في اللغة لفظين للمعنيين كسائر اللغات الأخرى لكنهم لما رأوا استغرابي اعتذروا...
بأن نسيان اللغة موجب لعدم الارتباط بين هذه الطبقات البعيدة وهل يحتاج المرء إلى أكثر من أبويه وإخوانه.
أما الأباعد منهم كسائر الناس إن جمعتهم مادة أو مال أو صداقة أو ما إليها...
وإلا فأيما حاجة إلى إطلاق اسم خاص عليهم...
ص: 63
هذه القصة على بساطتها تتجلى حقيقة هامة...وهي أنومن الإسلام له اليد الطولى في بناء المجتمع الصحيح وتوطيد القيم الإنسانية في العلاقات الإجتماعية بين أبناء البشر.
فكما أن الدار لا تبنى إلا باستمساك أجزاءها بعضها مع البعض استمساكاً وثيقاً كذلك المجتمع لا يتشابك معنوياً تشابكاً صحيحاً إلا إذا تشابك كل جزء وعضو فيه مع سائر الأعضاء تشابكاً وثيقاً بأواصر العطف والحنان والمحبة والألفة والتعاون. قال سبحانه وتعالى :
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (1).
وهناك بحوث عميقة أخرى دنيوية وأخروية كثيرة تعود على الحياة البشرية ناشئة من صلة الأرحام صلة الأرحام.. لم يبق مجال لطرحها هنا. وسيأتي في المحاضرة الثانية والعشرين.
الإسلام نظيف ومن نظافته أنه لا يحب الانتقام إلا في حدود معقولة باعتبار أن الانتقام له معياران هما - العقل – والعاطفة.
فالعقل لا يجيز الانتقام في كل مورد لأنه كثيراً ما يكون دليلاً على صفة النفس ومهانتها مثلاً :
الرجل الحكيم لا يقابل السب بالسب انتقاماً وكذا القذف بالقذف لأن هذا العمل شيء لا يليق بسماحة الوجهاء وأصحاب الشخصية المرموقة بخلاف العاطفة فإنها تجيز ذلك تشفياً.. فالإسلام لا يحب الانتقام الناشيء عن العاطفة وإنما يحب الانتقام المنبعث عن العقل والموازين العقلانية.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في نبذ الانتقام الأول :
«إن أمرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه» (2).
ص: 64
وأما في الانتقام الثاني باعتبار أن الإسلام لا يريد للإنسان أن يكون خنوعاً ذليلاً وخاصة لو سبب سكوته تفاقم العدوان عليه شرع الانتقام، کرد للاعتداء وقطع دابر العدوان.
قال سبحانه وتعالى :
«...فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (1).
ومع ذلك فإنه أبقى باب الصفح والعفو والسلام مفتوحاً إذ كلما كان مجال للعفو فهو أفضل وأسمى في نظر الإسلام.
قال سبحانه وتعالى :
«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (2).
وقال تعالى أيضاً :
«وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (3).
ووجه القرب من التقوى في قوله سبحانه وتعالى : «أقرب للتقوى»، إن المنتقم ربما يتجاوز قدر الاعتداء فيكون عمله أبعد عن التقوى أما العافي السموح فإنه في منجاة من الإفراط ولذا فهو أقرب إلى التقوى وأبعد عن نوازع النفس وطيشها.. ولذا حرض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة الأطهار على العفو مهما وجد الإنسان له سبيلاً.
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
ص: 65
«العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فتعافوا يعزكم اللّه» (1).
وقال أيضاً:
«قال موسى يا رب أي عبادك أعز عليك» قال :
«الذي إذا قدر عفى» (2).
العفو في الآخرة يقود صاحبه إلى الجنة : قال الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم ينادي منادٍ أين أهل الفضل ؟ قال : فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون وما فضلكم ؟ فيقولون : كنا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا. قال : فيقال لهم : صدقتم ادخلوا الجنة» (3).
وليس الآخرة وحدها بل الدنيا إلى جانب الآخرة.
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة.. تعفو عمن ظلمك. وتصل من قطعك وتحلم إذا جهل عليك» (4).
وإذا وازن الإنسان بين العفو والانتقام وجد العفو أحسن وأحمد عاقبة لأنه مهما فعل من عفو أو انتقام فإنه كثيراً ما يندم على موقفه فيقول لماذا ما عفوت أو لماذا ما عاقبت ولكن ندم الإنسان على موقف العفو أيسر من ندمه على موقف الانتقام.. لأن في العفو ندم فقط لا يصاحبه جرح في عواطف المعتدى عليه أو أهله وذويه فلم يؤذ بموقف العفو أبداً سوى نفسه بالندم.
بخلاف موقف العقوبة فإنه يريح نفسه ولكن يجرح في عواطف الآخرين ويؤذي غيره.
ص: 66
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة»(1).
بل إن العافي هو المنتصر أخيراً وإن ندم على موقفه أما المنتقم فيهزم أخيراً وإن أراح نفسه وتشفّى لها والعواقب هي المهمة وما فائدة تشفي لا يعقبه انتصار ؟
قال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمهما عفواً» (2).
حسبك في هذا الباب ما فعله النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع مشركي قريش الذين آذوه واستهزؤا به وأخرجوه من دياره ثم قاتلوه وحرضوا عليه سائر المشركين حتى أثخنوه بالجراح في مواقف عديدة ولكنه لما فتح اللّه عليه مكة لم يكن موقفه النبيل تجاههم سوى العفو وقال لهم :
ما ترون أني فاعل بكم ؟ فقالوا لوا : خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
فقال : إذهبوا فأنتم الطلقاء (3).
هذا العفو كموقف عام مع الجميع أما العفو كموقف خاص :
فقد روى أنس قال : كنت مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعليه ب_رد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي برداءه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم قال : يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال اللّه الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك فسكت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم قال : المال مال اللّه وأنا عبده. ثم قال : ويكاد منك يا أعرابي ما فعلته بي.
(أي هل يقتص منك ما فعلته في عنق النبي).. قال : لا. قال : لم ؟
ص: 67
قال : لأنك لا تكافيء بالسيئة السيئة.
فضحك (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ثم أمر أن يُحمل ل_ه على بعير شعير وعلى الآخر تمر...» (1).
وأيضاً : ظفر علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأهل البصرة فلما دخلها واجتمع عليه أهلها خطبهم وقال :
«يا أهل البصرة يا جند المرأة (2) وأتباع البهيمة (3) رغى فرجفتم وعُقر فانهزمتم أحلامكم رقاق وعبيدكم شقاق وأنتم منشقة مراق...
يا أهل البصرة نكثتم بيعتي وتظاهرتم على عداوتي فما ترون صانعاً بكم وما تظنون بي، قالوا : نظن خيراً ونعلم أنك ظفرت وقدرت فإن عاقبت فقد استحققنا عقوبة المجرمين وإن عفوت فالعفو أحب إلى رب العالمين.
فأطرق (عَلَيهِ السَّلَامُ) برأسه إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال :
اذهبوا وإياكم والفتنة فإنكم أول من شق عصا الأمة ونكث البيعة فاخلصوا إلى اللّه التوبة» (4).
ولخطبة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مضامين وشروح مفصلة لا مجال لذكرها هنا..
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أحسن الجود عفو بعد مقدرة» (5).
عنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه» (6).
ص: 68
قال ابن أبي الحديد المعتزلي :
أخذت هنا هذا المعنى من قول الإمام مالنا فقلت في قطعه لي :
إن الأماني اكساب الجهول فلا***تقنع بها واركب الأهوال والخطرا
واجعل العقل جهلاً واطرح نظراً***في الموبقات ولا تستشعر الحذرا
وإن قدرت على الأعداء منتصراً***فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا»
فالواجب على العاقل اللبيب أن يوطن نفسه على لزوم العفو عن الناس كافة ابتداء من الأهل ثم الأصدقاء ثم الأعداء.. وترك الخروج لمجازاة الإساءة بمثلها إذ لا سبيل لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان ولا سبب لنماء الإساءة وتهيجها أشد من مقابلتها بمثلها خاصة وأن اللّه تبارك وتعالى قال :
«وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (1).
وبعد هذا وذاك نتعرف على أسلم الطرق وأفضلها لنيل مقام القدرة والقيادة الاجتماعية للشخص في المجتمع وللمجتمع بين سائر المجتمعات وهي سلوك سبيل المداراة والسياسة الإنسانية الرحيمة للآخرين.. فتصل من قطعك...وتعطي من حرمك...وتعفو عمن وتعفو عمن ظلمك...
ص: 69
ص: 70
ص: 71
ص: 72
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي أربعة يذهبن ضياعاً، الأكل بعد الشبع، والسراج القمر، والزرع في السبخة، والصنيعة عند غير أهلها» (1).
لعل قانون النفع مما اتفق عليه العقلاء وقامت عليه سيرتهم في كل حركاتهم وسكناتهم.. فكل إنسان عاقل إذا أراد أن يخطو خطوة إلى الأمام أو يتراجع بخطوة إلى الخلف لا بد له من أن يفكر في مدى الانتفاع الذي يحصل عليه ويضع أمامه حساب الربح والخسارة.
فإذا تكلم لا بد وأنه رأى في كلامه منفعة وإذا سكت كذلك وهكذا في الأكل والشرب والسفر والحضر والعبادة والمعاملة والأخلاق وكل الشؤون الإنسانية الأخرى يحكمها قانون النفع والضرر، والربح والخسارة طبعاً ليس لضرورة أن النفع يجب أن يعود على الإنسان نفسه بل أحياناً الإنسان يتصرف تصرفاً معيناً ولا يتوخى منه نفع نفسه بل نفع غيره أو عدم الإضرار بغيره.. وهذا أيضاً مما يعده العقلاء تصرفاً حكيماً وصحيحاً ما زال القدر الجامع وهو وجود المنفعة من العمل سواء لنفسه أو لغيره موجوداً.
ص: 73
نعم هنا من المناسب أن نشير إلى معنى النفع وأقسامه فنقول :
النفع ضد الضرر : وهو ما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه أو يسد به حاجته الأعم من الحاجة المادية أو المعنوية وبهذا يتضح أن النفع له أقسام هي :
1 - النفع المادي مقابل الضرر المادي.
2 - النفع المعنوي مقابل الضرر المعنوي
وكل واحد منهما إما نفع دنيوي أو أخروي وكذا الضرر فالأقسام أربعة.
وبما أن علم الاقتصاد يرتبط بالمال والمادة فقط ولا يهتم بشؤون المعنويات فقد قسم علماءه الوجوه التي يمكن أن يحصل فيها النفع إلى ثلاثة :
1 - النفع الحاصل من حيازة العين وملكيتها تصرفاً أو استهلاكاً مثل ملكية الذهب والفضة والمعادن والأجهزة والأدوات وسائر الأمور العيني الأخرى.
2 - النفع الحاصل من حيازة فوائد الأعيان مثل استئجار البيوت والمحلات والسيارات ونحوها، فإن المستأجر ينتفع بالفائدة الحاصلة من العين ويملكها ولا يملك نفس العين لأنه ملك المؤجر..
٣ - النفع الحاصل من عمل الإنسان وجهده الأعم من الجهد العضلي والبدني كالصائغ والبناء والنجار وغيره أو الجهد الفكري كالعالم والمهندس والطبيب فإنهم ينتفعون بما يبذلونه من جهد ومهارة في صناعة السبائك والدور والأبواب ونحوها أو رسم الخرائط ومعالجة الأمراض أو تأليف الكتب فهم لا يملكون الأعيان ولا يملكون الفوائد بل يملكون الجهد عادةً.
ص: 74
هذا بالنسبة للنفع المادي الدنيوي أما بالنسبة إلى النفع المعنوي، فقبل بيان أقسامه من المناسب أن نوضح المراد منه فنقول :
النفع المعنوي ما يرتبط بعالم المعنى والروح.
وهل في القرآن نفع معنوي ؟
الجواب : نعم.
قال تعالى :
«وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (1).
ذكر المفسرون لهذه الآية معاني عديدة وجميلة ذكرت في مضانها وكل ما يرتبط بموضوعنا هنا هو ما سنوضحه باختصار : الآية تقول «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ» بالإضافة إلى الخير في هذه الحياة الدنيا في الآخرة يحظون ب_ «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ» أي من تحت قصورها وأشجارها «خَالِدِينَ فِيهَا» أي دائمين لا يزولون عنها ولا تزول عنهم وأيضاً وعدهم مساكن طيبة مهيئة فيها الأثاث والرياض عذبة الهواء طيبة المرافق بحيث يطيب فيها العيش ويهنا «فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» قال (2) في مجمع البيان العدن والإقامة والخلود نظائر أي أنهم في جنات الخلود وورد في بعض الأحاديث النبوية أنها أعلى جنات اللّه سبحانه مما لم يخطر على بال بشر «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» أي رضى اللّه سبحانه وتعالى أكبر من كل ذلك. فإن الإنسان إذا علم برضى الكبير أو العظيم منه ارتاح،ضميره فكيف به إذا علم رضى اللّه سبحانه وتعالى عنه وهو عظيم ليس فوقه عظيم وهو الكبير وأكبر من كل شيء ومن المعلوم أن ارتياح الضمير الذي هو نفع معنوي أكبر من ارتياح الجسد الذي هو نفع مادي وذلك لأنه النجاح العظيم الذي لا نجاح فوقه ولا فوز أكبر منه وأعظم.
ص: 75
ومثل (1) الفيض الكاشاني في تفسير الصافي لدى تفسيره لهذه الآية الكريمة في وصف النفع المعنوي «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» يعني وشيء من رضوانه كرامته التي هي أكبر من ذلك كله لأن رضاه سبب كل سعادة وموجب كل فوز و به تنال أكبر أصناف الثواب ذلك أي الرضوان هو الفوز العظيم الذي يستحقر دونه كل لذّة وبهجة.
وأشار الفخر الرازي في تفسير الكبير (2) لدى تفسير هذه الآية المباركة إلى ما فيه شاهدنا هنا من النفع المعنوي قال : «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» والمعنى أن رضوان اللّه أكبر من كل ما سلف ذكره واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية وذلك لأنه إما أن يكون الإبتهاج يكون مولاه راضياً عنه وأن يتوصل بذلك الرضا إلى شيء من اللذّات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك بل علمه بكونه راضياً عنه يوجب الإبتهاج والسعادة لذّاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر.. والأول باطل لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالاً من ذلك المقصود فلو كان المقصود من رضوان اللّه تعالى أن يتوسل به إلى اللذّات التي أعدها اللّه تعالى في الجنة من الأكل والشرب لكان الإبتهاج بالرضوان ابتهاجاً بحصول الوسيلة لوكان الإبتهاج بتلك اللذّات ابتهاجاً بالمقصود وقد ذكرنا أن الإبتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالاً من الابتهاج بالمقصود فوجب أن يكون رضوان اللّه تعالى أقل حالاً وأدون مرتبةً من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة لكن الأمر ليس كذلك لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر، وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية..
نعم الأفضل أن يحصل الإنسان على السعادتين معاً الدنيوية والأخروية - المادية والمعنوية - كما جمع اللّه سبحانه وتعالى بينهما في هذه
ص: 76
الآية المباركة «ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». باعتبار أن الإنسان مخلوق من جوهرين لطيف علوي روحاني وكثيف سفلي جسماني وفي كليهما هناك سعادة وشقاء فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات والكمالات اللائقة بها والجسد واصلاً أيضاً إلى اللذّات اللائقة به ولكن الجمع بين الأمرين هو الفوز العظيم واللّه سبحانه العالم.
لا بد أن نعرف هنا أن أرقى نفع وأكبره في المعنويات هو الكمال إذ كل شيء في هذا العالم مطلوب لغيره أما الكمال فهو مطلوب لذّاته وعلى تعبير أهل المعقول : الكمال قيمته ذاتية بينما غيره قيمته اكتسابية فالمال قيمته اكتسابية بمعنى أن قيمته ناشئة من اعتبار المعتبرين كالحكومة والرئيس ونحو ذلك وإلا لم يعد عن كونه ورقة عادية جداً لا تسوى بشيء فالمال مطلوب لغيره وهو تحصيل السعادة وإدارة أمور الحياة بالطريقة الأحسن والأفضل وهكذا المنصب والجاه فإنه مطلوب لغيره.
بينما الكمال فإنه مطلوب لنفسه لا لشيء آخر. ومن هنا تختلف مقامات ودرجات المعنويات أيضاً فإن الشيء كلما كان أقرب إلى الكمال كانت قيمته ونفعه المعنوي أكبر وكلما ابتعد عن الكمال كانت قيمته ونفعه أقل.
فالنبوة والنبي له أكبر نفع معنوي لأن قربه واتصاله بالكمال المطلق الذي هو اللّه سبحانه وتعالى أكثر من أي شيء آخر
قال سبحانه وتعالى :
«ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» (1)
...دنواً واقتراباً. ولذا أعطى اللّه سبحانه أولياءه المعصومين منصب
ص: 77
الولاية التكوينية والتشريعية في هذا العالم والولاية تعنى القرب الخاص لغة واصطلاحاً، وهكذا من بعده الإمامة والإمام.. وأيضاً الصَّلاة لها قيمة معنوية كبيرة في الإسلام لأنها تقرب العبد إلى اللّه سبحانه وتعالى (الصلاة قربان كل مُؤمن) والصَّلاة معراج المؤمن من بعدها سائر الأعمال العبادية الأخرى.
ومن الواضح أن الإسلام أيد هذا المعنى ووسع من مفاهيمه وأعطاه هدفيته أكثر إذ الإسلام لا يريد للإنسان أن يكون عبثياً خالياً من الأهداف والطموحات بل دائماً يريده صاحب هدف وقصد وطموح، ولهذا أصبحت النية ركناً من أركان العبادات لأن عمل الإنسان إذا خلا من القصد والنية لم يفترق عن أي حركة وسكنة طبيعية أخرى يؤديها الإنسان في حياته الخاصة.. ولهذا ركز القرآن الحكيم على هدفية الخلق تكويناً وتشريعاً معاً إذ وردت مجموعة من الآيات والأحاديث الشريفة التي تنفي العبثية عن أفعال اللّه عزّ وجلَّ في خلق الكون مبدأ ومنتهى لكي لا يخلو الفعل الإلهي الحكيم من الحكمة والأغراض.. ولكي يعلم الإنسان على الهدفية ومراعاة المنافع والأغراض في أفعاله وتصرفاته وفي التكوين.
قال تعالى :
«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» (1).
وقال سبحانه وتعالى :
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى» (2).
وأيضاً قال جلّ من قائل :
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (3).
ص: 78
وفي التشريع قال سبحانه وتعالى :
«فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ» (1).
وقال تبارك وتعالى :
«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»(2).
وأيضاً قال سبحانه وتعالى :
...«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (3).
كل حركات الإنسان وسكناته يجب أن تخضع لقانون النفع والضرر والربح والخسارة، أي بمعنى الهدفية.. فإذا أراد الإنسان أن ينام أو يأكل أو يزرع أو يُتاجر أو يدرس ويتعلم يجب أن يتوخى من هذا الفعل نفعاً وربحاً خاصاً سواء كان هذا النفع مادي فقط أو معنوي فقط أو كلاهما معاً ..
وكذا إذا اجتنب الإنسان حقلاً معيناً أو شيئاً معيناً يجب أن يلاحظ في اعتباره مدى المضرة والخسارة أو لا أقل عدم النفع العائد عليه جراء ذلك ومن دون ذلك سيخرج الإنسان عن طور العقلاء وحكومة العقل وبالنتجة يقع في مساوىء الجهل ومفاسده.
ولهذا وردت روايات عديدة تصف الأنبياء والأئمة والصالحين بأن سيرتهم النفع والخسارة.
وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير قوله تعالى :
«وجعلني مباركاً أين ما كنت» (4).
ص: 79
قال : نفاعاً (1).
عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
سئل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : من أحب الناس إلى اللّه تعالى ؟
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنفع الناس للناس» (2).
نعم في كثير من الأحيان يكون المقام الذي يحصل عليه الإنسان من جراء النفع المادي أو المعنوي الذي يقدمه لإخوانه المؤمنين أعلى وأرقى من النفع الذي يقدمه الإنسان لنفسه.
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«لم نُبعث لجمع المال ولكن بعثنا لإنفاقه» (3).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أمسك المال بقدر ضرورتك وقدّم الفضل ليوم حاجتك» (4).
وواضح أن اليوم الذي يكون فيه الإنسان أشد حاجة هو يوم الحساب فلو أنفق الإنسان ماله في سبيل اللّه ونفع فيه إخوانه فإنه سوف يبقى ذخراً ل_ه في ذلك اليوم الشديد.
فهناك روايات عديدة أشارت إلى أن درجة القرب من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بخدمة الآخرين وتقديم النفع لهم مادياً ومعنوياً. لا فرق، عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في خطابه لرجل فخر على آبائه بأنه من شيعة آل محمد (عَلَيهِم السَّلَامُ) الطيبين قال :
«مالك معك تنفقه على نفسك أحب إليك أم تنفقه على إخوانك المؤمنين ؟
ص: 80
قال : بل أنفقه على نفسي.
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): فلست من شيعتنا فإننا نحن ما ننفق على المنتحلين من إخواننا أحب إلينا ولكن قل : إنا من محبيكم ومن الراجين النجاة بمحبتكم» (1).
وعن محمد بن عجلان قال : كنت عند أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فدخل رجل فسلم فسأله : كيف من خلفت من إخوان ؟.
فأحسن الثناء وزكى وأطرى فقال له : كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم ؟. فقال : قليلة. قال : وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم ؟
قال : قليلة. قال : فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ؟
فقال : إنك لتذكر أخلاقاً قل ما هي فيمن عندنا.
قال : فقال : فكيف تزعم هؤلاء شيعة» (2).
وبعد هذه المقدمة نأتي إلى الحديث المتقدم في بداية البحث.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا علي : أربعة يذهبن ضياعاً، الأكل بعد الشبع، والسراج في القمر، والزرع في السبخة، والصنيعة في غير أهلها» (3).
أشار الحديث إلى النفعين معاً المادي والمعنوي :
أما النفع المادي فامور هي :
1 - الأكل بعد الشبع.
٢ - السراج في القمر.
ص: 81
3 - الزرع في السبخة.
أما النفع المعنوي فهو :
الصنيعة في غير أهلها.
وكل واحدة منها ترتبط بالأقسام الثلاثة للنفع المادي المتقدم وهي الأعيان وفوائد الأعيان والجهد البشري.
فالأكل يرتبط بمنعة الأعيان إذ الغذاء عين من الأعيان ينتفع بها الإنسان بعد الأكل والسراج يرتبط بحيازة فوائد الأعيان وهو النور والاستضاءة أما الزرع فهو يرتبط بمنافع الجهد البشري إذ من المعلوم أن الزرع عمل من الأعمال يقوم به الإنسان.
أما الصنيعة للمعروف فهو يرتبط بالنفع المعنوي على الظاهر وإن أمكن ربطه بالنفع المادي أيضاً إلا أن ارتباطه بالنفع المعنوي أوضح وأدق.
نعم صنيعة المعروف مع غير أهله بينت الوجه السلبي للنفع وهي إما الضرر أو عدم الانتفاع ولم يتبين الوجه الإيجابي إما لأن هذا المعروف مع أهله من المسلمات عند أهل الفضل والمعرفة ومن الأعمال المستحبة المؤكدة في الشريعة الإسلامية التي وردت فيها نصوص كثيرة جداً أو لأن هذه الفقرة (الصنيعة في غير أهلها) من الجمل التي لها مفهوم مخالف بمعنى أن الصنيعة عند أهلها لا تذهب ضياعاً.. واللّه أعلم.
وعلى أي حال فإن الحديث يوجه الإنسان إلى النفع واستثمار الأمو التي يمكن أن تخدمه وتفيده، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا فإن الإنسان حتى ينتفع من الأكل إذا جاع فإن أجهزته الهضمية تكون مستعدة الهضم الطعام وسائر جسده مستعد للانتفاع به، أما إذا أكل على الشبع فإن الإنسان ليس فقط لا ينتفع بالطعام بل لعله يتضرر. وهذا مما لا يقدم عليه العقلاء.
وكذا الاستضاءة يحتاجها الإنسان وينتفع بها إذا كان في الظلام، أما
ص: 82
إذا لم يكن الظلام فإشعال السراج مع وجود النور لا ينفع إلا إذا أريد الاستنارة أكثر فإن ذلك لا يذهب ضياعاً، إذ واضح أن مراد الحديث أن السراج مع وجود القمر يكون هدراً للطاقة لا فائدة منه في الوقت الذي يكون في ضوء القمر كفاية بالإضافة إلى أن هذه الفقرة كناية عن صرف طاقة النور بلا موضوعية للسراج ولا للقمر بأكثر من الحاجة إليها بحيث يكون زيادة النور ضياعاً له. ولهذا ورد عن بعض أعلام العصر في توجيه هذه الفقرة من الحديث (السراج في القمر) :
قال : «إذا لم يكن محتاجاً إليه إذ كثيراً ما يحتاج الإنسان في الليلة المقمرة إلى سراج أيضاً..»(1).
وكذلك الفلاح فإنه يبذل جهده ومجهوده من أجل الإنبات والإثمار وهذا ما يحتاج إلى ظروف صالحة من أرض طيبة وماء وهواء ونحو ذلك فإذا لم تكن الأرض صالحة للبذر كأن تكون سبخة مالحة غير صالحة للزراعة فإنه يكون عمله ضياعاً في زراعة مثل هذه الأرض.
هذا وجه الربط بين فقرات الحديث الأربع أما توضيحها...
من الواضح أن الإسلام وضع آداباً للطعام وكيفية الأكل والتغذية، فإن اتبع الإنسان هذه الآداب انتفع من الطعام خير انتفاع وإن لم يتبعها فإنه يعرض بدنه إلى الأمراض المهلكة ويضيع نفسه فيها...
فمثلاً من آداب الطعام التوسط في الأكل فلا يأكل كثيراً إلى حد التخمة لكي يمرض أو يتضرر لأنه كما في أكل الطعام منافع للإنسان لا غنى له عنها لكي يتقوم بها بدنه وصلبه كذلك في عدم أكل الطعام مضار تهدم بدنه.
ص: 83
وعلى أي حال فإن المطلوب في الأكل هو أن يكون مع القصد أو التوسط بلا إفراط ولا تفريط.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من اقتصد في أكله كثرت صحته» (1).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً قال :
«عليكم بالقصد في المطاعم فإنه أبعد عن السرف وأصح للبدن وأعون على العبادة» (2).
وعن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«لو أن الناس قصدوا في المطعم لاستقامت أبدانهم» (3).
والقصد : هو التوسط والاعتدال.
وقد ذكر الفقهاء أن من الأمور المكروهة في الإسلام كثرة الأكل.
عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«كثرة الأكل مكروه» (4).
وعنه أيضاً عن أبي عبد اللّه ما قال :
قال لي : «يا أبا محمد إن البطن ليطغى من أكله وأقرب ما يكون العبد من اللّه إذا خف بطنه وأبغض ما يكون العبد إلى اللّه إذا امتلأ بطنه» (5).
ولعل أسهل منهاج وأفضله للطعام وضعه الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث قال : «ليس بد لابن آدم من أكلة يقوم بها صلبه فإذا أكل أحدكم طعاماً فليجعل ثلث بطنه للطعام وثلث بطنه للشرب وثلث بطنه للتنفس ولا تسمنوا سمن الخنازير للذبح» (6).
ص: 84
أما علاقة الأولياء وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالطعام.
عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
ظهر إبليس ليحيى بن زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإذا عليه معاليق من كل شيء فقال ل_ه يحيى : ما هذه المعاليق ؟. فقال : هذه الشهوات التي أصيب بها ابن آدم فقال : هل لي منها شيء ؟.
فقال : ربما شبعت فشغلناك عن الصَّلاة والذكر.
قال : اللّه علي أن لا أملأ بطني من الطعام أبداً.
وقال إبليس : اللّه علي أن لا أنصح مسلماً أبداً.
ثم قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا حفص : للّه على جعفر وآل جعفر أن لا يملئوا بطونهم من طعام أبداً واللّه على جعفر وآل جعفر أن لا يعملوا للدنيا أبداً» (1).
والظاهر أن الشهوات صورت هنا بصورة المعاليق لتجسيد إغراء الشيطان فقد صور الزنا والخمر والقمار ونحو ذلك كل بصورة من معاليق إبليس فإذا جر الزنا علق بهم المعلاق المرتبط بالزنا وهكذا أي حببه إليهم ووسوس في قلوبهم.
كما أن الظاهر مراد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله : «أن لا يعملوا للدنيا» ليس لا يستفيدوا من نعم الدنيا بل إنهم يستفيدون من نعم الدنيا ولكن يوظفونها للآخرة لا للدنيا إذ إن أعمالهم حتى نومهم وأكلهم وملامستهم للنساء ونحو ذلك كله للآخرة من حيث إن اللّه سبحانه أمر بكل ذلك وهم يمتثلون لتلك الأوامر وإن كانت إرشادية.
بل وإن الشبع مكره شرعاً.. وأيضاً الأكل على الشبع يسبب للإنسان أمراضاً كثيرة وخطيرة. ولهذا كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يشبع بطنه قط.
عن الفيض بن القاسم قال : قلت للصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
ص: 85
حديث يروى عن أبيك (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«ما شبع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من خبز بر قط وهو صحيح ؟
فقال : لا ما أكل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من خبز بر قط ولا شبع من خبز شعیر قط» (1).
وعن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ألا أعلمك أربع خصال تستغني بها عن الطب ؟.
قال : بلى. قال : لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه وجود المضغ وإذ تممت فاعرض نفسك على الخلاء فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب» (2).
وواضح أن المراد من الاستغناء عن الطب ليس بصورة كلية بل هي على سبيل الغلبة أي تتخلص من أمراض كثيرة لا من جميع الأمراض مطلقا.
عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الأكل على الشبع يورث البرص» (3).
والظاهر أن المراد من يورث المقتضي لا العلة التامة أي ليس الأكل على الشبع علة تامة وكافية ودائمية لمرض الإنسان بالبرص بل هو مقتضي فإذا توفر عدم المانع يسبب المرض بالبرص واللّه العالم.
قد تقدم مدى تأثير الطعام وكثرته على سلوك الإنسان ومصيره فكيف به إذا كان الطعام حراماً.
قصة:
نقل في التاريخ :
إن شريك بن عبد اللّه - توفي في عام ١٧٧ هجرية كان من الزهاد
ص: 86
والصالحين فطلبه المهدي العباسي وعرض عليه منصب القضاء فأبى.
قال : إذن علم أودلاي العلم...فاعتذر أيضاً.
فقال له : إن كان ولا بد فاجلس معنا وكل من هذا الطعام فجلس وأكل..
ولما نزل الطعام في معدته أثر فيه كل تأثير فجعل يفكر بأنه كيف لم يقبل من الخليفة منصب القضاء وهو المنصب الذي يتمناه كل أحد، وأيضاً صار يدور في خلده أنه كيف لم يقبل تعليم أولاد الخليفة وهكذا داهمته الوساوس والمرغبات من كل جهة، فلما صار الصباح ذهب إلى الخليفة وقال له : إني مستعد لقبول منصب القضاء وتعليم أولادك...
هكذا يؤثر الطعام الحرام في صاحبه وهكذا يقوده إلى المصير السيىء.
صحيح أن الإسلام حبب الزراعة وشجع عليها وجعل للزارعين الثواب فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«من غرس غرساً فأثمر أعطاه اللّه من الأجر قدر ما يخرج من الثمر» (1).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«ازرعوا واغرسوا واللّه ما عمل الناس عملاً أحلَّ منه وأطيب منه» (2).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً قال :
«ما في الأعمال شيء أحب إلى اللّه تعالى من الزراعة وما بعث اللّه نبياً إلا زارعاً إلا إدريس كان خياطاً» (3).
ص: 87
فالزراعة عمل مستحب في الإسلام.. ولكن يجب أن يكون عمل الزراعة يصب في سبيل النفع والعطاء.
عن الإمام الباقر النقل مما رواه عن أبيه الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«خير الأعمال زرع يزرعه فيأكل منه البر والفاجر، ويأكل منه السباع والطير» (1).
ولأن النفع هو المعيار في العمل وخاصة الزراعة فإنه يجب أن يكون الفلاح والزارع باحثاً عن الأرض الصالحة لكي يغرس فيها غرسه.
يروى أن الإمام أمير المؤمنين كان يعمل بيده ويجاهد في سبيل اللّه، ولقد كان يرى ومعه القطار من الإبل (2) وعليه النوى (3) فيقال له : ما هذا يا أبا الحسن ؟ فيقول : نخل إن شاء اللّه فيغرسها فما يغار منها واحدة (4).
ولهذا نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن زراعة الأراضي عن زراعة الأراضي غير الصالحة لعدم وجود جدوى أو نفع فيها مما يهدر عمل الإنسان وتضيع جهوده.
فقال : يا علي أربعة يذهبن ضياعاً...والزرع في السبخة والسبخة بالفتح واحده (السباخ) وهي أرض مالحة تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الأشجار.
قال تعالى :
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» (5).
ص: 88
وردت في تفسير هذه الآية آراء لعلها تشترك في الحالة. وهو أن الزرع إنما يعطي نفعه وخيره إذا كان في الأرض الصالحة أما إذا كان في السبخة فيكون ضياعاً ففي تفسير الصافي للفيض الكاشاني (قدّس سِرُّه) قال :
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ» : لأرض الكريمة التربة «يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» بأمره وتيسره عبر به عن فتره النبات وغزارة نفعه بقرينته المقابلة «وَالَّذِي خَبُثَ» كالحرة (1) والسبخة «لَا يَخْرُجُ» نباته «إِلَّا نَكِدًا». قليلاً عديم النفع «كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ» نرددها ونكررها «لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» - نعمة اللّه فيفتكرون فيها ويعتبرون بها (2).
قيل الآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثر بها..
وعن بعض الأعلام تأويل يقول إن هذا مثل للأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) يخرج علمهم بإذن ربهم ولأعدائهم لا يخرج علمهم إلا كدراً فاسداً.
وفي مجمع البيان للطبرسي (قدّس سِرُّه) :
««وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ» معناه الأرض الطيب ترابه «يَخْرُجُ نَبَاتُهُ» أي زروعه خروجاً حسناً نامياً زاكياً من غير تعب ولا نصب. «وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا» أي الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلا شيئاً قليلاً لا ينتفع به عن السري ومعناه إلا عسراً ممتنعاً من الخروج. ولو أراد سبحانه أن يخرج من الأرض النكدة أكثر مما يخرج من الأرض الطيبة لأمكنه إلا أنه أجرى العادة بإخراجه من الأرض الطيبة ليكون ذلك باعثاً للإنسان على طلب الخير من مظانه ودلالة على وجوب الاجتهاد وفي الطاعات فإذا حمل نفسه على ابتغاء الخير اليسير الذي لا يدوم وربما لا يحصل فأن يبتغي النعيم الدائم الذي لا يفنى ولا يبيد بالأعمال الصالحة أولى «كَذَلِكَ نُصَرِّفُ
ص: 89
الْآيَاتِ» أي الدلالات المختلفة «لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» معناه كما بينا هذا المثل نبين الدلالات للشاكرين وقيل كما صرفنا الآيات لكم بالإتيان بآية بعد آية وحجة بعد أخرى نصرفها لقوم يشكرون اللّه على إنعامه عليهم ومن إنعامه هدايته إياهم لما فيه نجاتهم وتبصيرهم سبيل أهل الضلال وأمره إياهم بتجنب ذلك والعدول عنه وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن أن هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن والكافر فأخبر بأن الأرض كلها جنس واحد إلا أن منها طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها ومنها سبخة لا تنبت شيئاً فإن أنبتت مما لا منفعة فيه وكذلك القلوب كلهم لحم ودم ثم فيها لين يقبل الوعظ ومنه_ا ق_اس ج_اف لا يقبل الوعظ فليشكر اللّه تعالى من لان قلبه لذكره» (1).
أقول وفي هذا ربط متين بين النفع المادي والنفع المعنوي.
من المؤكد أن الإسلام حبذ المعروف ودعا إليه. وجعله من الأعمال التي لها فضيلة عالية في الدنيا والآخرة.
فلأنه دليل على كبر النفس وسموها وشعورها بحاجات الآخرين واستغاثتهم ونجدتهم.
وهذه كلها من الأعمال التي يحبها اللّه سبحانه، بل وعليها ترتكز قواعد الدين وعز المسلمين.
عن إسماعيل بن عبد الخالق قال : قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع المعروف، وإن من فناء الإسلام والمسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق ولا يصنع المعروف» (2).
ص: 90
وعن أبي حمزة قال : سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
«إن من أحب عباد اللّه إلى اللّه لمن حبب إليه المعروف وحبب إليه فعاله» (1).
وعن عبد اللّه بن الوليد الوصافي قال : قال أبو جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«صنايع المعروف تقي مصارع السوء وكل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة وأول أهل الجنة دخولاً إلى الجنة أهل المعروف وأول أهل النار دخولاً إلى النار أهل المنكر» (2).
والظاهر من (أهل المعروف في الآخرة) أنه كما يصل خيرهم في الدنيا إلى الناس يصل خيرهم في الآخرة أيضاً لأن طبائع الناس واحدة لا تختلف مع الظروف والأحوال على الأقوى.. ولذا فإنهم يصل خيرهم من الشفاعة ونحوها في الآخرة إلى الناس.
وأهل المنكر هنا يعرفون هناك أيضاً بأهل المنكر كما تحتف بهم منكراتهم التي هي تجسيم لمنكراتهم في الدنيا على المذهب المتصوّر من تجسیم الأعمال واللّه أعلم.
ولعل في هذا المعنى وردت هذه الرواية :
عن أحمد
أحمد بن عبد اللّه البرقي عن أبيه يرفع الحديث قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«أهل المعروف في الدنيا، أهل المعروف في الآخرة».
قيل، يا رسول اللّه كيف ذلك ؟.
قال : يغفر لهم بالتطول منه عليهم ويدفعون حسناتهم إلى الناس
ص: 91
فيدخلون بها الجنة فيكونون هم أهل المعروف في الدنيا والآخرة» (1).
وعن أبي قتادة قال : قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة لأنهم في الآخرة ترجع لهم الحسنات فيجيدون بها على أهل المعاصي» (2).
هذا ما ثبت مؤكداً عليه في الشريعة السمحاء ولكن فعل المعروف أحياناً يسدى إلى من هو أهل له وأحياناً يقدم لمن هو ليس بأهل له.
ولكن في الروايات المتظافرة الواردة في هذا الباب أن الإنسان يجب أن يصل نفعه وخيره ومعروفه للجميع سواء كان أهلاً أم لم يكن أهلاً لأن اللّه سبحانه يحب المؤمن أن يتأدب بآدابه وهو سبحانه وتعالى عادته الإحسان إلى المسيئين كما أنه يحب للمؤمن أن يتأدب بأدب نبيه ووليه ومن آداب النبي والولي (عليهم الصلاة والسلام) الإحسان وإسداء المعروف لكل أحد كما صنع النبي الأعظم وأمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام) مع الذين حاربوهم مكرراً - لأن هذا من مقتضيات العقل والنبوة والإمامة وهداية المجتمع.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر» (3).
وعن جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه من قال :
«اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس من أهله فإن لم يكن هو أهله فكن أنت من أهله» (4).
ص: 92
وعن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال :
«أخذا أبي بيدي ثم قال : يا بني إن أبي محمد بن علي سالفا أخذ بيدي كما أخذت بيدك وقال : يا بني إفعل الخير إلى كل من طلبه منك فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله. وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره» (1).
فهذه الروايات تقول إن الأصل هو صنع المعروف مع كل أحد براً وفاجراً من أهله أو ليس من أهله ولكن الرواية التي جاءت في أول الحديث :
تقول :
يا علي : أربعة يذهبن ضياعاً....والصنيعة في غير أهلها تقول إفعل المعروف مع أهله لا أهله لا مع غير أهله، فكيف يمكن الجمع ؟
«طبعاً هناك توجيه آخر لقوله سيدات الصنيعة عند غير أهلها غير ما حملناه على صنيعة المعروف ليس هنا محل ذكره».
فنقول : إن مقتضى الجمع هو أن اصطناع المعروف منه حلال ومنه حرام فالمعروف الذي يجب أن يبذل لكل أحد هو الحلال. أما الحرام فلا يجوز كأن يقدم مالاً لأهل القمار لكي يلعبوا القمار مثلاً لأنه تعاون على الإثم والعدوان قال تعالى :
«...وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (2).
ولهذا فإن قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأن الصنيعة عند غير أهلها تذهب ضياعاً لا يتعارض مع الروايات القائلة بعمومية اصطناع المعروف للجميع.
ص: 93
ولكن لماذا الصنيعة عند أهل الحرام تذهب ضياعاً ؟
الجواب : لأن المعروف الذي تقدمه يجب أن تحصل من ورائه منفعة دنيوية وأخروية أو كليهما معاً.
أما الدنيوية فشكر المعروف وتقدير موقفك في الخير لأن مقتضى الحكمة شكر المنعم وورد عن الإمام الرضا بالتحف :
«من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر اللّه عز وجل» (1).
وشكر النعمة في كل مورد بحسبه.
فإن من يدفع مالاً للفقير أو المحتاج شكره مثلاً الدعاء له وذكره بالخير ونحو ذلك ومن أقسام الشكر لهذا الموقف صرف هذا المال في مورده الصحيح الذي لا يسيء لك ولا له.
أما لاعب القمار أو شارب الخمر مثلاً فإنه يصرف هذا المال في غير مورده بل ويؤذي جراء ذلك نفسه وعياله ومجتمعه فيكون معروفك هنا نقمة على الآخرين ويسبب لهم الآلام والمساوىء ولذا فإنه يذهب ضياعاً في الدنيا.
وأما أنه يذهب ضياعاً في الآخرة أيضاً فلأنك من صنع المعروف ترج_و رضى اللّه سبحانه ورحمته. وهذه إنما تحصل عليها إذا كان عملك للمعروف يقود من أحسنت إليه إلى الخير والأفعال الحسنة فكيف به إذا كان عند اللّه تعالى تعاونه على المعصية والإثم والعدوان إن ذلك سيعود عليك وعليه بالنقمة والعقاب الأليم.
روي في هذا الصدد أن أعرابياً أصاب جرو ذئب فاحتمله إلى خبائه وقرب له شاة فلم يزل يمتص من لبنها حتى سمن وكبر ثم شدّ على الشاة فقتلها فأنشد الأعرابي بعض الأبيات يشرح فيها الحالة يقول :
ص: 94
قتلت شويهتي وفجعت قلبي***وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذیت بدرها وربيت فينا***فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء***فلا أدب يفيد ولا أديب (1)
وروي : أثار جماعة من العرب ضبعاً فدخلت خباء شيخ منهم : فقالوا : أخرجها، فقال : ما كنت لأفعل وقد استجارت بي. فانصرفوا وقد كانت هزيلاً فأحضر لها حليباً وجعل يسقيها حتى عاشت، فنام الشيخ ذات يوم، فوثبت عليه فقتلته. فقال شاعرهم في ذلك :
ومن يصنع المعروف مع غير أهله***يلاق الذي لاقى مجير أم عامر
أقام لها لما أناخت ببابه***لسمن ألبان اللقاح الدوائر
فأسمنها حتى إذا ما تمكنت***فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من***يجود بإحسان _ إلى غير شاكر (2)
قال بعض الحكماء : المعروف إلى الكرام يعقب خيراً، وإلى اللئام يعقب شراً، ومثل ذلك مثل المطر يشرب منه الصدف فيعقب لؤلؤاً، وتشرب منه الأفاعي فيعقب سماً يقول أحد الأدباء :
أرى الإحسان عند الحرديناً***وعند النغل منقصةً وذما
كقطرٍ صار في الأصداف دراً***وفي شدق الأفاعي صار سما
وهذا ما أكدته الروايات أيضاً.
عن عبد اللّه بن الحارث الهمداني عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)في حديث قال :
«أيها الناس إنه ليس من الشكر لواضع المعروف عند غير أهله إلا محمدة اللثام وثناء الجهال فإن زلت بصاحبه النعل فشر خدين وألأم خلیل» (3).
ص: 95
وعن المنصوري عن عم أبيه عن الإمام علي بن محمد عن أبيه عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال : قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
خمسة تذهب ضياعاً :
سراج تفسده في شمس، الدهن يذهب والضوء لا تنتفع به، ومطر جود على أرض سبخة، المطر يضيع والأرض لا تنتفع بها، وطعام يحكمه طاهيه يقدم إلى شبعان فلا ينتفع به. وامرأة حسناء تزف إلى عنين فلا ينتفع بها، ومعروف يصطنع إلى من لا يشكره» (1).
ص: 96
ص: 97
ص: 98
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : سيد الأعمال ثلاث خصال : إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّوجل، وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال» (1).
مما ثبت في الشريعة المقدسة أن الأعمال لها مراتب متفاوتة.
فمن الأعمال ما هو رفيع وعال وله المرتبة السامية في الفضائل.
ومنها ما هو متوسط. ومنها ما هو في المرتبة الأدنى.
وكلما كان العمل صعباً وش_اق_اً ويحتاج إلى قدر كبير من الصبر والاستقامة فإن مرتبته تكون أعلى.
ولذا ورد في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«أفضل الأعمال أحمزها (2) أي أصعبها وأشدها زحمة على الإنسان
ص: 99
ومن الواضح أن العمل الصعب يكون أجره وثوابه عند اللّه تعالى وأثره عند الناس أيضاً أكبر..
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ثواب العمل على قدر المشقة فيه» (1).
كما ورد في الروايات من صفات رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)قال :
«إنه ما عرض له قط أمران إلا وأخذ بأشدهما» (2).
وهذه الأعمال الثلاثة التي جاءت على لسان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لها مقام السيادة والفضل على سائر الأعمال الأخرى لأنها تتطلب من الإنسان روحاً رفيعة وعقلاً رزيناً ونفساً متواضعة وباختصار شخصية قوية مفعمة بالفضائل ومعالي الأخلاق فكم يحتاج الإنسان الميال لمصالحه الخاصة من صبر وفداء وتفاني لكي يتمكن من إنصاف الناس من نفسه ويأخذ ما نفسه ويأخذ ما هو حقه ويعطي للآخرين حقوقهم ؟
وكم يتطلب الإنسان من جهد وإيثار وشعور ومحبة للآخرين لكي يمتلك نفسه ويقف أمام رغباته حتى يواسي إخوانه ويناصفهم الهموم والمشاكل ويعينهم في الحاجات بلا مقابل وفي سبيل اللّه سبحانه وتعالى ؟
وفوق ذلك كله كم الإيمان والبصيرة والحب اللّه سبحانه وتعالى يحتاجها الإنسان حتى يكون ذاكراً لربه سبحانه على كل حال في الشدة والرخاء وفي السراء والضراء وفي الليل والنهار وفي جميع حالاته.
وعلى أي حال فلأهمية ذكر اللّه سبحانه وأثره الكبير في سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وفضله العظيم الذي جاء في العديد من الروايات والآيات سيدور بحثنا عن الذكر وأقسامه وفضائله.
ص: 100
الذكر كما قال الراغب الأصفهاني في المفردات (1) :
الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه والذكر يقال اعتباراً باستحضاره.
وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول. ولذلك قيل : الذكر ذكران ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ وكل قول يقال له ذكر. ومن يعرف أن الذكر يقال ويراد منه وجوه متعددة.. إذ ربما يرد الذكر في مقابل الغفلة كقوله تعالى :
«...وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» (2).
والغفلة تعني اقتفاء العلم بالعلم مع وجود أصل العلم فالذكر يكون خلافه وهو العلم بالعلم. س
وأحياناً يرد الذكر في مقابل النسيان.. والنسيان.. زوال صور العلم عن خزانة الذهن فيكون الذكر خلافه ومنه قوله تعالى :
«...وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا» (3).
وأحياناً يطلق الذكر ولا يقع مقابل الغفلة ولا النسيان بل له معنى خاص به وهو الاستمرار أو الكثرة كما في قوله تعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا» (4).
ص: 101
وأيضاً قوله تعالى :
«...فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا...»(1).
ولعل المعنى الجامع لهذه الوجوه هو : إن الذكر عبارة عن حضور المعنى الدال على المذكور عند النفس وأحياناً يكون الحضور عند النفس بواسطة اللفظ فيعبر عنه الذكر اللفظي.
وأحياناً يحضر عند النفس بواسطة الفكر والقلب والخواطر فيسمى الذكر القلبي وطبعاً المقصود هنا من الذكر هو ذكر اللّه سبحانه وتعالى كما ورد في الحديث وذكر اللّه على كل حال.
يمكن أن نقسم الذكر إلى أقسام ثلاثة متباينة
فقسم يرتبط بعالم التكوين وقسم يرتبط بعالم التشريع وقسم يرتبط بعالم الأفعال وطبعاً هذه الأقسام استقرائية وليست عقلية بحيث تنفي م_ا عداها.
والأقسام هي :
1 - الذكر التكويني
٢ - الذكر التدويني
3 - الذكر العبادي
وسنوضح بعضها إجمالاً مع بعض التفصيل للقسم الثالث منها.
من الثابت في علم الحكمة والكلام أن كل شيء في الوجود دليل على وجود اللّه سبحانه وتعالى ومذكر بوجوده وحكمته يسميه القرآن الذكر أحياناً كما سنبين خلال الحديث وأحياناً أخرى يسميه الآية أي العلامة الدالة عليه سبحانه قال تعالى :
ص: 102
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (1).
قال الشاعر :
وفي كل شيء له آيةُ***تدل على أنه واحد
وأحياناً يسميه الذكر كما سنبين من خلال الحديث.. نعم أصل الوجود للأشياء دليل على أصل وجود اللّه تبارك وتعالى بالبرهان الآني كما يقول أهل المعقول والبرهان الآني أن ننتقل من معرفة وجود المعلول إلى معرفة وجود العلّة مثل النهار يكشف عن وجود الشمس. ومن معرفة الدقة والنظام والتنسيق في المخلوقات نتوصل إلى معرفة العلم والحكمة الباهرة في الخالق تبارك وتعالى.
فكل شيء في الوجود مذكر بوجود اللّه إذ من رؤية المخلوقات تستحضر النفس وجود الخالق وتستدل عليه فيكون المخلوق ذكراً للخالق تعالى.
ولكن المخلوقات في دلالتها على اللّه تعالى متفاوتة فبعض المخلوقات دلالتها واضحة وصريحة وعميقة وبعضها أقل وبعضها أكثر قلة.
من الثابت في بعض الآيات القرآنية أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أقوى دليل مذكر باللّه سبحانه وتعالى من صفاته وطباعه وأخلاقه وسيرته وسلوكه وفي كل خصلة فيه. لأنه إلهي الطباع والأخلاق وكما قال هو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«أنا أديب اللّه وعلي أديبي» (2).
قال سبحانه وتعالى :
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (3).
ص: 103
جاء في تفسير الصافي للفيض الكاشاني (قدّس سرّه) لدى تفسير هذه الآية نقلاً عن عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ».. إن الذكر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ونحن أهله (1) قال وذلك يبين في كتاب اللّه عزّ وجلّ حيث يقول :
«...فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...» (2).
وأكثر المفسرين قالوا إن الذكر هو رسول اللّه وقد عبر عنه القرآن ب (انزل) باعتبار أنه مبعوث من طرف اللّه عزّ وجلّ وهو العالي إلى الداني وهو الإنسان تشبيهاً للنزول المعنوي بالنزول المادي الحسي من الأعلى إلى الأسفل.
ولعلّ مما يستدل فيه على أن وجود رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مذكر باللّه عزّ وجلّ قوله تعالى «يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ» فإن مبينات حال من آيات اللّه بمعنى أن وجوده شارح ومبين لآداب اللّه تعالى وأخلاقه. فرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أعلى مراتب الذكر تكويناً في أصل وجوده وفي صفاته وشمائله، بل وعمله أيضاً ذكر اللّه سبحانه كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصفه للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر اللّه» (3).
ومن الثابت في محله أيضاً أن أهل البيت من هم أيضاً تبعاً لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أعلى مراتب الذكر تكويناً فإن أولهم محمد وأوسطهم محمد وكلهم محمد كما في الروايات المتواترة عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
جاء في تفسير الصافي للآية (٤٣) من سورة النحل «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» قال في الكافي والقمي والعياشي في أخبار كثيرة أن رسول اللّه
ص: 104
الذكر وأهل بيته المسؤولون هم أهل الذكر أما المرتبة المتوسطة في الذكر التكويني فهم العلماء باللّه سبحانه لأن مرتبتهم المعنوية تأتي بعد النبي والأئمة (عليهم الصلاة والسّلام).
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم» (1).
وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً :
«العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء» (2).
وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً :
«من جاءه أجله وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة» (3).
وفي الترغيب حديث آخر موضح للدرجة :
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«من جاء أجله وهو يطلب العلم لقي اللّه تعالى ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة» (4).
وعن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً :
«النظر في وجوه العلماء عبادة».
سئل جعفر بن محمد الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنه فقال :
«هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرك بالآخرة ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة» (5).
ص: 105
وفي بعض الروايات تصف العلماء تقول :
«من تذكرك اللّه رؤيته»
وعلى أي حال فإن وجود العالم وشخصية العلماء من الذكر التكويني وبعدها تأتي سائر الآيات الخلقية الأخرى أضعف في الرتبة والدلالة
وهو قسمان هما :
١ – القرآن.
٢ – البرهان.
أما القرآن فلأنه مذكر للإنسان بالمبدأ وهو اللّه سبحانه وتعالى والمنتهى وهو الآخ_رة وما بينهما وهو النعم الإلهية التي تتقوم بها حياة الإنسان واستمراريتها من المأكل والمشرب والملبس والأموال والأزواج والأولاد ونحو ذلك وكيفية التعامل معها. وقد جاءت آيات عديدة في القرآن الكريم أطلقت اسم الذكر على القرآن الحكيم منها قوله تعالى:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (1).
وقد اتفقت كلمة المفسرين على أن الذكر المراد منه هنا القرآن الكريم.
وسمّي القرآن الكريم بالذكر هنا لأنه يذكر الإنسان بالعقيدة والنظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل وغفل عنها.
جاء في تفسير مجمع البيان في تفسير الآية «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» أي القرآن. «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».. عن الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير (2).
وفي آية أخرى يبين اللّه سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم يرسم للناس
ص: 106
طريق الشريعة والأحكام بقوله تعالى :
«....وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (1) أي إن الأحكام والشرائع والدلائل على توحيد اللّه فيعلموا أنه حق وفي هذا دلالة على أن اللّه سبحانه وتعالى أراد من جميعهم التفكر بالنعم الإلهية وعدم نسيانها.
وفي آية أخرى قال تعالى :
«وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» (2).
وأراد في الذكر القرآن لأنه ذكر ثابت نافع دائم نفعه إلى يوم القيامة. ولعله سماه مباركاً لوفور فوائده المعنوية والمادية من المواعظ والزواجر والأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق، والأخلاق وشفاء الأمراض والأسقام ونحو ذلك.
وفي آية أخرى يصف اللّه تبارك وتعالى القرآن الحكيم بالذكر على بعض الاحتمالات المذكورة فيها.. ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) أهل الذكر في سورة النحل آية ٤٣ قوله تعالى :
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (3).
[قال في مجمع البيان لدى تفسير الآية «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» فيه أقوال :
ثالثها أن المراد بهم أهل القرآن لأن الذكر هو القرآن الكريم ويقرب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر سلف أنه قال :
«نحن أهل الذكر»](4).
ص: 107
وفي الكافي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الذكر القرآن ونحن قومه ونحن المسؤولون» (1).
وفي العياشي عن البقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ...» إنهم اليهود والنصارى قال : إذاً يدعونكم إلى دينهم ثم مال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر نحن المسؤولون» (2).
البرهان :
لعلّ سائلاً يقول : كيف يكون البرهان ذكراً ؟
والجواب : لأن الذكر كما تقدم له معنى مشترك جامع لوجوهه العديدة : وهو حضور المعنى الدال على المذكور في النفس وهذا المعنى كما ينطبق على الذكر التكويني والقرآن من الذكر التدويني كذلك ينطبق على البرهان أيضاً. وذلك لأن البرهان يحضر المعنى الدال على المطلوب المستدل عليه في النفس فيكون ذكراً ولذا فإن الإنسان الذي يريد أن يستدل على وجود اللّه سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته لا بد له من إقامة البرهان لكي يتوصل إلى المطلوب. فيكون الدليل أو البرهان المكون من الصغرى والكبرى كما يعبر أهل المنطق باعثاً لإحضار المطلوب في ذهن المستدل ومذكراً به ولهذا ذكر بعض المفسرين وجوهاً لتفسير هذه الآية من سورة «یس» قال سبحانه وتعالى :
«إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» (3).
قال (اتبع الذكر) يحتمل وجوهاً
ص: 108
الثالث : من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة (1).
نعم كون البرهان من معاني الذكر يجري في البرهان الآني الذي ينتقل فيه من معرفة المعلول إلى معرفة العلة بعكس اللمي الذي ينتقل فيه من معرفة العلة أولاً ثم المعلول ثانياً.
وعنينا بالذكر هنا ذكر اللّه سبحانه وتعالى كما تقدم فلا بد أن تكون معرفته سبحانه مجهولة لنا ثم نقيم البرهان لنعلم بها.. وذلك بعد مشاهدة المعلولات ومعرفتها نستدل عليها بواسطة البرهان وواضح أن هذا يجري في الآني دون اللمي لأن اللمي إنما يجري بعد الفراغ عن معرفته سبحانه بينما هنا نتوصل به إلى معرفته سبحانه واللّه أعلم.
لعلّ حقيقة العبادة تتمثل في أمرين هما
1 - استقرار معنى العبودية للّه في النفس بمعنى استقرار الشعور بأن هناك رباً وهناك عبداً.. أي عابداً ومعبوداً.
٢ - التوجه إلى الرب بكل حركة في القلب أو الضمير أو الجوارح بل وكل حركة في الحياة يتجرد منها الإنسان عن كل معنى غير العبودية للّه سبحانه.
ومن هنا قسم علماء الأخلاق الذكر العبادي إلى أقسام ثلاثة.
1 - ذكر اللسان
٢ - ذكر القلب
٣ - ذكر الجوارح
والأول يشمل الدعاء والصلاة والتسبيح والتهليل ونحو ذلك
قال تعالى :
ص: 109
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (1).
فقد جاء في تفسير هذه الآية (الذكر) بمعنى الصلاة.
وقد جاء الذكر بمعنى الدعاء والتسبيح عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«وإن ربي أمرني أن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً ونظري عبرة» (2).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«طوبى لمن صمت إلا من ذكر اللّه» (3).
وهناك آثار مادية ومعنوية كثيرة للذكر اللساني وردت عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه مالك قال :
«كان أبي كثير الذكر وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا ومن كان لا يقرأ أمره بالذكر» قال :
والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر اللّه عزّ وجلّ فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر اللّه فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين ثم قال : جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : من خير أهل المسجد ؟ قال : «أكثرهم اللّه ذكراً» (4).
والظاهر أن المراد من البركة الدوام والعاقبة الحسنة. ولعلّ ذكر اللسان من أظهر مصاديق الذكر ولذا ينصرف أولاً من كلمة الذكر إلا أنه لا ينفي ما عداه من معاني الذكر الأخرى كذكر القلب وذكر الجوارح.
ص: 110
قال تعالى :
«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (1).
لتوضيح ذكر القلب نقدم مقدمة وهي : إن الموجودات في هذا العالم على ثلاثة أقسام :
1 - موجود مؤثر فقط ولا يتأثر.
2 - موجود متأثر فقط ولا يؤثر.
٣ - موجود يؤثر في أشياء ويتأثر من أشياء.
فالموجود الأول الذي هو مؤثر ولا يتأثر هو اللّه سبحانه وتعالى كما يقول أهل الحكمة «لا مؤثر في الوجود سوى اللّه عزّ وجلّ».
والموجود الذي يتأثر بلا أن يؤثر هو الجسم فإن الجسم المادي ذو قابلية لعروض الصفات المختلفة من السواد والبياض والطول والقصر ونحوها والآثار المتنافية من الحركة والسكون وغير ذلك فليس للجسم خاصية إلا القبول فقط، فتأمل وأما الموجود الذي يقع مؤثراً ومتأثراً معاً فهي الموجودات الروحانية فهي موجودات بين الحقيقة المجردة والحقائق المادية فإذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة اللّه تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده فإذا توجهت إلى عالم الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح والمجردات مدبر لعالم الأجسام والماديات كما ثبت في محله.
ومن هنا نعرف أن القلب كلما توجّه إلى عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف بها.
أما إذا توجه القلب إلى المعنويات والحضرة الإلهية بالذكر والتقديس والمعرفة حصلت فيه الأنوار الإلهية والطاهرة المعنوية فيستقر ويطمئن.
ص: 111
كقوله تعالى «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (1).
فالقلوب التي دخلها ذكر اللّه سبحانه وتعالى آمنة مطمئنة وذلك لأنك إذا عرفت أن عليك رباً سيداً إذا أنعم عليك أراد منك الشكر وإذا ابتلاك جازاك بالأجر والثواب قلبك يطمئن، ولم يكن كالقلب القلق، الذي تخرجه النعمة إلى الإفراط والبلية إلى التفريط ولذا كان الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في يوم عاشوراء عندما أثخنته الجراح وكما جاء في كتاب الجلاء للعلامة المجلسي :
«ثم ودع ثانياً أهل بيته وأمرهم بالصبر ووعدهم بالثواب والأجر وأمرهم بلبس أزرهم وقال لهم : استعدوا للبلاء واعلموا أن اللّه تعالى حافظكم وحاميكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ويعذب أعاديكم بأنواع البلاء ويعوضكم اللّه عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» (2).
فإن قلبه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان مطمئناً لأن ما يلاقيه من بلاء وامتحان هو في سبيل اللّه عزّ وجلّ، واللّه ناظر إليه وشاهد فكان مطمئناً من المصير والعاقبة.
عن الحارث قال : قال لى على (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«ألا أعلمك دعاء علمنيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
قلت بلى : قال : قل اللّهم افتح مسامع قلبي لذكرك وارزقني طاعتك وطاعة رسولك وعملاً بكتابك» (3).
كما ورد في مناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إلهي بك هامت القلوب الوالهة وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة فلا تطمئن القلوب إلا بذكرك ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك» (4)
ص: 112
عن سلمان (رَحمهُ اللّه) : سمعت محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول إن اللّه عزّ وجلّ يقول : يا عبادي أو ليس من ل_ه إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم تقضونها كرامة لشفيعهم ؟ ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد وأخوه علي ومن بعده من الأئمة الذين هم الوسائل إلي، فليدْعُني من همته حاجة يريد نفعها أو دهته داهية يريد كشف ضرها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن ما يقضيها من يستشفعون بأعز الخلق عليه.
فقال له قوم من المشركين والمنافقين - وهم المستهزئون به - يا أبا عبد اللّه فما لك لا تقترح على اللّه بهم أن يجعلك أغنى أهل المدينة ؟
فقال سلمان : دعوت اللّه وسألت ما هو أجلّ وأنفع وأفضل من ملك الدنيا بأسرها، سألت بهم أن يهب لي لساناً ذاكراً لتحمي_ده وثنائه وقلباً شاكراً لآلائه، وبدناً على الدواهي صابراً، وهو عزّ وجلّ قد أجابني (1).
وهو أن يكون الإنسان دائماً في ذكر اللّه تعالى في كل موقف وخطوة يخطوها كل بحسبه.. فاليد إذا كانت في ذكر اللّه سبحانه وتعالى لم تسرق ولم تعتد والعين إذا كانت في ذكر اللّه سبحانه لم تخن.. والبطن إذا كانت في ذكر اللّه سبحانه لم يدخلها الحرام وهكذا سائر الأعضاء والجوارح ففي حديث المعراج «ودم على ذكري».
فقال : يا رب وكيف أدوم على ذكرك فقال : بالخلوة عن الناس وفراغ بطنك وبيتك من الدنيا» (2).
لذكر اللّه تعالى فوائد عديدة جاءت في الروايات منها :
ص: 113
1 - الذكر مفتاح الخير
عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أعماله في السر والجهر» (1).
وفي الحديث القدسي :
«أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه» (2).
٢ - الذكر سعادة الحياة.
قال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«اذكروا اللّه ذكراً خالصاً تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طرق النجاة» (3).
٣ - الذكر بصائر وهدى في الدنيا والدين
قال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«الذكر نور ورشد» (4).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
«الذكر يؤنس اللب وينير القلب ويستنزل الرحمة»(5) .
وعنه الحق قال :
«ذكر اللّه ينير البصائر ويؤنس الضمائر» (6).
ص: 114
٤ - الذكر مطردة الشيطان
قال علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«ذكر اللّه مطردة للشيطان» (1).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«ذكر اللّه دعامة الإيمان وعصمة من الشيطان» (2).
٥ - الذكر أمان أمان من النفاق.
عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أصلح صلاح القلب اشتغاله بذكر اللّه» (3).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أفيضوا في ذكر اللّه جلّ ذكره فإنه أحسن الذكر وهو أمان من النفاق وبراءة من النار وتذكير لصاحبه عند كل خير يقسمه اللّه عزّ وجلّ وله دوي تحت العرش» (4).
وهناك فوائد عديدة أخرى ذكرت في كتب الروايات
بقي هنا شيء وهو أن نبين ما هو المراد من الذكر الكثير أو ذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال كما جاء في بداية البحث
سيد الأعمال ثلاث خصال، «ذكر اللّه على كل حال».
قال سبحانه وتعالى :
«يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً» (5).
ص: 115
وقد اختلف في بيان معنى الذكر الكثير هنا إلى أقوال منها :
الذكر الكثير :
أولاً : هو أن لا ينساه أبداً
ثانياً : أن يذكره سبحانه وتعالى بصفاته العليا وأسماءه الحسنى وينزهه عما لا يليق به.
ثالثاً : أن يقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر.
وقد ورد عن أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنهم قالوا :
«من قالها ثلاثين مرّة فقد ذكر اللّه كثيراً».
وعن زرارة وحمران ابني أعين عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من سبح تسبيح الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) فقد ذكر اللّه ذكراً كثيراً» (1).
ص: 116
ص: 117
ص: 118
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: ثلاث من لم تكن فيه لم يقم له عمل ورع يحجزه عن عاصي اللّه عزّ وجلَّ، وخلق يداري به الناس وحلم يرد به جهل الجاهل» (1).
طبائع الأفراد في المجتمع مختلفة....فبعض الأفراد له طبيعة الانكماش والانغلاق على نفسه فلا يتصل بأحد من الناس ولا يعاشر الآخرين إلا فى دائرة ضيقة جداً ومحدودة ولذا فهو بعيد كل البعد عن المجتمع والحياة فلا يعرف عن الناس شيئاً ولا يشاركهم في آمالهم وآلامهم أفراحهم وأحزانهم وهذه الحالة تعتبر حالة مرضية لدى علماء النفس والاجتماع لأن الإنسان اجتماعي بالطبع فإذا وجدت فيه حالة مغايرة لهذه الطبيعة تعد هذه الحالة شاذة منحرفة عن القانون الإنساني العام.. وقد أثبتت التجارب الاجتماعية خطورة هذه الحالة وآثارها السيئة الكبيرة على الفرد نفسه وعلى أسرته ومجتمعه أيضاً.
ولهذا شدد الإسلام في القضاء على هذه الحالة في نصوص كثيرة
ص: 119
وردت عن الأئمة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) فبعض الأحاديث جعلت مكانته بین
المؤمن والمؤمن المنعزل وفضلت الأول على الثاني فمنها ما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (1).
والظاهر أن الأفضلية تكون بالمعرفة والتجربة والعطاء والتأثر والتأثير..لأن الإسلام دين الإنسانية ودين الحياة.
ردع في بعض الأحاديث الأخرى بعض التوجهات التي كانت تنشأ عند بعض المسلمين نحو التعبد وصرف كل أوقاتهم في العزلة والعبادة بلا معايشة مع الناس في رواية أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقد رجلاً فسأل عنه فجاء فقال : يا رسول اللّه إني أردت أن آتي هذا الجبل فأخلو فيه فأتعبد.
فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«لصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة» (2).
فالعزلة منبوذة في الإسلام.. وطبعاً هذه لا تختص بالأفراد فقط إذ يرى أيضاً علماء الاجتماع أن المجتمعات أيضاً تنقسم إلى مجتمعات مغلقة منطوية ومجتمعات منفتحة. ويجرون مقارنات عميقة في الأدوار والنتائج بين كل قسم وقسم وذكروا لها بعض السمات والخصائص.
١ - المجتمع المنغلق : يقدس نفسه ويريد كل خير لنفسه بينما لا يرى محاسن الغير كما لا يرى معائب نفسه أيضاً ويسمون هذا المجتمع بأنه أناني جاهل منكمش لا يمر زمان.. طال أو قصر إلا وينعزل عن المجتمع الإنساني والدولي بل وأحياناً ينقسم على نفسه ويتعرض إلى التمزق والاضمحلال.
ص: 120
2 - أما المجتمع المنفتح حيث إنه متوازن يرى معايب نفسه كما يرى محاسن نفسه أيضاً إلى جانب رؤيته لمحاسن غيره ومعايب غيره ويقولون إن هذا المجتمع متكامل متصاعد نامي يحظى بالمكانة في المجتمع الإنساني والدولي إذ غالباً يمتاز هذا النوع من المجتمع بالواقعية والتواضع والميل نحو التقدم والثقافة ويسمونه المجتمع المنطلق.
وفي هذا جاءت نصوص الإسلام أيضاً.
عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته لابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«يا بني اجعل نفسك ميزاناً ما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ولا تقل ما لا تحب أن يُقال لك» (1).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
«ومن نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه».
وعلى أي حال فإن العزلة سواء الفردية منها أو الاجتماعية من المسائل الخطيرة التي لا تعود على الإنسان ومجتمعه بالخير والمنفعة
هذان صنفان من الأفراد في المجتمع.
وهناك صنف آخر من الأفراد يتمتع بسمة المعاشرة والمخالطة مع الناس ولكنه يتخذ جانب المخالطة السلبي فتكون عاقبته هو الآخر كالأول إذ ينعزل عنه الناس وينفرون من حوله وهؤلاء هم سيئو الأخلاق والآداب والمعاشرة. إذ إن الناس بطبعهم لا يحبون الفظ الغليظ الذي لا يعاشر بالمعروف ولذا يكون مصير الفظ الغليظ العزلة الاجتماعية ولكن الفرق بين القسم الأول
ص: 121
والثاني هو أن الأول ينعزل عن المجتمع، أما القسم الثاني فإن المجتمع هو الذي يعزله ويطرده من محافله.. ولعل مصير هذا أسوء من مصير الأول.
أما القسم الثالث : فهم الأفراد الذين يتخذون الجانب الإيجابي للمعاشرة في المجتمع وهؤلاء الذين يعاشرون ويألفون ويؤلفون.. وهم الغالبية في المجتمع حيث يتكيفون مع الناس في أفراحهم وأحزانهم ويشاركونهم في آلامهم وآمالهم..
ولكن في هذا الصنف من الأفراد توجد ثلة جيدة تحظى بقصب السبق في العلاقات الاجتماعية وترتقي مقام القيادة والوجاهة والسمعة الحسنة بين جميع هؤلاء الذين أشار إليهم الحديث الشريف الوارد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث عبر الحديث ب_ (لا يقوم له عمل) أو (لم يقم له عمل) أي يستمر وينجح.
بمعنى آخر أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يتحدث في كلامه هذا کلامه هذا مع الناجحين امع في الحياة لا مع الفاشلين.
ومن الواضح أن الإنسان الناجح في الحياة لا بد وأنه يتمتع بخصائص وصفات خاصة تؤهله للنجاح وتكسبه الظفر حتى تستمر أعماله ونشاطاته وتنجح ولا يعتريها خلل أو نقص وهذه الثلاثة هي :
١ - الثقة
2 - حسن الإدارة
٣- المحبة والعاطفة
فإن من يعيش حياته بنجاح سواء مع نفسه أو مع أسرته أو مع مجتمعه لا بد وأن يحظى بثقة عالية بنفسه أولاً، ثم يحظى بثقة أسرته به، ثم يحظى بثقة مجتمعه به حتى يتبوأ في القلوب مكانته ثم يتمتع بحسن الإدارة والمداراة والتعامل مع الناس بأفضل صورة وبأحسن طريقة حتى يتبوأ مقام الوجاهة والتمثيل.
ص: 122
وثالثاً لا بد وأن يتمتع بالعاطفة والمحبة الفائضة كي يتعامل فيه_ا مع الآخرين إذ غالباً العاملون في المجتمع يواجهون فئتين من الناس :
١ - فئة إيجابية تنافسهم على عمل الخير
2 - فئة سلبية تحسدهم على عمل الخير فتضع العراقيل أمامهم بل وأحياناً تحاربهم وتحاول إسقاطهم في المجتمع.
والإنسان الناجح بلا فرق بين الناجح في العلم أو في التجارة أو في المقام الاجتماعي والسياسي.. كل إنسان ناجح لا بد وأن يتمتع بعاطفة ومحبة كبيرة لكي يتعامل مع منافسيه بالمحبة والاحترام وكسب مودتهم وقلوبهم. كما يتعامل مع حاسديه بالمحبة والتعاطف أيضاً لغرض كسبهم وهو الأهم أو لا أقل من تقليل عداءهم وتحييد مواقفهم السلبية وهو المهم.
وهذه السمات الثلاث للناجحين في المجتمع أشار إليها الحديث الشريف بهذه الفقرات الثلاث.
١ - ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ وجلَّ لأنه مضافاً إلى أبعاده الغيبية من شأنه أن يجعل الإنسان الورع محل ثقة الجميع.
2 - خُلق يداري به الناس لأن صاحب الخلق يتمتع بإدارة جيدة.
3 - وحلم يرد به جهل الجاهل. وهذه الفقرة تشير إلى جانب العطف والمحبة الاجتماعية.
هذا وجه الربط بين فقرات الحديث. والآن لنرّ كيف تؤثر هذه الأمور الثلاثة في ديمومة الأعمال في المجتمع وموفقية أصحابها.. (لم يقم له عمل).
ذكر علماء الأخلاق للورع معنيين أحدهما خاص بالمال والثاني عام
ص: 123
يشمل كل المعاصي.
أما الخاص فهو : الاجتناب والتنزه عن المال الحرام : أكلاً وطلباً أو أخذاً أو استعمالاً.
قال تعالى :
«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...» (1).
وأما العام فهو كف النفس عن مطلق المعاصي ومنعها عما لا يليق ولا ينبغي.
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
قال اللّه عزّ وجلَّ : «يا بن آدم اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس» (2).
والظاهر أن الورع هنا مرادف للتقوى.. فإن التقوى أيضاً لها اصطلاحان خاص وعام كما جاء في بعض الأحاديث الشريفة...
فالتقوى بالمعنى الأول الانقاء عن الأموال المحرمة. وبالمعنى الثاني ملكة الاتقاء عن مطلق المعاصي خوفاً من سخط اللّه سبحانه وطلباً لرضاه...
والورع بكلا قسميه له دور كبير في زرع الثقة في قلوب الناس تجاه المتورع ولكن المعنى الثاني وهو الكف عن مطلق المعاصي أفضل وأهم وهو الذي نقصده في هذا الحديث.
فعندما نقول فلان متورع وهو يحظى بثقة المجتمع نقصد منه الورع في كل شؤون الحياة المالية وغير المالية.
إن الإنسان الوجيه والمعتبر في المجتمع هو الذي يتورع في بيعه وشرائه في مأكله ومشربه ومشربه.. في كلامه وفي لباسه وفي كل حركاته وسكناته
ص: 124
وبتعبير أدق : الإنسان المتورع هو الذي يحفظ كل حواسه الخمسة من لامسة وباصرة وسامعة وذائقة وشامة عن كل انحراف وزيغ وإثم وعصيان.. ولذا فإنه ليس يحصل على الثقة التامة من قبل الجميع تجاهه بل قلبه في راحة ونفسه في هدوء وباله في اطمئنان أما غير المتورع فهو شارد اللب مختبط العقل يدور ولا يجد راحة ويركض ولا يصل إلى عاقبة حسنة فضلا عن انفضاض الناس من حوله.
لذا حذر الإسلام في أحاديث كثيرة من ارتكاب المعاصي ومدح الورع والتقوى.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«خير دينكم الورع» (1).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن اللّه ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب ويرزقه من حيث لا يحتسب» (2).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«ما نقل اللّه عبداً من ذل المعاصي إلى عزّ التقوى إلا أغناه من غير مال وأعزه من غير عشيرة وآنسه من غير بشر» (3).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى» (4).
وذلك لما تقدم من أن المجتمع يثق بالمتقين الورعين ولذا يلتف الناس حولهم فيأمنونهم أموالهم وأعراضهم وأديانهم فيكونون أغنياء ولا مال لهم
ص: 125
وأعزاء ولا عشيرة لهم وآنسين مأنوسين حتى لو كانوا أفراداً لأن من حظي بمحبة الناس فإن قلبه سيكون آمناً مطمئناً.
وإليكم هذه القصة : نقل في الجزائر وتونس أن هناك شركة كبيرة لها عمال كثيرون أعلنت في أول يوم من شهر رمضان المبارك أن كل موظف إذا صام في شهر رمضان فله نصف الراتب وإذا لم يصُم وأفطر سنعطيه كل الراتب.. وعللت ذلك بأن الصائم يضعف عن العمل بسبب الصوم فلا يتمكن من إنجاز الأعمال بينما المفطر يبقى قوياً فيتمكن من إنجاز أعماله فجماعة كثيرة فيهم أفطروا، حتى لا تنقص رواتبهم ولكن جماعة قليلة منهم لم تعبأ بهذا الكلام وصامت شهرها.
فلما جاء آخر الشهر أعطوا للصائمين الراتب الشهري كاملاً بينما دفعوا للمفطرين نصفه.. فاعترض المفطرون فاعترض المفطرون على ذلك ونددوا بالموقف فقال لهم مدير الشركة :
إن الصائمين يستحقون ذلك لأننا نثق بهم لأنهم لم يتركوا طاعة ربهم لأجل المال أما أنتم فلأجل المال تبذلون كل شيء وتعصون ربكم.
لعل سائلاً يسأل : ما علاقة حسن الخلق بالإدارة والمداراة ؟
الجواب :
لأن حسن الخلق.. حالة نفسية - ملكة - تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة وطيب القول والإحسان في المعاملة
وهل هذه إلا إدارة ومداراة ؟
ولهذا عرف الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حينما سئل عن حد حينما سئل عن حد حسن الخلق ومعناه
ص: 126
قال : «تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن» (1).
وعن حبيب الخثعمي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم» (2).
والأكناف جمع كنف وهو الناحية والجانب.. وهو كناية عن أن الناس يعيشون حولهم بحرية وأمان كما أن من لا يهتم بوطىء الناس فراشه وبساطه لا يبتعد الناس من حوله بخلاف من لا يدع الناس يطئون بساطه
ولذا جاء في الحديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (3).
ومن الواضح أن من أكبر الأماني والأمال التي يطمح إليها كل عاقل ويسعى جاهداً من أجل كسبها والحصول عليها هو أن يكون ذا شخصية جذابة ومكانة مرموقة محبباً لدى الناس عزيزاً عليهم.. إذ كل إنسان بفطرته يميل إلى حب ذلك.
ولكن هذا مقام عظيم لا ين_ال_ه إلا ذوو الفضائل والهمم وأصحاب الأخلاق الحسنة الرفيعة في المجتمع ولذلك كان حسن الخلق سيد الفضائل وأفضلها.
عن أحمد بن عبد اللّه رفعه قال :
قال لقمان لابنه : «يا بني صاحب مائة ولا تعادي واحد. يا بني إنما خلاقك وخُلقك فخلاقك دينك وخُلقك بينك وبين الناس ولا تبتغض إليهم وتعلم محاسن الأخلاق. يا بني كن عبداً للأخيار ولا تكن ولداً للأشرار. يا بني أدّ الأمانة تسلم لك دنياك وآخرتك وكن أميناً تكن غنياً» (4).
ص: 127
المراد من الخلاق النصيب وهو الخلق لأن نصيب الإنسان إنما يكون بسبب خلقه فهو من باب علاقة السبب والمسبب. أما سلامة الدنيا في قوله (تسلم لك دنياك) لأن الخائن مهان عند الناس مطرود من المجتمع.
أما كيف يكون الأمين غنياً ؟
فلأن الأمين على أموال الناس وأعراضهم وأديانهم يلتف الناس حوله والتفاف الناس يوجب الغنى بإعطاء الحقوق ل_ه مثلاً.. أو يشترون ويبيعون منه وإليه إذا كان صاحب تجارة وهكذا.
ولهذا لا يبعث اللّه سبحانه وتعالى رسله إلا بعد أن يؤدبهم بآداب_ه ويحليهم بهذه الفضيلة العظيمة ويزينهم بها.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يصف أخلاق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«كان أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً. وأصدق الناس لهجةً وأوفاهم ذمماً وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً من رآه بديهة هابه ومن خالطه فعرفه أحبه لم أرَ مثله قبله ولا بعده» (1).
وبهذه الصفات استحق ثناء اللّه جل جلاله بقوله عز من قائل :
«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2).
وحسبنا في هذا أن نذكر بعض النماذج من سيرته العطرة مع القريب والبعيد والعدو والصديق وبهذه السيرة العظيمة نصر الإسلام وجعل رايته ترفرف في كل البقاع والأوطان.
عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
إن يهودياً كان له على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) دنانير فتقاضاه فقال له : يا يهودي ما عندي ما أعطيك. فقال : فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني
ص: 128
فقال : إذن أجلس معك، فجلس معه حتى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة.
وكان أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يتهددونه ويتواعدونه فنظر رسول اللّه إليهم فقال : ما الذي تصنعون به ؟
فقالوا : يا رسول اللّه يهودي يحبسك ؟
فقال : لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره فلما علا النهار قال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وشطر مالي في سبيل اللّه أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلته إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة فإني قرأت نعتك في التوراة :
محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا متزين بالفحش ولا قول الخنا.
وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه وكان اليهودي كثير المال» (1).
وهكذا كان أهل بيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً في مكارم أخلاقهم وسموهم وآدابهم.. إذ كانوا يديرون الناس ويعاشرونهم بالتي هي أحسن والشواهد على ذلك كثيرة في كتب التاريخ.
منها ما جاء عن محمد بن جعفر وغيره قالوا :
وقف على علي بن الحسين مالك رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلمه فلما انصرف قال لجلسائه :
لقد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه.
ص: 129
فقالوا له : نفعل. ولقد كنا نحب أن يقول له - ويقول فأخذ نعليه ومشى وهو يقول : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (1).
فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً.
قال : فخرج حتى أتى منزل الرجل.. فصرخ به.. فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): قولوا له هذا علي بن الحسين. فخرج متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين : يا أخي إنك وقفت علي آنفاً وقلت وقلت فإن قلت ما في فأستغفر اللّه منه وإن كنت قلت ما ليس في فغفر اللّه لك قال : فقبل الرجل بين عينيه وقال :
بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به (2)..
كل إنسان نال مرتبة الصدارة في المجتمع لا بد وأنه كان من أوليات صفاته المميزة الحلم والتحلم وكظم الغيظ لأن سمو المقام ناشيء من سمو النفس وأكبر دليل على سمو النفس هو الحلم وكظم الغيظ.
من هنا مدح اللّه سبحانه الحلماء والكاظمين الغيظ وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم قال تعالى :
«وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» (3).
إن الحلماء بسمو مقامهم وعظمة نفوسهم لا يقابلون الإساءة بالإساءة
ص: 130
والشر بمثله بل هم مع السلام دائماً.. ومع المحبة والوئام أبداً.. حتى مع المخاصمين.
قال تعالى :
«وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (1).
وفي هذا جاءت توصيات أهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ):
قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن اللّه عزّ وجلَّ يحب الحيي الحليم» (2).
وسمع الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجلاً يشتم قنبر خادم الإمام مالك وقد رام قنبر أن يرد عليه فناداه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال له :
«مهلاً يا قنبر دع شاتمك مهاناً ترضي الرَّحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك. فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه» (3).
فالحلم يزرع محبة صاحبه في القلوب حتى يكون جميع الناس أنصاره.
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل» (4).
ص: 131
وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده اللّه عزَّ وجلَّ عزاً في الدنيا والآخرة وق__د قال اللّه عزّ وجلَّ : «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وأثابه مكان غيظه ذلك» (1).
وأحضر الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولده يوماً فقال لهم :
يا بني إني موصيكم بوصية فمن حفظها لم يضع معها إن أتاكم آتٍ فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهاً ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال
لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره» (2).
لعلّ بعض الضعفاء يتصور أن الحلم ليس من دلائ_ل ع_ظ_م_ة النفس وقوتها الشخصية بل من دلائل الضعف ودواعي الهوان !
ولكن العقلاء ومن هو سيد العقلاء كالشارع المقدس والأنبياء والأولياء (عَلَيهِ السَّلَامُ) يرونه من سمات النبل وسمو الخلق ودواعي العزة والكرامة.
فكلما عظم الإنسان قدراً كرمت أخلاقه وسمت نفسه عن مجازاة السفاهة والسفهاء في مواقفهم الطائشة معتصماً بالحلم والعفو وسعة الصدر مما يجعله مثال الحب والإكبار والإجلال
قال الشاعر :
وذي سفه يخاطبني بجهل***فائف أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهةً وأزيد حلماً***كعود زاده الإحراق طيبا
ويقال إن رجلاً شتم أحد الحكماء فأمسك عنه فقيل له في ذلك فأجاب «لا أدخل حرباً الغالب فيها أشر من المغلوب».
ص: 132
ولعلّ من أروع ما قاله الشعراء في الحلم ما رواه الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
حين قال له المأمون : أنشدني أحسن ما رويت في الحلم فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
إذا كان دوني من بليت بجهله***أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من النهى***أخذت بحلمي كي أجل عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى***عرفت له حق التقدم والفضل
فقال المأمون : ما أحسن هذا. من قاله ؟
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : بعض فتياننا (1).
وقد عرف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الأطهار بمواقفهم النبيلة وأنهم لا يقابلون الإساءة إلا بالعفو والحلم والإحسان.
قال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أتى باليهودية التي سمت له الشاة فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟. فقالت : قلت إن كان نبياً لم يضره وإن كان ملكاً أرحت الناس منه.. فعفی رسول اللّه عنها» (2).
سماحة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
وهذا ليس موقفاً شخصياً تعامل فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع اليهودية بل إن سياسته في كل مجالات الحياة كانت الحلم والسماحة.
فقد ذكرت كتب التاريخ أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عفا عن جماعة كثيرة بعد أن أباح دمهم وأمر بقتلهم لمواقفهم وأعمالهم الجنائية.
منهم هبّار بن الأسود بن المطلب.. وكان قد روع زينب بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فألقت ما في بطنها فأباح رسول اللّه دمه لهذه الجناية ولكنه ج_اء
واعتذر إلى رسول اللّه بعد أن ظفر به بعد فتح مكة وقال :
ص: 133
«كنا يا نبي اللّه أهل شرك فهدانا اللّه بك وأنقذنا بك من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك مني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد عفوت عنك. وقد أحسن اللّه إليك حيث هداك إلى الإسلام. والإسلام يجب عما قبله».
ومنهم أيضاً أيضاً عبد اللّه عبد اللّه بن الزبعرى وكان يهجو النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بمكة ويعظم القول فيه فهرب يوم فتح مكة ثم رجع إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فاعتذر فقبل الرسول الكريم عذره.
وغيرهم العشرات والعشرات عاملهم النبي بالحلم. وهكذا كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أحلم الناس وأصفحهم عن المسيء حتى إن مناوئيه السياسيين الذين سببوا المشاكل الكثيرة أبى أن يعاملهم إلا بالحلم.
فظفر بعبد اللّه بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص وهم ألد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء أبداً.
وكذا سائر الأئمة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وخاصة الإمام موسى بن جعفر من حيث لقب ب_ (الكاظم) لوفرة حلمه وتجرعه الغيظ في مرضاة اللّه تعالى :
يتحدث الراوي عن ذلك فيقول
«كان في المدينة رجل من أولاد أحد الصحابة يؤذي أبا الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويسبه إذا رأه ويشتم علياً فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجر لأن من يسب الإمام المعصوم عالماً عامداً حكمه القتل فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم وسأل عنه فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة فركب إليه فوجده في مزرعة له فدخل المزرعة بحماره.. فصاح به لا توطى زرعنا فتوطأه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالحمار حتى وصل إليه ونزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال مائة دينار قال : فكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب.
ص: 134
قال له : إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟ قال : مائتا دينار أرجو أن يجيء قال : فأخرج أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال : هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجو
قال : فقام الرجل فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن خاطره فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف.
قال : وراح إلى المسجد فوجد الرجل جالساً فلما نظر إليه.
قال : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا ما قضيتك ؟. قد كنت تقول غير هذا فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن وجعل يدعو لأبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فخاصموه وخاصمهم فلما رجع أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتله.
«أيما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت. إنني أصلحت أم_ره ب_ال_م_ق_دار الذي عرفتم وكفيت شره» (1).
وقد أحسن الفرزدق حيث يقول في مدحهم.
من معشر حبهم دين وبغضهم***كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم***أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
ص: 135
ص: 136
ص: 137
ص: 138
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : لا تغضب فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحلمه عنهم و إذا قيل لك إتق اللّه فانبذ غضبك وراجع حلمك». (1)
للفضائل الإنسانية مراتب ودرجات متفاوتة فبعض الفضائل لها مقام القمة والرأس بالنسبة لسائر الفضائل الأخرى وبعضها لها مقام الوسط وهكذا...
وكذلك للرذائل الإنسانية مراتب ودرجات متفاوتة ولعلّ أعلى مراتب الرذائل في النفس الإنسانية هو الغضب. فهو أسوأ خلق وأقبح صفة في الإنسان...ويقابله الحلم في الفضائل فإنه أنبل الصفات والشمائل ولذا يقترن مع العلم دائماً بل إن العلم لا يتربع على مقام القمة والفضل إلا إذا اقترن بالحلم كما جاءت بذلك الروايات.
وعلى أي حال نريد أن نتحدث بعض الشيء عن الغضب وح__الات_ه ومساوئه اقتباساً من حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) (يا علي : لا
ص: 139
تغضب) فما هو الغضب ؟
ولماذا قال رسول اللّه لا تغضب...ولم يقل لا تكذب مثلاً أو لا تظلم ؟...وهكذا وطبعاً الحديث من باب الخطاب والغرض منه تعليمنا نحن وتهذيب أخلاقنا نحن من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.. كما قال علماء البلاغة في آيات القرآن الكريم أيضاً حيث ذكروا أنه أنزل القرآن من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.. لأن خطابات القرآن الكريم لرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلا أن الغرض منها أولاً تعليم الناس وتهذيبهم وإلا فإن الرسول قد أدبه اللّه تعالى بآدابه وه_ذب طباعه وعصمه من كل خطأ أو زلل أو رذيلة وهكذا الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسائر الأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام.
ذكر علماء الأخلاق تعاريف عديدة للغضب منها ما جاء في جامع السعادات للمحقق النراقي (قدّس سِرُّه) :
(هو كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل إلى الخارج المغلبة) (1).
ولو أردنا أن نعبر عنه بتعبير أكثر وضوحاً نقول :
هو حالة نفسانية تبعث على هياج الإنسان وثورته قولاً وعملاً وهو مفتاح الشرور ورأس الآثام لأن مبدأ الغضب حب التشفي والانتقام..
ولذا تكاثرت الآثار الشرعية في ذمه والتحذير منه.
عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الغضب مفتاح كل شر» (2).
ص: 140
والظاهر أنه إنما صار مفتاحاً للشرور لما يترتب عليه من مساوىء ومفاسد خلقية وآثار عملية في سلوك الإنسان إذ إن الإنسان الغضوب غالباً يتشبث بالاستهزاء والتعيير والفحش والضرب والقتل والانتهاك لغرض إشفاء غليله من الطرف المقابل...
قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار...» (1).
وذلك لأن كثير الغضب يكون كثير الاعتداء وكثير الآثام حتى إنه أحياناً يرتكب من الذنوب الكبيرة ما لا يعد ولا يحصى نتيجة غضبه كأن يقتل إنساناً أو يفتك به واللّه تعالى يقول في كتابه الحكيم :
«...مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...» (2).
فما ترون من له إثم قتل الناس جميعاً هل يدخل الجنة أم النار ؟
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كتاب له إلى الحارث الهمداني :
«إحذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود إبليس» (3).
وهنا عناية خاصة للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله (جند عظيم) إذ أنه لم يصفه بالمفرد بل بالجمع وبعد الجمع وصفه بالعظمة فهو ليس بجندي واحد بل جند كثيرون وليس جند ضعفاء بل جند عظيم.. وذلك لأن الغضب يستنفر كل قوى الشر في النفس الإنسانية من أجل الانتقام ويثير في نفس الإنسان كل مكامن الحقد والعداء والشر من أجل التشفي فهو وصف واحد ولكن له حالة جماعية في الشر ولذا فهو جند عظيم.. قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم فإن لم يندم فجنونه
ص: 141
مستحكم (1) وما ترون مصير المجنون هل إلى خير أم إلى شر ؟.
ولهذا ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«سمعت أبي يقول : أتى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رجل بدوي فقال : إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلم.
فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أمرك أن لا تغضب.. فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات حتى رجع إلى نفسه. فقال : لا أسأل عن شيء بعد هذا ما أمرني رسول اللّه إلا بالخير..» (2).
ليس كل غضب قبيحاً.. في الشريعة المقدسة بل هناك جهات للغضب فبعضها يكون الغضب فيها مذموماً وبعضها ممدوحاً هذا لا كلام فيه وإنما الكلام في المعيار الذي يعيننا على تشخيص الغضب الممدوح من المذموم.
فما هو الميزان الذي يمكن أن نشخص فيه ذلك ؟.
الجواب : الميزان هو :
١ – العقل.
٢ – الشرع.
الغضب الممدوح ما كان صادراً حسب موازين العقل والشرع أي إذا غضب الإنسان على شيء يبنغي الغضب عليه عقلاً وشرعاً ولم يغضب على الأشياء التي لا ينبغي الغضب عليها عقلاً وشرعاً فهذا هو الممدوح لأنه لا يخرج عن سياسة العقل والشرع بل هو تابع لهما بحيث يكون غضبه وانتقامه ناشئاً من أوامر العقل أو من أوامر العقل والشرع معاً وهذا لا ريب فيه وفي صحته وهو ليس مذموماً بل ممدوحاً.. لأنه في واقعه ليس من الغضب في
ص: 142
الحقيقة بل هو من الشجاعة والشجاعة من الفضائل العظيمة. كمن يغضب في سبيل الخير والدين والمجتمع والفضائل.. انتقاماً من الشر والمفاسد الدنيوية والاجتماعية فإن هذا يستحق صاحبه عليه الثواب والأجر الجزيل من اللّه سبحانه وتعالى ولهذا ورد :
«من استغضب فلم يغضب فهو حمار» (1).
فإن الحمار لا يشعر بغيرة أو حمية على دين أو عرض أو ناموس وهكذا لا تثار حفيظته لهذه النواميس المقدسة فإنه فاقد للغيرة والحمية وهي من أسوأ الرذائل...ومن هنا وصف اللّه تبارك وتعالى المؤمنين بالحمية والشدة ولكن لا في كل شيء بل في سبيل الدين والعقيدة
قال تعالى :
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...» (2).
وخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى :
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (3).
فهم غلاظ شداد لا بين المؤمنين أو في سبيل هوامش الحياة التافهة بل أشداء على الكفار.. أما فيما بينهم فتحكمهم أواصر الرحمة والمحبة رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ فالغضب الممدوح ما كان اللّه سبحانه.. كما في بعض الروايات...وفي روايات أخرى ما كان للحق وبعضها للمظلومية...
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«كان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم
ص: 143
لغضبه شيء حتى ينتصر له» (1).
وفي الوسائل : فيما ناجی موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) ربه سبحانه وتعالى أنه قال :
أهلك الذين تُظلّهم في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ؟
من فقال : «الذين يغضبون لمحارمي إذا استحلت مثل النمر إذا جرح» (2).
نقل أنه لما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة شيعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وعمار بن ياسر (رضي اللّه عنه) فلما كان عند الوداع قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
«يا أبا ذر إنك إنما غضبت اللّه عز وجل فارج ما غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فارحلوك عن الفناء وامتحنوك بالبلاء وواللّه لو كانت السموات والأرض على عبد رتقاً ثم اتقى اللّه عز وجل جعل له منها مخرجاً فلا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنّك إلا الباطل» (3).
وحكي عن أبي ذر رضوان اللّه (عليه أنه لما أخرجه معاوية من الشام خرج معه ناس إلى دير المران فودعهم ووصاهم إلى أن قال :
«أيها الناس اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضباً للّه عز وجل إذا عصي الأرض ولا ترضوا أئمتكم بسخط اللّه. وإن عذبتم وحرمتم وسيرتم حتى يرضى اللّه عز وجل» (4).
هذا الغضب في الشريعة ممدوح يؤجر عليه صاحبه.. أما إذا صدر الغضب ولكن ما كان اللّه ولا للحق ولا لمحارم اللّه سبحانه أي لم يكن في دائرة العقل والشرع فإنه يعد مذموماً ولا يخرج عن كونه هفوة من هفوات
ص: 144
الشيطان...وهذا هو الذي نهى عنه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...وذمّه أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعدوه من المهلكات العظيمة وقيل عنه إنه (جنين دفعي).
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
(الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل) (1).
أي إذا اختلط الخل بالعسل ذهبت حلاوة العسل وخاصيته وصار المجموع شيئاً آخر لا هو خل ولا هو عسل وكذا الإيمان إذا دخله الغضب فسد ولم يبق على صرافته وصفائه وتغيرت آثاره الخارجية إذ المؤمن من أمن المسلمون من يده ولسانه وهل يسلم الناس من يد الغضبان ولسانه ؟
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«كان أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : أي شيء أشد من الغضب؟
إن الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم اللّه، ويقذف المحصنة» (2).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من لم يملك غضبه لم يملك عقله» (3).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«الغضب ممحقة لقلب الحكيم» (4).
وواضح أن الغضب يمحق قلب الحكيم لأن قلب الحكيم موضع الحكمة التي تظهر من أعماله وجوارحه فإذا غضب محق قلبه فظهر منه ما ينافي الحكمة من أعمال وتصرفات طائشة من باب نسبة ما للمظروف إلى الظرف مثل جرى النهر.
ص: 145
ومنه ما ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«كف غضبه ستر اللّه عورته» (1).
حيث إن الغضب يظهر العورة المستورة في الإنسان من سوء الخلق والكذب ومعاداة الناس وقساوة القلب ونحو ذلك.
ولذا قال الشاعر في شطر البيت :
للسر نافذتان السكر والغضب
والروايات في ذم الغضب كثيرة. لا تخفى على من راجع كتب الروايات.
من الواضح أن الإنسان يغضب لأسباب وعلل كثيرة تستفزه ولو أردنا أن نستقرىء بواعث الغضب ولو بالاستقراء الناقص لا التام وجدنا أهمها ثلاثة هي :
1 - ربما يكون الباعث على الغض الغضب المرض فبعض الناس يغضبون لانحراف صحتهم أو ضعف جهازهم العصبي الأمر الذي يثيرهم سريعاً ويبعث على تنفرهم واستفزازهم.
2- قد تكون نفس الإنسان باعثة على الغضب.. فبعض الناس استحكمت فيهم بعض الرذائل النفسية وسيطرت على كل وجودهم حتى إنهم يستفزون بأدنى كلمة أو حركة أو موقف مثل الأنانية والعجب والتكبر والاعتداد المفرط في النفس. وغيرها من نواقص النفس فيثار لأجلها من كلمة يستشعر منها التنقيص أو عدم الاحترام وهكذا..
عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
ص: 146
قال الحواريون لعيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): أي الأشياء أشد ؟
قال : أشد الأشياء غضب اللّه عز وجل. قالوا : بم نتقي غضب اللّه ؟.
قال : بأن لا تغضبوا، قالوا : وما بدء الغضب ؟
قال : الكبر والتجبر ومحقرة الناس» (1).
٣ - وقد يكون الباعث سوء الأخلاق.. فبعض الناس اعتاد الشراسة والهيجان والحقد والحسد ونحو ذلك الأمر الذي يرسخ شهوة الغضب فيه.. وهذه النقطة والتي سبقتها يجمعهما أمر واحد هو سوء التربية.
هناك طرق للوقوف أمام هيجان النفس وغضبها أهمها ثلاثة هي :
١ - الفكر
٢ - العمل
٣- الذكر
أما طريق الفكر فهو عبارة عن أمور أهمها :
١ - أن يتذكر الغضوب قبح الغضب وسوء عاقبته وما ورد في الشريعة من ذمه والتحذير منه كما تقدم.. وفي مقابل ذلك يتذكر ما ورد من المدح والثواب على دفع الغضب عن موارده والقرب من اللّه سبحانه وتعالى كقول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«.. ومن كف غضبه عن الناس كف اللّه تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة» (2).
ص: 147
وقال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
مكتوب في التوراة فيما ناجى اللّه عز وجل به موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
يا موسى أمسك غضبك عمّن ملكتك عليه أكف عنك غضبي» (1).
٢ - أن يتذكر الغضبان فوائد الحلم وكظم الغيظ وما فيه من الفضل والكمال للإنسان الحليم فضلا عن الخلاص من الأزمات والمشاكل فيتحلم وإن كان في باطنه غضباناً فإذا واظب على ذلك تصبح لديه عادة مألوفة أن يتحلم عند الحدة والغضب
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن لم تكن حليماً فتحلَّم فإنه قلّ من تشبه بقوم إلا أوشك أن يصير منهم» (2).
٣- أن يتأمل في عواقب الغضب بعد أن يفكر في كل فعل أو قول يصدر منه وأنه هل يصيب في خدمته أو خدمة دينه ويرضي ربه وينسى نفسه فيغضب. وإلا فإن أي عاقل يدرك في نفسه لو كان ملتفتاً أن الغضب مرض في القلب ومنقصة في العقل وقبيح عند الناس ولذا يكون المجنون أسرع غضباً من العاقل والمريض أسرع غضباً من السليم والشيخ أسرع غضباً من الشاب والمرأة أسرع غضباً من الرجل. وصاحب الأخلاق السيئة والرذائل القبيحة أسرع غضباً من الوجيه وصاحب الفضيلة.. وهكذا.
فالإنسان الضعيف الوضيع ربما يغضب إذا فاتت عليه لقمة طيبة والإنسان البخيل يغاظ ويغضب لبخله إذا فقد الحبة حتى إن بعض البخلاء يغضب لفقد أدنى شيء على أعزة أهله وذويه ومن الواضح أن النفس الكريمة القوية المتحلية بالفضائل أجل من أن تتغير وتضطرب لمثل هذه الأمور.
ولهذا جاء عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال : كان علي بن
ص: 148
الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يقول : إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه» (1).
لأن بذلك يستفيق الإنسان من غفوته ويرجع إلى صوابه.
٤ - أن يتفكر في قبح صورته وحركاته عند الغضب وما تكشفه عنه من مساوىء تخرجه عن الطور الرزين وقد تقدم في الحديث مسبقاً :
«من كف غضبه ستر اللّه عورته» (2).
٥ - أن يتذكر أن قدرة اللّه تعالى عليه أقوى وأشد من قدرته على هذا الضعيف أو من يتصوره ضعيفاً فيغضب عليه...لأن مبدأ الغضب هو حب الانتقام والتشفي وإنما الإنسان يتمكن من الانتقام من الأضعف منه لا الأقوى منه.
ولذا كان من الضروري للغضبان المندفع لهذا الحس أن يتذكر قدرة اللّه تعالى عليه.. إذ هو مهما كان قوياً يبقى ضعيفاً في جانب قدرة اللّه القاهرة.
وليحذر من غضب اللّه عليه إذا هو أمضى غضبه على الأضعف منه.
وقد روي :
«أنه ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها : ارحم المساكين، وأخشُ الموت واذكر الآخرة...فكان يقرأها حتى يسكن غضبه» (3).
ومن بعض الكتب الإلهية :
«يابن آدم.. أذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحق_ك فيمن أمحق» (4).
ص: 149
وهذا هو ما أشار إليه النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في قوله لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا علي لا تغضب.. فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحلمه عنهم» (1).
وهناك وصفات نفسية وصفها الأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) لمعالجة الغضب عن طريق السلوك والعمل إذ أشاروا إلى بعض التصرفات التي يمارسها الإنسان يومياً من شأنها أن تسكن ثورة الغضب عند الجميع.. الغضبان المريض والسليم بلا فرق.
نعم هناك وصفة خاصة لمعالجة الغضب حين المرض فيما إذا كان منشأ الغضب الإنهيار العصبي والأزمات النفسية والأعلال البدنية ونحو ذلك إذ علاجه بواسطة الطب.. إذن اللازم على المريض مراجعة الأطباء بهذا الشأن وتوفير دواعي الراحة النفسية والجسمية في تنظيم الغذاء والتزام النظافة وممارسة الرياضة وأخذ فترات النقاهة والاستجمام وغيرها من الأساليب الصحية لمعالجة الغضب بالإضافة إلى الاجتناب عن مرهقات النفس والجسم ونحو ذلك.. هذا للمبتلين بالأمراض..
أما الوصفة النفسية التي من المناسب أن يعمل بها كل إنسان غضوب فهي.
١ - لزوم الأرض
فعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر متن قال :
«إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك» (2).
ص: 150
وذلك لأن الإنسان إذا قام من مكانه وهو غضبان ذهب إلى الطرف المقابل ليناوشه بالسباب أو بالضرب فإذا لزم الأرض ذهب ذلك عنه.
2 - الجلوس إن كان قائماً والاضطجاع إن كان جالساً.
عن أبي ذر عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» (1).
٣ - الوضوء أو الغسل بالماء البارد أو شرب الماء البارد وهذه مما ذكرها العلماء أيضاً.
عن أبي وائل القاص قال : دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه فقام فتوضأ فقال حدثني أبي عن جدي عطية قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» (2).
4 - وهي مختصة بالأرحام وهي مس الرحم رحمها...!
عن أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
أنه ذكر الغضب عنده فقال :
«إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبداً ويدخل بذلك النار فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وإن كان جالساً فليقم وأيما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت» (3).
ص: 151
ورد في بعض الروايات بعض الأذكار الخاصة التي تهدىء من ثورة الغضب منها.
1 - الاستعاذة من الشيطان الرجيم
قال المحدث القمي (قدّس سِرُّه) :
«قال بعضهم علاج الغضب أن تقول أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )أن يقال عند الغيظ» (1).
٢ - الدعاء :
قال المحدث القمي (قدّس سِرُّه).
كان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال :
يا عويش قولي اللّهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن» (2).
3 - السجود :
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض»(3).
وقد وضح المحدث القمي قوله : (فليلصق خده بالأرض) بقوله :
كان هذا إشارة إلى السجود وهو تمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس الذل وتزيل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب.
ص: 152
ص: 153
ص: 154
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : قلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر.. وكثرة الحوائج إلى الناس مذلّة وهو الفقر الحاضر» (1).
بحثنا يدور حول الحاجة والغنى ونبتدىء بهذا السؤال :
هل الإنسان غني أو محتاج ؟
الجواب : الإنسان غني ومحتاج معاً.. ولكن جهات حاجته أكثر من جهات غناه.. كيف ذلك ؟
سنوضحه بعد بيان مقدمة وهي : إن الإنسان كل إنسان له جهات أربع أساسية وهي أصل وجوده أولاً. صفاته وخصوصياته ثانياً. وروحه ثالثاً وجسمه رابعا...وفي جميع هذه الجهات الأربع الإنسان محتاج ومفتقر إلى الغير فهو.
١ - محتاج في أصل وجوده
ص: 155
2 - محتاج في وصف وجوده.
٣ - محتاج في كمال روحه.
٤ - محتاج في كمال جسمه وإدارة شؤونه الحيوية.
وفي كل ذلك هناك شواهد وأدلة عقلية ونقلية سنشير إلى بعضها إن شاء اللّه تعالى من خلال البحث.
قسم أهل المعقول الموجود إلى قسمين هما.
1 - موجود واجب.
2 - موجود ممکن.
فالموجود الواجب هو ما كان منبعاً بذاته للوجود وعنه يصدر الوجود ولذا سموه بالواجب أي ما يجب له الوجود بحيث يلازمه ذاتاً ولا يعقل انفكاكه عنه فالواجب وجوده عين ذاته.. مثل النور الذي نوريته عين ذاته والسكر الذي حلاوته عين ذاته وهكذا فالواجب وجوده ع_ ذاته وهكذا فالواجب وجوده عين ذاته.. ولذا فإن الواجب غني دائماً ولا يحتاج في وجوده إلى الغير مطلقاً.
أما الموجود الممكن فوجوده ليس نابعاً من ذاته بل هو مقتبس ومأخوذ من الغير إذ الموجود الممكن مفتقر فى أصل وجوده إلى الغير فإذا أعطاه ذلك الغير وجوده وجد وإلا بقي في كتم العدم.. ومن هنا يسمى ممكناً أي هو ما أمكن له الوجود لو توفرت علته الوجودية التامة وأمكن له العدم لو لم ترد إيجاده علته التامة أو لم تتحقق علته فهو تبعاً لعدم تحقيق العلة لا يتحقق وهكذا بعكس الواجب فإن الواجب دائماً وأبداً يجب له الوجود بل لا يعقل انفكاك الوجود عنه.
اللّه سبحانه وتعالى هو واجب الوجود في هذا العالم ولا غير.. إذ أن كل موجود يأخذ وجوده من اللّه سبحانه وتعالى ويستمد من نوريته قال الحاج
ص: 156
الملا هادي السبزواري في منظومته الشمسية :
أزمة الأمور طراً بيده***والكل مستمدة من مدده
فكل ما سوى اللّه تعالى من مخلوقات بما فيها الإنسان فهو ممكن الوجود لأنه مفتقر في وجوده إلى اللّه تعالى...ولولا إرادة اللّه تعالى في خلق العالم لكان جميع العالم عدماً محضاً.
قال تعالى :
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (1).
وقال تعالى :
«ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» (2).
فهو الخالق والموجب لكل موجود في هذا الوجود بما فيه الإنسان فهو الواجب والإنسان ممكن وهو القديم والإنسان حادث.. وهو الغني والإنسان فقير ومحتاج.. وفي هذا ما ورد في توحيد الصدوق بإسناد إلى مولانا الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) «إنه دخل عليه رجل فقال يابن رسول اللّه ما الدليل على حدوث العالم ؟
قال : أنت لم تكن ثم كنت.. وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك.. ولا كونك من هو مثلك» (3).
إذن لا بد أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي كون الإنسان وخلقه فالإنسان في أصل وجوده محتاج إلى اللّه تعالى وفقير إلى رحمته.
كذلك الإنسان في صفات وجوده محتاج إلى اللّه تعالى إذ الإنسان
ص: 157
عندما يخلقه اللّه تعالى يخلقه كيف يشاء هو سبحانه لا كما يشاء الإنسان لنفسه.. فاللّه تعالى يخلق الإنسان ويصوره في رحم امه من دون أن يكون للإنسان في انتخاب صورته أي اختيار ثم يجعله ذكراً ولا يجعله أنثى أو بالعكس. وهكذا يجعله طويلاً أو قصيراً أبيض أو أسمر ابن فلان دون فلان في البلد الكذائي لا غيره وهكذا سائر الصفات الوجودية الأخرى من دون أن يكون للإنسان في انتخاب أي صفة منها أدنى خيرة أو اختيار
قال تعالى :
«هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1).
والتصوير جعل الشيء على صورة.. والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله.. من صاره : يصوره إذا أحاله فهى صورة لأنها مائلة إلى شكل أبوي الجنين.
والأرحام جمع رحم وهو العضو الذي يحتضن الجنين في جسم الأنثى..
جاء في تفسير مجمع البيان للمحقق الطبرسي (قدّس سِرُّه) في تفسيره لهذه الآية الشريفة ما ينفعنا في المقام ننقل قوله :
«هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ» : أي يخلق صوركم في الأرحام «كَيْفَ يَشَاءُ» أي صورة شاء وعلى أي صفة شاء من ذكر أو أنثى أو صبيح أو ذميم أو طويل أو قصير «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» في سلطانه.. في أفعاله ودلت هذه الآية الكريمة على وحدانية اللّه تبارك وتعالى وكمال قدرته وتمام حكمته حيث صور الطفل في رحم الأم على هذه الصفة وركب فيه أنواع البدائع من غير آلة ولا كلفة وقد تقرر في عقل كل عاقل أن العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا من الماء بعوضة ويصوروا منه صورة في حال ما يشاهدونه
ص: 158
ويعرفونه لم يقدروا على ذلك ولا وجدوا إليه سبيلاً فكيف يقدرون على الخلق في الأرحام فتبارك اللّه أحسن الخالقين...وهذا الاستدلال مروي عن جعفر بن محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) انتهى» (1)...
وفي الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين أبيه إلى آدم ثم خلقه على صورة أحدهم فلا يقولن أحد هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي» (2).
وروي عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أتى رجل من الأنصار إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال :
هذه ابنة عمي وامرأتي لا أعلم منها إلا خيراً.. وقد أتتني بولد شديد السواد منتشر المنخرين جعد قطط أفطس الأنف لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لامرأته :
ماذا تقولين ؟. فقالت : لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت مقعده مني منذ ملكني.. أحداً غيره.. قال : فنکس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ملياً ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال :
«إنه ليس من أحد إلا وبينه وبين آدم تسعة وتسعين عرقاً كلها تضرب بالنسب فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق تسأل اللّه الشبه لها فهذا من تلك العروق التي لم يدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك خذي إليك ابنك...فقالت المرأة : فرجت عني يا رسول اللّه» (3).
فالإنسان يخلق دون أن يكون له اختيار في خلقه.. وتظهر له صفات و خصوصيات وهو في رحم أمه من دون أن يمتلك حق الاختيار فيها...ولذا
ص: 159
فهو محتاج في صفاته أيضاً إلى اللّه سبحانه وتعالى فهو الذي يصوره كيف يشاء...
قال تعالى واصفاً مراحل الوجود الإنساني :
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ....» (1).
الإنسان موجود ناقص من جهة الروح والفضيلة ولذا هو في حركة دائمة نحو الكمال والفضائل حسب مقتضى الحركة الجوهرية في الأشياء التي أثبتها بعض أهل فن المعقول ولأن الكمال حقيقة خفية وغائبة عن الحس الإنساني لذا من الصعب على بعض الناس ومن المستحيل على البعض الآخر الوصول إليها بلا دليل ومرشد دال عليه هذا من جهة ومن جهة أخرى إن اللّه تبارك وتعالى جعل في الإنسان غريزة التأثر والتقليد والاتباع لمن هو أرقى وأعلى منه ولذا فإن الإنسان يبتدىء حياته بالتقليد فالطفل يقلد أبويه وأقرانه من الأطفال والطالب يقلد أستاذه. والجاهل يقلد العالم...وهكذا. وهذا لا يجري في الفضائل فقط بل حتى في الرذائل والمنقصات هناك تقليد واتباع ولهذا نجد الصالحين يتبعهم رعيل من الصالحين وبالعكس من ذلك الفاسدين.
قال تعالى في القرآن الحكيم :
«قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...» (2).
في كلام لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال :
ص: 160
«فليتاس متأس بنبيه وإلا فلا يأمنن الهلكة».
من هنا اقتضت الحكمة الإلهية أن يجعل اللّه تعالى للإنسان أدلاء مرشدين يتأسى بهم الإنسان ويأخذ منهم النصائح والإرشادات ويستنير بهداهم في هذا الطريق طريق الخير والفضيلة والكمال لكي لا يقع في المفاسد،والمساوى والخرافة والضلال وكل ما هو بعيد عن خط الحق والحياة الهادفة.
وهؤلاء الأدلاء والمرشدون هم رسول اللّه وأهل بيته الأطهار الميامين عليهم الصلاة والسلام.
حيث قال تعالى :
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» (1).
فإن من يريد الآخرة والعافية الطيبة والحسنة عليه أن يقتدي برسول اللّه لأن طريقه هو الحق وهو النور وهو الهدى...وغيره ضلال.
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أصدق الهدى واستنوا بسته فإنها أهدى السنن» (2).
وقال أيضاً :
«أحب العباد إلى اللّه تعالى المتأسى بنبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والمقتصّ أثره» (3).
وكذلك أهل البيت أدلاء على الكمال يجب التأسي بهم والاقتداء بهم لكي يكتمل الإنسان فضلاً ويزداد كمالاً.
ص: 161
فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«من أحب أن يحيا حياة تشبه حياة الأنبياء ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء ويسكن الجنان التي غرسها الرحمن فليتول علياً وليوالي وليه وليقتد بالأئمة من بعده فإنهم عترتي خلقوا من طينتي» (1).
وعن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتني ويدخل الجنة التي وعدنيه_ا ربي ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتول علي بن أبي طالب وأوصياءه من بعده فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال ولا يخرجونكم من باب هدی» (2).
إذن فالإنسان في أخلاقه وفضائله وكمالاته المعنوية محتاج إلى الغير أيضاً وليس بكامل.. إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام فإن اللّه تعالى جعله كاملاً في دليلا على اللّه تبارك وتعالى ومرشدات إلى الكمالات الالهيري الموهده الجهة الثالثة لحاجة الإنسان إلى الغير...
رابعاً : الحاجة في كمال الجسم وإدارة الحياة :
إدارة المجتمع الإنساني في حياته المعيشية كإدارة الروح الإنسانية وما يرتبط بها.. تحتاج إلى تنمية وإكمال إذ لم يوجد حين ولد المجتمع...تاماً كاملا. لا يقبل النمو والزيادة بل هو كسائر الأمور الروحية الإنسانية لم يزل يتكامل الإنسان في كمالاته المادية والمعنوية.
بل ليس من المتوقع أن تشذ خصوصية المجتمع المادية عن سائر الخواص الإنسانية الأخرى فتظهر منذ البداية تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله مع أنها أضعف الأشياء في الإنسان.. بل هي كسائر الخواص الإنسانية
ص: 162
تدريجية الكمال في الإنسان لارتباطها الوثيق بسببي التكامل المهمين وهما...
1 - الإدارة
٢ - العلم
وقد أشار بعض علماء الاجتماع إلى أن أول مجتمع إنساني ظهر في حياة الإنسان هو المجتمع الأسري بالزواج لكون عامله الطبيعي وهو الحاجة إلى الجنس أقوى عوامل الاجتماع وذلك لسبب مهم وهو أن أكثر حاجات الإنسان وغرائزه لعلّ من الممكن للإنسان إشباعها بمفرده من دون حاجة إلى غيره مثل الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم ونحوها.. أما الجنس فهو حاجة عند الإنسان لا يمكنه إشباعها إلا بالانضمام إلى غيره ولهذا ظهرت الأسرة كأول نواة لتكوين المجتمع البشري ثم من بعد هذا ظهرت خاصة الاستخدام البشري بمعنى أن الإنسان يوسط غيره من أبناء جلدته في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليهم.. ثم تطور هذا الاستخدام ليصبح رئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس الأمة وهكذا...
فكون الإنسان كائناً اجتماعياً هذا مما لا يحتاج إلى بحث أو دليل لأن كل فرد مفطور على ذلك بحسب مقتضى حاجاته وغرائزه. ولم يزل الإنسان يعيش في بيئة اجتماعية على ما يحكيه التاريخ وكشفته مؤسسات التنقيب عن الآثار التي تحكي عن أوضاع البشر منذ أقدم العهود وقد اتفقت على أن أبناء آدم كانوا منذ القديم يعيشون بشكل جماعات لا أفراد...
وقد أشار القرآن الكريم أيضاً إلى هذه الحقيقة الاجتماعية في آيات كثيرة منها قوله سبحانه وتعالى :
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (1).
ص: 163
والجعل هنا في قوله «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا» إما من الأصل اللّه تعالى جعل البشرية وخلقهم جماعات جماعات كل جماعة لها مكان وزمان معين وهذا احتمال ليس بالبعيد..
أو اللّه تعالى خلق البشر فرادى فرادى ولكن أودع فيهم الحاجات التي تدعوهم إلى الارتباط والتكتل والتجمع في مجتمعات بشرية كبيرة أو صغيرة.. والأمر ليس ممانعة الجمع أيضاً بين الاحتمالين كما يعبر أهل المنطق...من كل هذا ماذا نفهم ؟
نفهم أن الإنسان كائن محتاج أيضاً في تدبير أموره وتنظيم شؤونه في الحياة فهو محتاج إلى الأب في أصل تكوينه ومحتاج إلى الأم في حضانته وإرضاعه ومحتاج إلى أقرانه في تعليمه.. ومحتاج إلى المرأة في تكوين اسرته.
ومحتاج إلى أصدقائه ومواطنيه في إدارة حياته.. وهكذا.
فهل هناك موجود أفقر من الإنسان إلى الغير ؟
قلنا إن الإنسان اجتماعي بالطبع والفطرة. ومن لوازم كون الإنسان اجتماعياً.. أن لكل فرد حاجات لا تقوم إلا بالآخرين فكل فرد في المجتمع لا يتمكن من استيفاء مصالحه وإدارة شؤونه إلا بالتعاون مع المجتمع...فطعام الإنسان لا يتوفر إلا إذا اجتمعت لتهيئته أيادي عديدة فرغيف الخبز يحتاج أولاً إلى المزارع لكي يبذر الحنطة في التراب ثم يسقيها ثم يجني حاصلها ويحتاج ثانياً إلى الطحان الذي يحول الحنطة إلى طحين.. ويحتاج ثالثاً إلى الخباز الذي يحول الطحين إلى خبز جاهز للأكل.. وهكذا.
ومن الواضح أن الإنسان بمفرده لا يقدر على إنجاز كل هذه الأعمال وعلى فرض أنه تمكن من إنجاز هذا العمل سوف تفوته أعمال أخرى عديدة ومهمة من الملبس والمسكن. وهكذا.. فهل يمكن للإنسان أن يستغني عن
ص: 164
الغير ؟ إنه محتاج دائماً إلى الغير أيضاً محتاج إلى أخيه الإنسان.. ومن هنا كان اللزوم أن يعين الإنسان إخوته في الإنسانية وبالعكس حتى تدور عجلة المجتمع بالصورة الأتم.. فهو يوفر لهذا الخبز وذاك يوفر له القماش والثالث يوفر لهما معاً المسكن. وهكذا..
هذا من جهة الحاجات أما من جهة الأوضاع والحالات الاجتماعية نرى بعضهم قوياً والآخر ضعيفاً وبعضهم غنياً والآخر فقيراً وبعضهم ذكياً والآخر بليداً وهكذا.. وبهذه الصورة تدور رحى المجتمع أيضاً بحاجة بعضها إلى البعض الآخر وهذا ما يصطلح عليه اسم التكامل الاجتماعي.
وهذا أصل أولي لا يشك في ضرورته أحد إلا من انقطع عن الإنسانية وأراد أن يسكن الغاب.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة المهمة بقوله تعالى :
«نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (1).
وهنا إشارات مهمة ودقيقة ذكرتها الآية الكريمة فيها : «قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» ولم تقل والآخرة وذلك للإشارة إلى أن التفاوت بين الناس في الحياة من جهة الرزق الذي جعله اللّه تعالى هكذا لحكمة قد تتجلى في :
١ - للاختبار والامتحان.
٢ - لإدارة شؤون الحياة
فإن اللّه تعالى يرفع بعض الناس على بعض في الرزق والجاه والقوة وسائر الشؤون الأخرى.. لكي يستخدم بعضهم بعضاً ويسخر بعضهم بعضاً في الحاجات والضروريات ويستوظفه في المهام. حيث إن بذلك يتم النظام
ص: 165
العام ويستقيم إذ لو كان جميع البشر سادة فمن كان يعمل وينتج ؟ ولو كان الكل فقراء فمن كان يجلب الطعام والحاجات ليبيعها في وقتها عند الحاجة ؟
ولو كان الكل أغنياء...من كان يكنس ويطبخ ويخبز ويدير الأمور الصغيرة المهمة كالفلاحة والبناء والخياطة وما أشبه ذلك ؟
إذن قامت ضرورة العقل في إدارة شؤون الحياة على التفاوت والتفاضل وأما التفاوت في الآخرة فإنه لا يحصل بفعل اللّه سبحانه بل بفعل الإنسان نفسه فمن عمل صالحاً كانت درجته عالية ومن لم يعمل صالحاً كانت درجته في السافلين ولهذا قال تعالى :
«وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (1).
فعند اللّه التفاضل بالتقوى والعمل أما فى الدنيا فالتفاضل أولاً وبالذات من اللّه تعالى وإن كان للإنسان دخل في زيادة التفاضل أو دفعه كالفقير إذا عمل كثيراً وجد واجتهد فإنه يصبح غنا الغني إذا لم يعمل ولم يجتهد يصبح فقيرا وهكذا.
جاء في مجمع البيان في تفسير هذه الآية مؤكداً ما أشرنا إليه في (سورة الزخرف).
«قال تعالى : «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».
أي نحن قسمنا الرزق في المعيشة حسب ما علمناه من مصالح عبادنا فليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق فكذلك اصطفينا للرسالة من نشاء. «وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ».
معناه أفقرنا البعض وأغنينا البعض الآخر فستلقى ضعيف الحيلة عبي
ص: 166
اللسان وهو مبسوط له وتلقى شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه ولم نفوض ذلك إليهم مع قلة خطره بل جعلناه على ما توجبه الحكمة والمصلحة «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا». معناه أن الوجه في اختلاف الرزق بين العباد في الضيق والسعة زيادة على ما فيه من المصلحة أن في ذلك تسخيراً من بعض العباد لبعض باحتياجهم إليهم يستخدم بعضهم بعضاً فينتفع أحدهم بعمل الآخر له.. فينتظم بذلك قوام أمر العالم» (1).
ويؤكد أيضاً ما جاء في تفسير الصافي في توضيح نفس هذه الآية الكريمة :
«نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» فأحوجنا بعضاً إلى بعض. أحوج هذا إلى المال من ذلك وأحوج ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته فترى أجل الملوك وأغنى الأغنياء محتاج إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إما سلعة معه لست معه اما خدمة يصلح لما لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به وإما باب من العلوم والحكم هو فقير إلى أن يستفيد بهما من ذلك الفقير فهذا الفقير محتاج إلى مال ذلك الملك الغني. وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير ولا للفقير أن يقول هلا اجتمع إلى رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكم مال هذا المالك الغني» (2).
[«ولعل في هذا ما روي في الاحتجاج للطبرسي.. إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي.. وأبو البختري بن هشام.. وأبو جهل.. والعاص بن وائل السهمي.. وعبد اللّه بن امية المخزومي وكان معهم جمعاً ممن يليهم كثيراً ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب اللّه ويؤدي إليهم عن اللّه أمره ونهيه فقال المشركون بعضهم
ص: 167
لبعض لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه فتعالوا على أصحابه وتبكيته والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم فلعله ينزع ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه ! ! !
فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر
قال أبو جهل : فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته ؟.
قال عبد اللّه بن أمية المخزومي : أنا إلى ذلك إنما ترضاني له قرناً حسيباً ومجادلاً كفياً ؟. قال أبو جهل : بلى. فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد اللّه بن أمية فقال : يا محمد !! لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالاً هائلا زعمت أنك رسول اللّه رب العالمين وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا يأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق كلهم فهم عبيده ولو كنت نبياً لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبياً لكان إنما يبعث إلينا ملكاً لا بشراً مثلنا ما أنت يا محمد إلا رجلاً مسحوراً أو لست بنبي ؟.
فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بلسان الرسول الهادف المطمئن.. هل بقي من كلامك شيء ؟. قال : بلى.
لو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجّل من فينا أكثره مالاً وأحسنه حالا فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم !! أنّ اللّه أنزله عليك وتبعثك به رسولاً على رجل من القريشيين عظيم (مكة – والطائف) أما الوليد بن المغيرة بمكة.. وأما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.. إلى آخر ما قاله وهو طويل أخذنا منه موضع الحاجة
فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
يا عبد اللّه : أما ما ذكرت من أني أكل الطعام كما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون اللّه رسولاً فإنما الأمر للّه تعالى يفعل ما يشاء
ص: 168
ويحكم ما يريد وهو محمود وليس لك ولا لأحد الإعتراض عليه بلم وكيف.. ألا ترى أن اللّه كيف أفقر بعضاً وأغنى بعضاً وأعز بعضاً وأذل بعضاً وأصح بعضاً وأسقم بعضاً وشرف بعضاً ووضع بعضاً وكلهم ممن يأكل الطعام. ثم ليس للفقراء أن يقولوا (لم أفقرتنا وأغنيتهم ؟ ولا للوضعاء أن يقولوا (لم) وضعتنا وشرفتهم ؟ ولا لقباح الصور أن يقولوا : (لم قبحتنا وجملتهم).. بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله في أحكامه منازعين و به كافرين ولكان جوابه لهم : أنا الملك الخافض الرافع، المغني المفقر، المعز المذل، المصح والمسقم، وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي.. والإنقياد لحكمي فإن سلمتم كنتم عباداً مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرين وبعقوباتي من الهالكين..
ثم أنزل اللّه تعالى عليه يا محمد : «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» (1).
يعني قل لهم إني من البشر مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال دون بعض من البشر فلا تنكروا أن يخصني أيضاً بالنبوة دونكم.
ثم قال : ألا ترى يا عبد اللّه كيف أغنى واحداً وقب_ح ص_ورت_ه وكيف حسن صورة واحد وأفقره وكيف شرف واحداً و أفقره وكيف أغنى واحداً ووضعه ثم ليس لهذا الغني أن يقول (هلا أضيف إلى يساري جمال فلان) ولا الجميل أن يقول (هلا أضيف إلى جمالي مال فلان) ولا للشريف أن يقول هلا أضيف إلى شرفي مال فلان ولا للوضيع أن يقول (هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان) ولكن الحكم اللّه يقسم كيف يشاء ويفعل كما يشاء وهو حكيم في أفعاله محمود في أعماله.. وذلك قوله تعالى :
یا يا محمد : «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (2).
ص: 169
والاحتجاج طويل جداً أخذنا منه محل الشاهد «بتصرف».
فالإنسان إذن محتاج وحاجته لا تنحصر في جسمه أو روحه فقط بل هو كتلة من الفقر والحاجة الدائمة إلى اللّه تعالى في وجوده وسماته وخصوصياته وإلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الأطهار الم في روحه وتأسيه وكماله وإلى مجتمعه وسائر أقرانه من أبناء البشر في معيشته وحياته
سؤال : إذن فأين موضع الغنى في الإنسان ؟
الجواب : الإنسان غني في القناعة فإن الغنى غنى النفس) ] (1).
إذ على الإنسان أن يستثمر جهوده وطاقاته التي أعطاها اللّه سبحانه له من يد ولسان ورجل وعين وفكر وعقل وكل نعمة من النعم الخلقية ويوظفها في سبيل حياته بالشكل الأتم وبالصورة الأفضل. فعليه السعي في هذا الاتجاه كما في قوله تعالى :
«وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى» (2).
فإذا عمل الإنسان ونشط في حياته فإنه يأكل ثمار أتعابه وجهوده مع ما يمتلكه من قدرات وقابليات إذ إن من الواضح أن قانون العمل في الحياة يعطي للإنسان العامل الربح السريع والتطور والنمو
ولكن في نفس الوقت يجب على الإنسان أن يكون قنوعاً محترماً لنفسه أولاً ومحترماً لحقوق غيره ثانياً ومراعياً لحقوق ربه ثالثاً.
فإذا عمل يجب أن يسعى لأن يكون عمله في الحلال وإذا أكل يجهد لأن تكون لقمته من الحلال لكي لا يتعد على حقوق ربه وفي نفس الوقت يهتم لأن لا يتعد على حقوق الآخرين بأن يغصب هذا ويسرق ذاك وهكذا.
ص: 170
فإذا عمل الإنسان يصبح غنياً في العاجل أو في الأجل ولكن إذا عمل الإنسان على الفرض وسعى بكل سعيه ولم يتمكن من تحقيق أهدافه في الربح والزيادة فعليه أن يتمسك بالقناعة ولا يذهب ولا يبذل ماء وجهه...أو يلقي بثقله على غيره أو يعتدي على غيره لكي يحقق لنفسه الغنى وهنا موضع الحديث (قلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر) فإن من يمتلك قدرة على العمل ويمتلك فرصة للاكتساب ولا يذهب ليعمل فإنه فقير فعلاً وإن كان له مال
نقل بعض العلماء (دام ظله) :
إن الميرزا الشيرازي الكبير الحاج السيد محمد حسن (رحمه اللّه) مر على فقير تام الخلقة وافر النشاط فأعطاه درهماً ليمد يده ففعل ودرهماً ثانياً ليمد رجله ففعل ودرهماً ثالثاً ليقوم ويمشي ففعل.. فقال له الميرزا : فلماذا تكسل عن العمل وتلقي كلك على الناس ؟
إذن من الواضح أن الطاقة المخزونة في الإنسان هي مال ولكن لم يصل إلى المرحلة الفعلية كما يعير الا الأصوليون أي بعد لم يصبح نقداً. فإذا صرف الإنسان هذه الطاقة في العمل فإنه يمتلك المال فعلا لذا فإن الإنسان ليس من يملك المال فقط بل من يمتلك الطاقة على العمل أيضاً.. وهذا بحث اقتصادي ليس هنا محل ذكره...
وربما نجد في المجتمع من هو فقير في واقعه يفترش الأرض ويلتحف السماء ولكنه في نفس الوقت غني أيضاً كيف ذلك ؟
بقناعته ورضاه بما قسمه اللّه سبحانه له فإن الغنى غنى النفس كما جاء في الحديث :
«من قنع بالمحتوم استراح من الكرب والتعب» (1).
ولهذا قال علماء الأخلاق : إن من تمكن الغنى في قلبه فهو غني وإن
ص: 171
صفرت يده عن حطام الدنيا....
فتراه لا يبالي بما فات منه إذا حصل على أيسر عيش وما أهنأها من معيشة ! ؟ ففي الحديث : إن موسى قد سأل اللّه تعالى وقال :
أي عبادك أغنى ؟
قال : «أقنعهم لما أعطيته» (1).
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«من قنع بما رزقه اللّه فهو أغنى الناس» (2).
وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك وإن كنت تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك» (3).
وقد وصف هذا المعنى أبو فراس الحمداني في هذين البيتين :
إن الغني هو الغني بنفسه***ولو أنه عار المناكب حافِ
ما كل ما فوق البسيطة كافياً***فإذا قنعت فكل شيء كاف
فالقاعدة العامة في القناعة كما جاءت بها الروايات أنها تريح الإنسان في الدنيا.. لأن من نظر إلى من فوقه لا يزال يبغض عيشه ويراه نكداً فهو في عذاب دائم وقلق مستمر فإن الأفراد لا يزالون مختلفين بحسب المراتب والعيشة كما تقدم.
وأما من رضي بما قسم اللّه تعالى له فهو في رضى وراحة ويا لها من معيشة هنيئة سائغة.. فإن من قنع بالمقسوم استراح من الهم والكرب والتعب
ص: 172
ولذا فإن القنوع تقل حاجاته في نفسه وإذا قلت حاجات النفس يقل طلبه وإذا قل طلبه اكتفى بما عنده واستغنى عن الناس. لذا فإنه يعيش يومه في غنى حاضر.
وأما الحريص الذي تمكن الفقر من قلبه فإنه لا يزال يطلب المزيد وإن كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة وإذا سألته لماذا هذا الطلب ؟. رأيته يتمتم في جوابه.. أو لا جواب ل___ه سوى النهم والإقبال على الدنيا.
ولو كشفت عن أحشائه لرأيتها مطوية على الفقر ليس فقر المال بل فقر النفس وكثرة حاجاتها...وهل تنتهي حاجات النفس ؟ كلا.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«لو كان لابن آدم واديان من مال لتمنى وادياً ثالثاً !! ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب» (1).
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«يشيب بن آدم وتشيب معه خصلتان الحرص وطول الأمل» (2).
وقد مثل رسول اللّه الحريص بدودة القز في العاقبة حيث قال : «مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً» (3).
وفي هذا المعنى جاء قول الشاعر :
يغني البخيل بجمع المال مدته***وللحوادث والأي_ام م__ا يدع
كدوة القز ما تبنيه يهدمها***وغيرها بالذي تبنيه ينتقعُ
ولهذا فإن الحريص على الدنيا حتى لو امتلك المال الكثير والثروة الطائلة فإنه يعيش يومه في فقر حاضر ما دامت نفسه في فقر.
ص: 173
ص: 174
ص: 175
ص: 176
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : أربع من يكن فيه كمل إسلامه : الصدق، والشكر، والحياء وحسن الخلق» (1).
وجه ظاهر.. ووجه باطن...
الوجه الظاهر للإسلام هو التشهد بالشهادتين :
أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد ذكر الفقهاء أن علامة إسلام المرء بحيث يعامل كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم هو إظهار الشهادتين باللسان.
وفي التاريخ قصص كثيرة لإسلام العديد من الكفار والمشركين واليهود والنصارى وقبول رسول اللّه منهم ذلك الإسلام بمجرد التشهد بالشهادتين ولا يكلف المسلم المظهر للشهادتين بأكثر من هذا في قبول
ص: 177
إسلامه من قبل المسلمين...نعم يبقى إسلامه ظاهرياً وتجري عليه كل أحكام الإسلام شرعاً عند المسلمين.
ولكن هل إسلامه عند اللّه تعالى أيضاً يقبل بإظهار الشهادتين ؟.
الجواب: كلا.. لأن اللّه تعالى ينظر إلى الواقعيات والبواطن أيضاً ولا ينظر إلى المظاهر والشعارات فقط.
وفي حديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : «يا أبا ذر إنّ اللّه تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (1).
وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). قال :
قال رسول اللّه : «يا علي : يا على : أكتب. فقلت : ما أكتب ؟ فقال اكتب (بسم اللّه الرَّحمن الرّحيم) الإيمان ما وقر في القلوب. وصدقته الأعمال.. والإسلام ما جرى على اللسان وحلت به المناكحة» (2).
إذ يشترط في النكاح الكفاءة بين الزوجين والمراد بين الزوجين والمراد من الكفاءة ليس المادية وإن كانت جيدة وإنما المراد الكفاءة الدينية
إذ لا يجوز للكافر أن يتزوج المسلمة.. إذ المسلم كفؤ المسلمة فقط.
وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلا عمل» (3).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في شرح صفة الإسلام بشيء من التفصيل وأما معنى الإسلام فهو الإقرار بجميع الطاعة الظاهرة الحكم والأداء له فإذا أقر المقر بجميع الطاعة في الظاهر من غير العقد عليه بالقلوب فقد استحق
ص: 178
اسم الإسلام ومعناه واستوجب الولاية الظاهرة وإجازة شهادته والمواريث وصار له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين فهذه صفة الإسلام ثم بعد ذلك فرق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين المسلم والمؤمن :
«وفرق ما بين المسلم والمؤمن أن المسلم إنما يكون مؤمناً بأن يكون مطيعاً في الباطن مع ما هو عليه في الظاهر فإذا فعل ذلك بالظاهر كان مسلماً. وإذا فعل بالظاهر والباطن بخضوع وتقرب بعلم كان مؤمناً فقد يكون العبد مسلماً ولا يكون مؤمناً إلا وهو مسلم» (1).
وفي هذا جاء قول العلامة المجلسي (قدّس سِرُّه) في البحار :
والإسلام هو الإذعان الظاهر باللّه وبرسوله وعدم إنكار ما علم ضرورة من دين الإسلام» (2).
فلا يشترط فيه ولاية الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولا الإقرار القلبي فيدخل فيه المنافقون وجميع فرق المسلمين ممن يظهر الشهادتين عدا النواصب والغلاة ومن أتى بما يخرجه عن الدين كعبادة الصنم ونحو ذلك أقول : وفي هذا بعض الأسباب والحكم والأدلة المفصلة الخاصة التي لا مجال لذكرها هنا.
ومن هنا فإن الإسلام الظاهري بالتلفظ بالشهادتين له اعتباران : اعتبار عند اللّه تعالى.. واعتبار عند المسلمين.
أما عند المسلمين فيجب عليهم قبول هذا الإسلام والتعامل مع صاحبه كمسلم وبهذا جاءت فتوى الفقهاء أيضاً.. طبقاً للروايات الواردة في هذا الباب.
أما عند اللّه تعالى فإن اللّه تعالى لا يقبل إسلام المسلم إلا إذا كان حقيقياً وواقعياً...
ص: 179
والفرق أن الناس لا يعلمون الغيب ولم يتمكنوا من معرفة الأشياء الباطنة ولو كلفهم اللّه تعالى بعدم قبول إسلام من يظهر الشهادتين إلا إذا اطلعوا على قلبه وجوهره للزم عليه المحال تعالى عن ذلك من جهتين هما :
١ - لزم أن يكلف المسلمين بما لا يطاق إذ أنّى للإنسان العادي أن ينفذ إلى جواهر الناس ومعرفة ما يدور في نفوسهم ؟
2 - لزم إلقاء الناس في الضيق والحرج بل والفوضى والعناد وبه لا يمكن أن يوضع حجر على حجر.
إذ كيف يمكن للمسلم أن يثبت أن إسلامه الذي جاء به واقعي لا ظاهري ومن أين للمسلمين أن يتعرفوا على صدق إسلام هذا دون ذاك. الأمر الذي يوقع الجميع في الحرج والفوضى والتعارض ولهذا كلف اللّه سبحانه المسلمين بقبول الظاهر في الإسلام وهذا كلام طويل لا يسمح لنا المجال إلى طرحه ولكن نكتفي بنقل هذه الحادثة التي صارت سبباً لنزول هذه الآية الكريمة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» (1).
قال علي بن إبراهيم وغيره :
«إنها أنزلت لما رجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام ودان رجلاً من اليهود يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى فلما أحس بخيل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل فأقبل يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه...فمر به أسامة بن زيد
ص: 180
فطعنه فقتله فلما رجع إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخبره بذلك. فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«أفلا شققت الغطاء عن قلبه لا ما قال بلسانه قبلت.. ولا ما كان في نفسه علمت» (1).
أما هو تعالى فلأنه عالم الغيب ويطلع على القلوب والسرائر ويعرف ما يدور في النوايا والخلجات فإنه لا يقبل إلا الإسلام الحقيقي الباطني.
قال تعالى :
«وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى» (2).
وقال سبحانه وتعالى :
«وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ» (3).
وقال تعالى أيضاً :
«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (4).
وأما الوجه الباطن للإسلام فقد أشارت إليه بعض الروايات :
عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الإسلام هو التسليم.. والتسليم هو اليقين.. واليقين هو التصديق.. والتصديق هو الإقرار.. والإقرار هو الأداء.. والأداء هو العمل» (5).
ص: 181
ومن الواضح أن التسليم غير الإسلام فإن الإسلام هو الظاهر أما التسليم فهو من حالات الباطن لأن معناه الإنقياد والإنقياد حالة باطنية لها آثار ظاهرة على الإنسان.. من طاعة والتزام بأوامر المنقاد له بعد الاعتقاد به والإيمان بفضله ولذا جعل الإمام أمير المؤمنين الناف كلمات الحديث متسلسلة إحداها متوقفة على الأخرى.
فالإسلام هو التسليم أولاً.. أي الإنقياد ثم هو يقين واعتقاد بالمنقاد له ثانياً ثم بعد التصديق إقرار به في الظاهر أيضاً ثم يظهر من بعده في جوارح الإنسان وأعماله.
ومن هنا نعرف أن قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يا علي : «أربع من يكن فيه كمل إسلامه». ولم يقل كان مسلماً مثلاً بل قال كمل إسلامه.. بمعنى أن الإسلام شطران أحدهما مكمل للآخر شطر يحصل بإظهار الشهادتين في الظاهر يترتب عليها الآثار عند المسلمين وشطر آخر يكمل حقيقة الإسلام عند الإنسان وهو التسليم في الباطن وهو يرتب آثار قبول الإسلام عند اللّه سبحانه ولذا فإن من اعتقد بالإسلام باطناً ولكن لم يظهر الشهادتين على لسانه لا يقبل إسلامه ولا تجري عليه أحكام المسلمين.
كما أن من أظهر الشهادتين ولكن لم يذعن بها في جوانحه فإنه يكون ناقص الإسلام إذ يعامل في ظاهره كمعاملة المسلمين ولكن في واقعه عند اللّه يبقى كافراً لأن اللّه تعالى ينظر إلى القلوب ولا ينظر الألفاظ وما تقول الألسن بلا إذعان قلبي...
ولكن الصفات الباطنة من الحقائق الغائبة عن الحس البشري فلا يمكن للإنسان أن يتعرف عليها كما يتعرف على سائر الأمور المادية التي لها شكل وصورة ونحو ذلك.. فيميزها الإنسان بحواسه الخمس.
أما الحقائق المعنوية وصفات المعاني فهي مجردة عن المادة والماديات فكيف يتعرف عليها الإنسان ؟
ص: 182
وبعبارة أخرى أوضح : كيف يمكن معرفة التسليم في الإنسان مع أنه
من الصفات المعنوية الباطنية ؟ هناك مظاهر للتسليم يمكن للإنسان أن يتعرف عليها من خلال هذه المظاهر وأهم هذه المظاهر ما ذكره رسول اللّه إذ نتعرف من خلال ظهور هذه الصفات على سلوك الإنسان المسلم على كمال إسلامه أو عدمه.. فإذا توفرت في الإنسان هذه الصفات والمظاهر نكتشف أنه كامل الإسلام وإلا عرفنا أن إسلامه ناقص.
ومظاهر إسلام القلب أو التسليم أربعة :
١ – الصدق.
٢ – الشكر.
٣ – الحياء.
٤ - حسن الخلق.
كيف ذلك ؟.
ما هي جهة ارتباط الصدق بكمال الإسلام ؟.
الجواب : إن أهل المنطق ذكروا للصدق تعريفاً تاماً.. تقريباً يظهر علاقته بكمال الإسلام عند الإنسان قالوا :
الصدق : مطابقة القول للواقع :
فإذا قال لك إنسان إن السماء أمطرت. هذا القول لا يخلو إما أن يكون صادقاً أو كاذباً. ما هو الملاك في صدقه أو كذبه ؟
الملاك : هو الانطباق على الواقع الخارجي فإن انطبق القول على الواقع تسميه صادقاً وإلا تعده كاذباً.
فيقول زميلك السماء أمطرت أنت تنظر إلى الخارج هل واقعاً أمطرت السماء أم لا ؟ فإن أمطرت تصدق قوله وإلا فلا...
ص: 183
ويقول أهل المعقول أيضاً إن الواقع يختلف من قضية لأخرى فالواقع هو ما يقع في الواقع الخارجي إذا كان الخبر من قبيل القضايا الخارجية مثل مثالنا السماء أمطرت.
أما إذا كان الإخبار عن القضايا النفسية فإن الواقع الخارجي هنا ليس ملاكاً في تحديد صدقه من كذبه وإنما واقع النفس هو الملاك فإذا انطبق كلامه مع واقعه النفسي فكلامه صحيح وإلا فلا.
والإنسان الذي يقر بالشهادتين لساناً هذا قول واعتراف قولي بالإسلام ولكنه ناقص.. فمتى يصبح هذا الإسلام القولي كاملاً ؟
إذا انطبق مع واقع النفس بأن كان في نفسه مؤمناً بالإسلام واقعاً ومذعناً معترفاً به ولهذا إذا صدق الإنسان لا يكذب نفسه بل دائماً يصدق نفسه وبه يكمل إسلامه.
ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصف بعض الناس :
لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة».
لأنها تكشف واقع الإنسان الملتزم.
ماذا يعني الشكر ؟...
الشكر : هو عرفان النعمة من المنعم أولاً.. وشكره عليها بالحمد والثناء ثانياً.. ثم استعمال هذه النعمة وصرفها في مرضاته ثالثاً.. هذه مراتب ثلاث للشكر فهو يبتدىء بالعلم والمعرفة (عرفان النعمة).
وينتهي بالعمل أي (استعمال النعمة في الطاعة).
من هنا قسم علماء الأخلاق الشكر إلى ثلاثة أقسام تبدأ من العلم
ص: 184
وتنتهي إلى العمل أيضاً هي :
١ - شكر القلب : وهو تصور النعمة ومعرفة أنها من اللّه سبحانه وأن لا نعمة على الخلق في أهل السموات والأرض إلا وبدايتها من اللّه تعالى حتى يكون الشكر اللّه عن نفسك وغيرك.. والظاهر أن هذا الشكر هو الواجب على جميع الخلائق : جاء في مناجاة موسى مان :
«إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف شكرك؟
فقال : علم أن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكره لي» (1).
2 - شكر اللسان : وهو حمد المنعم والثناء عليه : فقد قال تعالى : «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» (2).
وروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر اللّه والتحدث بالنعم شكر» (3).
٣ - شكر الجوارح : وهو إعمالها في طاعة اللّه سبحانه المنعم والتحرج بها عن معاصيه.
قال تعالى في شكر الجوارح :
«...اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (4).
فجعل العمل شكراً...
وروي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
قام حتى تورمت قدماه من العبادة فقيل له يا رسول اللّه أتفعل هذا بنفسك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟
ص: 185
قال : أفلا أكون عبداً للّه شكوراً» (1).
وطبعاً شكر كل شيء بحسبه...فشكر العين هو استعمالها في مجالات التبصر والاعتبار.. هذا عملها في الطاعة وغضها عن المحارم.. هذا في التحرج بها عن المعصية.
وشكر اللسان استعماله في حسن المقال والأمر بالمعروف وتعففه عن الفواحش والبذاء وهكذا.
قال أبو هارون دخلت على أبي حازم فقلت له : يرحمك اللّه ما شكر العينين ؟
قال : إذا رأيت بيما خيراً ذكرته وإذا رأيت بهما شراً سترته. قلت فما شكر الأذنين : قال : إذا سمعت بهما خيراً حفظته وإذا سمعت بهما شراً نسيته...
هذا في الجوارح. أما غير غير الجوارح من النعم أيضاً.
يجدر الشكر على كل نعمة من اللّه سبحانه بما يلائمها من الشكر...فشكر المال : هو إنفاقه في سبيل طاعة اللّه ومرضاته.. وشكر العلم نشره في إذاعة مفاهيمه النافعة وشكر الج_اه : مناصرة الضعفاء والمضطهدين وإنقاذهم من ظلاماتهم.
تبتدىء مراتب الشكر من الباطن حتى تنتهي إلى الظاهر إذ متى امتلأت نفس الإنسان علما ومعرفة بعظم نعم اللّه سبحانه وشكرت بجزيل آلائه وهذه المرتبة الأولى. فاضت على اللسان بالحمد والشكر للمنعم الوهاب وهذه المرتبة الثانية وهو الشكر القولي.
قال تعالى :
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (2).
ص: 186
ومتى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الشكر سرى إيحاؤهما إلى جوارح الإنسان فظهرت في أعماله ومواقفه تعرب عن انقيادها وطاعتها للمنعم وهو الشكر العملي.
قال أحد الحكماء : الشكر ثلاث منازل ضمير القلب.. ونشر اللسان.. ومكافأة اليد
قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثةً***يدي ولساني والضمير المحببا
من كل هذا كيف نرى علاقة كمال الإسلام بالشكر ؟
وهل يمكن أن نعتبر الإنسان المسلم الذي يعتقد بالإسلام وأقر بالشهادتين ولا يظهر الشكر في قلبه ولسانه وعمله كامل الإسلام ؟.
الحياء : انقباض النفس عن القبائح واجتنابها عن كل ما يعيبها.
ومن الواضح أن النفس الإنسانية تتجنب عن ما يعيبها من ثلاث جهات :
١ - جهة النفس.
٢ - جهة الرب.
٣ - جهة الناس.
فإن الإنسان الحيي تام الحياء هو الذي يجتنب عن القبائح في كل هذه الجهات الثلاث فإن الناس يتفاوتون بعضهم يستحي من الناس ولكنه لا يستحي من اللّه سبحانه وقسم يستحي من اللّه ولا يستحي من الناس وقسم يستحي من اللّه ومن الناس ومن نفسه..
فمثلاً نرى بعض أهل المكانة والجاه في المجتمع لا يكذب نسأل لماذا لا يكذب ؟ الجواب : لأنه يرى الكذب قبيحاً وقباحته لا تختلف سواء كذب
ص: 187
على الآخرين بأن حدثهم بشيء كذباً أو كذب على اللّه سبحانه بأن يدعي الإيمان مثلا ولكن في عمله لا يلتزم بشرائط الإيمان ومقتضياته أو كذب على نفسه بأن يظهر في عمله أو لسانه ما لا يعتقده بقلبه لا فرق فإنه يرى نفسه في كل هذه المراحل قد ارتكب القبيح بل ويرى هذا القبيح منقصة في نفسه ولا يليق بشأنه وشخصيته فيجتنبه فيكون حياؤه من نفسه ومعرفته الدقيقة بمقامه الاجتماعي وتشخيصه لما ينبغي له من أكبر الدواعي والأسباب نحو الفضيلة ذا شخصية اجتماعية قوية وصاحب مقام مرموق بين الناس.. والكمال ولذا نراه يصبح لماذا ؟ لأنه حيي.
وبهذا البيان نعرف وجه الربط بين الحياء وبين كمال الإسلام في المرء بشكل عميق وواضح.. وذلك لأن الإنسان الذي تشهد بالشهادتين وأظهرهما على لسانه يدفعه حياءه لو كان حيباً إلى الالتزام بشرائط الشهادتين في عمله أيضاً حتى يصبح مسلماً بالكامل بل مؤمناً في أعلى مراتب الإيمان.
فنراه يلتزم بكل ما يأمره الإسلام من عمل حسن وينهاه عن عمل القبيح أمام الناس لأنه يستحي منهم وإذا خلا بنفسه أيضاً سوف يُلزم نفسه على الالتزام لأنه يستحي من اللّه تعالى لأنه يعلم بأنه يراه وأنه لا تعزب عن علمه مثقال ذرة في السَّموات والأرض وإذا لم يصل إلى هذه المرتبة من المعرفة باللّه فإنه يتجنب القبيح لأنه يستحي من نفسه أن يفعل القبيح. وبهذا يكمل إسلامه وتظهر طباع الإسلام وآدابه على كل جوارحه وجوانحه..
ولعل من هنا جاء قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«الحياء والإيمان مقرونان فى قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه» (1).
ونقل عن البعض :
إن العباد عملوا على أربع منازل على الخوف والرجاء والتعظيم
ص: 188
والحياء فأرفعها منزلة الحياء لما أيقنوا أن اللّه يراهم على كل حال...قالوا :
سواء علينا رأيناه أو رآنا وكان الحاجز لهم عن معاصيه الحياء منه» (1).
لحسن الخُلق دور كبير أيضاً في كمال إسلام المرء.. كيف ذلك ؟
نقول : الخُلق بالضم: عبارة عن الصورة الباطنة في مقابل الخلق بالفتح وهو عبارة عن الصورة الظاهرة.
يُقال : فلان حسن الخلق والخُلق : أي حسن الظاهر والباطن معاً.
ولكل منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة...
فالخُلق : عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كان الصادر عن تلك الهيئة أفعالاً جميلة محمودة عقلاً وممدوحة شرعاً سميت تلك الهيئة (خلقاً حسناً).
وإن كان الصادر منها أفعالاً قبيحة سميت (خلقاً سيئاً) ولنا هنا وقفة في كلمة (هيئة للنفس راسخة) لماذا قلنا راسخة ؟ وأيضاً لنا وقفة في كلمة بسهولة. لماذا قلنا بسهولة ؟
الجواب : إنما اشترطنا في حسن الخلق الرسوخ لأن من يصدر عنه بذل المال مثلاً على الندرة لحاجة عارضة لا يُقال له خلقه السخاء. ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ بحيث يتكرر منه العمل دائماً وفي أغلب الأحوال...
وأيضاً شرطنا السهولة لأن من يكلّف بذل المال ويجد في بذلة مشقة لا يُقال له (خلقه السخاء) وهكذا...
على أي حال من كل ذلك عرفنا أن حسن الخلق من حالات الباطن
ص: 189
أيضاً بحيث يتكرر من الإنسان حسن الخلق أو (الأخلاق) أعمال المعروف والخير بلا تكليف أو معاناة حتى تتهذب طباعه ويتأدب في تصرفاته وأعماله فإذا صار الإنسان كذلك. حسن الخلق. حسن المعاشرة. حسن الأفعال.. حقق في نفسه الغاية من الإسلام إذن ماذا يريد الإسلام من الإنسان ؟
هل يريد منه أقوالاً وكلمات لا يفهمها ولا يدرك معناها فقط ؟
أم يريد من الإنسان أن يعمل بأوامره ونواهيه حتى يصبح إنساناً بعيداً عن الجهل والضياع والخرافة متأدباً بآداب اللّه متجنباً للطباع الخشنة والعادات السيئة ؟
ماذا يريد الإسلام من الإنسان ؟
لا شك أنه يريده إنساناً وإنسانية.. الإنسان إنما تظهر وتكتمل بمحاسن الأخلاق وفضائل العادات
فإذا اتصف الإنسان بالأخلاق الحسنة معناه حقق غاية الإسلام في نفسه وتحقق غاية الإسلام يعني كمال الإسلام وتماميته لأن الأشياء إنما تكمل وتتم إذا تحققت غايتها أو غاياتها ومن هنا قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأم حبيبة :
«إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة» (1).
لأن اللّه تعالى أنزل الأديان والشرائع وبعث الأنبياء والرسل لكي يدل الإنسان على طرق الخير في الدنيا والآخرة وهذه يحققها له حسن الخلق وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«البر وحسن الخلق.. يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (2).
وقد جمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الغاية من بعثته وهدفية رسالته بسطر واحد من الكلام فقال :
ص: 190
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (1).
قصة:
جاء رجل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من بين يديه فقال : يا رسول اللّه ما الدین.
فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : حسن حسن الخلق.
ثم أتاه من قبل يمينه فقال : يا رسول اللّه ما الدين ؟
فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : حسن الخل.ق
ثم أتاه من قبل شماله فقال : ما الدين ؟
فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): حسن الخُلق» (2).
ص: 191
ص: 192
ص: 193
ص: 194
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : لا تهتم لرزق غد فإن كل غد يأتي رزقه» (1).
من أهم خصائص الإسلام عن سائر الأديان والمذاهب الأخرى هو أنه جمع بين الدين والدنيا معاً فهو ليس للدنيا فقط كما يؤمن به اليهود اليوم.. وهوليس للآخرة فقط كما يؤمن به النصارى وإنما هو دين جاء لتنظيم الحياة للإنسان والآخرة معاً فهو الحد الوسط بين تطرف اليهود وتطرف المسيح.
قال تعالى :
«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..» (2).
وهذه الرؤية المعتدلة التي يراها الإسلام للحياة أعطت للإنسان المسلم حرية تامة في صناعة حياته بالشكل الأفضل والصورة الأتم ومنحته من الفرص
ص: 195
والمجالات ما يساعده على بناء نفسه وأسرته ومجتمعه بل وكل حياته مادياً ومعنوياً.. إذ بين الماديات والمعنويات هناك تأثير وتأثر فالغنى ربما يؤثر في بناء دين الإنسان وربما يؤثر في فساد دينه والغنى أمر مادي بينما الدين أمر معنوي.
كما أن العكس صحيح إذ أن الدين يجعل الغني المتدين مهتماً بشؤون الضعفاء والفقراء ويعطي ما فرضه اللّه تعالى في أمواله من حقوق شرعية من خمس وزكاة ونحوها من أجل إعالة الضعفاء والمحتاجين وهكذا...
ومن هنا جاء في الأدلة الشرعية العديد من النصوص التي تربط بين الدين والدنيا واعتبرت توفير العيش الرغيد أو الكفاية المعيشية من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على تقوى اللّه سبحانه ونيل ثواب الآخرة. من الواضح أن الغاية الفضلى للإنسان هي الآخرة ولكن الدنيا قنطرة وطريق ووسيلة يتخذها الإنسان للوصول إلى تلك الغاية الأهم.
قال تعالى :
«وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (1). وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«نعم العون عون الدنيا على الآخرة»(2).
وفي الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«بالدنيا تحرز الآخرة» (3).
وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
ص: 196
«نعم» العون على تقوى اللّه الغنى»(1).
وفسّر الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله تعالى :
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (2).
قال : برضوان اللّه تعالى والجنة في الآخرة والمعاش وحسن الخلق في الدنيا» (3).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
«لا خير في من لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه ويقضي به دینه ويصل به رحمه» (4).
ففي الشريعة الإسلامية هناك ربط وثيق وتعاون دائم ومستقر بين الدنيا والآخرة .. بين الرفاه الاقتصادي أو المادي والسمو الروحي والأخلاقي فلا دنيا بلا دين مطلوبة ولا الدين بلا دنيا مطلوب بل المطلوب كلاهما معاً.
قال الشاعر :
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا***وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وهذا الجمع بين دنيا الإنسان وآخرته هو قانون عقلائي لا بد منه لكل إنسان يريد كمال الدنيا والآخرة معاً.
سؤال : ربما يُقال إن هذا الكلام يتعارض مع حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«يا علي : لا تهتم لرزق غد فإن كل غد يأتي رزقه» (5).
ص: 197
لأن الأدلة التي تقول :
«نعم العون الدنيا على الآخرة» (1).
وغيرها. نقول :
يجب على الإنسان السعي الحثيث من أجل توفير العيش الرغيد وكسب الغنى وتحصيل المال فإن الغنى عول على الدين.
أما هذا الحديث : «لا تهتم لرزق غد فإن كل غد يأتي رزقه».
يعني لا تجهد نفسك في الكسب وتحصيل المال لأنه قدر مقدر مقسوم لكل إنسان فكيف الجمع بين هذين ؟
الجواب : يتم بتوضيح مقدمته وهي :
إن الإنسان له حاجات كثيرة في هذه الدنيا من الحاجات ما يرتبط بروحه ومعنوياته كالحاجة إلى العلم والمعرفة والحنان والحب والعبادة ونحو ذلك.. وهذه جميعها قد تكفل الدين بها.
ومن الحاجات ما يرتبط ببدنه وأموره المعيشية وهذه تتكفل بها الدنيا من اقتصاد، اجتماع، سياسة، ونحو ذلك.
وقد قسم علماء الاجتماع والنفس الحاجات الإنسانية إلى قسمين :
١ - الحاجات الضرورية (الأساسية).
٢- الحاجات الكمالية
أما حاجات الإنسان الضرورية فهي يتقوم بها أصل الحياة والوجود على هذه الأرض.. إذ لا بقاء للإنسان إلا بإشباعها ومن أهم هذه الحاجات
1 - الطعام.
ص: 198
٢ – الشراب.
٣ - الكساء.
وهناك حاجة رابعة هي : الحاجة إلى الوجود. إن كل ممكن محتاج في وجوده إلى العلة وهذه الحاجة ضرورية يتقوم بها وجود الإنسان وبقائه. فإن هذه الحاجات مقدمة على كل احتياجات الإنسان الأخرى بما فيها العبادة والعلم ونحوها.
وفي هذا هناك إشارات قرآنية لطيفة...فإن اللّه سبحانه عندما خلق آدم وحواء وسخر لهما أرض الجنة أول شيء منحه اللّه تعالى لآدم هو ضمان بسد حاجاته الأساسية وهي الجوع والستر...
قال سبحانه وتعالى :
«إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى» (1).
وهذه الحاجات الأساسية من لطف اللّه تعالى أنه تكفلها لكل إنسان ولو من دون كسب وجهد وعمل. كما سنبين ذلك خلال البحث قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية :
«إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى» قال : «الشبع والري والكسوة والاكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان فذكر اللّه تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب» (2).
وأيضاً هذه الحاجات الأساسية مقدمة حتى على عبادة اللّه تعالى في نظر الإسلام :
قال تعالى :
«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (3).
ص: 199
حيث أخر تعالى الأمر بعبادته واستحقاقه للطاعة على نعمتين منحهما للإنسان أولاً ثم طلب من عباده شكراً لهذه النعم وأمثالها فهو سبحانه أولاً
أطعمهم من جوع وثانياً آمنهم من خوف. قال تعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...» (1).
وذلك لأن الطعام حاجة أولية بينما العبادة حاجة ثانوية وإذا أردنا إشباع الحاجة الثانوية لا بد من إشباع الحاجة الأولية قبلها وإلا لتمرد الإنسان وفي هذا جاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«اللّهم بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه : فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا» (2).
أما حاجاته الكمالية فهي لا تتوقف على وجود الإنسان أو حياته بل كمال الإنسان يتوقف على إشباعها ولذا فهي غير منحصرة بشيء معين وإنما هي تتزايد وترتقي مع ارتقاء الإنسان وحضارته مثل حاجة الإنسان إلى السيارة أو القصر والخادم والفاكهة والعطور وهكذا.
فلكي تكتمل حياة الإنسان لا بد من إشباع هذه الحاجات.. وما يشبع هذه الحاجات بشكل عام يسمى في الإصطلاح الشرعي ب_ (الرزق) لنر الآن ما هو (الرزق) ؟. وما هي أقسامه ؟
وكيف يمكن أن نفسر الحديث بما ينسجم مع الأحاديث المتقدمة ؟
الرزق له إطلاقات متعددة فأحياناً وه_و الشائع يطلق ويراد منه المال
ص: 200
والطعام ونحو ذلك من الأمور المادية : قال تعالى :
«وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ» (1).
وقال سبحانه وتعالى :
«إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا» (2).
وعن الإمام سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً***فقلة حرص المرء في الرزق أجمل» (3)
وقال حاتم الطائي :
فلا الجودُ يفني المال قبل فنائه***والبخلُ في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس رزقاً بعيش مقتر***لكل غد رزق يعُودُ جَديدُ
ألم تر أن الرِّزْقَ عاد ورائح***وأن الذي أعطاك سوف يُعيدُ (4)
هذا المعنى الأول للرزق...
وهناك معنى آخر للرزق أوسع وأشمل وأعمق من المعنى الأول وهو كل ما يصل إلى الإنسان أو الحيوان أو النبات مما ينتفع به وإن لم يكن غذاء فهو رزق. وبهذا يشمل به سائر مزايا الحياة من ج_اه وعشيرة وأعضاء وجمال وعلم ونبوة وغير ذلك من كمالات مادية ومعنوية...
قال تعالى :
«أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (5).
ص: 201
وأيضاً في زيارة الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«وارزقني عقلاً كاملاً».
وكذلك في دعاء اليوم الثامن من شهر رمضان المبارك :
«اللّهم ارزقني فيه رحمة الأيتام وإطعام الطعام وإفشاء السلام وصحبة الكرام» (1).
وقال تعالى : فيما يحكى عن شعيب (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا...» (2).
والمراد بالرزق الحسن هنا النبوة والعلم...
وأيضاً في دعاء الافتتاح جاء :
«وارزقني حج بيتك الحرام في عامي هذا وفي كل عام» (3).
وكذلك في قوله تعالى :
«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (4).
إطلاق الآية يعم كل أنواع وأقسام الأرزاق المادية والمعنوية وبالجملة فإن جميع ما يفيضه اللّه تعالى على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقاً إذ الرزق عطية ينتفع بها المرزوق ولعلّ في قوله تعالى في سورة طه إشارة إلى ذلك...قال تعالى :
«وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (5).
ص: 202
ومن هنا يظهر أن بين الكلمات الثلاث :
الرزق - الخير – الخلق.
إتحاداً مصداقياً والتغاير بينهما مفهومي على ما يعبر به أهل المعقول كالوحدة والوجود والتشخص.. فكل رزق خير ومخلوق وكل خلق رزق وخير لأن في جميعها ما ينفع الإنسان وغيره من الحيوانات والنبات أما في أصل الخلق والوجود. والوجود خير وهو رزق لأنه ينتفع به أو في كمالات الوجود من الغذاء والطعام ونحوها.
وبعد توضيح معنى الرزق يظهر أن الأرزاق على قسمين :
الأول : بعضها يتكفلها اللّه تعالى للإنسان يعمل أو دون عمل.
الثاني : وبعضها الآخر لا يتكفلها للإنسان إلا بالواسطة من خلال السعي والعمل والاجتهاد.
ما هي الأرزاق التي يتكفلها اللّه تعالى للإنسان أولاً وبالذات ؟
خلق الإنسان ووجوده أولاً ثم طعامه وشرابه ولباسه ثانياً : اللّه تعالى يضمنها للإنسان أولاً وبالذات في قوله تعالى من سورة طه «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى» (1).
ولعلّ هذه هي التي أراد بها الرسول ما بقوله :
«يا علي : لا تهتم لرزق غد فإن كل غد يأتي رزقه».
وذلك لأن هذه الأرزاق الضرورية متكفلة من قبل اللّه سبحانه وتعالى لذا قال له. (لا تهتم)....
قال تعالى في كتابه الكريم :
«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (2).
ص: 203
ولكن كيف تكفل اللّه تعالى بهذه الأرزاق الضرورية ؟
الجواب : من طريقين :
الأول : إن ذلك مقتضى الرحمة الإلهية بالخلق.
إذ لما فسرنا معنى الرزق بالعطاء الإلهي أي الخير.. أصبح من مرادفات الرحمة الإلهية على الخلق أيضاً إذ إن اللّه تبارك وتعالى رحمان بذاته رحيم بخلقه وكما أن الرحمة رحمتان :
رحمة عامة : تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر وإنسان وغيره.
رحمة خاصة : وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة البشرية من الإيمان والتقوى والجنة وغيرها.
كذلك الرزق منه ما هو عام : وهو العطاء الإلهي العام الممتد لكل موجود في أصل وجوده وفي بقاء وجوده.
قال تعالى :
«كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا» (1).
ومن الرزق ما هو خاص أيضاً الذي يقع في طريق إغناء الإنسان المؤمن أو إشباعه ونحو ذلك.. فاللّه تعالى رحيم فاللّه تعالى رحيم بالعباد ماذا ؟
يعني يعني أن اللّه تبارك وتعالى عندما خلق الإنسان وأودع فيه بطناً تجوع وكبداً تعطش وبدناً يبرد ويتضرر كان من مقتضى الرحمة الإلهية أولاً وبالذات أن يشبع جوع الإنسان ويروي عطشه ويكسي بدنه...وإلا لكان ظلماً به وهو محال على اللّه تبارك وتعالى...
ص: 204
إذا مقتضى الرحمة الإلهية بالخلق أن اللّه تبارك يتكفل لهم بأرزاقهم الضرورية من أصل الوجود من طعام وشراب ولباس...
ولهذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «لا تهتم» لأنه رزق مكفول بمقتضى الرحمة كما جاء في الحديث القدسي إشارة إلى بعض هذا بقوله تعالى : «يا ابن آدم خلقتك من تراب ثم من نطفة فلم أعي بخلقك أو يعييني رغيف أسوقه إليك في حينه»(1).
وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«لكل ذي رمي قوت» (2).
وفي نهج البلاغة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
«عياله الخلائق ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم» (3).
وأيضاً في نهج البلاغة :
«أنظروا إلى النملة في صغر جئتها ولطافة هيئها لا تكاد تنال بلحظ البصر...مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس».
وفي نفس الخطبة يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«فهذا غراب وهذا عقاب وهذا حمام وهذا نعام دعا كل طائر باسمه وكفل له برزقه» (4).
الثاني : إن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية بالخلق.
ص: 205
إذ لو أردنا أن نسأل.. لماذا خلق اللّه الإنسان ؟
سيكون الجواب واضحاً.. وهو لا بد من وجود غايات وحكم استدعت خلق الإنسان ولكن لو أردنا أن نسأل سؤالاً آخر ونقول :
هل عندما خلق اللّه الإنسان أراد له البقاء أم الموت ؟
حتماً سيكون الجواب هو البقاء لأنه لو أراد له الموت لكان في البداية لا يخلق ويتركه في حيطة العدم.. فإن الحكيم عندما يخلق شيئاً يريد له البقاء ولا يريد له الفناء...
ومن الواضح في الحكمة أن اللّه تعالى عندما يريد للإنسان البقاء لا بد أن يوفر له عوامل بقائه. وعوامل بقاء الإنسان حياً هي الطعام والشراب ونحو ذلك من الحاجات الضرورية التي تتوقف عليها حياة الإنسان.
ولهذا كان من اللطف عقلاً أن يتكفل اللّه تعالى للإنسان برزقه الأولي الضروري وإلا لو تركه يموت جوعاً وعطشاً لكان مخالفاً للحكمة التي هي من المحالات عليه سبحانه وتعالى...
ومن هنا يتفرع سؤال جديد هو...
قلتم إن اللّه تعالى تكفل برزق العباد الأولي وهو الذي قال عنه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا تهتم لرزق غد فإن كل غد يأتي رزقه» لأنه مضمون.
كيف نرى كل يوم يموت المئات من الناس جوعاً في أفريقيا والهند وغير ذلك ؟
الجواب : إن ذلك بفعل الإنسان وليس بفعل اللّه تعالى لأن اللّه تعالى كفل لجميع البشرية الرزق الكافي ولكن الإنسان يعتدي ويحتكر ويستعمر ويمنع غيره من البؤساء والضعفاء ويمنع عنهم قوتهم فيموتون جوعاً وإلا فإن المطر الذي فيه سقي الإنسان وسقي الأرض ينزل في كل أرض اللّه الواسعة...
والشجر الذي فيه قوت الإنسان ينبت في كل بلاد اللّه الواسعة وهكذا
ص: 206
سائر الخيرات ولكن من يحول دون استفادة الإنسار من هذه الخيرات.. ؟
الإنسان إما بواسطة بعض القوانين الديكتاتورية الكابتة للإنسان والتي تمنع الإنسان من العمل وحيازة المباحات ونحو ذلك أو بواسطة الاستعمار الذي ينهب خيرات الشعوب من أجل مصالحه وفي هذا كلام اقتصادي طويل وأدلة وشواهد عديدة لا مجال هنا لطرحها.
ولعلّ البعض يسأل ويقول.. هل للإنسان دخل في رزقه ؟
الجواب : نعم للإنسان دخل كبير في التصرف في الرزق زيادة أو نقيصة...
أما الرزق الكمالي الذي يسد حاجات الإنسان الكمالية فإن ذلك واضح لأنه يتوقف على عمل الإنسان وبمقدار ما يبذله الإنسان من جهد وتعب في هذا الطريق يأكل في مقابله ويستفيد من مجهوداته وفي هذا جاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«العبادة عشرة أجزاء تسعة أجزاء في طلب الحلال» (1).
وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من لم يستح من طلب المعاش خفت مؤنته ورضى باله ونعم عياله» (2).
وعن الفضل ابن أبي مرة قال :
«دخلنا على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حائط له فقلنا :
جعلنا فداك دعنا نعمله لك أو تعمله الغلمان. قال :
لا دعوني فإني أشتهي أن يراني اللّه عزّ وجلّ أعمل بيدي أطلب الحلال
ص: 207
في أذى نفسي..» (1).
والظاهر أن مضمون هذه الروايات كله جاء في الحاجات الكمالية للإنسان وليست الضرورية والحاجات الكمالية يجب على الإنسان أن يسدها بعمله وبكد تعبه...ولذا يكون دخل الإنسان فيه واضحاً وكبيراً.. أما الرزق الضروري فإن للإنسان أيضاً دخل ولكن لا في أصله لأن أصل الرزق مضمون وهو يطلب الإنسان لا الإنسان يطلبه بل في زيادته ونقيصته...
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«لو أن ابن آدم فرّ من رزقه كما يفرّ من الموت لأدركه».
فقيل لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
لو سد على رجل باب بيت وترك فيه من أين كان يأتيه رزقه ؟
فقال : «من حيث يأتيه أجله» (2).
وفي حديث آخر عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«الرزق أشد طلباً للعبد من أجله» (3).
ومن هذا البيان يتوضح طريق الجمع بين حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«ولا تهتم لرزق غد...» الذي يستظهر منه عدم الكد والتعب في سبيل الرزق وبين الروايات والآيات الأخرى التي تقول «نعم العون على الدنيا الغنى» المستظهر منه وجوب الكد والسعي في سبيل الكسب فإن «لا تهتم لرزق غد يراد به الرزق الضروري الذي يشبع حاجات الإنسان الأولية لأن اللّه تعالى تكفل به و(نعم العون على الدنيا الغنى) يراد به الرزق الكمالي الذي يشبع الحاجات غير الضرورية للإنسان.
ص: 208
وأخيراً.. ما هي الطرق التي بواسطتها يتمكن الإنسان من زيادة رزقه ؟
الجواب : نختصره في بعض الروايات التي أشارت إلى ذلك
1 - البر : عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
«من حسن بر أهل بيته زيد في رزقه» (1).
2 - حسن الخُلق : عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
«في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق» (2).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
«حسن الخلق يزيد في الرزق» (3).
3 - الجود والكرم : عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«الرزق أسرع إلى من يطعم الطعام. من السكين في السنام» (4).
٤ - مواساة الإخوان :
عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«مواساة الأخ في اللّه يزيد في الرزق» (5).
٥- الدعاء للإخوان :
عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
ص: 209
«عليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب. فإنه يسهل الرزق» (1).
٦ - الدوام على الطهارة : قال رجل للنبي لا أحب أن يوسع علي في الرزق ؟
قال : «دُم على الطهارة يوسع عليك في الرزق» (2).
7 - الصدقة :
عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أكثروا من الصدقة ترزقوا» (3).
وأيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
استنزلوا الرزق بالصدقة (4).
أما موانع الرزق فكثيرة أيضاً منها :
١ - الذنب :
عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق» (5).
2 - حبس حقوق الإخوان :
عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«من حبس عن أخيه المسلم شيئاً من حقه حرم اللّه عليه بركة الرزق إلا أن يتوب» (6).
ص: 210
٣- السحت :
عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«كثرة السحت يمحق الرزق» (1).
وفي كل هذه الأسباب والطرق فلسفات خاصة لم يبق مجال لشرحها واللّه العالم.
ص: 211
ص: 212
ص: 213
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قَالَ الرَّسُول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : إيّاك واللجاجة فإن أولها جهل و آخرها ندم» (1).
الإنسان كائن ضعيف يحيط به الجهل من كل جانب
قال تعالى :
«يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا» (2).
ولهذا فهو دائم العشرة ويرتكب الكثير من الأخطاء في مسيرته اليومية ويصاب بالعديد من العيوب والنواقص فهو غير معصوم ومن الواضح أن غير المعصوم يرتكب الأخطاء دائماً...
ولهذا فإن الناس ينقسمون إلى قسمين من هذه الجهة فقسم وهم
ص: 214
العقلاء يبحثون دائماً في نواقصهم وعيوبهم لكي يرفعوها ليتحلوا بالفضائل والمكرمات ليكملوا...
وقسم آخر من الناس لا يبالي بعيوبه ونواقصه ولا يتحمل فيها التقويم والتعديل بل يلج ويعاند ويم_ادي في العناد. وهذا ما حذر منه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله : «إياك واللجاجة» وذلك لأن اللجاجة والعناد دافعهما الجهل والعزة بالإثم وتعود أخيراً على الإنسان بالندامة والحسرة الطويلة على أقواله وأفعاله التي صدرت منه ولهذا نجد أن الإنسان اللجوج دائماً في نقص وانحدار وتسافل.. هذا فضلاً عن الذم واللوم الذي يتوجه إليه من العقلاء والأهل والأصدقاء...وللعقلاء طريق في تقويم أعمالهم وتصرفاتهم أهمها النقد البناء من قبل الأهل والأصدقاء والإخوان وقد جاء هذا المعنى في العديد من الروايات واصطلحت عليه أسماء عديدة فمرة (النصيحة) ومرة (الهدية) ومرة (الأمر بالمعروف) وهكذا...
عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن أعظم الناس منزلة عند اللّه يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة الخلقه» (1).
وجاء عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أحب أخواني إليّ من أهدى إلي عيوبي» (2).
عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إنما سمي الصديق لأنه يصدقك في نفسك ومعايبك فمن فعل ذلك فاستمع إليه فإنه صديق» (3).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
ص: 215
«ليكن آثر الناس إليك من أهدى إليك رشدك وكشف لك عن معايبك» (1).
إذن فإن العاقل هو الذي يسعى لأن يتعرف على عيوبه الأخلاقية ويتبين ما في أقواله وأعماله من خطأ ويستفيد من انتقاد الأصدقاء والإخوان العارفين الطاهرين فيصححها.. فيطلب منهم أن يطلعوه على نقائصه ونقاط ضعفه الأخلاقية...
عن الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات، ساعة لمناجاة اللّه وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن وساعة تخلون للذاتكم في غير محرم وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات» (2).
فالنقد البناء طريق من طرق التمييز والمعرفة بين الصحيح وغير الصحيح فهو يمنح الإنسان فطرة واقعية ويصلح أفكاره وأعماله ويفتح طريق النمو والتقدم أمامه وأمام مجتمعه والمعرفة الإنسانية تتقدم أيضاً في ضوء النقد الدقيق من جانب العلماء وأهل المعرفة...
وينقد العلماء ودراساتهم تتبين صحة النظريات العلمية أو سقمها بعد تعرضها للإشكال والسؤال والجواب...
إن الانتقاد السليم يلفت الناس إلى الذنوب والمسيئات الأخلاقية ويميز بين المواقف الحميدة والذميمة والأعمال الحسنة والسيئة...
ص: 216
والانتقاد في التعاليم السماوية له جهات متعددة...فمرة يكون النقد من الواجبات ومرة يكون من الفضائل وأحياناً يكون من المساوىء فمثلاً بعض الاعمال المخالفة للأخلاق تعد في الإسلام من الكبائر التي وعد اللّه سبحانه عليها النار عقاباً.. فهنا يكون على الناس كافة أن يتجنبوها كالكذب والبهتان وخيانة الأمانة ونظائرها وفي مثل هذه الحالات والمساوىء الخلقية يكون الانتقاد من الفرائض الدينية والمسلمون مكلفون بموجب قانون (النهي عن المنكر) أن يقوموا بهذا التكليف فينهوا المذنب عن الذنب...
وهناك أعمال أخرى لا تعتبر ذنباً من وجهة نظر القانون الشرعي ولكن مع ذلك تعد في نظر الأخلاق مذمومة وغير مستحبة.. مثل : الثرثرة...والرضى عن النفس.. والخشونة والفظاظة في التعامل مع الناس وغيرها من الصفات السلوكية السيئة فإن الانتقاد في هذه الحالات ليس واجباً شرعياً وإنما هو واجب أخلاقي وعرفي فيقوم المسلمون من باب حب الخير والدعوة إلى الفضيلة بتذكير إخوانهم بهذه المساوى ويرشدونهم إلى الاجتناب عنها...
وفي بعض الأحيان يكون النقد نفسه من المساوىء وذلك كما أنه إذا كان بدافع الانتقام والإفحام والغرض منه إهانة الطرف المقابل وليس التقويم والتصحيح...فإن النقد في هذه الحالة يعد من الأمور القبيحة والمذمومة. إذ أن الإهانة للمؤمنين وإيذائهم من الأمور المحرمة في الشريعة الإسلامية....
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«أما علامة الناصح فأربعة : يقضي بالحق، ويعطي الحق من نفسه ويرضى للناس ما يرضاه لنفسه، ولا يعتدي على أحد» (1).
ص: 217
أولاً : أن يكون الناقد عارفاً بالأمر الذي يريد أن ينقده متفهماً لحكمه وآثاره ونتائجه لا أن يلقي كلامه على أساس الظن والتخمين وعدم الإحاطة التامة بالأمر.. فلعل بعض الناس يتصور أن أمراً معيناً صدر عن شخص من الأمور المحرمة ولكن في الواقع هو من الأمور المباحة فيمنع الآخرين تحت عنوان النهي عن المنكر وما هو بمنكر.. ومن الواضح أن هذا يخرج الأمر عن النقد السليم ويدخل في باب النقد السيء الذي يصدر ممن لا معرفة له بالأمور بل وأحياناً يوقع صاحبه بالحرام وهو لا يعلم إذ ربما يحرم الجاهل أمراً هو حلال وبالعكس...أو ربما يحسن ما هو قبيح ويقبح ما هو حسن...
نقل أن محمداً بن المنكدر قال :
«خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متكى على غلامين ل_ه أسودين أو موليين فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أشهد لأعظنّه فدنوت منه فسلمت عليه فسلّم علي ببهر وقد تصبب عرقاً فقلت : أصلحك اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا.. لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال. قال :
فخلا عن الغلامين من يده ثم تساند وقال : لو جاءني واللّه الموت وأنا هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه تعالى، أكف بها نفسي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف من الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه..
فقلت : يرحمك اللّه أردت أن أعظك فوعظتني».
وعن حماد بن عثمان قال :
حضرت أبا عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال رجل :
أصلحك اللّه ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن يلبس
ص: 218
القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك لباساً جديداً ؟.
فقال له : «إن علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمان لا يُنكر ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به فخیر لباس کل زمان لباس أهله» (1).
ثانياً : ذكر علماؤنا الأعلام شرائط للنهي عن المنكر منها : أن يحتمل الناهي أو الناقد أن يكون لكلامه تأثير بحيث لا يذهب كلامه سدى، وذلك لأن النقد السليم يتوخى منه الاصلاح والتقويم في المجتمع فإذا كان هذا الغرض لا يتحقق يصبح النهي عبثاً ولغواً..
ثالثاً : أن لا يجلب النقد للناقد أو للمسلمين الآخرين الضرر سواء في النفس أو في العرض أو في المال...إن الإسلام يعنى بمصلحة المجتمع عناية فائقة كما يعنى بمصلحة الفرد.. بل وأحياناً يوصي المسلم بالتضحية الفردية في سبيل المصالح الاجتماعية كما في باب الجهاد وعند اقتضاء الضرورة نعم، إذا عرف الناقد المسلم أن نقده يؤثر تأثيراً إيجابياً ويحول دون المعصية ويوقف العاصي عند حده ولكن يصطحب نقده الضرر والأذى فإن الواجب الديني هنا يحتم عليه أن يقارن بين الضرر الناجم من المعصية والضرر الناجم من النقد فيقدم الأهم على المهم والضرر الكبير على الصغير وهذه قاعدة عقلائية يعمل بها جميع العقلاء ويصطلح عليها علماء الأصول بقاعدة (التزاحم).
رابعاً : أن يكون النقد في إطار الأخلاق والآداب واحترام المنقود.. فيجب أن يكون النقد مصحوباً باللطف واللين والمحبة والأخاء وقد لخص القرآن الكريم هذا الشرط بقوله تعالى :
«وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (2).
ص: 219
وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في وصف ما ينبغي أن يكون الناقد عليه :
«ناصحاً للخلق رحيماً رفيقاً بهم داعياً لهم باللطف وحسن البيان عارفاً بتفاوت أخلاقهم لينزل كلا منزلته» (1) .
وذلك لأن النقد اللين المؤدب يكون في الغالب ذا نتائج جيدة فيعمد السامع إلى إزالة نقائصه وعيوبه وبذلك يحقق الناقد هدفه...
فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من كان رفيقاً فى أمره نال ما يريد من الناس» (2).
ومن هنا جاءت وصايا الإسلام باللين والرفق عند الانتقاد فمن يريد أن يوجه نقداً إلى أحد لكي يشير له إلى بعض نواقصه وعيوبه إذا نقده بلين ومزج کلامه بالمحبة والعطف فإن النقد لا يصبح نقداً فقط بل يصبح هدية معطرة يهديها الأخ لأخيه.. وبذلك يكون احتمال تأثير ذلك فيه أكبر فيدعه يعترف بذنبه ويقبل نقصه وبعكس ذلك تماما إذا جرى النقد بأسلوب فظ وغليظ فإن رد الفعل سيكون فظاً أيضاً ويدفع المنقود إلى العناد والإصرار على الخطأ وبهذا لا يحقق النقد هدفه من جهة فضلاً عن أنه سوف يثير مكامن الحقد والعداوة بينهما..
فالنقد السليم يجب أن يلازمه اللين والمحبة لكي يؤثر أثره خاصة إذا استهدف الناقد بنقده العمل والعقل من دون أن يمس بشخصية المنقود وبهذه الطريقة استطاع أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أن يحملوا الناس على ترك الأعمال السيئة ومنها ما جاء في رواية :
إن الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مرّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن فأخذا في التنازع، يقول كل واحد منهما أنت لا تحسن الوضوء فقالا :
«أيها الشيخ كن حكماً بيننا يتوضأ كل واحد منا.. فتوضاً ثم قالا : أينا
ص: 220
يحسن.. قال : كلاكما يحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن وقد تعلم الآن منكما وتاب على أيديكما ببركتكما وشفقتكما على امة جدكما» (1).
فنلاحظ هنا أن السبطين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لم ينتقدا الشيخ انتقاداً مباشراً ولم يصفانه بالجهل لكي يمس ذلك شخصيته بل أجريا الوضوء الصحيح محتکمين عنده لكي يلفتاه إلى بطلان وضوئه.. ومن الواضح أن هذا النوع من النقد العقلائي المؤدب يعطي نتيجة إيجابية مما عرف الشيخ بخطئه وشكر إرشادهما إلى طريقة الوضوء الصحيحة مع المدح والثناء وهنا قصة أخرى وردت عن أئمة الهدى (عَلَيهِم السَّلَامُ) في هذا الصدد فقد كان (الشقراني) يعيش في عصر الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى رغم أنه كان يعتبر نفسه من محبي آل محمد (عليهم الصلاة والسّلام) إلا أنه كان يشرب الخمر.. فالتقاه الإمام مصادفة في زقاق فانتهز الفرصة لكي يوجهه وينتقده على ارتكاب هذه المعصية الكبيرة التي تلوث نفسه وضميره ويدعو إلى تركها فقال له :
«إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح وإنه منك أقبح» (2).
فهنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يجعل الشقراني هدفاً مباشراً للنقد كشخص وإنما اكتفى بالكناية عن التصريح وأشار له بالإشارة.. والحر تكفيه الإشارة إذ قال له كلمة واحدة جامعة لكل حسن فقال الحسن.. يجب أن يعمل به الكل وخاصة الموالي. لأنهم منبع الحسن ومدرسة الخير...
ومن الواضح أنه سوف يلتفت أن شرب الخمر عمل ليس بحسن بل قبيح فإذا كان هو من أتباع أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) يلزمه العمل بما يعملون هم به ويجتنب عما يجتنبون هم عنه.. وواضح أن لمثل هذا النوع من الانتقاد تأثيراً كبيراً في الناس الواعين الوجهاء والأحرار أعمق بكثير من التصريح...
ص: 221
فعن علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«تلويح زلة العاقل له أمضى من عتابه» (1).
الخامس : أن يكون النقد الموجه للأشخاص بشكل خاص وليس أمام الناس مع رعاية كرامتهم وسمعتهم فإن النقد إذا صار أمام الآخرين سبب القرح والجرح في شخصية الطرف المقابل مما يدعوه إلى العناد.
فعن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«نصحك بین الملأ تقريع» (2).
وعن الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من وعظ أخاه سراً فقد زانه ومن وعظه علانية فقد شانه» (3).
ومن أخلاق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بال فلان ؟ ولكن يقول :
«ما بال أقوام يقولون ؟ حتى لا يفضح أحداً» (4).
إن تقديم النصح علناً والإشارة إلى أخطاء الناس أمام الآخرين وتوبيخ المخطىء على رؤوس الأشهاد يعد في الحقيقة تحطيماً لشخصيته وإن لم يكن الناقد يقصد ذلك. ولذا فإن مثل هذا النصح فضلا عن كونه لا يحقق أهدافه يبعث على العداوة والبغضاء ويثير حسّ الإنتقام والتشفي وبهذا ليس لا يحقق أهدافه فقط بل يأتي بنتائج معكوسة تماماً.
«كان أحد المحامين الشبان يتابع جلسات دعوى في إحدى محاكم
ص: 222
نيويورك بشأن بيع وشراء الأسلحة والتفت إليه مرة أحد القضاة يسأله :
المدوّن في قانون البحار ست سنوات، أليس كذلك ؟
فراح المحامي الشاب الذي كان واقفاً يحدق في القاضي ثم قال بصوت مرتفع :
لا يا سيدي، مواد قانون البحار لا تذكر شيئاً بخصوص المدة أبداً في هذا الأمر قال المحامي بعد ذلك : إنه بعد أن نطق بهذه العبارة استولى صمت ثقيل على المحكمة ووصلت حرارة الجلسة إلى درجة الصفر.
لقد أخطأ القاضي وكنت أنا الذي نبهته على خطئه هل كانت هذه هي الطريقة المثلى للفت النظر ؟ كلا.
وكانت النتيجة أني خسرت القضية على الرغم من حسن بلائي في الدفاع وبالرغم من أن القانون كان يؤيدني كنت قد ارتكبت خطأ لا يغتفر إذ ني خطأت شخصية علمية معروفة علناً» (1).
من المعروف أن دوافع الناقدين ليست متساوية كما أن طريقتهم في النقد ليست واحدة. ولهذا تكون ردود أفعالهم في النقد مختلفة...
فإذا كان دافع الناقد هو الكشف الكشف عن الحقيقة والوصول إلى الصواب وفي نفس الوقت كان نقده قائماً على أساس الصحيح من الاستدلال والبرهنة وراعى فيه أصول الأدب والأخلاق فأدلى برأيه بلين ورفق ومحبة واحترا الطرف المقابل فإنه سوف يواجه في غالب الأحيان رد فعل مرضياً وإيجابياً لأن مثل هذا النقد المنطقي الصحيح لا يثير غضب المنقود وسخطه ولا يدفعه إلى اللجاجة والعناد بل يتلقى النصيحة بقبول حسن وربما شكر الناقد وانحنى له..
ص: 223
وأما إذا كان الناقد مدفوعاً بحب التفوق والاستعلاء ويريد بواسطة النقد أن يتغلب على الطرف المقابل ويثبت نقصه وعجزه فإن انتقاده حتى لو كان صحيحاً فإنه سوف يواجه رد فعل حادٍ أو عنيف ومن الواضح أن أن من أمثال هذه الانتقادات البعيدة عن الأخلاق فضلاً عن كونها عديمة الفائدة ولا تحلّ مشكلة فإنها تكون مضرة وتسبب بغض الإنسان الناقد من قبل الآخرين وتثير روح العداء والخصومة.
فعن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«المرء يفسد الصداقة القديمة ويحلّل العقدة الوثيقة وأقل ما فيه أن يكون فيه المغالبة. والمغالبة أشر أسباب القطيعة»(1).
عندما كان «فرانكلين» شاباً غراً قليل التجربة اختلی به صديق قديم وقدم له عدداً من النصائح وكشف له عن بعض الحقائق المرة قائلاً :
«إنك شاب عنيد تعامل من لا يتفق معك في الرأي معاملة خشنة بصورة عجيبة وأجوبتك التي ترد بها على الناس لا تختلف عن الصفعات واللكمات لذلك ترى الناس يتهربون منك وأصدقائك يفضلون غيابك على حضورك وأنت نفسك تعرف هذا عن نفسك وليس هنا من يتقدم لإصلاح أخلاقك لأنه يعلم أن ذلك لا جدوى فيه كالضرب في الحديد.
العجيب في الأمر هو كيفية تلقي فرانكلين هذه الانتقادات القاسية لقد كان على درجة من الاستعداد الفكري والرؤية الواضحة بحيث إنه عرف أنه يستحق هذا اللوم وأنه إذا لم يعمد إلى إصلاح نفسه فإنه سيلاقي الكوارث في مستقبل حياته وهكذا غير فجأة.. مسيرة حياته وقرر إصلاح نفسه وفي هذا القول :
وضعت نصب عيني شعاراً مفاده أني لم أقف في وجه رأي غريمي بشكل صريح ولن أتحدث عن آرائي بلهجة قاطعة حاسمة لذلك رحت أتجنب الألفاظ الدالة على القطع برأي ما مثل (حتماً) (من دون شك)
ص: 224
وأمثالها....بل أستعمل بدلاً منها ألفاظاً مثل (أظن) «حسبما أعلم» وأمثالها.
بعد ذلك التاريخ كنت قادراً على ضبط نفسي كلما سمعت رأياً غلطاً لأحدهم فلا أبادر إلى تكذيبه واستنكاره صراحة ولا أعيبه على خطأ رأي_ه ول_م يمر وقت طويل حتى بدأت ألمس فوائد هذا الأسلوب في معاشرة الناس وأصبحت علاقاتي بهم تتسم باللطافة والدماثة وكانوا يتقبلون آرائي وأفكاري التي كنت أعرضها ببساطة وبدون تظاهر بكل يسر وسهولة وقلما كانوا يعارضونها» (1).
وهذه كانت سمات أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في توجيههم ونصيحتهم للناس إذ كانوا يتحلون بأعلى قدر من الحلم والصبر ويلتزمون الأصول الأخلاقية والآداب إلى درجة تثير العجب والدهشة حتى مع ألد الناس عداء لهم حتى أن الكثير من المعارضين والمعاندين لهم كانوا يعترفون صراحة بسمو أخلاقهم وعظمة مقاماتهم...
ص: 225
ص: 226
ص: 227
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي بادر بأربع قبل أربع : بشبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك» (1).
الحديث الشريف المتقدم واحد من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على الاجتهاد والعمل واستغلال الفرص قبل فوات الأوان. ولذا نرى أن قيمة كل الفرص في الحياة تنشأ من قيمة فرصة العمر نفسه فالذي يدرك قيمة الشباب أو الصحة.. يتمكن أن يستغل بقية الفرص التي تتاح له من خلال الحياة باعتبار أن القدرات التي يمتلكها الإنسان محدودة ومحاطة بالزمن، وتزول بمرور الوقت فهناك تدرّج في حياة الإنسان وتقابل في الحالات، والتدرّج مرتبط بالزمن والنمو، وكما جاء في قوله تعالى :
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» (2).
ص: 228
أي إنّ الإنسان يمر بمرحلة الطفولة وهي مرحلة ضعف، ثم بمرحلة الشباب وهي مرحلة القوة، ومن ثم بمرحلة الشيخوخة وهذه مرحلة ضعف أيضاً، كما في الطفولة فلذا تكون المبادرة والاستفادة في مرحلة القوة فإن فيها نفع الإنسان وربحه سواء في الأعمال التي أراد بها الدنيا والآخرة هذا في التدرّج.
أما في التقابل، فكما للإنسان حالة من الضعف والقوة وهما متقابلتان كذلك له تقابل في نفس مرحلة القوّة أيضاً، مثل الصحة ويقابله السقم أو المرض، والغنى ويقابله الفقر، والليل يقابله النهار وهكذا. فهنا أيضاً تكون الاستفادة والانتفاع في ناحية الحالة المفيدة للعمل وهي أن يكون الإنسان سليماً وذا جسم صحيح غير مريض يمكنه العمل بشكل أكثر ربحاً ومنفعة مما إذا كان مريضاً أو فقيراً أو إنه فقد الحياة الدنيا.
فبعدها لا يمكن له العمل فالموت هو نهاية العمل وبداية الجزاء بحساب منكر ونكير كما في الرواية الواردة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار» (1).
فعلى جميع الأحوال سواء في الأمور المتدرّجة أو المتقابلة في الشدة والضعف فإن من لا يدرك قيمة المرحلة التي يمكنه العمل بها والاستفادة منها بالمبادرة واستغلال الفرصة لا يملك أن يستغل باقي الفرص، وهذا أمر طبيعي لأن الذي لا يدرك قيمة الشيء لا يهتم به، والذي لا يهتم بالشي لا يستغله وقيمة العمر تأتي من نقطة واحدة وهي العمل الصالح وبه تتحدد قيمة الإنسان ودرجاته في الدنيا والآخرة. فالذي يعمل أكثر يحصل على إنتاج أكثر ولو كانت المبادرة إلى العمل في استغلال فرصة الشباب أو الصحة....فإن هذا العمل لا شك ولا ريب يكون أفضل وأكثر كماً وكيفاً مما لو فاتته الفرصة وبدأ العمل في مراحل ضعيفة
ص: 229
ومن هنا فإنّ الإسلام يؤكد على ضرورة استغلال كل لحظة من لحظات العمر.. وكل طاقة من طاقات الحياة، وحتى في أبسط حالات الإنسان فإن الإسلام يضع لها قانوناً واعتباراً، فكل حالة من حالات الإنسان لها أدب وسنة وطريقة عمل، ففي حالة الكلام هناك آداب وسنن، وللنوم كذلك وللأكل أيضاً، وغيرها من أمور الحياة العادية وقد جاء عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) النعال قال : «إنّ المؤمن إذا نظر اعتبر، وإذا سكت تفكر، وإذا تكلّم ذكر، وإذا استغنى شکر» (1).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: «كل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو» (2).
فحتى هذه النظرة الواحدة والسكوت القصير لا يسمح الإسلام بصرفه دون الاستفادة التامة منه، إنّه يطلب من الإنسان أن يشغل جميع طاقاته وإمكانياته في الذكر والعمل الصالح ويستفيد من كل شيء في الحياة وعلى هذا الأساس يقول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في غده شرّاً من يومه فهو مفتون، ومن لم يتفقد النقصان في نفسه دام نقصه، ومن دام نقصه فالموت خير له» (3).
وعلى هذا فإن من لم يعمل من أجل الزيادة واستغلال الفرص فهو إلى النقصان (أي إلى الكسل والكاسل) أحياناً لا يفرّق عن الإنسان الميت بل وأحياناً الموت أفضل ل_ه لأنه لا يعمل، والإنسان بعد الموت لا عمل له فالدنيا دار عمل والموت دار حساب لا عمل ولذا كان من الضروري أن نعرف نقطتين :
ص: 230
الأولى : إنّ الدنيا مزرعة الآخرة وإن كافة المراحل التي يمر بها الإنسان في هذه الحياة من حيث التدرّج أو التقابل وما يمتلكه من طاقات وإمكانيات مسخرة يجب أن تستغل في مجال الاستفادة منها للدنيا والآخرة معاً.
الثانية : إن الدنيا زائلة قال اللّه تعالى : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى..» (1).
فمهما عاش الإنسان في هذه الحياة الدنيا فإنه بالنتيجة مصيره الموت وهذا شيء حتمي إذ لا بد من معاد، وقد ثبت ذلك في أصول الدين وحتى لو كان عمر الإنسان طويلاً فهو بالنتيجة لا يوازي عمر الآخرة ومتعه أيضاً لا توازي متع الآخرة.
لذلك فإن اللازم على الإنسان أن لا يسمح بمرور لحظة واحدة من عمره بدون استغلال أخروي، فكل لحظة عمل هنا يقابلها نتيجة ضخمة في الآخرة ثواباً أو عقاباً، وأيضاً نستنتج من النقطة الثانية التي تقول إن الحياة الدنيا زائلة، فإن الفرص المتاحة فيها الأخرى زائلة لذا يقول الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عليه» (2).
وأبواب الخير لا تخفى عليكم هي في أن يكون الإنسان صحيحاً وليس مريضاً، أو يكون شاباً قوياً لا يعتريه داء وأن يفتح اللّه عليه باب الرزق فيتقوت منه من أجل التمكن على طلب الآخرة وغيرها من الخيرات والنعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى سخرها اللّه تعالى للبشر.
إنّ النعمة عبارة عن كل خير ولذة وسعادة، والنعمة تنقسم إلى قسمين :
ص: 231
الأول : النعمة المؤثرة لذاتها لا لغيرها، أي تكون غاية ومطلوباً ليس فوقها غاية أخرى، وهي مخصوصة بسعادة الآخرة التي لا انقضاء لها وهذه هي النعمة الحقيقية واللذّة الواقعية.
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّك مخلوق للآخرة فاعمل لها» (1).
الثاني : أنها تكون مطلوبة ولكن يقصد منها غيرها أي تكون طريقاً إلى النعمة الذاتية (الأخروية) وهذه تنفسم إلى أربعة أقسام:
١ - الفضائل النفسية ويجمعها العلم والعفة والشجاعة والعدالة وهي أقرب وأفضل وسيلة إلى النعمة الأخروية التي هي غاية الغايات وأشرف أفرادها العلم ومنه العلم باللّه تعالى وصفاته وأفعاله وملائكته ورسله وعلم الأخلاق. إذ إن هذه الفضيلة تؤدي إلى السعادة الحقيقية بلا توسط شيء آخر وسائر العلوم الأخرى إنما هي مقصودة من حيث كونها وسائل إلى هذا العلم.
2 - الفضائل البدنية وهي أربعة : الصحة، والقوة، وطول العمر، والجمال.
٣- النعم الخارجية : وهي المال والجاه والأهل والمنصب والعشيرة.
٤ - النعم التوفيقية : ومنها هداية اللّه ورشده و تسديده وتأييده.
وهذه النعم الأربع يتوقف بعضها على بعض ويحتاج بعضها للبعض الآخر وهذه الحاجة إما باللزوم أو للضرورة كتوقف تمام سعادة الآخرة على الفضائل النفسية والبدنية، وتوقف الفضائل النفسية على صحة البدن أو على سبيل النفع والإعانة، كتوقف الفضائل النفسية والبدنية على النعم الخارجية.
ولذا أقول هنا إن القسم الأول من النعمة وهي الذاتية أي سعادة الآخرة
ص: 232
هذه مما لا تدرك دركاً تاماً، فالعقول البشرية قاصرة عن درك قليلها فضلا عن كثيرها..
أما الأقسام الأخرى للنعم فهي ليست نعمة ذاتية وإنما طريقية، أي تكون طريقاً ووسيلة لنيل النعمة الأخروية
جاء في الحديث الشريف الذي ابتدأنا به المجلس، ذكر بعض الأسباب التي تكون طريقاً ووسيلة إلى النعمة الذاتية الأخروية وهي أربعة ذكرها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه الشريف ومنها :
الشباب، والصحة، والغنى، والحياة.
فإن الشباب أي القوّة كما تقدم بيانها والصحة والحياة من الفضائل
البدنية أما الغنى فإنه من النعم الخارجية، فلذا حثّ الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على المبادرة في العمل واستغلال هذه الفضائل باعتبارها أسباب موصلة إلى السعادة الحقيقية، وهنا علينا أن نتطرق قليلاً لهذه الفضائل الأربعة التي جاءت في الحديث الشريف من باب معرفة السبب طريق إلى المسبب إذ ان كل شيء في هذه الحياة تابع للأسباب والمسببات
الشباب يدخل ضمن الفضائل البدنية التي منحها اللّه تعالى للإنسان لما تتميز به من قوّة وإن كانت هذه المرحلة تتضمن هيجاناً قوياً نتيجة نمو الغرائز الشهوية والجنسية وما أشبه فإن غرائز الإنسان تكون في أوج عظمتها في مرحلة الشباب ولا تهدأ إلا في مرحلة الكهولة، التي تميل به إلى العقل والمنطق معنوياً ونفسياً أكثر وذلك نتيجة التجارب العديدة ولكنها بدنياً تتسم بالضعف، إلا أن مرحلة الشباب تعتبر صفوة حياة الإنسان، إذ انها من جهة تحتوي على عناصر عديدة من قوة ونشاط وفراغ ومن جهة أخرى فإن موقف الإنسان من هذه المرحلة يحدّد شكل حياته في المستقبل ومع الأسف فإن
ص: 233
القليل من شبابنا من يدرك قيمة هذه المرحلة، وتراه يندم بعد فوات الفرصة والحقيقة أنّ الإنسان لا يدرك قيمة النعمة أو الفضيلة المؤدية به إلى نعمة الآخرة ولكن سيدرك هذه القيمة عندما يفقدها، ولكي تدرك قيمة الشباب أنظر إلى ذلك الشيخ الهرم الذي يشكو من الضعف الجسدي والنفسي. وانهيار القوى، وبمتابعة جسد الإنسان بعد سن الأربعين نرى فيه تغييرات فسلجية شاملة وتبدأ عداً عكسياً أي إن بعض الأنسجة إما أن تتحلل أو أن تتصلب وتقل الطاقة الحياتية فيها تدريجياً، وتنخفض شيئاً فشيئاً جميع النشاطات الجسدية وهذه مقدمة لبداية مرحلة الشيخوخة، وقد قيل إن في جسم الإنسان ملايين الخلايا العاملة، فإذا ماتت إحداهن عوّضها الجسم بخلية أخرى ثانية إلا خلايا المخ والأعصاب، فإذا ماتت إحدى خلاياهما لا يمكن تعويضها وقد قيل إن في مخ الإنسان (١٤) ألف مليون خلية وإذا تجاوز الأربعين من عمره تبدأ بالإنتفاض في كل يوم ألف خلية من هذا الإيجاز يتضح لنا :
١ - إن دور الشباب قدرة هائلة في النشاط يجب أن يستغلها الإنسان وينتفع منها وهي أفضل مرحلة من مراحل العمر
2 - إن هذه المرحلة هي كبقية المراحل تزول بشكل سريع.
وعلى هذا الأساس ينبغي أن يقدّر الإنسان فرصة الشباب ويستغلها ليس فقط من أجل الدنيا وحدها ولكن من أجل الدنيا والآخرة معاً، باعتبارها سبباً مؤدياً إلى نعمة الآخرة وينبغي أن نعرف أن نعمة الشباب وراءها مسؤولية ومحاسبة فالذي يستغل هذه النعمة من أجل الحرام والإجرام سيعاقب أشدّ العقاب، كما أنّ من يستخدمه في سبيل الحق والخير والصلاح، فإنه يثاب أحسن ثواب، ولذا قال الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إذا كان يوم القيامة لم تزل قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه..» (1).
ص: 234
وعنه أيضاً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال :
«سبعة في ظل عرش اللّه عزَّ وجلَّ يوم لا ظل إلا ظله :
إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه عزّ وجلّ...»(1).
الصحة من الفضائل البدنية بل من أفضلها فهي تقدمت على القوّة أو الشباب باعتبار أن الشباب لا يمكن له العمل بدون الصحة والنشاط ولذا لا يتوهم في أن فضيلة البلاء في الدنيا خير من العافية ولذا فإن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة وكان يقول هو والأنبياء والأوصياء (عليهم الصلاة والسلام):
«رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» (2).
ومن مصاديق الحسنة العافية ورفع البلاء في الدنيا وفي الآخرة المغفرة والرحمة كما بين ذلك الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في قوله :
«الحسنة في الدنيا الصحة والعافية وفي الآخرة المغفرة والرحمة» (3).
وقد جاء أيضاً في الصحة عن الإمام أمير المؤمنين الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الصحة أفضل النعم» (4). وقيمة الصحة أيضاً مما لا يدركه الإنسان عادة إلا بعد فقدانها، فالإنسان الصحيح لا يشعر بنوع من الألم في أسنانه مثلاً، ولذا هو قد لا يشعر بقيمة الأسنان إلا بعد أن يُصاب بألم بسيط في أسنانه، أو يفقد بعضاً منها فعندها يدرك القيمة الحقيقية لها، وهكذا قس على باقي أعضاء البدن أو حتى الحالة النفسية للإنسان، وهناك طريقة بسيطة لمن يريد الشعور بقيمة الصحة، وهي أن يذهب إلى أولئك الذين يفقدون
ص: 235
هذه النعمة والعافية فليذهب مثلاً إلى المستشفى أو لعيادة مريض في بيته ولير ما يصيب المريض من آلام وأوجاع وما ينتابهم من شعور وإحساس.
ولكي تشعر بنعمة العقل والسمع والبصر وبقية النعم الأخرى التي تفضل اللّه تعالى بها على الإنسان لاحظ حال من يفتقدها ؟
ومن هنا تتضح عملية المبادرة إلى العمل في الصحة قبل السقم فإن من يتمتع بنعمة العافية يتمكن أن يعمل عملاً يقوى عليه في نفس الوقت الذي لا يتمكن المبتلى بداء أن يقوم به وإن كان الإبتلاء نوعاً من الامتحان للإنسان فعلى الإنسان بالمبادرة ما دام في صحة وعافية لئلا يقع في الأمل فيرى نفسه في عافية ولا يعمل بالطاعات، ويمني نفسه بالأماني التي قد تقعده عن العمل، وعند المرض يفوته كل شيء ولا ينفعه الندم، نعم إن ما يرد على المؤمن من البلاء هو وارد وموجود ولكنّه يجب أن لا يقعد عن العمل في حال صحته لينال ثواب اللّه ورضاه فإذا ما ابتلاه اللّه تعالى فيما بعد ذلك وأقعده المرض عن العمل فإنه لينال ثواب الصبر وفضله أيضاً بالإضافة إلى رضا اللّه وتوفيقه، لذا جاء في الحديث القدسي عن اللّه تعالى :
«إنّ بعض عبادي لا يصلحه إلا الفقر والمرض، فأعطيته ذلك، وبعضهم لا يصلحه إلا الغنى والصحة، فأعطيته ذلك» (1).
وبذلك يجمع بين أخبار العافية وأخبار البلاء وأن كليهما نعمة ولكن نعمة العافية أفضل لما في نعمة البلاء من قيود، فإن اللّه تعالى يقدّر للإنسان ما يصلحه في العافية أو المرض أو البلاء، والإنسان الموف هو الذي يستثمر فرص عمره في سبيل نيل رضا اللّه سبحانه، وكلما كان وضع الإنسان النفسي والبدني والاجتماعي أفضل فإنه يتمكن أن يستثمر فرصه أكثر وأتم لأن قدرته على العمل والأداء والصبر والاستقامة تكون أزيد وأكبر أيضاً.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ألا وإنّ من البلاء الفاقة، وأشد البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من
ص: 236
مرض البدن مرض القلب، ألا وإن النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب» (1).
ديننا الإسلامي لا يبغض الغنى ولا يحب الفقر بذاتهما، وإنما يبغض ويحب ما يقارنهما، فالغني مثلا لو بخل بماله ومعروفه ومنع ماله عن الآخرين وتعالى وتكبر، فهكذا غنى يكون عدمه خير من وجوده، لأنه زَرَعَ في الإنسان عدة صفات ذميمة، وفي مقابلها لو كان فقيراً لأذاب الفقر هذه الصفات الذميمة وكذلك العكس بالعكس. إذ المهم عند اللّه والإسلام هو سمات الإنسان وأخلاقه ومقاماته المعنوية.
أما المبادرة إلى العمل الصالح والفوز بالسعادة فيكون عن طريق استغلال الغنى قبل الفقر، لأن الإنسان المؤمن يتمكن وهو غني من محاربة الصفات الذميمة التي تكون في نفس الغني (من تكبر وطغيان ومنع حقوق الآخرين...) وفي نفس الوقت فإنه يتمكن أن يقوم بخدمة الناس ومساعدتهم في قضاء حوائجهم وإزالة بعض مظاهر التخلف نتيجة الفقر المادي الذي يصيبهم.
لذا جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم قال : «نعم العون على تقوى اللّه، الغنى» (2).
إن الغنى المحبوب في نظر الإسلام هو ما كان سبباً لكل برّ وخير، فمثلاً من الأمور التي تعين الدين بواسطة المال هي الصدقة، وعمارة المساجد، وبناء المدارس العلمية والتربوية، والزكاة، وتشييد الملاجيء والمستشفيات، وإقامة الشعائر الحسينية، وبناء المشاهد المشرفة، والحج وبناء المؤسسات الخيرية والثقافية وغيرها.
وهذه الأمور لا تقوم إلا بالمال ومن الواضح أن الإنسان الفقير يكون
ص: 237
محروماً من ثواب إقامتها وتوسيعها فلذا جاء في الحديث عن الرسول الأعظم سلال في وصيته للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المبادرة إلى العمل الصالح في حالة غناه قبل فقره وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«سلوا اللّه الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة» (1).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «خمس من لم تكن فيه لم يتهنّ بالعيش : الصحّة، والأمن، والغنى، والقناعة، والأنيس الموافق» (2).
لا شك أنّ الإنسان لو مات انقطع عمله فإن الدنيا دار عمل والآخرة دار الجزاء.
فلذلك المبادرة إلى العمل تكون في حياة الإنسان لا في مماته فمن الواجب على العاقل الذي يريد السعادة أن يحافظ على أوقات الصلاة ويسارع إلى فعل الخيرات فيكثر من أعمال البر والصدقات فإن العمر لحظات، ويُقال فلان قد مات فإذا عاين في قبره الأهوال والحسرات ق_ال أعيدوني إلى الدنيا لأتصدق بمالي فيقال هيهات لك العودة.
فاغتنم أيها المؤمن ما بقي لك من الأوقات فإن بقية عمرك لا بقاء لها فاستدرك بها ما فات واجتهد أن تجعل بصرك لآخرتك فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك فإن الدنيا فانية والآخرة باقية، والسعيد من استعد لما بين يديه وأسلف عملاً صالحاً يقدم عليه قبل نزول المنون يوم لا ينفع مال ولا بنون قال الشاعر :
وبادر شبابك أن يهرما***وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عزك قبل الممات***فما كل من عاش أن يسلما
وقدم فكل أمرى قادم***على كل ما كان قد قدما
ص: 238
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ألا إن الأيام ثلاثة : يوم مضى لا ترجوه، ويوم بقى لا بد منه، ويوم يأتي لا تأمنه، فالأمس موعظة، واليوم غنيمة، وغداً لا تدري من أهله...». (1).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً قال :
«إنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما» (2).
ومن خلال ما تقدم نسأل ما هي نهاية العمل الصالح ؟
قال رجل صالح لأحد العلماء : أوصني.
قال : أوصيك بشيء واحد، إعلم أن الليل والنهار يعملان فيك فأعمل أنت فيهما.
وهذا القول إذا تدبره المؤمن العاقل علم أنه أبلغ العظات.
وقيل لعالم : ما أحمد الأشياء وأحلاها في قلب المؤمن ؟.
قال : شيء واحد، وهو ثمرة العمل الصالح.
قيل له : فما نهاية السرور ؟.
قال : الأمن من الوجل عند حلول الأجل ثم تمثل بهذين البيتين :
ولدتك أمك يابن آدم باكياً***والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا***في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
وقال رجل للإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
أوصني. قال له : أعد جهازك وأكثر من زادك لطول سفرك وكن وصي
ص: 239
نفسك ولا تأمن غيرك أن يبعث بحسناتك إلى قبرك فإنه لن يبعثها أحد من ولدك إليك فما أبين الحق لذي عينين، إنّ الرحيل أحد اليومين تزودوا من صالح الأعمال وتصدقوا من خالص الأموال فقد دنا الرحلة والزوال.
خرجت من الدنيا فقامت قيامتي***غداة أقل الحاملون جنازتي
وعجل أهلي حفر قبري فصيروا***خروجي عنهم من أجل كرامتي
وبعد هذا البيان الموجز لحديث الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بما جاء فيه من نقاط ترتبط بالمبادرة إلى الفضائل الأربع : الشباب والصحة، والغنى، والحياة.
تتضح أمام الإنسان المسلم، الطرق المؤدية به إلى النجاة وهذا هو الهدف الرئيسي من بعثة الرسل (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) فهذه طرق وأسباب ذكرها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقدمناها بإيجاز هنا فعلى الإنسان العاقل الحكيم أن يسعى لتحصيلها واستغلالها للوصول إلى السبب الحقيقي والسعادة الأخروية.
ص: 240
ص: 241
ص: 242
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : شرّ الناس من باع آخرته بدنياه، وشرّ من ذلك من باع أخرته بدنيا غيره» (1).
إنّ اللّه تعالى جعل الدنيا دار تكليف وعمل، وجعل الآخرة دار قرار وجزاء، فلزم لذلك أن يصرف الإنسان إلى دنياه حظاً من العناية، وذلك للتزود منها للآخرة باعتبارها دار عمل.
إن اللّه تعالى خلق الإنسان وهو محتاج إلى غيره وهذه الحاجة صفة لازمة لطبعه، لذلك قال اللّه تعالى :
«وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا» (2).
وقد اختلف المفسرون في المراد من الضعف هنا وقد جاء المعنى في مجمع البيان هكذا : «ضعيفاً أي يستميله هواه وشهوته ويستشي_ط_ه خ_وف_ه وحزنه» (3).
ص: 243
والإنسان مبتلى بالشهوة لوجود الغريزة فيه إلى ذلك من أكل أو شرب أو جنس وتنتابه حالة الخوف أو الحزن وقد تسيطر عليه ومن هنا يظهر مدى ضعفه واحتياجه إلى أفراد جنسه، سواء كان إنساناً أو حيواناً، وكذلك يحتاج إلى الصبر وعدم الجزع وغيرها من الحالات النفسية، وإنما خص اللّه تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز، نعمة عليه، ولطفاً به، ليكون هذا الاحتياج مانعاً من طغيان الغنى، وبغي القدرة. وكما جاء في قوله تعالى :
«كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» (1). ثم جعل اللّه تعالى لنيل الحاجة أسباباً ولرفع عجزه حيلاً دلّه عليها بالعقل وأرشده إليها بالفطنة قال اللّه تعالى ؛ «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» (2). يعني الطريقين : طريق الخير وطريق الشر.
إذن لا بد للإنسان من سدّ خلته لأنه محتاج ولذا عليه أن يذهب في هذه الدنيا وراء حاجته والعمل أيضاً من أجل إنجاز التكاليف السماوية التي جعلها اللّه تعالى خاصة بالدنيا لا بالآخرة، وهذا هو القدر الذي يعمل له في الدنيا.
أولاً : وهو سد الحاجة.
ثانياً : إنجاز التكاليف اللازمة عليه، ولذا توجب عليه ترك فضول الدنيا وزجر النفس عن الرغبة فيها والاكتفاء بمقدار الحاجة والضرورة فالراغب فيها ملوم، وطالب فضولها مذموم، والرغبة إنّما تختص بما جاوز قدر الحاجة، والفضول هو ما زاد على قدر الكفاية وقد جاء قوله تعالى للنبي الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ» (3).
ص: 244
وردت معاني كثيرة لهذه الآية منها :
«فإذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربك وصلّ» (1).
وهذا القول الموجّه إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليس ترغيباً في الفضول والزيادة وإنما لأخذ البلغة منها وقدر الحاجة وعلى هذا المعنى قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته للدنيا حتى يصيب منهما جميعاً فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ولا تكونوا كلا على الناس» (2).
وجاء في صحف إبراهيم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«على العاقل أن يكون طالباً لثلاث : مرمة لمعاش، وتزوّد لمعاد ولذة في غير محرم» (3).
وبهذا يتوجب على الإنسان أن يغور أو يساير أحوال الدنيا والكشف عن جهة انتظامها واختلالها، ليعلم أسباب صلاحها، وفسادها لتنجلي أمامه الغبرة، وتنتفي الحيرة فيقصد الأمور من أبوابها ويعتمد على صلاح قواعدها وأسبابها وخير دليل على أحوال الدنيا ومقاصدها الآيات الحكيمة والأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (سلام اللّه عليهم).
هناك عدة معاني وردت للدنيا والآخرة في الآيات والأحاديث الشريفة منها مثلا :
1 - جاءت الدنيا بمعنى القرب ويقابله البعد : فالدنيا لأنها قريبة من الإنسان ومن أحاسيسه لأنها من عالم المادة والمادة هي عالم الحس سميت دنيا بينما نرى الآخرة بعيدة عنه وعن أحاسيسه لأنها من عالم الغيب فسميت
ص: 245
أخرى ولعلّ في قوله تعالى : «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى» (1).
إشارة إلى أنّ الدنيا بمعنى القرب والآخرة بمعنى البعد فقد أضيفت الدنيا في الآية الكريمة إلى العدوة لتعني القرب والقصوى من الأقصى والبعد قال ابن عباس : «يريد واللّه قدير على نصركم وأنتم اذلّة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة وهم - يعني المشركين أصحاب النفير - بالعدوة القصوى أي نزول بالشفير الأقصى من المدينة» (2).
وبذلك يظهر أن المعنى الأول للدنيا هو القرب مقابل البعد أو الأقصى.
2 - أما الثاني فإن الدنيا مأخوذة من الدنو ويقابله العلو فالدنيا دانية خسيسة لأنها تتسم بسمات المادة المحاطة بالزمان والمكان وتجعله مرتبطاً بها لا يمكنه كسر الطوق إلا بترك غواشي المادة وارتباطه بالمعنويات التي ترتقي به إلى الأعلى ولذا فإن الدنيا تكون أدنى من كل شيء بينما الآخرة تتعالى عن كل هذه النواقص وكما جاء في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «إنما سميت الدنيا دنيا، لأنّها أدنى من كل شيء، وسميت الآخرة آخرة لأن فيها الجزاء والثواب» (3).
3 - أما الثالث فإن الدنيا تعني الأول والآخرة تعني الآخر ونريد من الأول : أول ما يدركه الإنسان ويوجد به بينما الآخرة آخر ما ينتهي إليه قال اللّه تعالى : «وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (4).
وقد سأل أحد الصحابة النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «عن الدنيا. لم سمّيت بالدنيا ؟ فأجابه قائلاً
ص: 246
لأنّ الدنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة.
قال : فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة ؟
قال : لأنها متأخرة تجيء من بعد الدنيا، لا توصف سنينها ولا تحصى أيامها ولا يموت سكانها» (1).
والخلاصة فإن للدنيا والآخرة معاني، فتارة يعبر بها عن الأقرب فيقابله الأقصى أو الأبعد. قال اللّه عزّ وجلّ : «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى» (2).
والأدنى بمعنى القرب. وتارة يعبر عن الدنيا بالدنو، ويقابله العلو، وتارة بالأولى ويقابلها الآخرة ويمكن صرفها على وجوه أخرى ومعاني أكثر فمثلا : يعبر عن الدنيا بالأقل فيقابله الأكثر أو الأكبر، وتارة بالأرذل والأحقر فيقابله الأعلى والأفضل وبجميع ذلك وردت نصوص شريفة
وأما الفرق بين المعاني الثلاثة التي ذكرناها للدنيا والآخرة فإن الأول أطلق بلحاظ المكان في القرب والبعد، والثاني بلحاظ الصفات والحالات في الدنو والعلو، وأما الثالث فبلحاظ الزمان في الأول والآخر.
الدنيا محاطة باللذّات والمتع ومنها متع تصب في خدمة الإنسان وسعادته وأخرى عكسها تماماً. قال اللّه تعالى في القرآن الحكيم :
«قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى» (3).
وتنقسم متع الدنيا إلى ثلاثة أقسام :
الأول : وهو ما يصاحب الإنسان في الدنيا وتبقى ثمرته معه إلى ما بع_
ص: 247
الموت وهما شيئان : العلم والعمل فقط.
والمراد من العلم هو العلم باللّه تعالى وصفاته وأفعاله، والملائكة والكتب والرسل، وبشريعة النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأحوال الأئمة المطهرين (سلام اللّه عليهم أجمعين).
والمراد بالعمل : هو العبادة الخالصة لوجه اللّه، وطاعة أوليائه وصاحب هذا القسم من أمثال العلماء قد يأنس بالعلم حتى يصير ذلك الذ الأشياء عنده مع ملاحظة ما ذكرناه من طلب المعاش بقدر الحاجة والكفاف، فالإنسان في هذه الدنيا كما تقدم محتاج، وعليه أن يكمل احتياجه ليتمكن من إنجاز أعماله العبادية التي هي وسيلته في هذه الدنيا إلى الآخرة وبهذا القدر تكون هذه الدنيا دنيا بلاغ وقنطرة إلى الآخرة كما جاء عن الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«الدنيا دنياء ان : دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة» (1).
أما من اتخذ الدنيا لهواً ولعباً ليس فيها عملاً ولا علماً ويتوخّى منها الزيادة ويرتكب المعاصي ناكراً المعاد فهو في دنيا ملعونة وهي على النقيض من دنيا البلاغ والأخلاق والعمل الصالح وسيأتي بيانها في القسم الثاني : هو ما يقابل القسم الأول على الطرف النقيض فهو ما يصاحب الإنسان من حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً كالتلذذ بالمعاصي والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجة والرفاهية الزائدة كالتنعم بالذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث والغلمان والجواري.. إلى آخرها من الرفاهيات الزائدة عن الحاجة فهذا القسم ينطبق انطباقاً تاماً على الدنيا المذمومة. وكما جاء في حديث المعراج :
«أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه، قليل الرضا، لا يعتذر إلى من أساء إليه، ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه، كسلان عند
ص: 248
الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه، قليل المنفعة، كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام وإن أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء، ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدعون بما ليس لهم، ويتكلمون بما يتمنون، ويذكرون مساوىء الناس ويخفون حسناتهم.
قال : يا رب هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا ؟
قال : يا أحمد ! إنّ عيب أهل الدنيا كثير، فيهم الجهل والحمق، ولا يتواضعون لمن يتعلمون منه وهم عند أنفسهم عقلاء، وعند العارفين حمقاء» (1).
الثالث : وهذا النوع من الإنسان يكون متوسطاً بين القسم الأول والثاني إذ هو يطلب الآخرة بالعلم والعمل ولا يترك نصيبه من القوت والطعام وكلّ ما لا بد منه لإدامة حياته بالصحة والنشاط التي بها يتوصل إلى العلم والعمل.
وقد يطلب فيها الزيادة لا لنفسه بل لمساعدة الفقراء وإنماء المشاريع وتقديم الخدمات للناس كبناء المدارس العلمية والمستشفيات وغيرها من الأمور الخدمية فهذا القسم يفترق عن الأوّل بأنه لا يلتذ بالعلم الإلهي والمعرفة بقدر ما كان يلتذ به العالم وإنما قد يطلب بالعمل والتجارة وغيرها معالي الأمور لتقديم العون والنجاة يوم الجزاء بحسن الجزاء وقد يطلب الغنى والمال أو العلم ولكن ليحوزه لنفسه متناسياً الآخرة والثواب فهو يتأرجح بين القسمين.
وهذا القسم يتبع القصد والنية عند الإنسان فإذا كان قصد الإنسان من الأكل والشرب الاستعانة على طلب العلم والمعرفة والطاعة فهو لم يكن من أهل الدنيا، وإن كان قصده الحظ العاجل والشهوة دون الاستعانة على
ص: 249
التقوى فقد التحق بالقسم الثاني وصار من طالبي الدنيا.
قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري: «كنّا مع أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالبعيرة فلما فرغ من قتال من قتله، أشرف علينا من آخر الليل فقال : ما أنتم فيه ؟ فقلنا : في ذم الدنيا.
فقال : علام تذمُّ الدنيا يا جابر ؟ ثم حمد اللّه وأثنى عليه.
وقال : أما بعد فما بال أقوام يذمون الدنيا ؟ انتحلوا الزهد فيها ؟ الدنيا منزل صدق لمن صدقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها فيها (مسجد) أنبياء اللّه، ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته ومسكن أحبائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا منها الجنّة. فمن ذا يذمّ الدنيا يا جابر وقد آذنت ببينها، ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال ومثلت بيلائها البلاء وشوقت بسرورها إلى السرور، راحت بفجيعة وابتكرت بنعمة وعافية ترهيباً وترغيباً يذمّها قوم عند الندامة ويحمدها آخرون عند السلامة خدمتهم جميعاً فصدقتهم، وذكرتهم فذكروا، ووعظتهم فاتعظوا وخوفتهم فخافوا، وشوقتهم فاشتاقوا...» (1).
أما أعمال الدنيا فعلى أربعة أقسام وهي :
أولاً : ما يكون ظاهره وباطنه للّه تعالى كالطاعات والخيرات الخالصة.
ثانياً : ما يكون ظاهره وباطنه للدنيا كالمعاصي وكثير من المباحات إذا صارت مبدأ للبطر والغفلة.
ثالثاً : ما يكون ظاهره للّه وباطنه للدنيا كالأعمال الريائية.
رابعاً: عكس الثالث كطلب الكفاف لحفظ بقاء البدن والقوة على
ص: 250
العبادة وتكميل النفس بالعلم والعمل.
ولأنّ الدنيا دار امتحان وعمل واكتساب في مقابل الآخرة التي هي دار حساب وجزاء فإن أعمال الإنسان ومواقفه وصفت بالبيع والشراء. قال اللّه تعالى :
«فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ» (1).
وقال مولانا الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر فيها آخرون».
فالإنسان في هذه الدنيا دائماً في حالة تجارة من بيع وشراء، فيمكن للإنسان أن يبيع أعماله ومواقفه مقابل ثمن يحصل عليه في الدنيا فقط.. ويمكنه أيضاً أن يبيع أعماله في مقابل ثمن يحصل عليه في الآخرة فقط، ويمكن أن يحصل على الثمن في كليهما.
فإذا كان مقابل الأول، بأن يبيع أعماله مقابل حصوله على الثمن في الدنيا فهو في الحضيض وكتب عليه الخسران والذلة، لأن الدنيا فانية، والعاقل لا يبيع أعماله التي تسجّل وتكتب عليه فهي باقية، كما قال اللّه تعالى : «وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ» (2).
في مقابل أجر زائل وفاني، أما القسم الثاني والثالث ممن يبيع أعماله مقابل ثمن الآخرة أو كليهما فهو الذي يجب أن يسعى له العقلاء، وهو الذي أراده الإسلام من العبد في مواقفه وأعماله إذ أراد الإسلام من الإنسان أن يكون جامعاً بين الدنيا والآخرة قال اللّه تعالى
«وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» (3).
فإن لم يتمكن فالآخرة مقدمة على الدنيا، ولهذا فإن على الإنسان
ص: 251
العاقل عندما يقدم على أي عمل أن يأخذ بعين الاعتبار موازين الربح والخسارة فيه فإذا كان الربح في ذلك العمل فيقدم، وإذا كانت الخسارة فلا يقدم، لذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في وصيته للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وه_و موضوع بحثنا : «شر الناس من باع آخرته بدنياه...» وهو شر الناس لأنه يصبح كالمجنون الذي لا يفكر بالعواقب، وهل يمكن أن ننسب الذي يدفع الباقي الخالد في مقابل تحصيل الفاني الزائل إلى غير الجنون ؟ !
قال الشاعر :
وأحزم الناس من لم يرتكب عملاً***حتى يفكر ما تجني عواقبه
جاء في الروايات عن أئمة أهل البيت (سلام اللّه عليهم) بعض التصنيف لبياعي الأعمال والمواقف ووصف كل صنف منهم. ففي رواية أنه سئل الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الشقي في الدنيا «قال : رجل ترك الدنيا للدنيا ففاتته الدنيا وخسر الآخرة، ورجل تعبد واجتهد وصام رئاء الناس فذلك الذي حرم لذات الدنيا ولحقه التعب الذي لو كان به مخلصاً لاستحق ثوابه، فورد الآخرة وهو يظنّ أنّه قد عمل ما يثقل به میزانه، فيجده هباءً منثوراً» (1).
هذان صنفان يذكرهما الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أما الصنف الأوّل فقد خسر الدنيا بالإضافة إلى خسران الآخرة أمّا خسرانه الدنيا، فلأنه حرم نفسه من متع الدنيا من أجل أن يحصل على متع أكبر مما حرم نفسه منها في الدنيا، فهو جعل هدفه الدنيا من مناصب وأموال وأمتعة، فحرم نفسه من المتع القليلة لكي يصل إلى هذا الهدف ولكنه لم يصل فخسر الدنيا.
قال اللّه تعالى :
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
ص: 252
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (1).
أما الصنف الثاني فهو الذي خسر الدنيا مرتين فضلا عن خسران الآخرة، وذلك لأنه تعبد وأرهق نفسه في نفسه العبادة وحرم من لذات الدنيا ومتعها، بل إنّه أوقع نفسه في المشقة من الصوم والسهر ونحو ذلك، من أجل أن يحصل على ما في أيدي الناس، فلم يصل إلى ذلك وفي نفس الوقت أيضاً عباداته كلها مرفوضة منه في الآخرة، وكأن الرواية تريد أن تشير إلى قسمين من الناس من الباعة للأعمال .
قسم يبيعون أعمالهم بواسطة الدنيا ويسخرون الدنيا للدنيا وهو القسم الأول.
أما القسم الآخر فهم يبيعون أعمالهم بواسطة الدين ويسخرون الدين للدنيا وهو القسم الثاني، ولكن كلاهما من الخساري الذين لم يحصلوا على شيء من جراء أعمالهم هذه، غير الفضيحة والندم...
وهناك قسمان آخران :
الأول : من باع آخرته بدنياه.
الثاني : من باع آخرته بدنيا غيره.
أمّا الأوّل : فهو واضح فإنه يفقد الآخرة ويبيعها في سبيل الدنيا الفانية وهو وإن حصل على شيء من جراء بيعه ولكنه في نفس الوقت لا يمكن أن نسميه عاقلاً ولكنه أفضل من الأولين الذين خسروا الدنيا والآخرة ممن تقدم الحديث عنهم، وقد جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» (2).
ص: 253
ومن الذين باعوا آخرتهم بدنياهم حكّام بني أمية وبني العباس فق__د اشتهروا باللّهو واللعب والظلم والقتل واكتناز الأموال وصرفها في غير محلها ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان إذ أنه استفتح يوماً بالقرآن الكريم فكانت هذه الآية من قوله تعالى : «وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ» (1).
وما كان من الوليد إلا أن دعا بالمصحف فنصبه غرضاً للنشاب وأقبل يرميه وهو يقول (2) :
تهددني بجبار عنيد***فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر***فقل يارب مزقني الوليد
هكذا كان يعمل عبيد الدنيا، وهم يجبرون الناس على الطاعة ويدعون أنفسهم خلفاء المسلمين، والأدهى أنهم يتظاهرون بالعبادة والطاعة والعدل ويتعب نفسه يومياً بالصلاة مائة ركعة مثلاً وغيرها من العبادات الصعبة ليرائي بها الناس ويخدعهم ومن ثم هكذا تكون أفعالهم (3).
أما القسم الأخير : وهو الذي يبيع آخرته بدنيا غيره، فإن هذا أسوأ الأقسام لأنه يبيع كل شيء ليس من أجل نفسه بل من أجل غيره والأمثلة على ذلك كثيرة وأمثالهم ممن يربط نفسه بالسلطان الظالم فهو يبيع آخرته بدنيا غيره، ذلك من أجل سعادة السلطان وتفشّي ظلمه بين الناس ولا يحصل هو على الدنيا ولا على الآخرة لأنه عبد ذليل للسلطان يقتله أي وقت شاء.
وقد جاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : شر الناس المثلث :
قيل : يا رسول اللّه وما المثلث ؟
قال : الذي يسعى بأخيه إلى السلطان، فيهلك نفسه، ويهلك أخاه
ص: 254
ويهلك السلطان» (1).
وفي خبر الشامي : سئل أمير المؤمينن (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
أيُّ الخلق أشقى ؟ قال : من باع دينه بدنيا غيره» (2).
وللذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، مصاديق عديدة في التاريخ فمن خدم السلطان الظالم لأجل أن ينال حفنة من المال أو شهرة، وغيرها مما فقد بها دنياه ولم يستفد منها وخسر آخرته أيضاً ومنهم ابن الزيات الذي كان وزيراً للمعتصم والواثق العباسيين، وقد قتله المتوكل العباسي بنفس الطريقة التي كان يقتل بها الناس.
سخط المتوكل العباسي على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلّد مكانه أبا الوزير وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادرين والمغضوب عليهم تنورا من الحديد رؤوس مساميره إلى داخل قائمة مثل رؤوس المسال، وذلك في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنّور.
فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فاستأذن المتوكل في ذلك فأذن له، فكتب الزيات :
هي السبيل فمن يوم إلى يوم***كأنه ما تُريك العين في النوم
لا تجزعن رويداً إنها دول***دنیا تنقل من قوم إلى قوم
وكان حبسه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً» (3).
هذه هي نهاية من خدم يبيع السلطان فإنه دنیاه لغيره ويخسر الدنيا
ص: 255
والآخرة معاً فلم يستفد من الدنيا لنفسه شيئاً لأن أعماله تصب في خدمة غيره وليست هذه الخدمة حسنة وإنما في ظلم الناس وقتلهم وسلبهم وأيضاً خسر الآخرة بارتكابه الكبائر والإثم والفواحش.
وعلى النقيض من هؤلاء الذين فقدوا الدنيا والآخرة، فهناك من الرجال العظام من أرادتهم الدنيا ولم يريدوها، فقد حاولت مراراً ولكن دون جدوى لذا فقد فازوا بالدنيا والآخرة، ومنهم الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مكاشفات أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
إني كنت بفدِك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) إذا أنا بامرأة قد هجمت علي وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها فلما نظرت إليها طار قلبي مما تداخلني من جمالها، فشبهتها (ببثينة) (1) بنت عامر الجمحي، وكانت من أجمل نساء قريش فقالت لي: يا ابن أبي طالب ! هل لك أن تزوجني وأغنيك عن هذه المسحاة ؟. وأدلك على خزائن الأرض، ويكون لك الملك ما بقيت ؟.
فقلت لها : «من أنت حتى أخطبك من أهلك» ؟
فقالت : أنا الدنيا. فقلت لها : ارجعي فاطلبي زوجاً غيري فلست من شأني، وأقبلت على مسحاتي وأنشأت أقول :
لقد خاب من غرته دنيا دنيّة***وما هي إن غرت قروناً بطايل
أتتنا على زيّ العزيز بثينة***وزينتها في مثل تلك الشمايل
فقلت لها غري سواي فإنني***عزوف عن الدنيا ولست بجاهل
وما أنا والدنيا فإنّ محمداً***رهين بقفر بين تلك الجنادل
وهبها أتتنا بالكنوز ودرّها***وأموال قارون وملك القبايل
ص: 256
اليس جميعاً للفناء مصيرها***ويطلب من خزانها بالطوايل (1)
فرحم اللّه من نظر إلى نفسه ومهد لآخرته وحبله على عاتقه ملقى قبل أن يترك الدنيا المذمومة.
«ولقد مرّ الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقصر، فقال : لمن هذا ؟
فقالوا : لأوس، فقال : ودّ أوس أن له في الآخرة ب_دل_ه رغيفاً من الخبز» (2).
وقال بعضهم: مررت بخربة فأدخلت رأسي فيها وقلت شعراً :
نادربّ الدار ذا المال الذي***جمع الدنيا بحرص ما فعل
فأجابه هاتف من الخربة :
كان في دار سواها داره***عللته بالمنى حتى انتقل
وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«مرّ عيسى بن مريم (عليه الصلاة والسلام) على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابّها.
فقال : أما إنهم لم يموتوا إلا بسخطه، ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا.
فقال الحواريون : يا روح اللّه وكلمته، أدع اللّه أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنجتنبها.
فدعا عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ربه فنودي من الجو أن نادهم.
فقام عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالليل على شرف من الأرض.
فقال : يا أهل هذه القرية، فأجابه منهم مجيب : لبيك يا روح اللّه وكلمته، فقال : ويحكم ما كانت أعمالكم ؟.
ص: 257
قال : عبادة الطاغوت وحبّ الدنيا، مع خوف قليل، وأمل بعيد، في غفلة ولهو ولعب.
فقال : كيف كان حبكم للدنيا ؟
قال : كحب الصبي لأمه، إذا أقبلت علينا فرحن_ا وسررنا وإذا أدبرت عنّا بكينا وحزنا.
قال : كيف كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال : الطاعة لأهل المعاصي.
قال : كيف كانت عاقبة أمركم ؟
قال : بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في الهاوية. فقال : وما الهاوية ؟.
قال : سجين. قال : وما سجين ؟
قال : جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة
قال : فما قلتم وما قيل لكم ؟ قال : قلنا ردّنا إلى الدنيا فنزهد فيها. قيل لنا : كذبتم.
قال : ويحك كيف لم يكلمني غيرك من بينهم ؟.
قال : يا روح اللّه وكلمته ! إنهم ملجمون بلجام من نار، بأيدي ملائكة غلاظ شداد، وإني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزلَ العذاب عمّني معهم، فأنا معلق بشعرة على شفير جهنّم، لا أدري أكبكب فيها أم أنجو منها.
فالتفت عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الحواريين فقال : «يا أولياء اللّه أكل الخبز اليابس بالملح الجريش، والنوم على المزابل، خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة» (1).
فكل خصال الشر مطويّة في حب الدنيا وكل زمام للقوة الشهوية
ص: 258
والغضبية مندرجة في الميل إليها ولذا قال اللّه سبحانه وتعالى :
«مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» (1).
وجاء في الحديث عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«رأس كل خطيئة حب الدنيا» (2)
يمكن التخلص من حب الدنيا وذلك.
أولاً : بالعلم بقبائحها.
ثانياً : العلم بمنافع الآخرة.
ثالثاً : تصفية النفس من الرذائل.
رابعاً : تعديل القوتين (الشهوية والغضبية).
وواضح أن الدنيا ليست بمذمومة في أصلها وليست مما يجب بغض وتركه بل المذموم منها أمور:
أولاً : صاحب الدنيا يحب البقاء في الدنيا للمعاصي والأمور الباطلة أو يطوّل الأمل فيها ويعتمد عليها على أمل التوبة في آخر عمره، فتراه يجمع الأموال الكثيرة ويبني الأبنية الرفيعة، أو يكره الموت لتعلقه بالأموال، وحب_ه للأزواج والأولاد، ويكره الجهاد والقتل في سبيل اللّه لحبه للبقاء أو يترك الصوم وقيام الليل وأمثالها من العبادات حتى لا تنقص من عمره.
فإن من يعيش مع هذه الأعمال الباطلة فهو مذموم. وأما إذا كان العكس بأن يحب الطاعات وكسب الكمالات وتحصيل السعادات فهو ممدوح. ففي الواقع أن المدح والذم ليس للدنيا أولاً وبالذات، وإنما لصاحب الدنيا ممن أراد الدنيا والآخرة فهو ممدوح ودنياه ممدوحة ومن أراد
ص: 259
الدنيا للدنيا فهو مذموم ودنياه مذمومة أيضاً ولكن بالعرض.
ثانياً : الدينار والدرهم وأموال الدنيا وأمتعتها : وهذه ليست مذمومة بأسرها بل المذموم منها من حرام أو شبهة أو وسيلة إليها وما يلهي عن ذكر اللّه ويمنع من عبادة اللّه. فيحرص عليها ويحبها ويشغل قلبه بها ويبخل بها عن طاعة اللّه فتكون وسيلة للابتعاد عن اللّه.
أما الممدوح منها ما كان في تحصيلها لصرفها في مرضاة اللّه وتحصيل الآخرة بها ومن طرق الحلال، فالدنيا المذمومة هنا الدنيا المكتسبة من طريق الحرام والممدوحة المكتسبة من طرق الحلال فهنا المدح والذم أيضاً ليس للدنيا أولاً بل من طريق الدنيا.
ثالثاً : التمتع بملاذ الدنيا من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات و....وأشباه ذلك ما لم تكن مستعملة على حرام أو شبهة أو إسراف وتبذير...
الدنيا هنا أيضاً ليست مذمومة أولاً وبالذات وإنما ثانياً وبالعرض باعتبار
ما يستثمر من الدنيا فإن كانت الاستفادة من الدنيا والتمتع بها بطريق حرام كالإسراف والتبذير وأكل أموال الناس بالباطل وهضم حقوقهم تصبح الدنيا مذمومة أيضاً لأن ما نتج من استثمارها هو حرام مذموم أيضاً.
والفرق بين هذه الثلاثة هو أن قبح الدنيا وذمها في الأول ناشيء من أبناء الدنيا بينما في الثاني ناشيء من منابع الدنيا. أما الثالث فناشيء من الاستفادة من الدنيا وفي جميعها الدنيا ليست مذمومة بما هي دنيا بل بما هي مقارنة أو نابعة أو منتجة للمذموم تصبح مذمومة.
أما إذا لم تلازم الدنيا هذه المفاسد الثلاثة وصرفت في سبيل الخير والفضيلة تصبح الدنيا ممدوحة. كمن يستخدم الدنيا لبناء نفسه وتهذيبها وخدمة المجتمع وطاعة ربه، ومن هنا سئل الإمام أمير المؤمنين الى أيهما لك أفضل أن تعيش في الجنة أو في الدنيا ؟
ص: 260
فقال : بل الدنيا...لأن عيشي في الجنة فيه رضا نفسي، أما عيشي في الدنيا ففيه رضا ربي...أي بالطاعة والعبادة
والظاهر أن الروايات والآيات التي وردت كذم الدنيا وأهلها تعني الدنيا الملازمة لتلك المذمومات لا كل دنيا وإن كانت صالحة.
وذلك لأن الإسلام كما يدعو الإنسان للاستفادة من دنياه للآخرة لم يرد حرمان الإنسان من التمتع بملذات الدنيا ولكن إذا أخذها من طرق الحلال وصرفها في طريق الحلال أيضاً.
كما أكدت على ذلك الآيات والروايات. وقد جاء عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس وسعياً على أهله وتعطفاً على جاره لقي اللّه عزّ وجل يوم القيامة ووجه_ه مثل القمر ليلة البدر» (1).
وعن أحد الصحابة قال : قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
إنا لنحب الدنيا، فقال لي : تصنع بها ماذا ؟. قلت : أتزوج منها وأحج وأنفق على عيالي، وأنيل إخواني، وأتصدق، قال لي : ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة» (2).
فبهذا يمكن للإنسان التخلص من حب الدنيا بمعرفة المذموم منها والممدوح فيتجنب المذموم ويعمل بالممدوح.
ص: 261
ص: 262
ص: 263
ص: 264
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي المؤمن من آمنه المسلمون على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات» (1).
لكل مبدأ أو عقيدة أو دين مجموعة من المصطلحات أو شعارات تشير إلى ذلك المبدأ لتميّزه عن العقائد الأخرى، وعلى سبيل المثال نرى دول الشرق تنادي بشعارات معروفة بها وهي «الإشتراكية» ثم (الشيوعية) مثلاً وهكذا الغرب فإن شعارها أو صفة مبدأها (الرأسمالية) وهكذا العقائد والأديان المذهبية لها صفات تميزها عن العقائد الأخرى، وللدين الإسلامي الذي جاء به النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو خاتم الرسل والأديان المنزلة على الأرض أيضاً شعارات يتميز بها الإسلام وهي الأمن والسلام والتعالي عن الرذائل وهجر السيئات وفي الحديث المتقدم جانبان مهمّان :
الأول : إنّ الرسول الأعظم عبّر مرة عن المسلم بالمؤمن ومرة بالمسلم فقال : المؤمن من آمنه المسلمون...والمسلم من سلم المسلمون...الخ.
ص: 265
فما هو الفرق بين المؤمن والمسلم ؟
الثاني : ما الفرق بين الأمن والسلام ؟ ولماذا عبر عن المؤمن بشعار الأمن والمسلم بشعار السلام ؟.
أما الفارق بين الإيمان والإسلام، فقد اختلفت الآراء فيه، فهناك من قال بأن الإيمان والإسلام مترادفان، أي لا فرق بينهما في المعنى فهما لفظان المعنى واحد مثل الإنسان والبشر.
وآخرون يرون أنّ الإسلام أعم مطلقاً من الإيمان لأن الإيمان غير الإسلام ومن الشواهد على ذلك قوله سبحانه وتعالى :
«قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..» (1).
وفي تفسير الآية قال العلامة الطبرسي (رَحمهُ اللّه) في كتابه مجمع البيان :
«وهم قوم من بني أسد أتوا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في سنة جدبة وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر وإنما كانوا يطلبون الصدقة والمعنى أنهم قالوا صدقنا بما جئت به فأمره اللّه سبحانه أن يخبرهم بذلك ليكون معجزة له فقال : «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» أي لم تصدقوا على الحقيقة في الباطن «وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا» أي انقدنا واستسلمنا مخافة السبي والقتل. عن سعيد بن جبير وابن زيد ثم بين سبحانه أنّ الإيمان محله القلب دون اللسان فقال «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» قال الزجاج : الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به الرسول وبذلك يحقن الدم فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن المسلم حقاً فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم وباطنه غير مصدق وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله : «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» أي
ص: 266
لم تصدقوا بعد بما أسلمتم تعوذاً من القتل. فالمؤمن مبطن مع التصديق مثل ما يظهر والمسلم التام الإسلام مظهر للطاعة وهو مع ذلك مؤمن بها والذي أظهر الإسلام تعوذاً من القتل غير مؤمن في الحقيقة إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين وروي عن أنس عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : الإسلام علانية والإيمان في القلب وأشار إلى صدره...» (1).
وعلى هذا القول يظهر أن الفارق الأول بين الإيمان والإسلام، أن الإيمان ما عليه الظاهر والباطن من الاعتقاد بالإسلام وبشرائعه، والعمل بأحكامه. أما الإسلام فما عليه الظاهر لا الباطن، إذ قد يكون الشخص مسلماً ولكنه غير مؤمن أيضاً، إما لأنه لا يؤدي الأعمال الخاصة بالإسلام، أو يؤديها على الظاهر ويستبطن شيئاً آخر، وهو عدم الاعتقاد بذلك، ولكن مراده مثل مراد بني أسد كما تقدم في تفسير الآية أو أنه ولد على الفطرة مسلماً.
وقد أفرد العلامة المجلسي (رَحمهُ اللّه) باباً خاصاً بذلك في كت_اب_ه بح_ار الأنوار، ونقل جميع الوجوه والاحتمالات وآراء العامة والشيعة الإمامية في مسألة الإيمان والإسلام، وقد اخترنا من ذلك هذه الرواية وبيان العلامة المجلسي (رَحمهُ اللّه) لها :
[ «عن القاسم الصيرفي شربل المفضل قال : سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : الإسلام يحقن به الدم، وتؤدى به الأمانة، ويستحل به الفرج، والثواب على الإيمان».
بيان : يدل الخبر على عدم ترادف الإيمان والإسلام، وأن غير المؤمن من فرق أهل الإسلام، لا يستحق الثواب الأخروي أصلاً كما هو الحق والمشهور بين الإمامية، وستعرف أن كلا من الإسلام والإيمان يطلق على معانٍ، والظاهر أنّ المراد بالإيمان في هذا الخبر الإذعان بوجوده سبحانه، وصفاته الكمالية، وبالتوحيد والعدل والمعاد، والإقرار بنبوة نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )
ص: 267
وإمامة الأئمة الاثني عشر (صلوات اللّه عليهم) وبجميع ما جاء به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما علم منها تفصيلا وما لم يعلم إجمالاً وعدم الإتيان بما يخرجه عن الدين، كعبادة الصنم، والإستخفاف بحرمات اللّه.
والإسلام هو الإذعان الظاهري باللّه وبرسوله، وعدم إنكار ما علم ضرورة من دين الإسلام، فلا يشترط فيه ولاية الأئمة انتم ولا الإقرار القلبي، فيدخل فيه المنافقون، وجميع فرق المسلمين، ممّن يظهر الشهادتين، عدا النواصب والغلاة والمجسّمة، ومن أتى بما يخرجه عن الدين كعبادة الصنم وإلقاء المصحف في القاذورات عمداً، ونحو ذلك....](1).
ومن خلال هذا البيان أضيف فرقاً آخر بين الإيمان والإسلام فالإسلام : يطلق أحياناً مقابل النفاق وأحياناً مقابل التشيع فإن الشيعي هو المؤمن في اصطلاحنا وغيره فهو المسلم، فمثلاً المذهب الحنفي نقول لأحد متبعيه بأنه مسلم ولكن لا نقول له مؤمن، باعتبار أن الإيمان لا يكتمل بالإذعان والتصديق بالتوحيد والنبوة والمعاد والعدل إلا بولاية الأئمة المطهرين من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وعلى ذلك يكون الثواب على الأعمال في الآخرة لمن عمل وصدّق بولاية أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). أما من عمل ولم يصدّق بولايتهم فلا يستحق الثواب على عمله
وهنا لا بد من أن نبين أمراً، وهو أننا اعتبرنا شرط الولاية لأهل البيت (سلام اللّه عليهم) في المؤمن، ولكننا قد نرى البعض يستبطن شيئاً آخر، أو يتظاهر بالفسق من خلال إتيانه بالمحرمات أو ما يخرجه عن طاعة اللّه ورسوله والأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، فهل يمكننا أن نطلق عليه كلمة مؤمن حقيقة ؟
نعم إذا اهتدى فهو مؤمن، وإذا تمسك بالولاية بشرطها وشروطها وأطاع اللّه ورسوله والأئمة المطهرين (صلوات اللّه وسلامه عليهم) واجتنب المعاصي فهو مؤمن.
ص: 268
إذن للمؤمن صفات منها الإقرار والخضوع اللّه تعالى وذلك بالتقرب إليه والطاعة، وذلك بأداء الفرائض والأوامر الإلهية وترك كبائر المعاصي
واجتنابها، وإن ترك بعض المستحبات أو ارتكب بعض صغار المعاصي فهو ليس بخارج عن الإيمان ما لم يترك شيئاً من الطاعات الواجبة والكبيرة. ولم يرتكب كبائر المعاصي لقوله تعالى :
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا» (1).
وهذا ما يستظهر من حديث الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الذي ابتدأنا بحثنا به بأن «المؤمن من آمنه المسلمون على أموالهم ودمائهم...» لأن الاعتداء وهو ضد الأمن على الأموال والدماء، كالسرقة أو القتل أو الزنى من الكبائر فهي تخرج المسلم عن الإيمان لأنها من الكبائر.
أما إذا ارتكب الذنوب الصغيرة كما في الشق الثاني من الحديث «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» فإنه أقل شأناً من الأموال والدماء فهي لا تخرج عن صفة الإيمان.
أما صفة الإسلام فهو إقرار بالظاهر من غير العقد عليه بالقلوب فيجيز الإسلام هنا للشخص شهادته وميراثه وصار له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فقد يكون العبد مسلماً ولا يكون مؤمناً. أما لا يكون مؤمناً إلا وهو مسلم.
فشعار المؤمن الدال على الإيمان أن يثق به الناس ويأمنون جانبه في الباطن. أما شعار المسلم الدال على إسلامية المرء، هو أن يسلم المسلمون من ظواهره وليس بالضرورة أن يسلموا من باطنه أيضاً ولهذا هم مكلفون لحمل أعماله على الصحة حسب قاعدة الصحة إحمل فعل أخيك
ص: 269
على أحسنه» (1)، والتعامل معه حسب الظاهر، وظاهره هو أن يأمن المسلمون جوارحه من اليد واللسان، وإن لم يأمنوا باطنه، ولعل من هنا قسم علماء (الرجال) الرواة إلى عدول وثقات فإنّ العادل مأمون الباطن، كما هو مأمون الظاهر، أما الثقة فهو مأمون الظاهر بأن لا يكذب أو يشتبه ونحو ذلك - بناء على أن الكذب من صفات اللسان لا النفس - إذن المؤمن وراءه الأمن والأمان، أما المسلم فوراءه السلم والسلام ومن الواضح أنّ الذي يأمن الناس باطنه، يأمنون ظاهره أيضاً بشكل أولى دون العكس ولهذا فإن المؤمن يسلم منه المسلمون ويكونون منه في راحة ولهم الأمن والسلام في كل ذلك من دماء وأعراض وأموال أو الإعتداء بالأيدي واللسان وفي خبر الأعمش عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الإسلام غير الإيمان، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، وأصحاب الحدود مسلمون، لا مؤمنون ولا كافرون...» (2).
أما ما هو الأمن ؟ وما هو السلام ؟ ومن ه_و الم_ه_اج_ر ال_ذي يهج_ر السيئات ؟
قال الراغب في المفردات :
«أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر ويُجعلُ الأمان تارة إسماً للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسماً لما يُؤمن عليه الإنسان...» (3).
ص: 270
من الأهداف التي سعى لها الإسلام بتعاليمه ومبادئه الحنيفة هي الوصول إلى بسط الأمن والاستقرار لدى المجتمع الإسلامي ومن خلال تنمية روح الإيمان في نفس المسلم والتقوى إذ هما عاملان رئيسيان في استقرار المجتمع وباعثان للبركات الإلهية وكما في قوله تعالى :
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (1).
فأما التقوى فهي حسن العبودية للخالق تعالى وذلك بأداء أوامره واجتناب نواهيه والعمل الصالح الذي يرتضيه وهي متأخرة عن الإيمان، بينما الإيمان متأخر عن الإسلام، فلا بد للمسلم من عوامل طبيعية تؤثر على سي__ر حياته حتى يكون مؤمناً ومنها التربية الصالحة في الأسرة أو في المدرسة أو من خلال المجتمع فالتربية تؤثر على شخصية المسلم بجانبه الإيجابي والسلبي فمن تمتع بتربية صالحة وخيرة من خلال تعاليم الإسلام الداعية إلى الأمانة والوفاء والصدق والحياء والعفة وحفظ الشريعة وعدم الاعتداء على أموال الناس ودمائهم فإنها تولّد مجتمعاً مؤمناً وبالنتيجة هذا المجتمع سيكون آمناً يسوده الإستقرار فلا خوف على المال أو العرض أو الدماء من أبناء المجتمع المؤمن، ومن العوامل الأخرى لتنمية روح الإيمان في شخصية المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها تعطي قوة إيجابية أخرى في سبيل بسط الأمن على ربوع المجتمع الإسلامي، لأنها تقطع دابر القبائح والسيئات، وتبعث نحو العمل الصالح، ولا يريد الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من المؤمن في حديثه الشريف أنه يُؤمَنْ جانبه فقط في حفظ المال والدماء ولكن لما لها من دور مهم في حفظ نظام المجتمع ذكرهما من باب تقديم الأولى إذ أنّ المؤمن أو المجتمع الإيماني ل_ه إيجابيات عديدة منها العف_ة والشرف والاستقرار والتقدم الفكري في جميع المجالات الحياتية على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وكذا يكون منبع للحضارات والأفكار
ص: 271
البنّاءة، أما المجتع الذي لا تسوده روح الإيمان لا يسوده الأمن أيضاً لأن عامل عدم استقرار المجتمع وتراجعه في جميع الميادين هو عدم الإيمان لأن الإيمان يفيض على صاحبه بالأمل والأمن والتوكل والسعي ولهذا إذا فقدت هذه السمات صار المجتمع غابة تعيش فيها مجموعة من الوحوش والقوي يفترس الضعيف، وعندها لا يمكن الحفاظ على أرواح الناس أو على ممتلكاتهم أو حتى راحتهم واستقرارهم
أي مجتمع يتحلى بصفات الإيمان فإنه يتقدم ويسوده النظام وبه تستقيم الحياة الدنيا فضلا عن الفوز بالآخرة، وفيما لو تخلى المجتمع عن الإيمان الحقيقي فإنه يصير بؤرة للمشاكل والحروب ونهب الأموال والجرائم وغيرها، فتسود هذا المجتمع الفوضى وبالتالي يتأخر عن ركب المجتمعات المتطورة. أما المجتمع المؤمن فهو بالعكس من ذلك فإنه يحث الخطى نحو التقدم والتطور بفضل النظام وتطبيق القوانين الإسلامية. إذ إن المجتمع المؤمن ليس فيه سجون ولا زنا ولا سرقة ولا.. ولذا نشاهد أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رغم حكومته الواسعة لم يبين حتى سجناً واحداً في تلك الحكومة الشاسعة والسبب في ذلك : إن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) غرس الإيمان الصادق في النفوس فكان المؤمن يرعوي بنفسه عن ارتكاب الجرائم والموبقات وكان المجتمع الإسلامي في زمانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مجتمع تعاون وتحابب وخير ورفاه، ولذا قال اللّه سبحانه وتعالى :
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (1).
وقد أوردت كتب الحديث روايات وذكرت قصصاً عديدة عن المجتمع الإيماني في زمن حكومة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبينت كيف كان الناس يعترفون بخطاياهم أمام الرسول أو الإمام (صلوات اللّه
ص: 272
وسلامه عليهم) ليطهرهم من ذنوبهم في الدنيا.
قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أتى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رجل فقال : إني زنيت، فصرف النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وجهه عنه.
فأتاه من جانبه الآخر ثم قال، مثل ما قال، فصرف وجهه عنه.
ثم جاء الثالثة فقال : يا رسول اللّه إني زنيت، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أبصاحبكم مسٌّ _ يعني جنّة _ ؟
فقالوا : لا.
فأقر على نفسه الرابعة فأمر به رسول اللّه أن يُرجم» (1).
هذا فعل الإيمان بالمجتمع فإنه يجعل المذنب يلهث وراء تطهير نفسه من الشوائب بفعل إيمانه وخوفه من الآخرة، لأن المذنب يعتبر نفسه من الشواذ وسط أمة مؤمنة مخلصة للّه تعالى وتريد الفوز بالآخرة، ولذا يبذل جهده ليتمكن من اللحاق بالركب والنجاة في الآخرة
ولا بد من أن نشير أولاً : إلى المعنى اللغوي للسلام ومن ثم نعرج على معناه الاصطلاحي ثم ربطه بالحديث الشريف الذي ذكرناه في صدر المجلس.
أما لغةً : قال الراغب في المفردات :
(السَّلْمُ والسلامة : التعري من الآفات الظاهرة والباطنة قال تعالى : «بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (2) أي متعرّ من الدخل فهذا في الباطن وقال تعالى : «مُسَلَّمَةٌ
ص: 273
لَا شِيَةَ فِيهَا» (1) فهذا في الظاهر وقد سلم، يسلم، سلامةً وسلاماً وسلّمه اللّه...والسَّلامُ، والسّلم، والسَّلْمُ : الصلح. قال تعالى : «ولَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا» (2) وقيل نزلت فيمن قتل بعد إقراره بالإسلام ومطالبته بالصلح وقيل السِّلْمُ إسم بإزاء حرب» (3).
وبعد هذا البيان اللغوي فإنّ مرادفات السلام هو ما قابل الحرب. وأما المعنى المنقول في المفردات فإنه يريد منه التعري من الآفات الظاهرة والباطنة وهذا يختص بالمؤمن كما بينا ذلك في حديثنا عن الفرق بين الإيمان والإسلام، ولذا فإنّ المسلم هو الذي تعرّى عن الآفات الظاهرة، وأما المؤمن فهو الذي تعرّى عن الآفات الظاهرة والباطنة، وعلى الظاهر أن مراد الأصفهاني في المفردات هو الأعم من المؤمن والمسلم وذلك لقوله تعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (4). وقد اختلفت الأقوال في معنى السلم هنا.
وقد نقل العلامة الطبرسي (رَحمهُ اللّه) ذلك في تفسيره بقوله :
[«ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ» أي في الإسلام أي دوموا فيما دخلتم فيه لق_ول_ه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» آمنوا باللّه وبرسوله وقيل معناه ادخلوا في السلم والطاعة...والكلام محتمل للأمرين وحملهما على الطاعة أعم ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من أن المراد به الدخول في الولاية...](5).
ونحن نذهب أيضاً إلى الأعم وهو الطاعة وبذلك أراد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يكون شعار المسلم هو السلام بقوله المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه.
ص: 274
ولا شك أن هذا العمل هو ممهد لأن يكون الإنسان مؤمناً فيما لو تعرّى عن هذه الآفات الظاهرة فالباطن لا بد وأن يؤثر فيه هذه الممارسة من مراقبة الإنسان لجوارحه وأن لا يعتدي بها على الآخرين فتنعكس هذه الممارسة على دواخله أيضاً، وكان الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خير شاهد لهذا الشعار في قصة فتح مكة وغيرها.
واله وسلم
كانت مكة عاصمة الكفر والأصنام ومحاربة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقد واجهوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بكل وسيلة وشردوه وقتلوا بنته زينب، وصادروا أمواله، وقتلوا العديد من رجاله، ثم حاولوا اغتياله فهاجر سراً إلى المدينة، واستمرت مؤامراتهم ضد الرسالة الإسلامية، ومع ذلك وبعد أكثر من عشرين سنة، لما أراد الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فتح مكة مهد لذلك بمقدمات ثم تقدم وفتحها بسلم، دون أن تراق قطرة دم، وكان من جملة المقدمات، عندما فتح الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خيبر غنم مقداراً كبيراً من الأواني الذهبية قدرت بعشرين ألف آنية ذهبية من مختلف الأحجام، فبعث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جملة من هذه الأواني لتقسم على فقراء مكة ورجالاتها وهم كفار.
ولما جيء بتلك الأواني الذهبية إلى أهل مكة تحيروا وتعجبوا وأسقط في أيديهم عجباً، وقالوا : «إنا نقاتل هذا الرجل، وصادرنا أمواله، وقتلنا أصحابه، وأقربائه، ومع ذلك يعاملنا بهذه الروحية وبكل لطف وسلام.
كان هذا تمهيداً من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لترسيخ الإسلام في مكة وتحطيم الأصنام والإصلاح بين الناس، ولما فتح الرسول مكة جاء أبو سفيان، وهو أول عدو لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فعفا عنه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): وليس هذا فحسب بل وجعل داره مأمناً وقال : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (1)، وكذلك عفا الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أهل مكة وقال لهم كلمته التاريخية : «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (2) كما مهد الطريق لجلب خالد بن الوليد إلى الدين الإسلامي
ص: 275
حيث قال لأخيه وليد بن الوليد : «إني أتعجب من أخيك خالد، كيف لم يدخل في الإسلام ؟ وكيف لم يشهد الشهادتين» ؟ ولما جاء وليد إلى أخيه خالد ونقل له كلمة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حوله، تعجب خالد حيث إنه كان قد حارب الرسول حرباً شعواء، ومع ذلك الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يستميله بهذا اللطف فصار ذلك سبباً لإظهار خالد الإسلام، وانخراطه في جيش المسلمين كما هو معروف في التاريخ، بهذا الأسلوب السليم وبروح السلام استولى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على قلوب أهل مكة قبل أن يستولي على أجسادهم ولما استولى على أجسادهم انقادوا له وأطاعوه وقالوا فيه : أخ كريم وابن أخ کریم» (1).
ومما يستشهد به في هذا الفتح بأن شعار الإسلام كان هو السلام وذلك عندما دخل جيش المسلمين مكة أخذ سعد بن عبادة اللواء بيده وأخذ يجول في مكة وينادي :
«اليوم يوم الملحمة***اليوم تسبى الحرمة» (2)
ويعني أننا سنقتل أبناءكم ونسبي نساءكم وعندما سمع_ه رس_ول السلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعث إلى الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأشار عليه بأن يأخذ اللواء وينادي بشعار الإسلام فأخذ الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) اللواء من سعد وأخذ يجول في أزقّة مكة وهو ينادي ويقول :
«اليوم يوم المرحمة***اليوم تصان الحرمة»
يعني إن الإسلام دين الرحمة والسلام والوحدة والأخوة، وهكذا أراد الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من فتح مكة أن تكون درساً استراتيجياً لأجيال المسلمين ودرساً حياً بكل معانيه لكي يكون السلام والأمن والطمأنينة بين أبناء العالم دائماً هو المقدم والحاكم على الحرب والشتم والسب والهمز والتفرقة وما إلى ذلك من الأعمال القبيحة، ولما كان مبدأ (السلام) شعار
ص: 276
المسلم وهو ما انتهجه الرسول وأهل بيته الأطهار (عليهم أفضل الصلاة (والسلام لا بد لنا من أن نعتبر بذلك باعتبارهم القدوة والأسوة الحسنة للبشرية كما جاء في قوله تعالى :
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» (1).
ولا بد للمسلم أن يكفّ يده ولسانه عن أخيه المسلم ولا نكتفي بالكلام بل لا بد أن يكون شعار كل حركة إسلامية صالحة هو السلام الواقعي كونه مبدأ استراتيجياً وحساساً في سبيل نهضة الأمة الإسلامية ووحدتها وتأخيها.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
«إني أكره لكم أن تكونوا سبابين» (2).
وهكذا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حرب البصرة عندما انتهت الحرب عزّز جانب السلام فأرسل عائشة إلى المدينة بسلام دون أن يمسها بسوء يحيط بها أربعون من النساء بلباس الرجال للحفاظ عليها وكذلك عفا عن الذين أثاروا الحرب وفيهم من هو بمصطلح اليوم مجرم حرب» أمثال مروان وابن الزبير وقال كلمته المشهورة :
«مننت على أهل البصرة كما منّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على أهل مكة» (3).
إذن السلام هو ضمانة أكيدة لبقاء المبدأ الإسلامي، وهو الشعار الأبدي للمسلمين، ولم تقم دولة إسلامية صحيحة إلا باعتباره أساساً ومرتكزاً لها. وذلك ما أراده الرسول الأعظم لل من حديثه الذي تطرقنا إليه في بداية البحث :
«المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه».
ص: 277
المهاجر لفظ عام يشمل المؤمن والمسلم، بمعنى أن المهاجر الحقيقي الذي يحظى بدرجة الهجرة وثوابها العظيم هو الذي يترك السيئات ظاهرها وباطنها. ومن هنا جاء في الآية الشريفة قوله تعالى : «والرجز فاهجر» (1).
قال الطبرسي في مجمع البيان في معنى الآية الكريمة (2).
أولاً : عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري قالوا معناها (اهجر الأصنام والأوثان).
ثانياً : عن الحسن قال معناها (اجتنب المعاصي).
ثالثاً : عن الكسائي قال معناها (اهجر ما يؤدي إلى العذاب).
رابعاً : جماعة قالوا (جانب الفعل القبيح والخلق الذميم).
خامساً : عن الجبائي قال (أخرج حب الدنيا من قلبك لأنه رأس كل خطيئة).
وفي جميع الأقوال يستدل على أن الهجر هو ترك الأفعال السيئة ظاهرها وباطنها فالمهاجر يشمل المؤمن والمسلم إذا ترك السيئات ظاهرها وباطنها.
فأما من اعتبر اعتبر نفسه مهاجراً ولم يترك السيئات فهو مدعي وليس بواقع.
وفي الختام لا بد من طرح الحديث على الواقع المعاش، إذ إن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أراد للأمّة الإسلامية وعلى اختلاف أزمانها أن تعيش روح الإيمان والسلم، لما فيه من أثر في تقدم المجتمع الإسلامي. فالمجتمع الذي يكون أمين الجانب في حفظ الأموال والدماء ويسلم جانب الاعتداء والثرثرة والغيبة والنميمة وغيرها مما يصدر عن اليد أو اللسان، يعيش حالة
ص: 278
من النظام والرفاه والأمان، وكلّها عوامل تدفع عجلة التقدم إلى الأمام وترفل بالحضارات والعلوم الإنسانية وغيرها مما جاء الإسلام للحث عليها، وهكذا ينعكس الأمر على من هجر السيئات باعتبارها تشمل جانب حفظ المال والدماء والسلام وعدم الغيبة والنفاق وغيرها من السيئات.
لذا نرى اليوم المجتمعات التي يكثر فيها الزنا والسرقة والحروب والغيبة وارتكاب المعاصي، مجتمعات تعيش حالة من الفوضى وعدم النظام وهكذا ينعكس على بعض بلادنا الإسلامية، ومن أسبابه حلول القوانين الوضعية المستوردة بدل القوانين الإسلامية الواضحة ؛ التي جاءت في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ومنها الحديث الشريف «المؤمن من آمنه المسلمون على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات».
ص: 279
ص: 280
ص: 281
ص: 282
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي آفة الحديث، الكذب. و آفة العلم النسيان وآفة العبادة الفترة وآفة السماحة المن. وآفة الشجاعة، البغي وآفة الجمال الخيلاء. وآفة الحسب الفخر» (1).
قبل أن نتطرق إلى موضوع الحديث الشريف لا بد لنا من تبيان مقدمة وهي :
إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنة وإليه مرجعه، ومنهم من خلقه من طينة النار وإليها مصيره (وذلك بمعنى الاقتضاء لا بمعنى العلية كما قرر في علم العقائد فلا جبر في الأمر إطلاقاً).
عن حبيب السجستاني قال :
سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : إن اللّه عزّ وجلّ لما أخرج ذرية آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق له بالربوبية وبالنبوة لكل نبي. كان أوّل من أخذ عليهم الميثاق بالنبوة. نبوة محمد بن عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال اللّه جلّ جلاله لآدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
ص: 283
أنظر ماذا ترى ؟
قال : فنظر آدم إلى ذريته وهم ذرّ قد ملأوا السماء
فقال آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
يا رب ما أكثر ذرّيتي ! ولأمر ما خلقتهم (1)؟
فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ؟
فقال اللّه عزّ وجلّ :
ليعبدونني ولا يشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتّبعونهم.
قال آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور قليل وبعضهم ليس له نور ؟
قال اللّه عزّ وجلّ :
كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم ؛
قال آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم ؟
قال اللّه جلّ جلاله :
تكلّم فإن روحك من روحي وطبيعتك من خلاف كينونتي.
قال آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا رب لو كنت خلقتهم على مثال واحد، وقدر واحد، وطبيعة واحدة، وجبلة واحدة، وألوان واحدة، وأعمار واحدة وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض، ولا اختلاف في شيء من الأشياء.
ص: 284
فقال اللّه جلّ جلاله :
يا آدم بروحي نطقت، وبضعف طبعك تكلّفت ما لا علم لك به وأنا اللّه الخلاق العليم، بعلمي خالفت بين خلقهم، وبمشيئتي امضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري هم صائرون، لا تبديل لخلقي وإنما خلقت الجن والإنس ليعبدوني، وخلقت الجنّة لمن عبدني وأطاعني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي.
وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم، وكذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنّة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأزواجهم وإطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم السعيد والشقي والبصير والأعمى، والقصير والطويل، والجميل والدميم، والعالم والجاهل، والغني والفقير، المطيع والعاصي والصحيح والسقيم، ومن به الزمانة ومن لا عاهة به...
فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائه فأثيبه جزيل عطائي وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني...» (1)
وفي رواية عن الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشير فيها إلى اختلاف الناس وأن اللّه سبحانه وتعالى خلق المؤمن من طينة خاصة، والكافر من طينة أخرى فقال فيها :
«إن اللّه عزّ وجلّ خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق
ص: 285
الكافرين من طينة سجّيل قلوبهم وأبدانهم، فخلط بين الطينتين فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن، ومن ههنا يصيب المؤمن السيئة ويصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحنّ إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه» (1).
وعلى هذا فإن الإنسان خُلِقَ من أديم الأرض والأرض منها ما هي سبخة ومنها ما هي مالحة، ومنها الطيبة أيضاً فكذلك الإنسان مختلف فمنه ما هو صالح ومنه ما هو طالح حسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الأرضية فهي إما مادة طيبة أو مادة خبيثة...
وقد جاء في بعض الروايات أن خلقة الإنسان تنتهي إلى الماء أيضاً فمنه ما هو عذب فرات ومنه ما هو ملح أجاج.
قال سبحانه وتعالى :
«وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا» (2).
وننقل هنا هذه الرواية عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
سألته عن أول ما خلق اللّه عزّ وجل ؟
قال : إن أول ما خلق اللّه عزّ وجلّ ما خلق منه كل شيء.
قلت : جعلت فداك وما هو ؟
قال : الماء إن اللّه تبارك وتعالى، خلق الماء بحرين، أحدهما عذب والآخر ملح، فلما خلقهما نظر إلى العذب فقال : يا بحر. فقال : لبيك وسعديك.
ص: 286
قال : فيك بركتي ورحمتي ومنك أخلق أهل طاعتي وجنتي ثم نظر إلى الآخر فقال : يا بحر، فلم يجب، فأعاد عليه ثلاث مرات يا بحر ! فلم يجب.
فقال عليك لعنتي ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري، ثم أمرهما فامتزجا، قال : فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن» (1).
فالإختلاف بين الناس وقع على أقسام.
القسم الأول : ما يذكر أن الماءين العذب الفرات والملح الأجاج أجريا على الطين الذي خلق منه الإنسان فاختلف الطين باختلاف الماء، وهذا ما أشرنا إليه في الروايات الأولى على أن أصل الخلقة من الطين.
القسم الثاني : ما دلّ على أن الخلقة أعم من خلقة الإنسان وغيره حتى الجنة والنار تنتهي إلى الماء ثم اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في مرکزتحقیقات کامپیوتری علوم اسلامی السعادة والشقاء.
وهذه الروايات من القسمين تنتهي إلى مثل قوله تعالى :
«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (2).
القسم الثالث : ما دلّ على أن الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من
ص: 287
النور والظلمة وقد جاء عن الإمام الصادق أنه قال : إن اللّه تبارك وتعالى خلقنا من نور مبتدع من نور رسخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا وخلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم قرأ :
«كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» (1).
وإن اللّه تبارك وتعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجين وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم ثم قرأ :
«إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» (2).
ومن خلال الأقسام الثلاثة نستنتج أن اللّه خلق الناس مختلفين فكل عائد إلى طينته أو مائه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فهل اللّه سبحانه وتعالى يخلق الشرّ ؟
إن الموجودات في الكون بحسب التصور تنقسم إلى خمسة أقسام :
القسم الأول : الخير المحض.
القسم الثاني : خيره أكثر من شرّه.
القسم الثالث : شره أكثر من خيره.
القسم الرابع : ما يتساوى خيره وشرّه.
القسم الخامس : الشر المحض.
وقد أثبت الفلاسفة أن كل وجود هو خير وكل عدم هو شر فالقتل
ص: 288
عند العقلاء شرّ ولكن شريته تبدأ من العدم فإن القتل ليس شراً من حيث قدرة القاتل عليه فإن القدرة هنا كمال، ولا من حيث الآلة القاطعة فإنها أيضاً كمال لها، ولا من حيث حركة أعضاء القاتل أي عملية (الفري) ولا من حيث قبول العضو المنقطع للتقطيع لأنها كمال أيضاً بل الشر يبدأ من حيث إزالة كمال الحياة عن الشخص فعدم الحياة هو الشر أما باقي القيود الوجودية فهي خيرات.
والأقسام الثلاثة الأخيرة والتي ما كان شرّه أكثر من خيره وما تساوى خيره وشره وما هو شر محض، لا يوجد شيء منها وذلك لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح وهما باطلان
فلذا إن اللّه سبحانه وتعالى وبحكمته الإلهية يفيض ما هو الأصلح من هذا الكون فيوجد ما هو خير محض وما خيره أكثر من شره وعلى هذا فإن أصل الخلقة خير محض أو خيرها أكثر من شرها، فإن الكافر أصل وجوده خير والمؤمن كذلك ولكن الكافر بعمله الطالح يكتسب السيئات فيكون أداة شريرة لارتكاب الجريمة مثل القتل أو الزنا أو ما شابهها من المعاصي.
وفي قوله تعالى : «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» (1).
يثبت الحسن لكل ما خلقه اللّه، فكل مخلوق أصبح متصفاً بالحسن وعلى هذا فالحسن والخلق متلازمان فى الوجود، وأما لو ارتكب المخلوق السيئة فإنها ستكون من جهة العرض أي أن العمل السيء أو القبيح عارض على هذا المخلوق الذي من أصله خير وحسن.
ويذكر اللّه تعالى في كلامه المجيد وفي موارد كثيرة السيئة والظلم والذنب وغيرها. فإن هذه معاني وعناوين غير حقيقية لا يلحق الشيء من جهة انتسابه إلى اللّه سبحانه وخلقه له، وإنما يلحق الموضوع الذي يقوم
ص: 289
الأثر والعمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية وظلم فإنّ معه ناسخه مما هو ليس بمعصية وإنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقص لغاية دون الآخر.
وخير مثال على ذلك هو النكاح والزنا وهما فعلان متماثلان لا يختلفان في وجودهما النوعي وإنما الاختلاف بالموافقة والمخالفة للشرع الإلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع وتلك أمور وضعية وجهات إضافية.
أما الخلقة والإيجاد فإنهما يتعلقان بجهة التكوين والخارج وهذا ما أشرنا إليه في أنه الوجود الحقيقي وفاعله اللّه سبحانه وتعالى وأصله خير محض أو خيره أكثر من شره.
أما الجهات الإضافية والعناوين الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح والمفاسد الاجتماعية المستعقبة للمدح والذم أو الثواب والعقاب بحسب ما يشخصها ويحكم بها العقل العملي والشعور الاجتماعي. فإنما هي أمور عرضية لا تدخل في أصل التكوين إلا آثارها التي هي أقسام - الثواب والعقاب مثلاً - وعلى سبيل المثال : الظلم بعنوانه هذا قبيح عند الناس ويستتبع الذم والعقاب، وأما بحسب التكوين فليس إلا أثراً من قبيل الحركة العارضة للإنسان.
وهكذا رئيس الدولة فإنه كعنوان موضوع اجتماعي له آثار مترتبة في المجتمع كالاحترام والتقدير ونفوذ الكلمة وإدارة الأمور، أما على نحو التكوين والواقعية فإنه ليس إلا فرداً من أفراد الإنسان لا فرق بينه وبين الفرد المرؤوس أصلاً.
وهكذا باقي الأمثلة من غني وفقير وعزيز وذليل.....
وعلى هذا فإن الإنسان في حياته الدنيا يعمل بالأمور العرضية ويتتبعه المدح أو الذم والثواب أو العقاب قال تعالى :
ص: 290
«قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا» (1).
قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان إن معنى الآية «أي كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها» (2).
وإن اللّه تعالى يعلم أي الفريقين على الهدى وأيهما على الضلالة وكيف كان، فإن الآية الكريمة ترتب عمل الإنسان على ما يناسبه ويوافقه من الأعمال فقد أثبت البحث العلمي، أنّ بين الملكات والأحوال النفسانية وبين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع والجبان إذا حضرا موقفاً هائلاً، ولا عمل الجواد الكريم والبخيل اللئيم في موارد الإنفاق...
وكذلك بين الصفات النفسانية ونوع تركيب البنية الإنسانية رابطة خاصة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب وحب الانتقام بالطبع ومنها ما تغلي وتفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه ويحركه.
ومع ذلك فإن الملكات والأمزجة لا تخرج الفعل من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة. فلو كانت علّة تامة عندها يبطل الاختيار فالفعل مثل الغضب أو الشجاعة كلها مقتضيات ممكنة وليست عللا تامة ويؤيد كلامنا قوله تعالى :
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» (3).
وهكذا تدخلت في الأفعال مشيئة اللّه تعالى في أصل الخلقة أيضاً وقد قال تعالى :
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
ص: 291
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (1).
فاللّه تعالى يعد الدين فطرياً تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها ولا تغییر.
ودعوة الفطرة إلى الدين الحق والسنّة المعتدلة لا تجامع دعوة الخلقة إلى الشر والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامّة.
وبهذه المقدمة أثبتنا اختلاف الناس من حيث التكوين الإلهي وأن أصل الخلقة خير محض وأن الثواب والعقاب تابع لعمل الإنسان بحسب المقتضي وليس بحسب العلية التامة حتى لا يخرج من الاختيار.
وأما ما جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بداية حديثنا. فهناك سؤال يطرح وهو هل أن السيئات تمحق الإيمان والحسنات ؟
وقد ورد بشأن كثير من المعاصي أنها تمحق الإيمان محقاً ومن ثم فهي تذهب بالحسنات، حيث كان من شرط المثوبة هي الموافاة على الإيمان ومثال على ذلك :
ما ورد بشأن المتكبر أنه لا يدخل الجنة ومعناه أن هذه السيئة (التكبر) أذهبت كل حسناته ومنها ثواب إيمانه.
وفي رواية جاءت في كتاب الكافي أنّ محمد بن مسلم استغرب عندما سمع من الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذا الكلام :
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر
فاسترجع (2) محمد بن مسلم، قال الإمام عن : ما لك تسترجع ؟ !
ص: 292
قال : لما سمعت منك.
فقال الإمام : «ليس حيث تذهب إنما أعني الجحود» (1).
ففسر الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الكبر الموجب للإحباط بالتكبر على اللّه والجحود ولو لبعض أحكامه وهو الكفر المحض.
أنه ليس مطلق التكبر ماحقاً للحسنات والإيمان وإنما التكبر فقد تبين تجاه رب العالمين.
قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«الكبر رداء اللّه، والمتكبر ينازع اللّه رداءه» (2).
ومن الأعمال التي تفسد الإيمان هو الغضب والحسد واتهام المؤمن أخاه والغيبة والكذب وسوء الخلق.
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من لم يملك غضبه لم يملك عقله» (3).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«آفة الدين الحسد والعجب والفخر» (4).
وعنه أيضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إذا اتهم المؤمن أخاه، انماث الإيمان من قلبه كما ينمات الملح في الماء» (5).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً في شأن الغيبة :
«الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه» (6).
ص: 293
وقال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)في الكذب :
«إن الكذب خراب الإيمان»(1).
وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بشأن سوء الخلق :
«إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (2).
والأحاديث كثيرة ومتنوعة في التعبير عن المعاصي وكلها تنم عن فحوى واحد وهو :
«إن من المعاصي ما يكشف عن شرك خفي كان صاحبه يبطنه فأظهرته تلك المعصية والعمدة هو المنكشف لا الكاشف».
قال تعالى :
«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» (3).
ولذلك لا يمكننا التعبير على بعض المعاصي التي لا توجب الشرك أو الكفر باللّه، بالكفر أو بعدم الإيمان إلا مجازاً.
فعن الأصبغ بن نباتة قال :
جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسّلام) فقال :
يا أمير المؤمنين إن أناساً زعموا أن العبد لا يزني وهو مؤمن، يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يأكل الربا وهو مؤمن ولا يسفك الدم الحرام وهو مؤمن.
فقد ثقل عليّ هذا وخرج منه صدري، حين أزعم أن هذا العبد يصلي بصلاتي، ويدعو دعائي، ويناكحني واناكحه، ويوارثني واوارثه وقد خرج
من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه !
ص: 294
فقال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) :
صدقت : ثم قسم الناس على طبقات ومنازل وبين أنواع الأرواح المودعة في مختلف الناس، وإن المؤمن لا يرتكب قبيحاً إلا وقد سلب منه روح من تلك الأرواح، يعني به درجة من درجات إيمانه وليس بالذي يدخل في الكفر رأساً
ولذلك أشار الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأن المن أو البغي أو النسيان...من الأمور التي تسلب الإنسان بعض درجات إيمانه كما تأكل الأرضة مثلا الخشب قال الشاعر :
ولكلّ شيء آفة من جنسه***حتى الحديد سطى عليه المبرد
فلو أخذنا الجزء الأول من الحديث حيث قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): آفة الحديث الكذب...».
فالحديث هو الإخبار أو الرواية بالكلام عن شيء وينقسم الحديث إلى حديث صدق وحديث كذب وعلى هذا فإن الكذب من جنس الحديث.
فالكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه سواء طابق الاعتقاد أم لا على المشهور.
أما الصدق فهو خلاف الكذب لأنه مطابق الواقع فالصدق في الحديث من الإيمان ويستحق عليه الإنسان الثواب أما الكذب فإنه من أعظم المعاصي وأعظم أفراده وأشنعها الكذب على اللّه ورسوله وعلى الأئمة (عليهم الصلاة والسلام).
وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المجال أورد منها ما يلي
عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
ص: 295
«لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» (1).
أما ما جاء في الكذب فقد قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدّق وأنت به كاذب» (2).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «الصدق أمانة والكذب خيانة» (3).
وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن الكذب خراب الإيمان» (4).
وهل هناك موارد يجوز فيها الكذب.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«إن اللّه عز وجل أحب الكذب في الصلاح، وأبغض الصدق في الفساد»(5).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن اللّه أحب اثنين وأبغض اثنين :
أحب الخطر (6) فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الإصلاح.
ص: 296
وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الاصلاح» (1).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الكذب مذموم إلا في أمرين :
دفع شر الظلمة، وإصلاح ذات البين» (2).
أما الصدق في الحديث فهو النجاة والإيمان بل هو السعادة في الدنيا والآخرة ولنعتبر بهذه القصة :
«ينقل إن أحد الفلاحين كان يملك بستاناً وكان له جار غني مولع بالصيد، فشكا هذا الفلاح إلى الغني بأن كلابه قد أصابت القمح الذي زرعه في حقله وسببت تلفه لكثرة دخولها في الحقل.
فقال الجار الغني : إنني مستعد لتعويض خسارتك بسبب التلف الذي حصل لزرعك.
فقال الفلاح : ذهبت إلى صديق لي وأحضرته لكي يقدر الخسارة الناشئة من التلف فقدرها بمبلغ ثلاثين ديناراً. وأبلغت بذلك الرجل الغني وقدم لي ما طلبته من عوض وعندما جاء وقت الحصاد، وجد الفلاح أن الجزء الذي كان تالفاً أتى بأحسن محصول، فذهب إلى الغني وأعلمه بحقيقة الحال.
وقال الفلاح للغني : إني أتيت لأرد المبلغ إليك لأني لا أستحقه فقال الغني : (هذا ما ينبغي بين الرجل والرجل) أي الصدق. ثم ذهب الغني إلى بيته وعاد ومعه خمسة أمثال المبلغ الأول وقدمه إلى الفلاح وقال له : هذا جزاء صدقك
أما جزاء صدقنا مع اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة
ص: 297
والسّلام) والناس والدين فنناله في الدنيا سعادةً وخيراً وفي الآخرة جنةً ونعيماً. وهذا أنموذج من وصية الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لوصيه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا يتسع المقام بنا لشرح الأجزاء المتبقية من الحديث ولكن ما جاء في الحديث من آفة الكذب يمكن أن يوضح لنا الصورة العامة لأجزاء الحديث النبوي إذ أن آفة العلم نسيانه وعدم تعليمه للآخرين وآفة العبادة الفترة والملل إذ أن الأهواء الشخصية أكثر ما تتدخل في أداء الأعمال فتبطل العمل وإن آفة السماحة هو المن والأذى وأيضاً آفة الشجاعة البغي والتهور وظلم الناس وآفة الجمال الخيلاء وآفة الحسب الفخر.
ص: 298
ص: 299
ص: 300
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: ثلاث من حقائق الإيمان الإنفاق من الإقتار وإنصافك الناس من نفسك، وبذلك العلم للمتعلم» (1).
للإيمان مراتب ودرجات متفاوتة، ومن المراتب ما هو سهل يسير على المؤمن في حال الأداء والعمل بالطاعات، ومنها ما هو صعب وليس المراد بالصعب التكليف بما لا يطاق، لأن الدين الإسلامي في أصله دين اليسر ولا يكلف الناس بعمل عسير كما في قوله تعالى : «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (2) أي إن اللّه تعالى لا يأمر ولا ينهى أحداً إذا كان المكلف مستطيعاً. وقيل أيضاً في معناها إنّ اللّه لا يكلف أحداً بالعسير من الأعمال وإنما يكلف باليسير منها.
فإذا كان التكليف المراد منه الاستطاعة فإن «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا» لا يفترق فيه أداء الأعمال اليسيرة والأعمال الصعبة إذ كلاهما تكليف وداخل في حدود الاستطاعة. أما لو قلنا بالثاني وهو التكليف باليسير فالثواب يزداد في الأعمال الصعبة ويبلغ بها الإنسان مرتبة عالية من الدرجات، وقيل المقامات
ص: 301
القريبة إذا واظب الإنسان عليها قد يصل إلى حقيقة الإيمان، وعلى هذا فإنّ مرادنا من أداء الأعمال الصعبة هو بلوغ درجة الكمال واليقين والذي يوفر المؤمن الدافع إلى أداء الأعمال رغم صعوبتها وعدم تكليفه بها، باعتبار أن المؤمن وإن لم يفعل الأعمال الصعبة من مستحبات أو ترك المكروهات فهو واصل إلى مرتبة الإيمان.
نعم، هو لم يصل درجة اليقين أو الحقيقة، وإذا اعتبرنا الإيمان تصديقاً بالقلب وإقراراً باللسان وعملاً بالجوارح فيكفي للتصديق والإقرار والعمل ما كان يسيرا.
اختلفت الأقوال في مسألة الإيمان في هل أنه تصديق فقط أو تصديق مع عمل بالجوارح ؟ وإذا كان فقط تصديقاً فقد اختلف في حدود التصديق، فمنهم من قال بأنّ التصديق بوحدانية اللّه تعالى وعدله في أفعاله والتصديق بالنبوة، وأما الشيعة الإمامية فقد أضافوا للتصديق، التصديق بالإمامة - إمامة الأئمة الاثني عشر مع الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء - مع الإقرار بذلك.
وقد فصلنا الكلام في معنى الإيمان والإسلام في ليلة سابقة (1). أمّا هذه الليلة فنتعرف على حقيقة الإيمان، وإذا كان الإيمان حقيقة وجوهر ومراتب سهلة وصعبة، فهل يقبل الزيادة أو النقصان أم لا ؟
للجواب على السؤال نقول : إنّ المتكلمين من الخاصة والعامة قد اختلفوا في أنّ الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا ؟ أما من العامة فقد جاء عن الإمام الرازي في كتابه المحصل :
ص: 302
«الإيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص لأنه لما كان اسماً لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به، وهذا لا يقبل التفاوت فسمّي الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان».
أما عند المعتزلة : «لمّا كان الإيمان إسماً لأداء العبادات كان قابلاً لهما (أي الزيادة والنقصان)».
وعند السلف من علمائنا : إنه لما كان - أي الإيمان - اسماً للإقرار والاعتقاد والعمل فهو قابل للزيادة والنقصان».
وعلى هذا يكون الخلاف لغوياً إذ إن من لاحظ أصل الإيمان قال بأنه لا يقبل الزيادة والنقصان، ومن لاحظ كمال الإيمان باعتبار أداء العبادات قال بأنه : يقبل الزيادة والنقصان وهناك من فصل أيضاً في نفس حقيقة الإيمان هل هي قابلة للزيادة والنقيصة أم لا ؟ ومنهم الشهيد الثاني (قدّس سرّه) في رسالة العقائد ولا نريد الدخول في هذا التفصيل لطول الكلام فيه وإن الكلام فعلاً في الإيمان ومراتبه بشكل عام، ونحن نذهب إلى أن الإيمان للزيادة والنقصان.
وهناك مؤيدات لدعم هذا القول منها نقلي جاء في الكتاب والسنة، وذلك في الآيات التالية : قال اللّه تعالى في كتابه الكريم :
«وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا» (1)، وقوله تعالى :
«...لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ» (2). وقوله تعالى :
«ویزداد الذين آمنوا مع إيمانهم» (3). وقوله تعالى :
وقوله تعالى : «وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا» (4).
ص: 303
وما جاء أيضاً في السنة أحاديث كثيرة اخترنا منها هذا الحديث، وهو طويل انتخبنا منه محل الشاهد :
عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه قال : قلت له : أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند اللّه ؟
قال : ما لا يقبل اللّه شيئاً إلا به، قلت : وما هو ؟.
قال : الإيمان باللّه الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظاً، قال : قلت : ألا تخبرني عن الإيمان ؟ أقول هو مع عمل أم قول بلا عمل ؟
فقال : الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل بفرض من اللّه بيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب، ويدعوه إليه.
قال : قلت : صفه لي جعلت فداك حتى أفهمه.
قال : الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل : فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه..» (1).
فهنا إيمان تام وناقص وراجح فأما التام فهو إيمان الأنبياء والأوصياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) لاشتماله على جميع أجزاء الإيمان من فعل الفرائض، وترك الكبائر وإن تفاوتت بانضمام سائر المكملات من المستحبات وترك المكروهات زيادة ونقصاناً. أو المراد بالتام درجة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأوصيائه (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وأمّا الناقص فهو أقل مراتب الإيمان الذي بعده الكفر، وهناك مرتبة أقل من مرتبة التمام وأعلى من مرتبة القليل فهو حالة وسطى وسمّي بالراجح، لأنه لا يلزم حالة واحدة فمرة يرتفع بالكم والكيفية إلى مرتبة التمام
ص: 304
ومرة ينخفض فهو يتأرجح بين الطرفين، ولذا يعتبر متفاوتاً غير ملازم لحالة واحدة متساوية.
هذا عن طريق النقل أمّا العقل :
فلأنه لو لم يتفاوت الإيمان عند الناس لكان أبسط الناس من الأمة بل المنهمك في الفسق مساوياً لتصديق الأنبياء ويقينهم واللازم باطل قطعاً لأنّ التصديق عند النبي أو الإمام المعصوم يختلف تماماً عن عامة الناس لذا يقول الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» (1).
وفي ذلك قال العلامة المجلسي (رحمة اللّه عليه) في كتابه البحار :
الحقُّ أن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان سواء كانت الأعمال أجزاءه أو شرائطه أو آثاره الدالة عليه، فإنّ التصديق القلبي بأي معنى فسّر لا ريب أنه يزيد، وكلّما زاد زادت آثاره على الأعضاء والجوارح، فهي كثرة وقلة تدل على مراتب الإيمان زيادة ونقصاناً...
وجملة القول في ذلك أنّ للإيمان ولكل من الأعمال الإيمانية أفراداً كثيرة وحقيقية ونوراً وروحاً كالصلاة فإن لها روحاً هي الإخلاص. مثلاً. فإذا فارقها كانت جسداً بلا روح لا يترتب عليه أثر، ولا ينهى عن الفحشاء والمنكر...» (2).
ولكن الظاهر أنّ الإيمان له مراتب سواء في ناحية الزيادة أو النقيصة، فالمراتب السهلة واليسيرة للإيمان عند العمل لها مصاديق عديدة منها الصلاة التي اعتدنا عليها، والصيام، وتسبيحة الزهراء بعد الصلاة، وهكذا غسل الجمعة وغيره من الأعمال التي تعودنا عليها ونؤديها يومياً أو مرة واحدة
ص: 305
في السنة. فإن هذه من مظاهر الإيمان والعلامات الدالة عليه وفي نفس الوقت سهلة يسيرة على الإنسان عند العمل بها.
وهناك أيضاً مرتبة صعبة - ولكن لم تبلغ مرتبة العسر إلا في بعض الحالات - وهي المرتبطة بجوهر الإيمان وحقيقته والتي منها ما جاء في الحديث الشريف الذي ابتدأنا به المجلس وهي :
١ - الإنفاق من الإقتار.
٢ - إنصافك الناس من نفسك.
3 - بذل العلم للمتعلم.
و «من» في الحديث الشريف هي تبعيضية، إذ إنّ هذه النقاط الثلاث المذكورة جزء من حقيقة الإيمان وليست جميعها، فهناك حديث آخر يبين أن الحقيقة الإيمان نقاطاً وأموراً عديداً أخرى، منها ما جاء في وصية الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«يا علي، سبعة من كن فيه فقد استكمل حقيقة الإيمان، وأبواب الجنة مفتحة له : من أسبغ وضوءه : من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدّى زكاة ماله، وكف غضبه، وسجن لسانه واستغفر لذنبه، وأدّى النصيحة لأهل بيت نبیّه» (1).
وقد ذكر الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في هذه الوصية نقاطاً سهلة للمؤمن كما ذكرنا ذلك منها الوضوء والصلاة والزكاة، ولكنه أضاف إليها قيداً يجعلها من النقاط الصعبة التي ترتقي بالمؤمن إلى درجة اليقين ومعرفة حقيقة الإيمان منها إسباغ الوضوء، فكل مسلم يريد الصلاة يجب عليه الوضوء أو الطهارة المائية مع عدم المانع، ولكن هناك شخص يحسن الوضوء ويتدبره بجميع أجزاءه، وشخص آخر لا يحسنه بل ويعتبره شيئاً بسيطاً سواء حصلت الطهارة به أم لا، وهكذا بالنسبة للمصلي فمن الناس من يصلّي بإخلاص وحضور
ص: 306
قلب بين يدي اللّه تعالى وصلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر ويؤديها بشكل يرضاه اللّه تعالى، فهو يختلف عن الشخص المسلم الآخر الذي يعتبرها فرضاً واجباً ولم يلتفت إلى جوانبها المكملة وما يريده اللّه تعالى منها.
من هنا يمكن أن نعتبر أنّ أكثر الأعمال التي يؤديها العبد من عبادات
وطاعات وحقوق في أصلها تعتبر سهلة يسيرة كسائر أعمال الإنسان اليومية فالصلاة تعتبر مثل الأكل والشرب فكما يعتاد الإنسان يومياً على الأكل في أوقات معينة، يعتاد على أداء الصلاة في أوقات معينة أيضاً بلا حاجة إلى مشقة أو تكلف.. ولكن إذا أراد الإنسان أن يبلغ بصلاته مرتبة اليقين ويستكمل حقيقة الإيمان فإنّ المسألة تختلف تماماً وتصبح الصلاة التي ربما تكون في أصل أداءها سهلة يسيرة صعبة. كيف ؟.
لأن الصلاة التي تبلغ بالإنسان مرتبة اليقين وتعرج به إلى المراتب الكمالية السامية ليست الصلاة العادية التي توفرت فيها شرائط الصحة، بل التي توفرت فيها شرائط الكمال. وهذه الشرائط صعبة ليس بإمكان كل أحد أن يأتي بها وإنما هي عادة من سمات الأولياء والصالحين ومن هنا يقسم الفقهاء العبادات من حيث الأداء إلى أقسام منها :
١ - العبادة الصحيحة وهي التي توفرت فيها أجزاءها وشرائطها الأولية من طهارة وقبلة وسجود وركوع وقراءة ونحوها.
٢ - العبادة الكاملة وهي التي امتازت عن الأولى بتوفر شرائطها وأجزاءها كاملة من دون خلل أو نقصان مع إضافة المستحبات والسنن المندوبة فيها. وفرق الأولى عن الثانية أنّ الأولى لا تلازم القبول من قبل المولى إذ الصلاة إذا كانت صحيحة يسقط بها التكليف عن ذمة العبد ولكن صحتها لا يلازم قبولها.
أمّا الثانية : فالظاهر أنّ هناك تلازماً بين كمال العبادة والمقبولية وذلك لأن العمل إذا كان تام الأجزاء والشرائط وكاملاً من كل الجوانب والجهات
ص: 307
يستحيل للمولى الحكيم العادل أن يرد هذا العمل على صاحبه ويرفضه، وإلا لكان ظالماً أو بخيلاً والعياذ باللّه.
وتعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
أما القسم الثالث : فهي العبادة الباطلة التي فقدت بعض الأجزاء والشرائط الأساسية مثل الصلاة بلا طهارة أو بلا ركوع أو سجود وهذه مسامحة نسميها عبادة بناء على مبنى الصحيحين من الأصوليين الذين يقولون إنّ ألفاظ العبادات موضوعة للعبادات الصحيحة أما العبادات الفاسدة أي الباطلة فلا تسمى عبادة إلا مسامحة وبالمجاز ولهذا لا نتحدث عنها.
إذن الأعمال الصعبة تلك التي تكون كاملة وكمالها يظهر من آثارها وما يحصل عليه العبد من نتائج معنوية رفيعة.
في رواية: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): كيف أصبحت يا فلان ؟
قال : أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من قوله وقال : إنّ لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك ؟
فقال : «إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نُصب للحساب وحُشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعمون في الجنة ويتعارفون على الأرائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون...» (1).
ص: 308
ومن هنا فإنّ المؤمن الذي يريد أن يصل إلى حقيقة الإيمان ويكون موقناً بعمله عليه أن لا يترك هذه النقاط التي ذكرناها في الحديث الشريف.
«الإنفاق من الإقتار» و «إنصافك الناس من نفسك» و«بذل العلم للمتعلم».
الإنسان قد يجود بشيء من مال أو كساء أو غذاء وهو غني، بمعنى أن له وفرة من النعم الإلهية بحيث لا يضرُّ به الجود، لا شك أن هذا العمل ممدوح يستحق فيه الثناء عند العقل والشرع، ولكن الإنسان الذي يجود بشيء وهو محتاج إليه أي ليس له هذه الوفرة من المال والكساء والغذاء وغيرها فهذا قطعاً أفضل من الأوّل، لأنه يجود بشيء هو محتاج إليه ويعبر عن هذه الخصلة ب_ «الإيثار»..
قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم :
«وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...»(1).
ولقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والزهراء (سلام اللّه عليها) والأئمّة المطهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) من أروع الأمثلة في الإيثار والإنفاق من الإقتار، وهم بذلك أسوة حسنة وقدوة لمن بلغوا مرتبة حقيقة الإيمان التي تقدّم الكلام فيها. وهل تدري لم صار الإنفاق من الإقتار أفضل ؟ لأن الجود مع المكنة والوفرة عمل سهل يسير، أمّا الجود مع عدم القدرة بل الحاجة الماسة إلى ما يجود به الإنسان، هذا يعتبر من الأعمال الشاقة الصعبة على الإنسان.
ولعلّنا يمكن أن نقول : إن الأول عمل صحيح لأنه إنفاق وجود.
إما الإنفاق مع الإقتار والعدم، فهو عمل كامل ودليل على كمال النفس
ص: 309
ورفعتها، وبه يستكشف حقيقة إيمان المرء لأنه لا يقدم على هكذا عمل إلا الإنسان الذي وثق باللّه سبحانه، وأنه يتكفل بكل أموره وأنه إذا أعطى في سبيل اللّه درهماً سيبدله اللّه سبحانه أضعافاً مضاعفة في الدنيا وفي الآخرة الثواب العظيم.
في رواية أنه جاء رجل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى أزواجه فقلن : ما عندنا إلا الماء، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من لهذا الرجل الليلة ؟ فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنا يا رسول اللّه.
فأتى فاطمة وسألها : ما عندك يا بنت رسول اللّه ؟
فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبية لكنا نؤثر ضيفنا به. فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا بنت محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : نومي الصبية وأطفئي المصباح، وجعلا يمضغان بألسنتهما. فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجد الجفنة مملوءة من فضل اللّه.
فلما أصبح صلّى مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلما سلّم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبكى بكاء شديداً وقال :
يا أمير المؤمنين لقد عجب الرب من فعلكم البارحة، اقرأ :
«وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» (1) أي مجاعة «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) «فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (2).
نموذج ثاني :
وفي رواية أخرى رواها العامة والخاصة جاء فيها :
إنّ علياً أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً. فقالت : ما كانت إلا ما
ص: 310
أطعمتك منذ يومين، آثرت به على نفسي وعلى الحسن والحسين. فقال : ألا أعلمتني فأتيتكم بشيء ؟
فقالت يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر عليه، فخرج واستقرض عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ديناراً فخرج يشتري به شيئاً، فاستقبله المقداد قائلاً : ما شاء اللّه فن_اول_ه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الدينار، ثم دخل المسجد فوضع رأسه فنام، فخرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فإذا هو به، فحركه وقال : ما صنعت ؟ فأخبره، فقام وصلَّى معه، فلما قضى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صلاته قال : يا أبا الحسن هل عندك شيء نفطر عليه فنميل معك ؟. فأطرق لا يحير جواباً حياءً منه، وكان اللّه أوصى إليه أن يتعشى تلك الليلة عند علي فانطلقا حتى دخلا على فاطمة وهي في مصلاها وخلفها جفنة تفور دخاناً فأخرجت فاطمة الجفنة فوضعتها بين أيديهما، فسأل علي : أنّى لك هذا ؟ قالت : هو من فضل اللّه ورزقه «إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» قال : فوضع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كفّه المبارك بين كتفي علي ثم قال : يا علي هذا بدل دينارك ثم استعبر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) باكياً وقال : الحمد للّه الذي لم يمتني حتى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا لمريم» (1).
وهناك روايات عديدة في سخاء وإيثار أهل البيت الضم في النفقة من الإقتار.
من الأخلاق الرفيعة والفاضلة للإنسان المسلم هو الإنصاف من النفس فإذا صارت هذه الصفة من الملكات الراسخة عند المؤمن ترتقي إلى مرتبة اليقين، وهي من أفضل المثل الإسلامية التي يتحلى بها الإنسان المؤمن، إذ إنه يساير الناس بالنصفة والمداراة من يوم عَقِل إلى حين يُقبر، فإذا كان منصفاً من نفسه في السوق، أو الطريق، أو القيادة، أو المدرسة، أو مع الأهل،
ص: 311
أو المعلم أو المتعلم...فإنه يجنح إلى الحق وبذلك يرتقي ويسمو ويصبح بذلك قدوة. أما من سلك الطريق المضاد ولم ينصف الناس من نفسه، فهو يجنح إلى الباطل والتكبر والعجب، ويرفضه الأهل والأصدقاء وسائر أفراد المجتمع. وبهذا ينحدر إلى الأسفل في المقام والدرجة
وقد تمتع بهذه الصفة الفاضلة الرسول الأعظم وأهل البيت (سلام اللّه عليهم) وهم القدوة والأسوة الحسنة لنا فتوجّب علينا الإقتداء بهم كما في قوله تعالى :
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» (1).
ولقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يشارك أصحابه في إنجاز الأعمال ولا يعتبر نفسه أرفع من الآخرين مع أنه خير البشر وحبيب اللّه ورسوله، وكان أشدّ الناس إنصافاً من نفسه. ومما يذكر في ذلك أن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان مع جماعة من الأصحاب في الأصحاب في مسير لهم وقد ضلّوا في الصحراء، وأرادوا أن يصنعوا طعاماً لهم بعد أن شعروا بالجوع. فقام كل فرد بالبحث عن الأعشاب وجمعها ليعملوا منها ناراً، فقام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً معهم للبحث عنه بالرغم من ممانعة الأصحاب له، وطلبهم منه أن يبقى وهم يتكلفون هذا الأمر، وهكذا كان الرسول مع زوجاته ومع أهل بيته، ولذا أرصد الإسلام لها أكبر قدر من الترغيب والترهيب، ولقد جاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال :
«سيد الأعمال : إنصاف الناس من نفسك...» (2).
فلذا الأعمال بدون الإنصاف تكون في الغالب فوضى، كما أن أمر الناس بدون السيد المطاع فوضى.
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
ص: 312
«من واسى الفقير من ماله، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً» (1).
أما من يتصور أنه السيد المطاع وغيره العبد المطيع، هو المخدوم وغيره الخادم. أقول : من يتصور أقول : من يتصور أنه يجب أن يرتاح هو ويتعب الآخرون أو يستلقي هو ويخدمه الآخرون، فهو مشتبه سرعان ما ينفر منه الناس، فمثل ما هو يتعب ويطلب الراحة يجب أن يفكر أن الآخرين مثله أيضاً، لهم الحق في الراحة والسكينة، وهذا ليس في العمل والتعب فقط بل في كل شيء يرتبط بأمور الحياة من مال وزوجة وطفل ووظيفة، فإنّ المنصف الذي لامس الإيمان نفسه ووجدانه، يعرف دائماً أنه بشر فله حاجات وطلبات يجب أن تلبى فكذلك سائر الناس بشر لهم مثل ماله، فلهم كل الحق في المال والراحة والسكن والزوجة وإبداء الرأي والتجارة وأمثال ذلك.
أما مع الأسف نرى أن البعض لا يفكر بغيره أبداً، ويتصور أنه وح_ده الذي يجب أن يقول ما يريد، ويعمل ما يريد، ويتمتع بما يريد، ولكن هذا خلاف الإنصاف، ولذا ترى أنّ الناس أيضاً يعاملونه بمثل ما هو يتعامل به، وبالنتيجة يصبح منفوراً من المجتمع حتى من أسرته. وطبعاً ليس من السهل أن يكون الإنسان منصفاً فإن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عدّ إنصاف الناس من النفس من حقائق الإيمان لأنها من الأعمال الصعبة.
ولذا فهي تحتاج إلى تدريب النفس وتلقينها حتى تكون صفة الإنصاف ملكة راسخة فإنّ فيها جماع خير الدنيا والآخرة، بها يتحبب الإنسان إلى ربه وإلى الناس.
ومن الإنصاف أيضاً الذي يغفل عنه بعض الناس عادة، هو الاعتراف بالخطأ أو الذنب وإدانة الإنسان نفسه لو كان الحق مع الآخرين، ولا يستبد برأيه وموقفه وأن يقول ما له وما عليه، فهذا أيضاً من الإنصاف إن لم يكن من أسماه وهكذا يستطيع الإنسان بأداء هذه الصفة أن يسمو ويعلو بنظر
ص: 313
الناس ويصل إلى حقيقة الإيمان واليقين في أعماله وأفعاله.
جاء عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه تعالى يوم القيامة حتى يُفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرته في حالة غضبه على أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يُمل مع أحدهما على الآخرة بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه» (1).
من حقائق الإيمان أيضاً بذل العلم للمتعلم، لأن العلم والإيمان فضيلة فإذا بذل العلم من أجل الفضيلة ونشرها صار من حقائق الإيمان. أما لو أريد غيرها فلا يمكن أن نصف العلم بالفضيلة، بل يكون رذيلة فأقصى فضيلة العلم في بذلة وتعليمه للناس.
وهكذا الفضيلة القصوى في العلم إذا استخدم في تكميل النفس وخدمة الناس أو ما أشبه، وإذا بذل العالم العلم للناس دون طلب جاه أو مال أو شهرة فإنه سيبلغ به حقيقة الإيمان.
وقد قسم الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) طلبة العلم إلى ثلاثة أقسام، وبين علائم كل واحد كي لا يغتر بمن جعل صدره صندوق الكتب، وهو فارغ عن بهاء العلم وفضله، وجاء في حديثه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : طلبة العلم ثلاثة، فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم، صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل
فصاحب الجهل والمراء : مؤذ ممارٍ متعرض للمقال في أندية الرجال يتذاكر العلم وصفة الحلم وقد تسربل بالخشوع، وتحلّى عن الورع فدق اللّه من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.
ص: 314
وصاحب الاستطالة والختل : ذو حُب وملق، يستطيل على أشباهه من أمثاله، ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى اللّه من هذا بصره وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل : ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنّك في برنسه وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى وجلاً واعياً مشفقاً مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق إخوانه فشدّ اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه» (1).
لذا فإنّ طالب العلم الذي يكون من القسم الثالث هو الذي يتوجب عليه بذل علمه للمتعلم بعد بلوغه المرتبة السامية من التعليم.
كما جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه»(2).
وإلا فسرعان ما يذهب العلم وتبقى حسرة الفوات. لذا قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).
«العلم مقرون إلى العمل، من علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه» (3).
ولا نريد من أنواع العلم أي علم فقد يتعلّم الإنسان علماً يكون وبالاً عليه لتجاوزه حدود العقل والعرف حتى يقع في الوسوسة والسفسطة وهذا هلاك للروح والجسد والدنيا والآخرة، وإنما العلم الذي في بذله تبلغ حقيقة
ص: 315
الإيمان هو العلم الإلهي...ولذا ورد (أول العلم معرفة الجبار، وآخره تفويض الأمر إليه لأن الإنسان إذا عرف أن للعالم خالقاً قوياً جباراً، وهو عالم عادل حكيم خبير لطيف، لا يمتلك إلا أن يفوّض أمره إليه ويطيعه ولا يعصيه.. فلا يخضع للظالم، ولا يخشع لصاحب مال وثروة، ولا يركض وراء اغتنام الأموال بالحرام، وأمثال ذلك....ومن الواضح أن هذا العلم يبلغ بالإنسان حقيقة الإيمان، لأنّ الإيمان هو معرفة الخالق والتسليم إليه فكيف به إذا علّمه الإنسان العالم ونشره بين الناس ؟
فإنّ المجتمع الذي يؤمن باللّه ويسلم أمره إليه سيبلغ حقيقة الإيمان أيضاً. أما غير العالم فلا يصل إلى معشار ما يصل إليه العالم وقد جاء في قوله تعالى :
«هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» (1).
وقوله تعالى :
«وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (2).
وقد جاء في الروايات أن كمال الدين في طلب العلم والعمل ولا شيء أفضل منه حتى طلب المال، فقد قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أيها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال...» (3).
وإذا كان فضل طلب العلم بهذه المرتبة، ففضل تعليمه ونشره بين الناس أفضل وأعلى مرتبة، لذا اعتبره رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من حقائق الإيمان، وهذه الميزة جاءت مقابل الصعوبة التي قد يجدها بعض الناس في ذلك لأن في سجايا بعض الناس الاحتكار والأثرة بما عندهم من فنون ومعارف، لذا
ص: 316
فإن من ينشر العلم فإنه قد قضى على هذه الحالة السلبية وأزال من نفسه حالة الأثرة والاستبداد وبذلك يعلو ويسمو روحياً أكثر وأكثر.
إن البعض لا يريد أن يعرف الناس ما يتوصل إليه من علم ومعرفة وبالنتيجة لا يبذل علومه إليهم، ومن الواضح أن من لا ينشر العلم ولا يبذله معناه ساعد على نشر الرذيلة، إذ لا واسطة بين نشر الفضيلة بالعلم أو نشر الرذيلة، وهذه الحالة موجودة عند البعض ولا تختص بالعلم، بالفقه أو الطب أو أي علم آخر، بل تشمل حتى الصناعات والتجارات والزراعة والخطابة وأمثال ذلك، ولكن من يصل إلى حقيقة الإيمان نراه ينشر هذا العلم ويبذله ويعلمه في سبيل الخير، ونشر الفضيلة وطلب الآخرة، وذلك لأن الإنسان إذا أراد أن يحصل العلم قد يسهل عليه ويعد من الأعمال السهلة أما إذا أراد أن يبذله لغيره وينشره بين الناس، فإنه يعد ذلك من الأعمال الصعبة التي تحتاج إلى تعب وجهد إضافي وتغلب على رغبة النفس وميلها نحو الأثرة والاحتكار.
وفي رواية عن الإمام أبي محمد العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) يبين فيها فضل المعلم، قال :
«قال علي بن أبي طالب : من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيء لأهل جميع العرصات، وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي مناد يا عباد اللّه هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان فيخرج كلّ من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة» (1).
ص: 317
إذن.. من السهل اليسير أن يحصل الإنسان على الإيمان ويعمل ببعض أركانه، إلا أنه من الصعب العسير أن يرتقي الإنسان بإيمانه إلى الأعلى ليبلغ حقيقته لأن ذلك لا يحصل ببعض الأعمال الأولية بل لا بد من العلم بأركان الإيمان وشرائطه كاملة تامة، ولأن من الصعوبة بمكان أن يتمكن الإنسان أن يعرف أنه قد بلغ حقيقة الإيمان أم لا زال في الدرجات الدانية منه.
لذا وضع رسول اللّه اول بعض المعايير التي يمكن أن يقيس الإنسان نفسه عليها حتى يعرف في أي رتبة من مراتب الإيمان هو وهذه المعايير هي :
١ - الإنفاق من الإقتار.
٢ - إنصاف الناس من نفسك.
3 - بذل العلم للمتعلم.
لما لها من دور كبير في بناء الإنسان والمجتمع أولاً.....ولما تتطلبه من سمات عالية يتنكر فيها الإنسان لذّاته في سبيل الآخرين، ويعيش في مجتمعه إنسانياً لا أنانياً.
ص: 318
ص: 319
ص: 320
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قَالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت إلى كُراع لقبلت» (1).
من أهم عوامل بقاء المجتمع هي الروابط الإجتماعية، والتماسك الاجتماعي فإذا لم تكن هناك روابط اجتماعية عندها يكون الإنسان لا قيمة له لأن الروابط أحد أهداف الإنسان في الحياة.
قال سبحانه وتعالى :
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (2).
الشعوب جمع شعب وقيل إنه الحي العظيم من الناس كربيعة ومضر والقبائل جمع قبيلة وهي دون الشعب كتميم من مضر. وهناك قول ثانٍ بأن الشعوب دون القبائل وسميت بها لتشعبها عن القبيلة. وهناك أقوال أخر لا مجال لذكرها. فإن هذين القولين يفيان بالغرض من أن الشعوب أو القبائل
ص: 321
متكونة من مجموعة من الناس يشتركون جميعاً في أب وأم واحدة من فرق بين الأبيض والأسود والعربي والأعجمي وهذا الاختلاف في الجنس أو اللون ليس لتفضيل أحد على أحد بل إنه لغرض التعارف بين هذه الأجناس المختلفة النابعة من مصدر واحد ويتم بذلك الاجتماع فتستقيم المواصلة والمعاملة أما لو أزيل التعارف من بين أفراد المجتمع فعندئذ ينفرط عقد الاجتماع وتبيد الإنسانية.
وعلى هذا يكون الناس متساوين ولا فضل لأحد على الآخر وإنما الاختلاف بينهم جاء لغرض التعارف والتواصل الذي يكون دعامة المجتمع ورابطته القوية :
ولذا ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في خطبة الوداع :
«أيها الناس إن ربكم واحد وإنّ أباكم واحد كلكم لأدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا التقوى ألا هل بلغت ؟ اللّهم اشهد. قالوا : نعم ! قال فليبلغ الشاهد الغائب» (1).
وفي وصية له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للناس في مج ما آخر يقول في العداوة بين الناس :
«...فإني حريص على رشدكم، إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف وهو مما لا يحبه اللّه ولا يُعطي عليه النصر والظفر...» (2).
إن العهد الوحيد الذي جعل من الأمة الإسلامية أمة واحدة في تاريخها إذ كانت ترشد العالم وتقود الأمم وتهدي الشعوب عن رضا ومحبة وقبول هو ذلك العهد الذي جعلت فيه الرابطة فيما بين أفرادها ليست رابطة الدم
ص: 322
والأرض بل رابطة العقيدة والفكر، فكانت غايتها تحرير البشرية كلها والارتفاع بها والأخذ بيد الأمة نحو الأعلى قال سبحانه وتعالى:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ» (1).
إن الإيمان باللّه وبرسوله يقلب البشرية كلها من التنافس السلبي والصراع إلى التعارف والتعاون. والشرط الأساسي لارتقاء أي نوع من أنواع الأحياء هو أن يقل إلى الحد الأدنى التنازع بين الأفراد داخل النوع نفسه ويتغلب التعاون بينهم على التنازع كما أثبت ذلك أيضاً علماء الأحياء.
ومما تقدم من الكلام قلنا، البشر مختلفون ومتفاوتون في الجنس واللون فهم أمم مختلفة وأقوام متباينة في خصائصها ولكن لا يجوز أن يكون هذا التفاوت والتباين سبباً للاختلاف بل داعياً إلى التعارف ليكمل بعضهم بعضاً.
الإنسان خلق اجتماعياً بالطبع لا لحاجته الجسدية فقط بل لحاجاته النفسية أيضاً، حيث الإنسان يستأنس بالإنسان ويستوحش لفقده وعلى هذا الإنسان يؤثر في الإنسان الآخر سواء كانا فردين أو مجتمعين أو بالاختلاف ومن هذا قد ينتج الإيجاب وهو الترابط وقد ينتج السلب وهو التباعد.
والترابط على أقسام :
أولاً : قد يكون لأجل هدف واحد فيجتمع الناس للوصول إليه بدون أن يكون لهم لون واحد وهذا يسمى ب_ [الترابط الهدفي].
ص: 323
ثانيا : قد يكون الترابط من أجل وحدة اللون التابعة لوحدة الثقافة في الأخلاق والآداب والدين والمراسيم وهذا يسمى ب_ [الترابط الاجتماعي ]
والتباعد أيضاً على أقسام :
أولاً : قد يكون لأجل الوصول من قبل الفرد وحده أو المجتمع الخاص وحده إلى الهدف بدون عمل شيء يوجب تأخير الآخر وإن كان الفرد الآ. أو المجتمع الآخر يريد نفس الشيء فهذا يسمى (بالاستباق) حيث إن كلاً منهما يستبق الآخر في نيل هدف خاص كالمسابقة بالخيل مثلاً.
وفي قوله تعالى :
«وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» (1).
وفي قوله تعالى :
«وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (2).
فإنه التسابق الذي يريده اللّه تعالى نحو طاعته وطلب الحق والخير كما ورد في القرآن الكريم فالطاعة والحق والخير هي الهدف في الاستباق.
ثانياً : وقد يكون كالأول، ولكن مع عمل ما يوجب تأخير الآخر فهو إيجابي بالنسبة إلى نفسه وسلبي بالنسبة إلى الآخر ويسمى (بالرقابة) كرقابة التجار وسائر الحرفيين.
ثالثاً : وقد يكون كالثاني بإضافة كون الرقابة بالعداء والبغضاء ويسمى (بالمحاربة) كما في المقاتلات والحروب.
وطبعاً ربما ينتهي (الترابط والتباعد) إلى المسالمة فيما بينهما إلا في القسم الثالث من التباعد فإنه يورث الشحناء والبغضاء في المجتمع
ص: 324
(والمسالمة) : التي ينتهي التخالف إليها، فالغالب أن تكون بسبب الأفراد المصلحين بعد تهيؤ الطرفين نفسياً لها، حيث إن الإنسان مغرور غالباً فيزعم أنه بإمكانه أن يخرج خصمه من الساحة. وبعد تجربة العداء يرى أنه لم ينفعه ذلك، وأخذ من طاقاته الشيء الكثير، بالإضافة إلى ما حطّ من سمعته بما لو صرفها مثلاً في البناء لكان أجدى له. وعلى أية حال فإن الإسلام يبغض هذا النوع من التباعد لأنه يدعو إلى السلام حتى مع الأعداء قال سبحانه وتعالى :
«وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (1).
وقال الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«اللّهم سددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر واثيب من حرمني بالبذل، واكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأشكر الحسنة، وأغض عن السيئة» (2).
وكل ذلك من ترابط وتباعد يرتبط بعلم الاجتماع والذي يكون تعريفه بأنه «معرفة القوانين الحاكمة على الحياة البشرية من حيث الاجتماع» (3).
وموضوع علم الاجتماع هو كيفية الحياة البشرية من حيث الاجتماع والغرض منه هو كشف القوانين الاجتماعية العامة أو الخاصة لأجل معرفة الخطأ والصواب في الاجتماع.
فيلزم على العالم الاجتماعي عند ملاحظته المجتمع ووضعه.
ص: 325
أولاً : بيان الروابط الاجتماعية التالية :
١ - الروابط الاحيائية المبعثرة
٢ - الروابط التي يجري عليها الاجتماع عادة وتقليداً في شؤونه المتنوعة من ساعة ولادته إلى بعد موته، مما يشبه المؤسسات الدائمة، مثلاً كل اجتماع له مراسيم خاصة للولادة ومراسيم خاصة للزواج ومراسيم خاصة للموت، ومراسيم خاصة للتهنئة والتعزية.....
٣ - الروابط الدائرة في مؤسساته المختلفة من رسمية أو اقتصادية سياسية أو غيرها.
ثانياً : بيان مواضع الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، والسيء والأسوأ في تلك الأمور الثلاثة الآنفة الذكر مثلاً : في مراسيم الموت : من عادة بعض الوحوش أكل لحم ميتهم، ومن عادة بعض المبذرين دفنه بأشياء ثمينة، ومن عادة بعضهم حرمة ميتهم، ومن عادة بعضهم دفنه في تابوت كما أن عادة المسلمين وهي أفضل العادات وأحسنها دفنه بعد تنظيفه (بالغسل) ولفه في ثوب نظيف (الكفن) إلى غير ذلك من الأمور التي يبين فلسفتها علم الاجتماع، وبذلك يقرب الاجتماع إلى ما يصلحه ويقدمه ويبعّده عما يفسده ويؤخره.
وعلم الاجتماع على أربعة أمور :
1 - علم الاجتماع من حيث الغرض.
2 - علم الاجتماع من حيث الموضوع.
٣ - علم الاجتماع من حيث السند.
٤ - علم الاجتماع من حيث الحدود.
فلنبين باختصار هذه الأقسام الأربعة لعلم الاجتماع.
أما علم الاجتماع من حيث الغرض فإنه ينقسم إلى :
1 - نظري : وهو الذي يعتمد على الذهن أكثر مما يعتمد على الخارج
ص: 326
بأن يأخذ أشياء من الخارج ليكشف بها القوانين العامة للمجتمع.
2 - عملي : فهو يهتم بالجانب العملي أي تطبيق تلك القوانين على الخارج مثال : الطبيب يتعلم قواعد الطب ثم يطبقها على الناس المرضى أما إذا لم يطبب الناس فلا يسمى طبيباً لأنه لم يطبق قواعد الطب التي تعلمها على الخارج.
وأما علم الاجتماع من حيث الموضوع :
فقد يكون الموضوع عاماً وقد يكون الموضوع خاصاً فالعام هو الذي لا يختص بنوع من العلوم الاقتصادية أو السياسية أو الصناعية...وهكذا. أما الخاص فهو الذي يختص بنوع واحد من العلوم مثل : علم الاجتماع الاقتصادي أو السياسي أو القضائي...وهكذ.ا
أما علم الاجتماع من حيث السند :
فإن العالم الاجتماعي إذا تحدث عن الاجتماع التاريخي الماضي فلا بد له من مدارك تاريخية وآثار ووثائق. وأما إذا أراد أن يتحدث عن المستقبل فإنه يعتمد على التكهن نتيجة الدراسات المستفيضة للاجتماع الماضي والحاضر وفي حدود الإمكان
أما علم الاجتماع من حيث الحدود :
فهو يكون بالقياس إلى سائر العلوم وعلاقته بها ونسبه إليها فهو يدرس النسبة بين علم الاجتماع العام مع علم الزراعة مثلاً أو علم الاجتماع الخاص مع علم الاجتماع السياسي مثلاً، أو علم الاجتماع العام مع علم الاجتماع الاقتصادي تارةً أخرى...وهكذا
ثم إن كل هذه الأمور المتقدمة في بيان علم الاجتماع وتعريفه والواجبات الملقاة على العالم الاجتماعي كانت لغرض أساسي وهو قوة المجتمع فإنه كلما يقوى المجتمع الإنساني كان أبعد عن أضرار الطبيعة كالحر والبرد والشمس المحرقة والظلمة والعوائق الطبيعية والحيوانات الضارة
ص: 327
والمؤذية، وكلما ضعف المجتمع كان الأمر بالعكس بل إن الإنسان يكون في ظل الحضارة الاجتماعية أكثر عمراً وأصح جسداً وأكثر أولاداً بل وأجمل جسماً وأهنا نفساً وأبعد عن المنازعات والمقاتلات والفوضى والاضطراب والسبب في هذا واضح وهو :
إن الإنسان لو تعاون مع الآخرين فإنه سيفتح السد أمام ماء البحر وبالتالي يتخلص المجتمع من كارثة الفيضان مثلاً أما لو تنازع الإنسان مع الآخرين فإن الفرصة لا تتوفر في جعل السد أمام البحر وستكون الكارثة.
ومثال آخر:
لو أن الإنسان تعاون وحفر الآبار الارتوازية فإنه لا يرتبط رزقه عندها بالمطر أما لو تنازع فإنه لن يحفر هذه البئر وسيبقى مرتبطاً رزقه بالمطر.
وإن التعاون يزيل الأمراض عن المجتمع وذلك بالمحافظة على صحة البيئة من التلوث وهكذا لا يمكن حصر الفوائد المترتبة على التعاون في ظل المجتمع الكبير فالإنسان قادر على أن يقوي جسمه ونفسه وتقوية مجتمعه حتى لا تؤثر فيهما العوامل الطبيعية كما يتمكن أن يزم الطبيعة بزمام العلم حتى لا تطغى عليه وقد جعل اللّه سبحانه وتعالى الكون مسخراً للإنسان لا إنه جعل الإنسان مسخرا للكون حيث قال سبحانه وتعالى :
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (1).
وهذا ما أشرنا إليه في بداية البحث بأن الإيمان باللّه وبرسوله كان السبب المباشر لنجاح وتقدم الأمة الإسلامية في بداية نشوئها إذ إن الإيمان كان أساس التعاون وأساس الرقي.
وبالإضافة إلى ذلك هناك أمور أخرى تساعد على رقي المجتمعات
ص: 328
منها : الفكر والمنطق والكتابة وإمكانية تطوير ما حوله بسبب اليد والرجل والحركة وكونه اجتماعياً فإن الإنسان بهذه الأمور تمكن من التدرج إلى مدارج الرقي والحضارة.
فلذلك نرى من الأمور التي تساعد على رقي المجتمع ه_و ك_ون_ه اجتماعياً أي متعاوناً مع أخيه الإنسان بشتى ظروف الحياة المختلفة ومسالماً له دائماً وإن التعاون والتسالم هذا لا يكون ناشئاً عن الاحتياج وإلا لم يكن له فضيلة أولاً ولا دوام ثانياً بل اللازم أن يكون عن علاقة وحب لنوع الإنسان وعليه فالتسالم على ثلاثة أنواع :
1 - أن يكون لعدم التصادم في المصالح.
٢ - أن يكون للاحتياج والترابط في المصالح.
٣- أن يكون لأجل الإنسانية والفضيلة.
وإن هذا المعنى الثالث أدوم وأبقى وأكمل وأجمل وقد سمي (بالوحدة الحيوية) عند بعض علماء الاجتماع وهذا النوع هو الذي نريده في مجتمعنا الإنساني.
ثم إن هذه الجماعة تميل إلى الفهم والنضج الفكري وأن تعيش بسلام مع كل الجماعات سواء جمعهم الإطار العام أو لا، وإنا نرى الدولة الإسلامية في بداية نشوئها حاربها الكفار وبالخصوص قريش ولكن جيش المسلمين عندما دخل مكة نادى سعد بن عبادة باجتهاد منه «اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة» (1) ولكن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أرسل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)إلى سعد ليأخذ الراية منه ويبدّل الشعار فنادى الإمام بشعار السلام فقال : «اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة» (2) وبعدها أيضاً أطلق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كلمته المشهورة للذين حاربوه من أهل مكة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (3).
ص: 329
ولذا ساعد هذا التسالم المبني على الإنسانية والفضيلة على الإنتشار السريع للإسلام.
أما المعنى الأول فإنه لا يمكن حصوله في المجتمع والمعنى الثاني تابع للمصلحة الذاتية وليس لمصلحة المجتمع ولذلك سماه علماء الاجتماع (بالوحدة الميكانيكية) ولكننا نرى في وقتنا الحاضر انتشار التسالم على المعنى الثاني في داخل المجتمع الإنساني لطغيان المصلحة الشخصية والأنانية فضلاً عن نشوب الحروب نتيجة الابتعاد عن التسالم الصحيح وانتشار النزاعات في جميع بقاع العالم الصغيرة والكبيرة ولأجل مصالح دنيوية تافهة تقوم حرب ويقتل ناس كثيرون ويشرد الآلاف إلى مختلف بقاع العالم والبعض يهاجر هرباً من التعسف والظلم و....هكذا إلى أن أصبح الناس كل ينتمي إلى مجتمع صغير خاص به لا تربطه أي علاقة إنسانية مع المجتمع الآخر والحال أن جميع الناس هم لأب واحد وأم واحدة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ومن ضمنها المجتمع الإسلامي.
بعد أن تحطم المجتمع الإسلامي ذو الألف وستمائة مليون مسلم حسب آخر الإحصاءات تحطم الاجتماع البشري كله نتيجة استبداد القيادات غير الرشيدة بالعالم ومن أجل أن نتعرف على أفضل السبل لإعادة الاجتماع الصحيح لا بالنسبة للمسلمين فقط بل بالنسبة إلى البشرية جمعاء حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (1).
فالإسلام جاء لجميع الناس والإعادة تعتمد على أسس خمسة وهي :
ص: 330
أولاً : التنظيم الحديدي الذي يراعى فيه جانب التنظيم من ناحية وجانب الحرية من ناحية أخرى حتى يكون التنظيم هيكلاً استشارياً في العمل كما جاء في قوله تعالى :
«وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» (1).
وقول الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ونظم أمركم» (2).
ثانياً : التوعية الكاملة المناسبة للعصر والتي تبدأ بعد الإيمان الرشيد بالسياسة والاقتصاد والاجتماع.
فقد ورد في السياسة أن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جعل أهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) بأمر اللّه تعالى «سياسة العباد وأركان البلاد» (3).
وفي الاقتصاد جاء في قوله (صلوات اللّه عليه) :
«من لا معاش له لا معاد له».
وفي الاجتماع قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته للإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : واجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك. فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره ما تكره،لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك» (4).
ص: 331
ثالثاً : السلم فإن السلام نبتة لا تقلعها العواصف وفي قوله تعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (1).
ولذا كان شعار الإسلام السلام وحتى الدولة المرهوبة الجانب خير لها أن تحل كل مشاكلها بسلام، لأنه أحمد عافية وأهنا مذاقاً، والقوة وضعت للحالات الاضطرارية القصوى، وقد روي عن نبي اللّه عيسى المسيح (عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) : «أحبوا أعدائكم وفي التاريخ ينقل أنه :
بعد أن اشتد أذى المشركين للرسول ست في معركة أحد إذ قتل عمه (حمزة) ومُثَّل بجسده الشريف وقطع كبده وأصابع يديه ورجليه، وجدع أنفه، وصلموا أذنيه...وفُعِلَ به ما فعل وقتل العشرات من المسلمين.. لكنه تقدم وعرض على قريش أن يتصالحوا معهم وهكذا إلى أن أجريت المعاهدة المعروفة بصلح الحديبية وبعد إنجاز مرحلة السلم استطاع الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يدخل مكة أن يدخل مكة مع أصحابه معززاً مكرماً، وتصبح قريش كلها تحت إمرته وتعتنق دين الإسلام لتكون مجتمعاً إنسانياً بعيداً عن الحروب والدمار...
وهكذا نرى في الوقت الحاضر أيضاً الدول التي تركت الحروب بل وألغت صلاحيات المؤسسات العسكرية بأجمعها استطاعت أن تصل إلى أعلى مراحل الإنسانية والتقدم.
رابعاً : الجماهيرية فلا يكون التنظيم الاجتماعي صنمياً دون المبدأ وكل حركة اتخذت الصنمية انفصلت عن الجماهير وبذلك تذوي وتذبل
ص: 332
وجزائها حينئذ أن لا تصل إلى الهدف المنشود بينما ترى غيرها تتقدم في الميادين وتنتشر انتشاراً واسعاً لأنها اتخذت من الجماهيرية مبدأ. بل إن الجماهيرية هي أساس المجتمع فالناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق كما أشار إلى ذلك الإمام أمير المؤمنين التي
خامساً : الاكتفاء الذاتي : فكل محتاج إلى غيره مقود له وبذلك يفقد صفة القيادة قال الإمام (أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)) :
«احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره. وأحسن لمن شئت تكن أميره» (1).
وخير شاهد على ذلك دول العالم الثالث إذ أنها تحتاج في صناعتها وزراعتها وحتى لأبسط احتياجات الناس إلى تدخل الدول المتقدمة صناعياً وزراعياً وعلمياً وبذلك فتحت المجال للاستعمار الجديد لأن يتغلغل داخل صفوف الدول الفقيرة بحجة الاستثمار والخبرات التصنيعية والكفاءات العالية فوضعت أيديها على الناحية الاقتصادية، والاقتصاد حاجة ملحة للمجتمع الإنساني مما جعل هؤلاء يقفزون إلى أعلى سلطة في هذه البلاد ويديرونها حيثما أرادوا وعمدوا إلى إخراج الثروات الطبيعية والمالية إلى خارج هذه البلاد لكي لا تستطيع أن تنهض يوماً وتنال استقلالها الطبيعي وتجد مكانتها بین الأمم بل وساعدت أيضاً على تفكيك المجتمع من ق_واع_ده لأن ه_ذا المجتمع لو اكتفى ذاتياً لأعيد اجتماعه وبكل قوة.
ولذلك فإن المجتمع الإسلامي يحتاج إلى هذا الأمر كثيراً ولأن القوى الأخرى وقفت أمام هذا الاجتماع وتضغط عليه لاحتياجه لها فإن الإنسان داخل المجتمع الإسلامي يحتاج إلى الماديات بجانب المعنويات، وهكذا
ص: 333
لم يكن نشاط الأنبياء منحصراً في المجالات المعنوية والفكرية فحسب نراهم قد عمدوا إلى رفع مستوى الحياة المادية والمعنوية معاً، لأن تعاليمهم تعم العقائد الذهنية والحقائق العينية فلم تكن مدرسة النبوة تقتنع بأن تلقي على الناس عقائد وحكماً من غير أن يكون لها اهتمام بتحسين حياة الأمة وتحكيم روابطها الاجتماعية وتهذيبها.
فمن هذا المنطلق قدم الإسلام أروع طريق لجمع شمل المجتمع ومنها التبادل في الهدية كما جاء في حديث الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بحثنا هذا فإن الهدية هو العطاء المحبب للمعطي والمعطى، وقد جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) «لئن أهدي لأخي المسلم هدية تنفعه أحب إلي من أن أتصدق بمثلها».
وفي حديث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«يا علي لو أهدي إلى كراع لقبلت (1) (وهنا معنى الكراع رجل الحيوان) ولو دعيت إلى كُراع لقبلت (2) (وهنا معنى الكراع منطقة بعيدة في المدينة).
فالأول مبالغة في القلة والثاني مبالغة في البعد، وأراد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بذلك أنّ يبيّن الأهمية الكبيرة للهدية واستجابة الدعوة داخل المجتمع الإسلامي فبالرغم من قلة شأن الهدية وبساطتها فإنه يتقلبها وإن الدعوة بعيدة المسافة ولكنه يجيبها لزيادة الروابط الإجتماعية.
وإن الهدية مما ندب إليها الإسلام لما فيها من تقوية الصلات وتوثيق عرى الحب والوداد وإيجاد الإلفة والمحبة بين أفراد المجتمع.
ولا تختص الهدية بالفقير بل الهدية تعم الغني أيضاً كما أنها لا تختص بشيء خاص بل تشمل كل ما يوجب الإلفة والوداد.
ص: 334
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«تهادوا تحابوا فإن الهدية تذهب بالضغائن» (1).
وهذا من خطط الإسلام الحكيمة، لبث الحب في المجتمع فإن الهدية تسبب تقارب القلوب وتآلف الأفراد وتذهب بالضغائن الكامنة والأحقاد والعداوات. والإسلام يؤكد على الإهداء وقبول الهدية حتى لو كانت ضئيلة ثم ردّها بمثلها أو أحسن منها وكل ذلك لإشاعة الحب وبث الإلفة.
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من تكرمة الرجل لأخيه المسلم أن يقبل تحفته. وأن يتحفه بما عنده ولا يتكلف شيئاً» (2).
وفي الهدية أيضاً فوائد أخرى منها :
أولاً : الهدية تورث الشجاعة حيث يفوز الإنسان في صراعه مع الشيطان ومع النفس، إذ إن الشيطان يريد بالإنسان التقاطع والنفس تريد الاحتفاظ بما لديها فيتغلب الإنسان على هذين الأمرين بشجاعته على إنجاز ما أراده من تألف ومحبة.
ثانياً : الهدية تصنع السرور والمحبة في قلوب الناس وهذا من الأمور البديهية والملموسة.
ثالثاً : الهدية تزيل الأحقاد والضغائن والعداوات.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(3) :
«تهادوا فإن الهدية تسلّ السخائم وتجلي ضغائن العداوة والأحقاده
ص: 335
وإن أفضل هدية هي كلمة الحكمة والموعظة الحسنة إذ يزداد بها الإنسان هدى ونجاة من الردى ويستفيد منها الإنسان كثيراً قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
«نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها»(1).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«نعم الهدية الموعظة» (2).
وفي رواية أنه جاء جبريل إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يا رسول اللّه إن اللّه تبارك وتعالى أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قلت : وما هي ؟ قال : الصبر. وأحسن منه قلت : وما هو ؟ قال : الرضا وأحسن منه، قلت : وما هو ؟ قال : الزهد وأحسن منه، قلت : وما هو ؟ قال : الإخلاص وأحسن منه، قلت : وما هو ؟ قال : اليقين وأحسن منه. قلت : وما هو ؟ قال جبرائيل : إن مدرجة ذلك التوكل على اللّه عز وجل فقلت : وما التوكل على اللّه عز وجل ؟ فقال : العلم بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع واستعمال اليأس من الخلق...» (3).
وهذا ما يختص بالهدية المعنوية وهي الكلمة الطيبة والحكيمة والموعظة أما الهدية فبالإضافة إلى أنها تدخل الفرح والسرور في قلوب الناس والتآلف والمحبة فإنها أيضاً تساعد على نمو اقتصاد المجتمع فالمحتاج من الناس يمكن له العمل برأس مال صغير يحصل عليه من خلال الهدية تساعده على التجارة البسيطة ونموها وأيضاً في الهدية إزالة لمظاهر الفقر والاحتياج المادي ولذا جاء في الأحاديث الشريفة بأن إهداء الأموال إلى الناس أفضل من إهداءها إلى الأمكنة المقدسة والمباركة
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
ص: 336
«لو كان لي واديان يسيلان ذهباً وفضة ما أهديت إلى الكعبة شيئاً، لأنه يصير إلى الحجبة دون المساكين» (1).
«وعن بعض الصحابة قال : سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
إن قوماً أقبلوا من مصر فمات رجل فأوصى إلى رجل بألف درهم، للكعبة فلما قدم مكة سأل عن ذلك فدلوه على بني شيبة فأتاهم فأخبرهم الخبر فقالوا : قد برأت ذمتك إدفعها إلينا، فقام الرجل فسأل الناس فدلوه على أبي جعفر محمد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال أبو جعفر محمد بن علي فأتاني فسألني فقلت له : إن الكعبة غنيّة عن هذا انظر إلى من أم هذا البيت وقطع، أو ذهبت نفقته أو ضلّت راحلته، أو عجز أن يرجع إلى أهله فادفعها إلى هؤلاء الذين سميت لك.
قال : فأتى الرجل بني شيبة فأخبرهم بقول أبي جعفر النقد فقالوا : هذا ضال مبتدع ليس يؤخذ عنه ولا علم له ونحن نسألك بحق هذا البيت وبحق كذا...وكذا لما أبلغته عنا هذا الكلام.
قال : فأتيت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت له : لقيت بني شيبة فأخبرتهم فزعموا أنك كذا وكذا وأنك لا علم لك ثم سألوني بالعظيم لما أبلغك ما قالوا قال : وأنا أسألك ما سألوك لما أتيتهم فقلت لهم : إنّ من علمي لو وليت شيئاً من أمور المسلمين لقطعت أيديهم ثم علقتها في أستار الكعبة ثم أقمتهم على المصطبة، ثم أمرت منادياً ينادي ألا إن هؤلاء سراق اللّه فاعرفوهم» (2).
وإن من الأمور التي تذهب بثواب الهدية هي المنة والتي غالباً م_ا تحدث بين بعض المتهادين.
ص: 337
وأيضاً يذهب ثواب الهدية لو أن الحاكم أو القاضي طلبها مقابل الحكم له بل يعتبر عاصياً.
قال الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى : «أكالون للسحت».
«هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته» (1).
ومن كل ما تقدم من عرض لعلم الاجتماع والتعاون بيت أفراد المجتمع و خصوصيات الهدية أوجزها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه للإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ أنه يقبل الهدية حتى لو كانت صغيرة جداً بحساب المادة ويقصد الدعوة الموجهة إليه حتى لو كانت بعيدة لكونها من العوامل المهمة في دعم أسس رقي المجتمع الإسلامي وصيانته من التباعد والتناحر.
ص: 338
ص: 339
ص: 340
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : من خاف اللّه عزّ وجلَّ أخاف منه كل شيء ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كل شيء» (1).
قبل أن ندخل في بحثنا هذا لا بد من ذكر مقدمة تتعلق بالخوف إذ إن الخوف شيء ضروري للإنسان. ويعرّف عادة بأنه تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه مشكوك فيه، والتوقع هذا بعيد عن العلم لأنه حينئذ سيخرج من دائرة الخوف إلى دائرة انتظار المكروه، ولذا فإن الإنسان إذا لم يخف فإنه سيتعرض للخطر في بعض الحالات ومثاله : إذا لم يخف الإنسان من السلك الكهربائي المكشوف ووضع يده على السلك فحتماً سيهلك أو يرمي بنفسه من أعلى عمارة سكنية إلى الأرض أو يرمي بنفسه أمام السيارة والنتيجة هي الموت ومن هنا يكون الخوف شيئاً عقلائياً وضرورياً للإنسان.
ولهذا ينقسم الخوف إلى عقلائي وغير عقلائي :
ص: 341
وهذا الخوف من نسيج الوهم والخيال وليس له واقعية ولم يكن من ولا من صفاته المقتضية للهيبة والخشية ولا من ارتكاب المعاصي والآثام ومثاله الخوف من الدخول في غرفة مظلمة أو عند الذهاب إلى المقبرة ليلاً أو الجلوس عند الميت وأشد شيء يخاف منه الخيالي هو الخيالي هو الخوف من الموت والباعث على الخوف من الموت لا يخلو من أحد هذه الأمور :
أولاً : حب الأولاد والمنصب، فهذا ليس خوفاً من الموت نفسه بل هو الحزن على مفارقة بعض الزخارف القانية فى هذه الدنيا الدنية وأيضاً قد يتصور أنه بموته تضييع للأولاد والعبال وهلاك الأعوان وهذا أيضاً من الوساوس الشيطانية والخواطر النفسانية الفاسدة وكل ذلك ناشيء من الجهل بقضاء اللّه وقدره.
ثانياً : تصور عروض النقصان جراء الغفلة عن حقيقة الموت والجهل بأن الموت من كمال الإنسان ولذا قال الحكماء الأوائل في حد الإنسان بأن «الإنسان : حي ناطق مائت» وحد الشيء يوجب كماله لا نقصانه، فإذن بالموت تحصل التمامية للإنسان دون النقصان
ثالثاً : تصور الألم الجسماني العظيم عند الموت والأوجاع الناشئة من نزع الروح عن البدن بل قد يتصور فناء ذاته بالكلية وصيرورته عدماً محضاً بالموت ولا شك أن هذا ناشيء من الجهل المحض بحقيقة الموت.
وهذا الخوف يجب إزالته وعلاجه في كل نفس بشرية لأنه من تحصيل الأوهام والوساوس الشيطانية.
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ....» (1).
ص: 342
وقال سبحانه وتعالى أيضاً :
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» (1).
فإن كل من على الأرض من الكائنات الحية فانية أو ميتة سوى اللّه تعالى وفي الموت أيضاً مصلحة كما في قوله تعالى :
«لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ» (2).
وليس الموت عدماً بل هو الحياة الحقيقية لقوله تعالى :
«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (3)
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«خلقتم للبقاء لا للفناء» (4) .
وقال (صلوات اللّه عليه) :
«الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» (5).
وقيل للإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : صف لنا الموت
قال : هو للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعشه لطيبه فينقطع التعب والألم كله عنه وللكافر كلذع الأفاعي وكلسع العقارب وأشد (6).
وعلى هذا فإن الخوف من الموت منقطع عند المؤمن وبانقطاعه زوال
ص: 343
الخوف غير العقلائي وعلى هذا فالإيمان هو علاج هذا الخوف.
وهذا الخوف له حقيقة واقعية إذ أنه يكون خوفاً من اللّه اللّه ومن عظمته ومقامه وأيضاً من الخطأ والمعاصي، ومثاله الخوف من الأمور الخطرة منها القوة الكهربائية أو رمي الإنسان نفسه من الأعلى إلى الأسفل ولكن الخوف الحقيقي والعقلائي يلزم أن يكون من اللّه تعالى لذا كان هذا الخوف على أقسام منها :
أولاً : أن يكون خوفاً من اللّه سبحانه وعظمته وكبريائه وهذا ما يسمى بالخشية والرهبة ولا يمكن تحصيله إلا من قبل أرباب القلوب والعلوم. كما جاء في قوله تعالى :
«...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (1).
قال الطبرسي في تفسيره :
«أي ليس يخاف اللّه حق خوفه ولا يحذر معاصيه خوفاً من نقمته إلا العلماء الذين يعرفونه حق معرفة» وفي الحديث : «أعلمكم باللّه أخوفكم اللّه إنما خص سبحانه العلماء بالخشية لأن العالم أحذر لعقاب اللّه من الجاهل حيث يختص بمعرفة التوحيد والعدل ويصدّق بالبعث والحساب والجنة والنار» (2).
وهناك فرق واضح بين الخوف والخشية :
١ - إن الخشية تأثير القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه.
أما الخوف فهو التأثر عملاً بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور وإن لم يتأثر القلب.
قال سبحانه وتعالى في صفة الأنبياء :
ص: 344
«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» (1).
قتفى عن الأنبياء الخشية لغيره في حين أثبت الخوف عند الأنبياء ل_ه تعالى ولغيره إذ قال تعالى : «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى» (2).
وقوله تعالى :
«وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» (3).
٢ - الخشية أشد مراتب الخوف وإنها متعلقة بالأمر المنزل دون المكروه أما الخوف فكما قلنا فإنه يتعلق بتوقع المكروه.
ثانياً : أن يكون الخوف من ارتكاب الجناية واقتراف المعاصي وذلك بالإيعاز إلى الجوارح بكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات وهذا يتأتى من المعرفة بالحضرة الإلهية الموجبة لشدة الخوف ومن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فليس على شيء من الخوف، ولذا قيل ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه، وقال بعض الحكماء :
«من خاف شيئاً هرب منه، ومن خاف اللّه هرب إليه» (4).
وقال بعض العرفاء :
«لا يكون العبد خائفاً حتى ينزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام». (5)
ص: 345
فتأخذ الجوارح حذرها من كل شيء حتى يحصل في القلب الذلة والخشوع وبالتالي مفارقة الصفات الرذيلة فيصبح مهموماً ب_خ_وفه ومتفكراً في عاقبته وعندها يكون شغله الشاغل هو مجاهدة النفس وحسابها ومراقبتها مراقبة تامة....
ثالثاً : الجمع بين المخافتين. مخافة اللّه تعالى بعظمته وكب_ري_ائ_ه والخوف من ارتكاب المعاصي وتنقية النفس بمجاهدتها على أن يكون خوفه من مقام اللّه كما في قوله تعالى :
«وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (1).
فإن الخوف من مقام الرب يستلزم الخشية كما مرّ معناها في الخوف الأول ويستلزم الخوف من مقامه بالتأثر الخاص لا الخوف من العقاب والطمع في الثواب إذ إن الخوف المراد به هنا هو الإخلاص المحض لوجه اللّه تعالى.
لذا قال سبحانه وتعالى :
«وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» (2).
وقد اختلف العلماء في وصف الجنتين اللتين يحصل عليها من جراء الإخلاص في الخوف فجماعة قالوا إنهما جنة عدن وجنة النعيم وقيل إنها بستانان من بساتين الجنة أحدهما داخل القصر والأخرى خارج القصر كما يشتهي الإنسان في الدنيا وقيل جنة يثاب بها وجنة يتفضل بها على المؤمن وهذا يستشعر في قوله تعالى :
«ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ» (3).
ص: 346
ولأجل تحصيل أحد هذه الأقسام المذكورة للخوف العقلائي هناك طرق يمكن اتباعها ومنها :
الأول : الاجتهاد في تحصيل اليقين : (قوة الإيمان باللّه واليوم الآخر والجنة والنار والحساب والعقاب) وذلك بالمجاهدة النفسية والتفرغ لذكر اللّه تعالى والتفكر في خلقه على الدوام.
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال :
«....أما علامة المؤمن فستة : أيقن باللّه حقاً فآمن به، وأيقن بأن الموت حق فحذره، وأيقن بأن البعث حق فخاف الفضيحة، وأيقن بأن الجنة حق فاشتاق إليها، وأيقن بأن النار حق فظهر سعيه للنجاة منها، وأيقن بأن الحساب حق فحاسب نفسه» (1).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن من أحب عباد اللّه إليه عبداً أعانه اللّه على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس» (2).
الثاني : دوام التفكر في أحوال القيامة : وهذا الخوف تقريباً هو خوف عموم الخلق يحصل بمجرد الإيمان بالجنة والنار لا يدخل فيه اليقين وكمال المعرفة باللّه ويضعف هذا الخوف جراء الغفلة أو ضعف الإيمان والسبب في ذلك عائد إلى أنه كسب هذا الخوف من جراء الحكايات والمواعظ المنذرة دون اكتساب المعرفة ويحتاج إلى أن يكمل الإنسان معارفه حتى يقوى هذا الخوف عنده إذ أن هذا الخوف ثمرة من ثمار المعرفة باللّه وبصفات جلاله وجماله وأن يكون على سيرة الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والشواهد الجلية للخوف حتى من أصغر المعاصي هو خوف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )
ص: 347
والإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : (لو عصيت لهويت) وفي دعائه المعروف يقول : «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، وكذلك كان الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يربط خوفه من الظلم بخوفه من اللّه سبحانه وتعالى فيقول: «واللّه لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً أو أجر في الأغلال مصفداً أحب إلي من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها» (1).
ثم يذكر الإمام قصة طلب عقيل (أخيه) منه شيئاً من بيت المال زائداً على حقه.. إلى أن يقول :
«وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردداً فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنق من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها فقلت له :
«ثكلتك الثواكل يا عقيل، اتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتأن من الأذى ولا أئن من لفظیً» (2).
فأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) التجسيد الحقيقي للخوف العقلائي من اللّه سبحانه وتعالى إذ وقف الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم عاشوراء مع أهل بيته والأعداء يحيطون به من كل جانب فلم ترهبه كثرتهم ولم يخف وجاهد في سبيل اللّه حق جهاده فكان مصداقاً، لقوله تعالى :
«يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (3).
ص: 348
ومن الأمور التي تلازم الخوف هو الرجاء، وقد سبق أن قلنا إن الخوف تألم القلب من توقع المكروه أما الرجاء فإنه توقع للمحبوب أو توقع الشيء المطلوب من الخوف، إذ قد يكون الخوف من شيء مجهول رجاءاً لينقل الحاجة وأما الخوف من المعروف تأثيره فلا حاجة إلى الرجاء فمن هنا تبين التلازم بينهما وأنهما من متعلقات قوة الغضب فالخوف باعث للعمل من حيث الرهبة والرجاء باعث للعمل من حيث الرغبة، والرجاء يحتاج إلى المقدمات لتهيئة الأرضية الجيدة في نيل المحبوب فالمزارع عندما يريد الحصول على نتاج زرعه لا بد أن يهيىء الأرض الجيدة والماء والبذور ومن ثم يعمل على حرث الأرض وبذرها وسقيها لكي يحصل على الثمرة، فالثمرة لا تأتي من الرجاء وحده وهكذا طلب الدرجات الرفيعة في الآخرة.
ومن أجل تقريب الفكرة لا بد من توضيح : لو أن شخصاً لم يطلب العلم ثم رجا أن يصبح عالماً فهذا يسمى بالحمق، أما من رجا وتهاون في العمل وظن تقدمه فهذا من الجهل.
فالعبادة هكذا فمن لم يطع اللّه ثم يقول أرجو أن أكون من أصحاب الكرامات أو المراتب السامية لدى اللّه تعالى فإنه جاهل ومغرور هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الرجاء مطلوب وكيف ؟
لأن من يعمل قدر المقدور بتهيئة جم جميع المقدمات الصحيحة ثم لا يرجو الفلاح من اللّه تعالى فإنه لا يفلح أيضاً. قال الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أحسن الظن باللّه، فإن اللّه عز وجل يقول : أنا عند ظن عبدي لي، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر» (1).
وفي كلتا الحالتين فإنهما خارجان عن الحد المقرر لدى العقل والشريعة إذ أنه في الحالة الأولى رجاء بدون عمل والثانية عمل بلا رجاء وهذا
ص: 349
يعني أن الرجاء حالة وسطى فالرجاء مخصوص بالعمل فلا يغرّ الإنسان الأمل بالرجاء دون العمل وأن الترغيب في الرجاء جاء لسعة رحمة اللّه ووفرتها على أن يكون العمل الصالح وترك المعاصي مشروطاً ومتحققاً في العبد كما تبينه
الآية الكريمة في قوله تعالى :
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (1).
وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول :
«الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه وهواها وتمنى على اللّه عز وجل الأماني» (2).
ولكن هناك ترجيحاً في هذا الأمر إذ إن الرجاء أعلى من الخوف وذلك لأن أقرب العباد إلى اللّه أحبهم إليه والحب هو ما توقعه الراجي وناله ولذلك ذم اللّه سبحانه وتعالى من ظن به سوءاً ولم يرجه فقال سبحانه وتعالى :
«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا» (3).
إلا في حالة واحدة يجب أن يتغلب فيها الخوف على الرجاء وذلك إذا كانت المعاصي والذنوب وظلم الإنسان لأخيه وهي كثيرة في زماننا هذا فالأصلح هو الخوف بشرط عدم اليأس وقطع العمل، بل زيادة العمل الصالح والطاعات وبهذا عرفنا أن المحتاج إلى الرجاء من غلب عليه اليأس فترك العبادة، أو غلب عليه الخوف فأسرف في العبادة حتى أضر بنفسه وأهله ومن الواجب على كل مصلح في وقتنا هذا أن يبتدىء بعرض أسباب الخوف ومن ثم الانتقال إلى الترغيب على الرجاء لكونه أخف على القلوب وألذ عند النفوس
ص: 350
فإذا ابتدأ به المصلح أهلك الناس لأنهم سيتركون العمل والطاعات أما إذا ابتدأ بالخوف فإنهم سيعملون وبعد العمل يأتي الرجاء فتكون هدايتهم صحيحة.
بعد أن بينا هذه المقدمة لا بد لنا من العودة إلى الحديث الشريف الذي ابتدأنا به بحثنا هذا إذ بين رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أفضل علاج للخوف وأي خوف هو الخوف العقلائي والذي بحثنا فيه إذ إن الخوف العقلائي هو الخوف من اللّه تعالى وهو العلاج لإزالة الأوهام لذا قال رسول اللّه في حديثه «يا علي من خاف اللّه عز وجل أخاف اللّه منه كل شيء» فإن اللّه تعالى جعل لكل علة ونقص في هذا الوجود ما يقابله من علاج لإزالة النقص والعلّة فمثلاً عندما يخلق اللّه عز وجل إنساناً معلولاً أو فيه نقص مثل الأصم أو الأخرس أو غيره من الأمراض والعلل فإن اللّه تعالى إما أن يوفر العلاج لشفاء المريض أو يعوّض المريض بميزات ومواهب أخرى تعوضه عن هذا النقص وهذا واضح للعيان، فإن أغلب الناس الذين يفقدون حاسة البصر مثلاً تجدهم نابغين في مجالات أخرى في الحياة عوضهم اللّه بها عن هذا النقص الحاصل وذلك لعدالة اللّه سبحانه وتعالى ولم يترك اللّه تعالى هذا العالم بدون نظام وقانون ولم يخلق داءً بدون دواء.
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«إن اللّه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء...» (1).
وعلى هذا بما أن الخوف العقلائي أو السلبي هو في ذاته علّة ومرض يصيب الإنسان فلا بد له من دواء وقد أوضحه الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بداية بحثنا، فهناك نوعان من العلاج.
الأول : التمرن والممارسة على الأعمال العبادية التي من شأنها أن
ص: 351
تساعد الإنسان على التغلب على الخوف وهذا العلاج محدود وقاصر.
الثاني : وهو علاج شامل ويجتث المرض من أساسه وهو الإيمان باللّه تعالى، فالشخص المؤمن الواثق من إيمانه باللّه تعالى لا يخاف ولا يهاب شيئاً سوى اللّه تعالى.
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن المؤمن من يخافه كل شيء وذلك أنه عزيز في دين اللّه ولا يخاف من شيء، وهو علامة كل مؤمن» (1).
الثالث : وهو الخوف الأعظم إذ أنه الخوف من سوء العاقبة نتيجة كثرة المعاصي أو عند تغلب سكرات الموت على القلب فلذا إن هذا العلاج يأتي دائماً متأخراً عند الإنسان فإنه يرى نهايته قد قربت فيعمل بالطاعات وتقوية إيمانه باللّه تعالى ولهذا فإن من كان يخاف اللّه تعالى فإنه ارتبط به وزاد إيمانه وانقلب خوفه السلبي إلى شجاعة وذلك لعلاقته الوطيدة باللّه تعالى إذ أن من كان له علاقة ولو بسيطة برئيس الدولة أو السلطان فإن الناس تخاف منه وتحترمه فكيف بمن يرتبط بالخالق الأوحد والسلطان الأعظم كيف لا يخاف منه كل شيء.
أما الشق الثاني من الحديث الشريف : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كل شيء».
أي أخافه اللّه من كل شيء في كافة المعاني والسبل الحيوية والاجتماعية والسياسية التي يمكن للإنسان أن يمر بها خلال فترة حي__ات_ه ولنأخذ كل واحدة منها ونعرف ماهية الخوف الذي يتولد منها جراء الخوف من غير اللّه.
أولاً : حيوياً : وهذا يتصور في جهتين :
ص: 352
أ - إنه يخاف على حياته لأنه يركن إلى نفسه ولا يحب غيره فينعزل عن الناس فيتولد نتيجة ذلك خوفه على رزقه وحياته وسائر شؤونه الأخرى حيث لا يجد ناصراً في أوقات شدّته لأنه لم ينصر أحداً أحداً في شدّته أيضاً.....
ب - خوفه من مصيره وعاقبة أمره وذلك لارتكابه المعاصي فهو قد خرّب آخرته بدنياه....
ثانياً : إجتماعياً :
خوفه من أقرانه وأفراد مجتمعه لأنه يتصورهم مثله لا تحكمهم روابط الإيمان والأخلاق فيخافهم على ماله وشرفه ونفسه باعتباره قد أباح لنفسه ارتكاب مثل هذه الاعتداءات فيتنامى عنده الشعور بالخوف من المجتمع تنامياً طردّياً...
ثالثاً : سياسياً :
وهذا لا يحتاج إلى بيان كثير فإنه واضح وجلي خصوصاً في زماننا هذا إذ إن المسلمين يخافون من الغرب في كل شيء ولا يخافون اللّه سبحانه وتعالى فأخافهم اللّه من كل شيء. كيف حصل هذا ؟...
اليوم نلاحظ أن أغلب المسلمين يعيشون حالة الخوف والهلع من العدو ويبررون ذلك بأن الأعداء يملكون الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة ولديهم القنابل الذرية والكيمياوية المدمرة والتي لو استخدموها لدمروا المسلمين بها جميعاً وهذا الخوف أوصلهم إلى الركون إلى الغرب ونسوا أو تناسوا القدرة الهائلة والتي ليس لها حدود لدى الخالق تعالى والذي خلقهم وخلق الغرب وجميع ما في الوجود وبيده كل شيء واتخذوا من الشيطان ولياً ونصيراً.
قال سبحانه وتعالى :
«...وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا» (1).
ص: 353
فهذا الخوف الذي زرع في قلوب أغلب المسلمين من قوة العدو وما يمتلكه من أسلحة جاء نتيجة الضعف في الإيمان باللّه تعالى ونسيان الآخرة والتمسك بالخوف غير العقلائي والسلبي وعدم مخافة اللّه فأخافهم اللّه من كل شيء.
قال الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظاً من نفسك وكان الخوف شعارك والحزن وقارك ابن آدم إنك ميت ومحاسب فأعد الجواب..» (1).
وهذا الخوف السياسي من الغرب قد ضم إليه الخوف الحيوي والاجتماعي إذ أن بعض المسلمين خربوا آخرتهم باتباعهم الظالم والكافر فمن الناحية الاجتماعية قد أدى هذا الخوف إلى تراجع الأخلاق وضعف الإيمان نتيجة التفرقة في المجتمع والعائلة وعدم التعاون فالمسلم تراه اليوم أشد خوفاً من أخيه المسلم وكما يحدث في بعض البلدان الإسلامية والتي جعلت الأب يقدم ابنه للسلطة الجائرة لغرض إعدامه أو يقدم أحد أقاربه أو أحد أصدقائه فبذلك تفشى هذا الخوف تفشياً كبيراً، إذ طغى على الناس عدم الثقة وعدم الاطمئنان لأي فرد من المجتمع، لذا فإن من أشد مراتب الخوف من غير اللّه تعالى هو الخوف السياسي.
قال سبحانه وتعالى :
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (2).
وقال سبحانه وتعالى :
«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
ص: 354
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» (1).
وبعد أن بينا بعض أسباب السيطرة الغربية على بلادنا فلا بد من نشير إلى أن الخلاص من أن هذه السيطرة هي بمخافة اللّه تعالى وهذا يتطلب الإيمان الحقيقي كما قلنا في علاج الخوف وأيضاً أن نجعل اللّه تعالى ه_و السبيل في كل أعمالنا ولا ننسى ولا نغفل عن ذكره تعالى واتباع سيرة الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) عبد الناهم فإن في اتباعهم أماناً في أماناً في الدنيا وفوزاً بالآخرة.
ص: 355
ص: 356
ص: 357
ص: 358
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : ثلاث من أبواب البر : سخاء النفس، وطيب الكلام والصبر على الأذى..» (1).
قبل العروج على المعاني النورية للحديث الذي ابتدأنا به لا بد من توضیح مقدمة وهي أن أعمال الناس وكما تنقسم إلى أعمال صالحة، وأعمال طالحة أي أعمال في طاعة اللّه تعالى وأعمال في معصية الخالق تعالى وكما بينا ذلك سابقاً فإن الأعمال تنقسم بتقسيم آخر إلى قسمين آخرين أيضاً وذلك بملاحظة نفس عمل الإنسان وهما :
أولاً : أعمال لازمة.
ثانياً : أعمال متعدية.
فالعمل اللازم يعني أن نفعه عائد لشخص الإنسان وحده ومثاله الصلاة والصوم والحج وكذلك الأكل والشرب وكل عمل لا يتعدى ثوابه إلى غير نفسه.
ص: 359
أما الأعمال المتعدية فهي التي تعم بنفعها شخص الإنسان وغيره أي تتعدى إلى الآخرين أيضاً ومن هنا اشتقت كلمة الأبرار والأخيار فما الفرق بين عمل الأبرار وعمل الأخيار مع العلم بأن أعمال كليهما من الأعمال المتعدية ؟
الغرض الوصول إلى الفارق لا بد من بيان معاني الكلمات ل_غ_وي_اً وعلمياً :
الأبرار : ومفرده البر وله عدة معاني.
أ - البر كثير الطاعة قال سبحانه وتعالى :
«رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ» (1).
ب - وقد يأتي البرّ ضد البحر كما في قوله تعالى :
«أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (2).
ج - وهو من أسماء اللّه تعالى ومعناه العطوف على عباده بلطفه وبالإحسان إليهم. كما في قوله تعالى :
«إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» (3).
د - البر : أصله من السعة ومنه البر خلاف البحر وقد نقل هذا المعنى عن الطبرسي (رحمه اللّه) في تفسير مجمع البيان (4).
ص: 360
كما جاء فيه أيضاً بأنهم اختلفوا في تفسير البر على أقوال في تعالى :
«لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (1).
الأول : قيل هو الجنة وهذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد.
الثاني : الطاعة والتقوى وهذا المعنى عن مقاتل وعطا.
الثالث : معناه لن تكونوا أبراراً أي صالحين أتقياء وهذا المعنى عن الحسن.
والبر بران : برٌّ خاص وبرّ عام.
البر الخاص : وهو الذي يختص بالوالدين وخلافه العقوق.
قال سبحانه وتعالى :
«وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» (2).
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل اللّه» (3).
فالإسلام يمنح الوالدين قسطاً كبيراً من الإحسان والإكرام في وجوب الطاعة والاتباع حتى لو كانا مشركين. طبعاً فيما دون معصية الخالق عن
زكريا بن إبراهيم قال :
«كنت نصرانياً فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 361
فقلت : إني كنت على النصرانية وإني أسلمت فقال : وأي شيء رأيت في الإسلام ؟
قلت : قول اللّه عزّ وجلّ :
«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (1).
فقال : لقد هداك اللّه ثم قال اللّهم إهده - ثلاثاً _ سل عما شئت يا بني فقلت : إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم، وآكل في آنيتهم ؟ فقال : يأكلون لحم الخنزير ؟ فقلت : لا ولا يمسونه فقال : لا بأس فانظر أمك فيرها فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك كن أنت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرن أحداً أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء اللّه قال :
فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان. هذا يسأله وهذا يسأله فلما قدمت الكوفة الطفت لأمي وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها فقالت لي : يا بني ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية ؟
فقلت : رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت : هذا الرجل هو نبي ؟ فقلت : لا ولكنه ابن نبي فقالت : يا بني هذا نبي إن هذه وصايا الأنبياء فقلت : يا امي إنه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه أمينه فقالت : يا بني دينك خير دين إعرضه عليّ.
فعرضته عليها فدخلت في الإسلام وعلمتها فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل فقالت :
يا بني أعد علي ما علمتني، فأعدته عليها فأقرت به وماتت
ص: 362
فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها..» (1).
وعلى هذا فإن الإسلام لا يخص بر الوالدين بالوالدين المسلمين والمؤمنين بل ويشمل حتى الكافرين والسبب في ذلك أن الأبوين تحملا الكثير من المشقة لتربيته ونشأته فليبرهما عارفين كانا أم ناكرين في حياتهما وبعد مماتهما وهناك ملاحظة أخرى فى أن من أبر بوالديه وأحسن إليهما تلقى جزاء عمله من اللّه تعالى ومن أولاده ببره والإحسان إليه وهذه نتيجة الاستقراء فمن بر بوالديه نرى أولاده يبرونه ومن عقهما فإنه ينال المثل أيضاً. وهذا ما يصطلح عليه العلماء بالأثر الوضعي للأعمال بغض النظر عن الثواب والعقاب.
والعقوق بنظر الإسلام من أكبر الجرائم والمعاصي لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة والنعمة بالكفران إذ أن النعمة الإلهية في وجود الوالدين لغرض نشأة الأولاد وترعرعهم في عيش هنيء وكذلك فإن العاق يعتبر عاصياً لعدم إطاعته المولى تعالى، وأقل مراتب العقوق هو كلمة (أفٍّ) التي هي من أصغر الكلمات في تكوين الألفاظ والتي بها يمكن الرد على الوالدين لذا قال سبحانه وتعالى :
«وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» (2).
والبر هنا شامل بر اللّه تعالى بعباده قوله تعالى (إنه هو البر الرحيم)
قال سبحانه وتعالى :
ص: 363
«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (1)
فإن البر هنا هو التقوى والتقوى هي من الصفات الجامعة لمراتب الإيمان ومقامات الكمال التي تستوجب السعادة والفلاح ومنها سخاء النفس وطيب الكلام والصبر على الأذى وإتيان البيوت من أبوابها وهكذا في باقي الأعمال المتعدية الصالحة وأيضاً برّ الوالدين فلذلك سمي بالبرّ العام ومنه قوله تعالى :
«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (2).
وهنا تتضح الصورة لنا أكثر في معرفة الأبرار وبيان حقيقة حالهم وهي في مراتب ثلاث :
١ - الاعتقاد.
٢ – الأعمال.
٣ – الأخلاق.
١ - الاعتقاد : وهي أول مرحلة يمر بها الأبرار والمراد بهذه المرحلة الإيمان التام باللّه تعالى والكتاب واليوم الآخر والملائكة والنبيين (عليهم أفضل الصلاة والسلام والأئمة الأطهار الهم ومن خلال المعرفة الحقة بهم.
ص: 364
2 - الأعمال : فبعد معرفتهم باللّه والكتاب صاروا مؤمنين ويتجسد هذا الإيمان بإطلاق قوله تعالى عليهم بأن الأبرار هم الصادقون كما في قوله تعالى : «أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا»...فهم مؤمنون حقاً ولم يقيده بشيء من أعمال القلب والجوارح.
٣ - الأخلاق : وهذا ينطبق على من اعتقد وعمل بإيمانه فإنه يصل إلى أعلى مراتب الإيمان ويكون من المتقين.
ثانياً : الأخيار : جمع خير مقابل الشر.
قال سبحانه وتعالى :
«وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ» (1).
وقد ذكرهما اللّه تعالى وعدهما من الأخيار وهم من أنبياءه المرسلين فطوبى لمن عمل الخير. على أي حال الخير هو ما كان فيه نفع وصلاح ويلحق به المال والخيل عند استعماله كأداة للنفع قال تعالى :
«يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (2).
والخير يلازم الرغبة والمحبوبية في الفعل ولا يتبعه من ولا أذى والخير الأعمال المتعدية للغير فالإنسان عندما يعمل عملاً خيراً قد لا يجد جزاءه
من في الدنيا ولكنه يجده أمامه في الآخرة وأيضاً يستفيد منه الآخرون في الدنيا من صدقة أو كلام طيب أو أداء أمانة أو حسن الأخلاق ولأجل تبيان حقيقة الخير ننقل كلام الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نهج البلاغة عن حقيقة الخير
ص: 365
فقال : «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك وعملك وأن يعظم حلمك وأن تباهي الناس بعبادة ربّك، فإن أحسنت حمدت اللّه، وإن أسأت استغفرت اللّه» (1).
بعد هذا الموجز في تبيان حقيقة الخير والبرّ نعرج على الفارق بينهما.
والفرق بين البرّ والخير : إن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد في العمل أما الخير : فهو أيضاً النفع الواصل إلى الغير ولكن لا يحتاج إلى القصد فحتى لو وقع سهوا بدون قصد فهو عمل صالح.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«إنّ من خير رجالكم التقي النقي السمح الكفين، النقي الطرفين البرّ بوالديه، ولا يلجىء عياله إلى غيره» (2).
ولا يختلف البرّ عن الخير في الاعتقاد والعمل والأخلاق والجزاء وعلى هذا فهما يتربعان على أعلى مراتب الإيمان ولكن هناك ترجيح للبر، وطبعاً المقصود منه البرّ العام، لأن البرّ يقتضي القصد في العمل الصالح والتقوى
فهو إذن أشد معرفةً بعمله وإيمانه نابع من معرفة حقه باللّه والكتاب والنبيين وقد يكون هناك إنسان خير ولكنه لا يقصد الآخرة أو بتعبير آخر أدق وهو أن بعض الناس غير المؤمنين يعملون الخير وذلك لأجل مصالح شخصية أو دنيوية مثلاً لا تتدخل فيها التقوى والمعرفة من هنا يمكن ترجيح الأبرار على الأخيار، عند قياسه إلى المعرفة والإيمان التام فهو الفاصل الحقيقي بينهما ولا يعني هذا أننا أخرجنا الأخيار جميعهم من استحقاق الثواب بل إن الأخيار هنا على قسمين :
1 - مع القصد : فالإنسان الذي يعمل الخير ويقصد فيه الخير من جراء
ص: 366
إيمانه التام باللّه وباليوم الآخر فإنه يحسب هنا على الأبرار بنسبة التساوي.
2 - بدون قصد : وهذا القسم من الناس بعضهم مؤمن وبعضهم غير مؤمن فمن كان مؤمناً وعمل خيراً بدون قصد منه ولم يرد به المراءاة أو المصلحة الذاتية فهو يستحق الثواب.
والبعض الآخر الذي يعمل الخير ولكنه يريد المصلحة الشخصية والاستفادة الدنيوية دون الإيمان والتقوى فهو لا يريد عمل الخير للآخرة ولم يتوجه إلى هذا العمل من دوافع المعرفة الإلهية ولكنه يندفع إلى هذا العمل ويحسبه كوظيفة يريد الوصول بها إلى أهدافه ومطامعه وهذا لا ينال الثواب الأخروي بل ينال هدفه الدنيوي ويحصل على الأثر الوضعي لعمله من نفع ومكاسب ويبقى عمله حاملاً لاسم الخير فقط.
وقد عبر عن ذلك الإمام الصادق الف في قوله :
«ثلاث من لم يكن فيه فلا يرجى خيره أبداً :
من لم يخش اللّه في الغيب، ولم يرعو عند الشيب، ولم يستحي من العيب» (1).
وبعد هذه المقدمة نعود إلى الحديث الشريف الذي ذكرناه في بداية بحثنا فقد ذكر الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه ثلاثة أعمال متعدية فائدتها النفس الشخص وغيره هي :
١ - سخاء النفس.
2 - طيب الكلام.
- الصبر على الأذى.
وسنتعرض لهذه الأعمال الثلاثة باختصار مفيد.
ص: 367
إن النفس كالوعاء منها ما هو واسع ومنها الضيق فالواسعة لا يملؤها الشيء القليل من المال أو العلم أو المنصب.. والضيقة تفيض منها بالمقادير القليلة وسخاء النفس يتعلق بالواسع منها وأيضاً إن للأشياء باطناً وظاهراً فإذا كان الباطن سخياً يكون الإنسان في ظاهره أيضاً سخياً لأن الباطن له تأثير كلي على الظاهر.
ينقل في أحوال حاتم الطائي أنه كان كريماً وسخياً ولما مات جاء أخوه وجلس مكانه وقال أنا مكان أخي أكون كريماً فقالت له أمه : لا تتعب نفسك إنك لا تكون مثله لأن (حاتم) عندما كان طفلا يرضع في حجري وكان يرى طفلاً آخر يتركني ويدعو ذلك الطفل إلى الرضاعة مكانه ولذلك إن من يزداد ماله ولم يخرج من تواضعه والفته بل يزداد كرمه أو من ازداد علماً فلم يزده إلا طلباً له واجتهاداً كما أن من ارتفع مقامه في حصوله على منصب ع__ال لا يزيده إلا عملا بالخير وحلا للمشاكل وعمل البر فإنه من سخاء النفس الباطنية وتحققها في الخارج بخدمة الآخرين ونفسه منه أيضاً في راحة فهو قد نال خير الدنيا والآخرة قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
«السخي قريب من اللّه، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار» (1).
وقد روي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال لعدي بن حاتم الطائي دفع عن أبيك العذاب الشديد لسخاء نفسه» (2).
من أعمال البر والخير هو طيب الكلام فإنه أيضاً من الأعمال المتعدية في فضائلها فالكلام الطيب والحسن يختص بقول الحق وذكر اللّه تعالى وهو
ص: 368
من العلامات الدالة على المتقين وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول :
«قولوا الخير تعرفوا به، واعملوا الخير تكونوا من أهله» (1).
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) شعراً في قول الحق :
عود لسانك قول الخير تحظ به***إنّ اللسان لما عودت معتاد
موكّل يتقاضى ما سننت له***في الخير والشر فانظر كيف تعتاد (2)
لذا إن الكلام في كثير من الموارد تابع إلى الخير والشر فما كان منه خيراً فهو أفضل من السكوت وما كان منه شراً فالسكوت أفضل منه في وصية لقمان لابنه إنه قال :
«يا بني إن كنت زعمت أن الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب» (3).
ولكن السكوت المقصود هنا في الغيبة والنميمة والسعاية والقذف والشتم والسب والكذب والزور والفتوى بغير الحق والقول بالرأي وأشباهها من الأمور التي نهى عنها الشارع، أما الكلام الطيب والواجب فهو حالة إظهار أصول الدين وفروعه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي حالة الموعظة والنصيحة وإرشاد الناس إلى مصالحهم ونشر العلوم الدينية والشفاعة للمؤمنين وقضاء حوائجهم وأمثال ذلك وكل هذا من الإيمان، فالإيمان عبارة عن التصديق باللّه وبرسوله والاعتقاد بحقيقة جميع ما جاء به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو يلزم استقامة اللسان في قول الخير والكلام الطيب وهذا من الإقرار بالشهادتين وجميع العقائد الحقة ولوازمها.
وقد أشار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى ذلك بقوله :
«لا يستقيم إيمان عبد [حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى
ص: 369
يستقيم لسانه]» (1).
ولذلك كان الكلام الطيب واللسان الناطق بالخير من الأعمال المتعدية فإنه يكسب الشخص النجاة في الآخرة والفوز بالدنيا بالإضافة إلى الفائدة التي يكتسبها الآخرون منه في المعرفة والحكمة والفضائل والأعمال الصالحة في اتباعهم طريق الحق ومبادىء الإيمان التي يشيعها اللسان النظيف الطاهر.
وهو أيضاً من الأعمال المتعدية، فالصبر بشكل عام هو حبس النفس عن الجزع عند المكروه وهو يمنع الباطن عن الاضطراب واللسان عن الشكاية والأعضاء عن الحركات غير المعتادة.
وحبس النفس معناه ضبطها وهو معنى عام ينتظم الكثير من الفضائل تحتها وتختلف أسماؤها باختلاف المواضع.
ويسمى حبسها على مكاره الحرب شجاعةً، وحبسها على الضجر رحابة صدر أو حبسها عن الكلام كتماناً والصبر شامل لهذه المعاني جميعها قال سبحانه وتعالى :
«...وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ..» (2).
ولهذا يحتاج الإنسان إلى تقوية ملكة الصبر في نفسه بحيث يحبسها عن هذه الأمور المذكورة حتى يصل إلى درجة الأبرار والأخيار.
جاء عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«الصبر رأس الإيمان» (3).
فهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ووجهه أن الإنسان ما دام في تلك النشأة فهو مورد للمصائب والآفات ومحلّ للحوادث والنوائب
ص: 370
والعاهات، ومبتلى بتحمل الأذى من بني نوعه في المعاملات. وأيضاً مكلف بفعل الطاعات وترك المنهيات والشهوات الرديئة وكل ذلك ثقيل على النفس.
فلا تردها بطبعها، فلا بد من أن تكون فيه قوّة ثابتة وملكة راسخة بها يقتدر الإنسان على حبس النفس على هذه الأمور الشاقة ورعاية ما يوافق الشرع والعقل فيها وترك الجزع والانتقام وسائر ما ينافي الآداب المستحسنة المرضيّة عقلاً وشرعاً وهي المسماة بالصبر. فعلى هذا لا يتحلى بالصبر إلا من كان ذا شخصية قوية وملكة راسخة في النفس فالصبر عنوان الرجولة وب_ه يدخل معترك الحياة برباطة الجأش وقوة اليقين فلا ينهار الصبر أمام الأحداث ولا ينقهر أمام المحن، وكما قال الشاعر :
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني***صبرت على شيء أمر من الصبر
ومن البين أن الإيمان الكامل يبقى ببقاء الصبر ويفنى بفنائه فلذلك كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
والصبر على أقسام :
١ - الصبر على البلاء.
٢ - الصبر على فعل الطاعة.
٣ - الصبر على ترك المعصية.
٤ - الصبر على سوء أخلاق الخلق.
الأول : الصبر على البلاء : وهو الصبر على المصيبة في أن لا يجزع الإنسان إذا ما ابتلي في جسمه أو ماله أو أهله وخير مصداق لذلك نبي اللّه أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبعد بيان موجز لمعاني الصبر سنورد إن شاء اللّه تعالى مختصراً مفيداً عن صبره (عَلَيهِ السَّلَامُ).
الثاني : الصبر على فعل الطاعة : وهو أن لا يجزع الإنسان ولا يكسل في أداء الصلاة والصوم والحج وإيتاء الزكاة وما أشبه من العبادات
ص: 371
والمعاملات الشرعية.
الثالث : الصبر على المعصية : كأن يصبر الإنسان نفسه عن ارتكاب الجريمة أو اقتراف الحرام وأن لا يعمل عملاً ينافي الشرع والعقل أو العرف انسياقاً وراء العاطفة.
الرابع : الصبر على سوء أخلاق الخلق : وهو أن لا يجزع الإنسان من القول السىء أو من جراء المعاملة السيئة من قبل بعض الناس أثناء الحياة الاجتماعية وعليه الصبر في التوعية والحلم ولا يعير أهمية للتعب أو كلام الناس والمصادمات معه بل يحاول امتصاصها بصبره ونشر الفضيلة والأخلاق الحسنة بدلها.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«الصبر ثلاثة، صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض ومن صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ومن صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض الأرض إلى منتهى العرش» (1).
وعلى هذا فهناك تفاوت في الشدة والضعف في درجات الاستحقاق من الصبر والملاحظ من خلال الحديث الشريف فإن الصبر على المعصية هو أعلى مراتب الصبر لأنه قد يرجع السبب إلى أنه من الأعمال المتعدية إذ أن ترك المعصية يولد مجتمعاً حراً يتمتع بالفضائل والطاعات فلا وجود للزنا واللواط والأخلاق السيئة والقتل فلذلك أعطيت هذه الرتبة الشديدة من الثواب والجزاء بعكس الصبر على البلاء إذ أنه قد يختص بالفرد الواحد أو الصبر على الطاعة إذ إنه قد يختص بالمكلف نفسه في أداء العبادات والطاعات فقط.
ص: 372
جاء في تفسير القمي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«سألته عن بلية أيوب التي ابتلى بها في الدنيا لأي علة كانت ؟
قال : لنعمة أنعم اللّه عزّ وجل عليه بها في الدنيا وأدى شكرها وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش فلما صعد ورأى شكر نعمة أيوب حسده إبليس، فقال : يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبداً فسلّطني على دنياه حتى تعلم أنه لم يؤد إليك شكر نعمة أبداً فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده : قال : فانحدر إبليس فلم يبقَ له مالاً ولا ولداً إلا أعطيه فازداد أيوب شكراً وحمداً وقال : فسلطني على زرعه يا رب قال : قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب اللّه شكراً وحمداً.
فقال يا رب سلطني على غنمه فأهلكها فازداد أيوب شكراً وحمداً.
فقال : يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه فبقي في ذلك دهراً طويلا يحمد اللّه ويشكره.
إلى أن قال : فلما طال عليه البلاء ورأى إبليس صبره أتى أصحاباً الأيوب كانوا رهباناً في الجبال وقال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى عن بليّته فركبوا بغالاً شهباً وجاؤوا ثم مشوا إليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا : يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل اللّه يهلكنا إذا سألناه وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره : فقال أيوب : وعزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاماً إلا ويتيم أو ضعيف يأكل معي، وما عرض لي أمران كلاهما طاعة اللّه إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب : سوءة لكم عيرتم نبي اللّه حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها.
فقال أيوب : يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجتي
ص: 373
فبعث اللّه إليه غمامة فقال : يا أيوب أدل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم وها أنا ذا قريب ولم أزل. فقال يا رب إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي ألم أحمدك ؟ ألم أشكرك ؟ ألم أسبحك ؟ قال : فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان : يا أيوب من صيّرك تعبد اللّه والناس عنه غافلون ؟ وتحمده وتسبحه وتكبره والناس عنه غافلون ؟ أتمن على اللّه بما للّه فيه المنة عليك ؟ قال : فأخذ التراب ووضعه في فيه ثم قال : لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي.
فأنزل اللّه عليه ملكاً فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ وأنبت اللّه عليه روضة خضراء وردّ عليه أهله وماله وولده وزرعه وقعد معه الملك يحدثه ويؤنسه» (1).
قال الشاعر في أن الصبر ظفر :
إني رأيت للأيام تجربة***للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه***ما استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
لقد ابتلى اللّه تعالى نبيه أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذا البلاء الشديد لاختلاف الصبر عند الأنبياء عمّا دونهم من الناس وليكونوا أيضاً عبرة للجميع فأما الصبر في_ه ينال الإنسان الظفر والسعادة الأبدية وأما الجزع وبه ينال الإنسان الخسران والشقاوة الأبدية فالصابرون هم الكثير والطاعة في الشدة والرخاء والأبرار أيضاً هم الكثير و الطاعة كما تقدم من تعريف البر في بداية البحث وعلى هذا فإن كل بارّ هو من الصابرين وكل صابر هو من الأبرار من جهة الصبر وإن لم يكن برا من جهات أخرى.
قيل أوحى اللّه تعالى إلى داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«تخلق بأخلاقي إني أنا الصبور والصابر إن مات مع الصبر مات شهيداً وإن عاش عاش عزيزاً. واعلموا أن الصبر على المطلوب عنوان الظفر والصبر على المحن عنوان الفرج» (2).
ص: 374
ص: 375
ص: 376
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه والبغض في اللّه» (1).
قبل أن ندخل في توضيح الحديث الشريف لا بد من ذكر مقدمة :
الإنسان ينبغي أن يعرف ربه فما هي المعرفة ؟.
معرفة النفس هي أنفع المعرفتين والإنسان إذا اشتغل بالتدبر والتفكر الخالق وخلقه انقطع إلى ربه من كل شيء وهذا الطريق إلى المعرفة بلا
في واسطة وسيط فالانقطاع إلى اللّه تعالى يرفع عن النفس كل حجاب مضروب عندما يرى الإنسان بذهول ونشوة ساحة العظمة والكبرياء والأحرى بنا أن نسمي هذه المعرفة (معرفة اللّه باللّه) قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
[اعرفوا اللّه باللّه والرسول بالرسول وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان.
ص: 377
- وقال الشيخ الكليني (رَحمهُ اللّه) - ومعنى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعرفوا اللّه باللّه : يعني إن اللّه خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان.
فالأعيان : الأبدان. والجواهر : الأرواح، وهو جلّ وعزّ لا يشبه جسماً ولا روحاً. وليس لأحد في خلق الرّوح الحسّاس الدرّاك أمرٌ ولا سبب هو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفى عنه الشبهين شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف اللّه باللّه وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف اللّه باللّه ] (1).
وإن معرفة اللّه من أعلى المعارف وأشرفها لأن اللّه تعالى أشرف الموجودات وأجلها لذا فإنّ أقوى لذّة في الوجود وأعلاها هي معرفة اللّه ولا يتصور أن يؤثر عليها لذّة أخرى إلا من حرم لذّة معرفة اللّه ولأجل بيان ذلك لا بد من توضيح اللذّة : وهو أن اللذّة :إدراك الملائم مع الميل والوجدان في النفس فكل كائن حي يلتذ ببعض الأعمال والأفعال ولا يتلذ بالبعض الآخر. إذ أنها من الحقائق الوجدانية.
فاللذّات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها عبارة عن نيلها مقتضى طبعها الذي خلقت له، ومن الأمثلة على ذلك : إن غريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام، وغريزة الشهوة للطعام لما خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام، فلا جرم لذتها في نيل الغذاء أما غريزة العقل والمسماة بالبصيرة الباطنة خلقت لتعلم حقائق الأشياء كلها فلذتها تكون في العلم والمعرفة. ولكن العلم منتهى الكمال الذي ينشده الإنسان ومن أخص صفات الربوبية فلذا كانت المعرفة والعلم أقوى اللذّات والابتهاجات، ولذلك نرى الإنسان بطبعه يرتاح إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يشعر عند سماع مثل هذا الثناء بكماله ويعجب بنفسه ويلتذ. والسبب في أن أقوى
ص: 378
الغرائز وأشرفها هي العلم لأنه نيل للكمال وباقي الإدراكات من نيل الغلبة والغذاء والشهوة وغيرها لا تعد كمالات تامة...نعم لها مقدار بسيط من الكمال لاستمرارية الوجود وحفظ بقاء النوع، ثم إن لذّة العلم أيضاً متفاوتة لأنها من الحقائق المشككة إذ هناك لذّة حسية ولذة وهمية ولذة عقلية إذ أن اللذّة الحسية في العلم مثل العلم بالخياطة أو الحياكة واللذّة الوهمية هي العلم بسياسة الملك وتدبير أمور الخلق وهناك لذّة العلم بالنحو والشعر وغيرها وهناك لذّة عقلية وهي لذّة العلم باللّه تعالى وبصفاته وملائكته فإن هذه اللذّة أشرف اللذّات العلمية لأنها تختص بأجل وأشرف شيء في هذا الأخيرة هي الوجود وهل يوجد شيء أعلى وأجمل وأشرف وأكمل من خالق الأشياء كلها وقيومها ومكملها ومربيها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها، وهل يتصور أن يكون أحد في الملك والكمال والعظمة والجلال والقدرة والجمال والكبرياء والبهاء أعظم من ذاته في صفات الكمال ونعوت الجلال فوق التمام، وقدرته وعظمته وملكه وعلمه غير متناهية فإذا كان ذلك فينبغي أن لا نشك لحظة في أن لذّة المعرفة به تعالى أقوى من سائر اللذّات لمن له البصيرة الباطنة وغريزة المعرفة.
تنقسم اللذّة أيضاً إلى....
١ - لذّة باطنية.
٢ - لذّة ظاهرية.
لا شك أن اللذّة الباطنية أكمل من اللذّات الظاهرية فلو خيّر رجل ما بين لذّة أكل الطعام الطيب ولذة الرئاسة والاستيلاء، فلا شك أنه سيختار الثانية لو كان عالي الهمة وكامل العقل. أما إذا كان خسيس الهمة وميت القلب وناقص العقل والبصيرة كالصبي والمعتوه فإنه سيختار الأكل وكما أن لذّة الرئاسة أشد لذّة الأكل فإن لذّة المعرفة باللّه أقوى وأكمل من لذّة الرئاسة وهذا يمكن إدراكه بتجربة اللذتين وإدراكهما. فلو كان ممن لم يذق لذّة المعرفة باللّه لم يكن أهلاً للترجيح ومحلا للكلام، لاختصاص لذّة المعرفة
ص: 379
بمن نال رتبتها وذاقها ولا يمكن إثبات ذلك عند من ليس له قلب، كما لا تثبت لذّة الإبصار عند الأعمى (فمن ذاق عرف) فمن ذاق اللذتين يترك لذّة الرئاسة قطعاً ويستحقر أهلها لكونها مشوبة بالكدورات ومقطوعة بالموت ويختار لذّة المعرفة باللّه، فإنها لا تنقطع، فلا يزال العارف بمطالعتها ومشاهدتها في جنة غير متناهية الأطراف والأقطار. يرتع في رياضها ويكرع في حياضها ويقطف من أثمارها، وهو آمن من انقطاعها إذ أن ثمارها غير مقطوعة ولا ممنوعة بل هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت إذ الموت لا يهدم النفس الناطقة التي هي محل المعرفة وإنما يقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها.
فإذن جميع أقطار ملكوت السماوات والأرض ميدان للعارفين يتبوؤون بنها حيث يشاؤون، فكيف تشغله لذات الدنيا وعلائقها، وكان في الدنيا والآخرة مشغولاً بربه وقد عبر عن هذه اللذّة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أي لذّة مطالعة جمال الربوبية حيث قال حاكياً عن اللّه تعالى :
«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ولعلّ هذه اللذّة هي المرادة من قوله تعالى :
«فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (1).
والوصول إلى هذه الغاية بحاجة إلى صفاء القلب وكسر جميع الحجب المانعة عنه ولا بد من حصول التجرد الكلي وخلع البدن العنصري.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من عرف نفسه تجرد» (2).
أي تجرد عن علائق الدنيا وعن الناس وعن الموانع من المعاصي
ص: 380
والسيئات وتجرد عن كل شيء بالإخلاص للّه ولذلك قال بعضهم :
إني أقول : (يا رب يا اللّه) فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب.
في حين أن من عرف اللّه وعرف حقيقة هذه اللذّة عرف أن اللذّات المقرونة بالشهوات المختلفة منطوية تحت هذه اللذّة كما قيل :
كانت لقلبي أهواء مفرقة***فاستجمعت مذرأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده***فصرت مولى الورى منصرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم***شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي
والمعرفة أيضاً لها طرفان :
الطرف الأول : يتعلق بالعالم (الكون) ومعلومه احتياجه إلى مدير.
الطرف الثاني : يتعلق باللّه ومعلومه أسماء مشتقة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيته وقد ثبت أنه إذا أشار المشير إلى شيء وقال : ما هو ؟ لم يكن ذكر الأسماء المشتقة جواباً أصلاً. فلو أشار شخص إلى حيوان فقال : ما هو ؟ فقيل طويل أو أبيض أو بصير.
أو أشار إلى ماء فقال : ما هو ؟ فأجيب بأنه بارد فكل ذلك ليس بجواب عن الماهية البتة والمعرفة بالشيء هي معرفة حقيقته وماهيته لا معرفة الأسماء المشتقة فإن قولنا صار معناه شيء مبهم له وصف الحرارة وكذلك قولنا قادر عالم معناه شيء مبهم له وصف العلم والقدرة وأما قولنا إنه واجب الوجود فهو عبارة عن استغنائه عن الفاعل وهذا يرجع إلى سلب السبب عنه وقولنا إنه يوجد عنه كل موجود يرجع إلى إضافة الأفعال إليه.
ولما رأينا الوجود والقدرة والعلم متوفرة فينا وعلمنا أنها ليست من ذواتنا بل من الفياض الحقيقي علمنا بأنه موجود قادر عالم ونحو ذلك بلا كيفية لصفاته.
ص: 381
ولما رأينا فينا بعض الكمالات كالوجود والقدرة والعلم والحياة والإدراك نقائص، وصفنا ربنا بالكمالات ونزهناه عن النقائص مع عدم علمنا بكنه ما أثبتناه له تعالى فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه حق معرفته وأنه لا يمكنهم معرفة الحقيقة البتة وأنه يستحيل أن يعرف اللّه المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا اللّه تعالى، فإذا انكشف لنا ذلك اكشافاً برهانياً فقد عرفناه وبلغنا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته وهو الذي أشار إليه من قال بالعجز عن درك الإدراك، إدراك بل هو الذي عناه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حيث قال :
«لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (1).
ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه إني لا أحيط محامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط بها وحدك وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«إن اللّه احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» (2).
وعن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«تكلموا في خلق اللّه تعالى ولا تتكلموا في اللّه فإن الكلام في اللّه لا یزداد صاحبه إلا تحيراً» (3).
وبعد أن بينا معنى اللذّة والمعرفة فهناك علاقة وثيقة بين المعرفة والحب. فالحب : عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم الملذ، إذ لا يتصور الحب إلا بعد المعرفة والإدراك، فالحب مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكائن الحي
ص: 382
الدرّاك، وكذلك قلنا إن اللذّة عبارة عن إدراك الملائم الملذ ونيله، ومن هنا يتضح مدى الارتباط والاشتراك في الميل والرغبة. وعلى هذا فكما قسمنا اللذّة إلى ظاهرة وباطنة وأنها متفاوتة فكذلك الحب تابع للإدراك إذ ينقسم حسب القوة المدركة إلى :
أولاً : ما يتعلق بالظواهر مثل حب الصور الجميلة أو الروائح الطيبة.
ثانياً : ما يتعلق بالباطن وهو قسمان :
أ - إدراك وهمي كحب الرئاسة.
ب - ما يتعلق بالعاقلة فهو إدراك للمعاني الكلية والذوات المجردة.
ولا شك أن الحب الباطني العقلي من أقوى اللذّات وأبلغها : إذ إن البصيرة الباطنة أقوى من البصيرة الظاهرة والعقل أقوى إدراكا وأشد غوصاً ونفوذاً في حقائق الأشياء وبواطنها في الحس ولذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في وصيته للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتي عقدنا لها هذه المقدمة في بحثنا هذا، فعبر عن الحب في اللّه بأنه أوثق عرى الإيمان إذ إن الإيمان من الحقائق الباطنة والعقلية عند الإنسان فجعل الالتذاذ بحب اللّه لذّة عقلية.
ثم إذا أحببت اللّه سبحانه، أحببت كل ما يتعلق باللّه. فقد قالوا : (كل شيء من الحبيب حبيب).
وإذا غمر قلبك حب اللّه وحب ما يتعلق به...وهو الحب في اللّه - كان لا بد وأن تبغض ما هو على خلاف رضا اللّه، الذين يرتكبون المعاصي والآثام والناكرين لوحدانيته. وهناك كمال الإيمان والخير في الدارين.
عن فضيل بن يسار قال :
سألت أبا عبد اللّه عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وهل الإيمان إلا الحب» (1).
ص: 383
إذن هناك نسبة تساوي بين الإيمان والحب وعليه يكون واحدة من علامات المؤمن هي حب اللّه تعالى وإن جميع المؤمنين مشتركون في أصل محبة اللّه لاشتراكهم في أصل الإيمان، ولكنهم متفاوتون في قدرها وسبب تفاوتهم أمران :
أولاً : الاختلاف في المعرفة
ثانياً : الاختلاف في أسباب المحبة.
١ - الاختلاف في المعرفة :
فإن أكثر الناس ليس لهم من معرفة اللّه إلا ما قرع أسماعهم في كونه متصفاً بكذا....وكذا من دون وصول إلى معناها، والبعض الآخر أكثر معرفة إذ يتدبر ويتفكر في أنواع المخلوقات فيغوص في هذا العالم المملوء بالعظمة للخالق سبحانه لذا فإن هذا النوع من المؤمنين أشد حبا اللّه إذ أن كل عبد ينتهي إلى مرتبة تقتضيها معرفته.
قال سبحانه وتعالى :
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ» (1).
[قال الطبرسي في تفسيره :
يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء وحبهم أشد من وجوه :
أولاً : إخلاصهم العبادة والتعظيم له والثناء عليه من الإشراك.
ثانياً : إنهم يحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء وأنه يفعل بهم في جميع أحوالهم ما هو الأصلح لهم في التدبير وقد أنعم عليهم بالكثير فيعبدونه عبادة
ص: 384
الشاكرين ويرجون رحمته على يقين فلا بد وأن يكون حبهم له أشد.
ثالثاً : إنهم يعلمون أن له الصفات العلى والأسماء الحسنى وأنه الحكيم الخبير الذي لا مثيل له ولا نظير يملك النفع والضر والثواب والعقاب وإليه المرجع والمآب] (1).
وعلى هذا فهم أشد حبا اللّه ويتفوقون على من عبد الأوثان والذين اتخذوا اللّه شريكاً وأحبوه كحبهم اللّه وذكرهم في اللّه في بداية الآية والشدة إذن نابعة من المعرفة وقدرها وتابعة لها في الشدة والضعف.
٢- الاختلاف في أسباب المحبة.
فهناك من يحب اللّه لكونه منعماً عليه ومحسناً إليه، وحبه نابع لحال النعمة والإحسان في الشدة والضعف، ولا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرخاء والنعماء. وأما من يحبه لذّاته أو بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان والطريق الأمثل إلى تحصيل محبة اللّه يكون عبر أمرين :
أولاً : تطهير القلب من حب الدنيا وعلائقها والانقطاع إلى اللّه بالذكر والتفكر ثم إخراج حب غير اللّه من القلب.
ثانياً : معرفة اللّه عبر الطريق الواضح الذي أشرنا إليه في التفكير في الخلق وتسليطه على القلب واتباع طريق أهل البيت سالم والذين هم على قمة المعرفة باللّه سبحانه وتعالى :
قال أبو ذر (رحمة اللّه عليه) :
«....سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول :
لولا أنا وعلي ما عرف اللّه، ولولا أنا وعلي ما عبد اللّه، ولولا أنا
ص: 385
وعلي ما كان ثواب ولا عقاب، ولا يستر علياً عن اللّه ستر ولا يحجبه عن اللّه حجاب، وهو الستر والحجاب فيما بين اللّه وبين خلقه...» (1).
وعلى هذا يكون الأول بمنزلة تنقية الأرض من الحشائش والثاني أي المعرفة بمنزلة البذر فيها ليتولد منها شجر المحبة.
بعد أن قلنا إن أسباب الحب ومبادئها متعددة ومختلفة لذا فإن الحب ينقسم لأجلها إلى أقسام :
القسم الأول : حب الإنسان وجود نفسه وبقاءه وكماله. وهو أشد قسام الحب وأقواها. لأن المحبة كما قلنا بقدر الملائمة والمعرفة ولا شيء أشد ملاءمة للشيء من نفسه، ولا هو أقوى معرفة بشيء من نفسه ولهذا جعلت معرفة نفسه مفتاحاً لمعرفة ربه كما في قول الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والذي سبق ذكره : من عرف نفسه فقد عرف ربه» (2).
ومعنى حبه لنفسه كونه محباً لدوام وجوده وكارهاً لعدمه وهلاكه، فالبقاء محبوب والموت مبغوض.
القسم الثاني : حبه لغيره لأجل أنه يلتذ منه لذّة حيوانية، كحب كل من الرجل والمرأة للآخر لأجل التمتع مثلاً. وهكذا حب الإنسان للمأكل والملبس والقاسم المشترك هو اللذّة وهو سريع الحصول وسريع الزوال وأضعف مراتب الحب لخساسة سببه وسرعة زواله...
القسم الثالث : حبه للغير لأجل نفعه وإحسانه وقد أشرنا إلى ذلك في تفاوت المؤمنين في حبهم اللّه تعالى إذ إن هذا الحب مرتبط بالمنفعة والإحسان وعند الزوال يزول أيضاً إذ إنه لا يحب المحسن لذّاته بل لما عرض عليه من الإحسان...
ص: 386
القسم الرابع : أن يحب الشيء لذاته، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ ومثاله حب الجمال والحسن فإن كل جمال محبوب عند مدركه. وذلك لعين الجمال ولأن إدراك الجمال عين اللذّة. واللذّة محبوبة لذاتها لا لغيرها.
وقلنا أيضاً إن اللذّة الحقيقية مختلفة فإن الجمال تبعاً لذلك متفاوت فمنه ما هو :
أولاً : جمال جمال حسي ومثاله المناظر الجميلة والخلابة.
ثانياً : جمال وهمي ومثاله طلب المرأة الجميلة جداً وفي نفس الوقت تكون سيئة الخلق أو طلب المنصب والجلوس على الكرسي وظلم الناس.
ثالثاً: الجمال العقلي، إن الجمال المدرك بالعقل محبوب جداً إذ إن الطباع السليمة مجبولة عليه فلذا أصحاب هذه الطباع يمتازون بحب الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) مع أنهم لم يشاهدوهم حتى إن البعض يضع جميع أمواله في نصرتهم وإلى حد يصل العشق في حبهم بأن يخاطر بحياته في بعض الشعائر الدينية فيضرب هامته بالحديد الجارح ويدخل في الناس مع أنه لم يشاهد صورة محبوبه ولم يسمع كلامه فما حمله على الحب هو استحسانه بصفاته الباطنة من الورع والتقوى والتوكل والرضا وغزارة العلم والإحاطة بمدارك الدين وهذا الحب من أجل وأشرف أقسام الحب.
يقول السيد جعفر الحلي، وهو يعبر عن مدى هيامه بحب الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
نفسي الفداء لفادي شرع والده***بنفسه وبأهله وما ملكا
ويقول آخر :
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة***لكنما عيني لأجلك باكيه
تبتل منكم كربلا بدم ولا***تبتل مني بالدموع الجاريه
ص: 387
وفي هذا أيضاً جاء في الشعر حول الحب والذي يقرأ عن لسان سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) مناجياً ربه يقول :
تركت الخلق طراً في هواكا***وأيتمست العيال لكي أراكا
ولو قطعتني في الحب إرباً***لما مال الفؤاد إلى سواكا
القسم الخامس : محبته لمن بينه وبينه مناسبة خفية أو مجانسة معنوية وهذا الحب مجرد تناسب الأرواح فإذا تعارفت ائتلفت مع بعضها البعض.
القسم السادس : محبته لمن حصل بينه وبينه الإلفة والاجتماع في بعض المواضع لذا نرى الشريعة الإسلامية تحث على صلاة الجمعة والجماعة والعيدين والحج فإنها باعثة على اجتماع المسلمين من عموم الأقطار في موقف واحد فيحصل الحب والتآلف...وأحياناً يحصل عند التعارف في رحلة بالقطار أو بالطائرة أو غيرها من الرحلات البعيدة وهذا عائد إلى أن الإنسان مجبول على المؤانسة والالتقاء والاجتماع فهي من طبيعة الإنسان وقد سمي إنساناً لاشتقاق إنساناً لاشتقاقه من الإنس وليس من النسيان كما ظن البعض والمؤانسة لا تنفك عن المحبة.
القسم السابع : محبة المتشاركين في سبب واحد بعضهم لبعض : ومثاله محبة الإخوان والأقارب بعضهم لبعض.
وكل هذه الأقسام التي ذكرناها قد يتصف بها شخص واحد فيكون الحب عنده أقوى وأشد من الذي يتصف ببعضها وهناك أيضاً من يفقد جميع هذه الأقسام.
ولا بد من القول بأنه لا يستحق الحب غير اللّه سبحانه وتعالى ومن نحبه لحبنا اللّه ولا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا هو ومن أحب غير اللّه تعالى فإنه تابع لجهله وقصور معرفته باللّه.
وهنا لعلّه يطرح سؤال فيقول لماذا لا يستحق الحب غير اللّه تعالى ؟
ص: 388
والجواب عائد إلى أن جميع أسباب الحب مجتمعة في حقه تعالى ولا توجد في غيره ومن قال بوجودها في غيره فإنه توهم وتخيل ومجاز محض لا حقيقة إذ إن من الأسباب الحقيقية في حب اللّه تعالى هو محبة النفس فإن كل وجود في الكون تابع لوجود اللّه ولا وجود له من ذاته فالوجود ودوام الوجود وكماله من اللّه فالفضل إذن عائد إلى الخالق تعالى في الوجود والإبقاء فمحبة كل شيء لنفسه ترجع إلى محبة ربه وإن لم يشعر المحب به، وكذلك إنه لا لذّة ولا إحسان إلا من اللّه تعالى فإنه خالق الإحسان وذويه وإنه تعالى هو الجميل بذاته والكامل بذاته وإن هذه الأسباب اجتمعت كلها في اللّه تعالى حقيقةً لا مجازاً وعلى هذا فهو المستحق لأصل المحبة وكمالها. إلا أنه لا يعرف ذلك إلا العارفون من أوليائه وأحبائه وكما قال سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء عرفة :
«....وأنت الذي أزلت الأغبار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك، وأنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم العوالم» (1).
وإذا عرفنا هذا فلنعد إلى معنى الحب في اللّه والبغض في اللّه فنقول :
الحب يحصل إما بمجرد الصحبة الاتفاقية، مثل الجوار والتجارة أو الزمالة المدرسية أو السفر وأمثال ذلك هذه ليست من الحب في اللّه بل هو بحسب الاتفاق وهذا يتصور على أربعة أقسام ومن خلالها سنصل إلى معنى الحب في اللّه :
القسم الأول : أن يحب الإنسان إنساناً آخر لذّاته لا ليتوصل إلى محبوب ومقصود وراءه، بأن يكون هو في ذاته محبوباً عنده وهذا القسم لا يدخل في الحب في اللّه بل هو حب طبعي وشهوة النفس.....
ص: 389
القسم الثاني : أن يحبه لا لذّاته بل لنيل مصلحة دنيوية وعلى حد تعبيرنا بأنه الجسر الموصل إلى الطرف الآخر وهذا أيضاً ليس من الحب في اللّه....
القسم الثالث : أن يحبه لا لذّاته بل لغيره ومثاله حب التلميذ للأستاذ لأنه الوسيلة إلى تحصيل العلم وتحسين العمل وغرضه من العلم والعمل الفوز بالآخرة وهذا الحب من جملة الحب في اللّه والمعيار فيه أن كل من أحب غيره من حيث كونه وسيلة إلى الفائدة الأخروية فهو محب في اللّه.
القسم الرابع : أن يحبه للّه وفي اللّه لا ينال منه علماً أو عملاً بل لأنه متعلق باللّه ومنسوب إليه وهذا هو من أقوى معاني الحب في اللّه.
وقد يستفاد من بعض النصوص أن القسم الثالث والرابع من أقسام الحب يختصان بمحبة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والسبب في ذلك عائد لأمرين :
أولاً : إن بيننا لكوننا عباداً مخلوقين وبين اللّه تعالى لكونه رباً وخالقاً وسيلة والوسيلة هم أهل البيت وقد جاء في قوله تعالى في كتابه الكريم:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (1).
ثانياً : لأن الأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) منسوبون إلى اللّه تعالى ومن خطبة للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إنما الأئمة قوام اللّه على خلقه وعرفاؤه على عباده. ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» (2).
وفي رواية عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال :
ص: 390
خرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومعه الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فخطب الناس ثم قال في خطبته :
«أيها الناس إن هؤلاء عترة نبيكم وأهل بيته وذريته وخلفاؤه، شرفهم اللّه بكرامته، واستودعهم سره، واستحفظهم غيبه واسترعاهم عباده وأطلعهم على مكنون أمره، ولقنهم حكمته وولاهم أمر عباده وأمرهم على خلقه واصطفاهم لتنزيل وحي_ه وأخدمهم ملائكته وصرفهم في مملكته وارتضاهم لسرّه واجتباهم لكلماته واختارهم لأمره وجعلهم أعلاماً لدينه وشهداء على عباده وأمناء في بلاده. فهم الأئمة المهدية والعترة الزكية والذرية النبوية والسادة العلوية والأمة الوسطى والكلمة العليا وسادة أهل الدنيا والرحمة الموصلة عصمة لمن لجأ إليهم ونجاة لمن تمسك بهم، سعد من والاهم وشقي من عاداهم من تلاهم أمن من العذاب ومن تخلفهم ضلّ وخاب. إلى اللّه يدعون وعنه يقولون وبأمره يعملون في أبياتهم هبط التنزيل وإليهم بعث الأمين جبرائيل..» (1).
إذاً فاللّه سبحانه أحق بالحب من كل شيء وكل شخص، وإذا أحب الإنسان خالقه عن معرفة خلا قلبه عن حب سواه إذ كل محبوب ما خلاه مجازي لا حقيقة له، وإن شئت قلت يلزم أن تحب الإنسان حباً بالعرض أما حب اللّه فهو حب بالذات والإنسان يحب والديه ولكنه دون حب اللّه ويحب الأنبياء والأئمة الأطهار لأنهم مرتبطون باللّه تعالى ومقربون إليه.
وقد أمر الإسلام بحب اللّه وحب من أمر اللّه بحبه وقد جاء ذلك في آيات وأحاديث كثيرة نورد منها البعض آملين أن نكون ممن يحب في اللّه ويبغض في اللّه وذلك بمعرفة أنفسنا والتدبر في الخلق حتى نعرف ربنا وعلى قدر معرفتنا سنحصل على مرتبة في الحب تجعلنا في مصاف المؤمنين الحقيقيين إن شاء اللّه تعالى.
ص: 391
قال تعالى في كتابه العزيز :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (1).
فالحب في اللّه لازمه إيثاره على كل شيء سواه مما يتعلق بنفس الإنسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها. وأما حب اللّه تعالى لأوليائه لازمه البراءة من كل ظلم والطهارة من كل قذارة معنوية من الكفر والفسق بعصمة أو مغفرة إلهية عن توبة وذلك لأن اللّه تعالى لا يحب الظالم والعاصي وكما جاء في قوله تعالى.
«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (2).
وقوله تعالى :
«وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (3).
وفي قوله تعالى :
«...وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (4).
وإلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
وفي هذه الآيات إشارة إلى بعض الرذائل الإنسانية وإذا ارتفعت عن الإنسان بشهادة محبة اللّه اتصف هذا الإنسان بما يقابلها من الفضائل لأن الإنسان لا مخلص له من أحدهما إما الرذيلة أو الفضيلة.
يقول الفيلسوف الحاج السبزواري (رَحمهُ اللّه) في بيان قول (لا إله إلا اللّه) :
ص: 392
تخلية تحلية وتجلية***ثم فنا مراتب مرتقية
فالتخلية : أخلي لقلبك عما سوى اللّه فهو لا إله.
التحلية : تحلي قلبك بحب اللّه فهو إلا اللّه.
التجلية : تتجلى أمامك المعنويات فهو الفلاح.
ومن تخلق بالفضائل وحب اللّه تعالى فهم المؤمنون حقاً وهم بإيمانهم الذي صدقهم اللّه فيه مهديون إلى اتباع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والتسليم التام له كتسليمهم اللّه سبحانه وتعالى وعند ذلك فهم من مصاديق الآية الكريمة :
«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (1)
ومنها يظهر أن اتباع النبي محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومحبة اللّه متلازمتان فمن اتبع النبي أحبه اللّه ولا يحب اللّه عبداً إلا إذا كان متبعاً لنبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
ولنا ذكر آية أُخرى في الحب في اللّه وهي قوله تعالى :
«قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (2).
ومن الروايات الشريفة ينقل في أخبار داود إذ خاطبه اللّه تعالى بقوله :
«يا داود أبلغ أهل أرضي إني حبيب من أحبني، وجليس من جالسني ومؤنس لمن أنس بذكري، وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطي_ع لمن أطاعني، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته
ص: 393
لنفسي، وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني أؤنسكم وأسارع إلى محبتكم وأوصى اللّه إلى بعض الصديقين إن لي عباداً من عبيدي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم فإن أخذت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك.
قال : يا رب وما علامتهم ؟
قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلىّ غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش، ونصبت الأسرة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا إلي أقدامهم، وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوني بأنعامي ما بين صارخ وباك، وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشكون من حبي. أوّل ما أعطيهم ثلاثاً :
الأول : أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم.
والثاني : لو كانت السموات والأرضون وما فيهما من مواريثهم لاستقللتها لهم.
والثالث : أقبل بوجهي عليهم. أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد أن أعطيه» (1) ؟
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لبعض أصحابه ذات يوم :
«يا عبد اللّه أحب في اللّه وابغض في اللّه ووال في اللّه وعاد في اللّه فإنه لا تنال ولاية اللّه إلا بذلك ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في
ص: 394
الدنيا، عليها يتواددون وعليها يتباغضون وذلك لا يغني عنهم في اللّه شيئاً فقال له :
وكيف لي أن أعلم أني قد واليت وعاديت في اللّه عز وجل ومن ولي اللّه تعالى حتى أواليه ومن عدوه حتى أعاديه فأشار له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال :
أترى هذا ؟ فقال : بلى فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
ولي هذا ولي اللّه. فواله، وعدو هذا عدو اللّه. فعاده ثم قال : والي ولي هذا ولو أنه قاتل أبيك وولدك. وعاد عدو هذا ولو أنه أبوك وولدك» (1).
ص: 395
ص: 396
ص: 397
ص: 398
یسمم اللّه الرحمن الرحيم
قَالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي أربع من كن فيه بنى اللّه له بيتاً :الجنة من أوى اليتيم ورحم الضعيف وأشفق على والديه ورفق بمملوكه» (1).
من المسائل المتفق عليها اليوم، أنّ القانون الذي يضعه علماء القانون يجب أن يتصف بصفة المرونة والعفو على الرغم من التباين في القوانين الموضوعة.
ونفس هذه المسألة عبّر عنها الإسلام بكلمة (الإغضاء) وبكلمة (المغفرة) وبكلمة (الرحمة) فبالرغم من الاختلاف في التعبير ولكن الجوهر هو شيء واحد فما رق له القلب وعطف عليه فهو رحمة ويقول في المبالغة (رحيم) والرحمة من اللّه تعني الإحسان وتطلق الرحمة أيضاً على ما يكون سببا فى رحمة اللّه من كتاب منزل أو رسول أو نبي مرسل وتطلق على النعمة التي تنشأ عن الرحمة. فهي إذن مبعث الخيرات، ومعدن الفضائل، فبالرحمة تتجمع الصلات وتتوحد البشرية، بها يبر الوالد أباه، وبها يصل
ص: 399
المرء قريبه، وبها يألف الزوجان أحدهما الآخر.
ولقد ابتدأ اللّه سبحانه وتعالى كتابه الحكيم المنزل على خاتم الأنبياء محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بآية (بسم اللّه الرحمن الرحيم) فابتدأ بصيغتين كلتاهما من الرحمة والإسلام يهتم بإيجاد هذه الصفة في القلوب ويؤكد لتركيزها في أعماق النفس حتى تعطي ثمارها الحلوة مثل صلة الرحم، وبر الوالدين والعطف على الأولاد وإشباع الجائعين وإكساء الأجساد العارية، وحسن الجوار...وكل ما فيه الخير.
وفي الحديث القدسي قال اللّه تعالى :
«اطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي لتعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي» (1).
فالإسلام يلاحظ الرحمة والعطف والحنان في كل مبادئه وأحكامه وهناك ثلاثة جوانب من الرحمة في الإسلام.
الجانب الأول : الرحمة التكوينية :
وهي مختصة بالكون والخلقة فاللّه تعالى هو خالق الكون وما فيه من أشياء وخلق اللّه الأشياء رحمة فرحمته وسعت كل شيء.
ولكن الرحمة كانت بقدر قابليات الأشياء، فعندما يعطي اللّه الحياة للإنسان يعطيه الحياة بالصورة الأتم والأكمل، ويكفي أن تعرف رحمة اللّه في خلقه من خلال التفكر في عجائب مخلوقاته في جسم الإنسان فضلا عن غيره ولنتدبر ما للأطفال من منافع عظيمة في البكاء حيث قيل إن أدمغتهم فيها رطوبة عظيمة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أمراضاً وعللاً شديدة مثالها ذهاب البصر (العمى) وغيره ونتفكر أيضاً في منافع أعضاء البدن من رحمة فاليدان
ص: 400
للعلاج، والرجلان للسعي والتحرك، والعينان للاهتداء والفم للاغتذاء والمعدة للهضم والكبد للتخليص والمنافذ لإخراج الفضلات والأوعية لحملها والأجهزة التناسلية لإقامة النسل وهكذا ولنتفكر في رحمة اللّه من وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من رحمة فإن الطعام يصل إلى المعدة فتطبخه وتبعث بمصفاة إلى الكبد ويستحيل أي يتحول بالاستحالة) في الكبد بلطف إلى دم وترسله إلى البدن كله في مجاري مهيأة لذلك وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مقابض قد أعدت لذلك فما كان من جنس المرّة والصفراء جرى إلى المرارة وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة وانظر إلى ما خص به الإنسان في خلقه تشريفاً وتفضيلاً على البهائم فإنه في خلقته ينتصب خلقته ينتصب قائماً ويستوي جالساً يستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما فلو كان مكبوباً على وجهه كذات الأربع لما استطاع أن يستعمل شيئاً من الأعمال وإلى ما خص به الإنسان من الحواس في خلقه وشرف بها على غيره.
كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة وليتمكن من مطالعة الأشياء ولم يجعلها في الأعضاء التي تحتها كاليدين والرجلين فتصيبها الآفات والعلل نتيجة الحركة في اليدين والرجلين المستمرة في مباشرة العمل الشاق فيؤثر فيها وينقص منها ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيتعسر عليها الاطلاع على جميع الأشياء وعلى غرار ذلك نتفكر أيضاً في رحمة اللّه تعالى في خلق بعض الأعضاء زوجاً والآخر فرداً وأيضاً كيف جعل اللّه الأشفار والأغشية للمحافظة على أعضاء البدن ولو كان غير ذلك لزم خلاف الرحمة الإلهية وعلى حد تعبير الحكماء في ذلك يقولون إن اللّه كما يعطي أصل الوجود للأشياء فإنه يعطيها كمالها الوجودي أيضاً».
الجانب الثاني : الرحمة التشريعية :
اللّه سبحانه وتعالى لم يجعل الإنسان بلا تكليف ونظام بل جعل على الإنسان تكاليف وأنظمة يجب على الإنسان إقامتها وكلها مرتبطة بالرحمة
ص: 401
الإلهية فمثلاً التكليف بغير المقدور محال وظلم إذ لا يجوز في حكمة اللّه تعالى أن يكلف أحداً فوق طاقته كما يحكم بذلك العقل والنقل الآيات والروايات».
قال اللّه تعالى في محكم كتابه المجيد :
«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ» (1).
وقال جلت قدرته :
«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (2).
قال الطبرسي :
«يريد اللّه بكم اليسر في جميع أموركم ولا يريد بكم العسر والتضييق فإنه لا يريد تكليف ما لا يطاق» (3).
عليكم وهكذا في التكليف في الآية السابقة أن لا يكلف اللّه نفساً إلا بقدر استطاعتها لذا فإن اللّه تعالى أمرنا بالقدر المقدور عليه والتكليف الذي لا يقدر عليه الإنسان فإنه مرفوع عنه رحمةً به فمثلاً الذي ينسى بدون تقصير منه لا يعاقبه اللّه كما جاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«رفع عن أمتي تسع الخطأ والنسيان...».
والعقل أيضاً يسند هذا الجانب إذ أن هناك قاعدة أصولية تسمى بالبراءة العقلية».
فإن كل حكم واجب أو حرام لا يعلمه المكلف ولم تصل إليه الحجة فيه فإن الإنسان ليس مكلفاً به واللّه لا يعاقبه عليه لو ترك العمل وهذا ما يلخصه علماء الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان أو البراءة العقلية) وهذا
ص: 402
من رحمة اللّه تعالى على الإنسان المكلف إذ قال سبحانه وتعالى :
«وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (1).
الجانب الثالث : الرحمة التطبيقية :
وهذه الرحمة مختصة في الأحكام الإلهية إذ إنها دائماً يراعى فيها الرحمة إذ أن من يخالف الحكم الإلهي بسرقة أو زنا أو قتل ونحوها فإنه يتلقى جزاء عمله في الآخرة والجزاء يكون وبيلاً على مرتكب هذه الأعمال أما الرحمة هنا كيف تحصل ؟ تحصل الرحمة من خلال إقامة الحدود والتوبة من بعد الظلم إذ يقول سبحانه وتعالى :
«مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا» (2).
ومن الأمثلة على ذلك قطع يد السارق فهناك شروط يلزم تحققها حتى تقطع يد السارق ومنها أن يكون بالغاً وعاقلاً وارتفاع الشبهة فلا تقطع اليد لمجرد الظن أو التوهم بالملكية وأيضاً ارتفاع الشركة وأن لا يكون والداً وأن يتحقق الإخراج بالمباشرة وهكذا إلى ثمانية شروط وكل شرط له تفرعات وضوابط إلى أن يصل الحكم إلى أن تقطع الأصابع من اليد اليمنى ويترك له الراحة والإبهام، ولو سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ويترك له العقب يعتمد عليها وإن سرق ثالثة حبس دائماً ولو سرق بعد ذلك قتل ولو تكررت السرقة فالحد الواحد كاف.
قال سبحانه وتعالى :
«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
ص: 403
غَفُورٌ رَحِيمٌ....» (1).
فقوله تعالى «جزاءاً بما كسبا تكالاً من اللّه» أي إن القطع هو الجزاء والنكال هو العقوبة التي يعاقب بها المجرم لينتهي عن إجرامه ويعتبر بها غيره من الناس ويتفرع منه قوله تعالى : «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» أي لما كان القطع نكالاً يراد به رجوع المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة وأصلح ولم يحم حول السرقة (وهذا أمر يُستثبت به معنى التوبة) فإن اللّه يتوب عليه ويرجع إليه بالمغفرة والرحمة لأن اللّه غفور رحيم.
وعن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في السارق إذا سرق قطعت يمينه وإذا سرق مرة أخرى قطعت رجله اليسرى ثم إذا سرق مرة أخرى سجنه وتركت رجله اليمنى يمشي عليها إلى الغائط ويده اليسرى يأكل بها ويستنجي بها وقال : إني أستحي من اللّه تعالى أن أتركه لا ينتفع بشيء ولكن أسجنه حتى يموت في السجن وقال : ما قطع محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من سارق بعد قطع يده ورجله» (2).
فليقس الإنسان ما فيه من رحمة إلهية من تطبيق الأحكام الشرعية وما فيه من قسوة من تطبيق القوانين الوضعية الخارجة عن إطار الحكم الشرعي الإسلامي فأين مغفرة اللّه ورحمته من قسوة البشر وظلمهم.
وبعد التعرف على هذه الجوانب الثلاثة من الرحمة التكوينية والتشريعية والتطبيقية فإن أكثر الجوانب متعلقة باللّه تعالى إذ جاء في الأحاديث الشريفة أن الرحمة مائة قسم فتسع وتسعون منها عنده تعالى وقسم واحد يتراحم به الناس فقد جاء في كتاب الدر المنثور أنه جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها
ص: 404
ثم صلى خلف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم نادى اللّهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً. فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لقد حظرت رحمة واسعة وإن اللّه خلق مائة رحمة فانزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها وعنده تسع وتسعون» (1).
أما سعة الرحمة وإفاضة النعمة فمن المعلوم أنه من مقتضيات الألوهية ولوازم صفة الربوبية فما من موجود مخلوق إلا ووجوده نعمة لنفسه ولغيره لارتباط أجزاء الخلقة وكل ما عنده من خير أو شر نعمة إما لنفسه أو لغيره كالقوة والثروة وغيرها التي يستفيد منها الإنسان وغيره وأما لغيره إذا كانت نقمة بالنسبة إليه كالعاهات والآفات والبلايا يستضر بها شيء وينتفع أشياء وعلى هذا فالرحمة الإلهية تسع كل شيء فعلاً لا شأناً ولا تختص بمؤمن ولا كافر ولا ذي شعور ولا غيره ولا دنيا ولا آخرة والمشيّة لازمة لها.
تحقق العذاب والنقمة في بعض الموارد (وهو معنى قياسي) يوجب أن يتحقق هناك رحمة تقابلها وتقاس إليها فإن حرمان البعض من النعمة التي أنعم اللّه بها على بعض آخر إذا كان عذاباً كان ما يجده البعض الآخر رحمة تقابل هذا العذاب وكذا نزول ما يتألم به ويؤذي على بعض كالعقوبات الدنيوية والأخروية إذا كان عذاباً كان الأمن والسلامة التي يجدها البعض الآخر رحمة بالنسبة إليه وتقابله وإن كانت الرحمة المطلقة بالمعنى الذي تقدم بيانه يشملها جميعاً. وعلى هذا فإن هناك رحمة إلهية عامة ورحمة إلهية خاصة.
أولاً : الرحمة الإلهية العامة : وهي التي يتنعم بها المؤمن والكافر والبر والفاجر وذو الشعور وغير ذي الشعور فيوجدون بها ويرزقون بها في أول
ص: 405
وجودهم ثم في مسير الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء.
ثانياً : الرحمة الإلهية الخاصة : وهي العطية الهنيئة التي يجود بها اللّه سبحانه في مقابل الإيمان والعبودية باللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) وتختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيبة نورانية وجنة ورضوان في الآخرة ولا نصيب فيها للكافرين والمجرمين.
لذا فإن في مقابل الأول من الرحمة الإلهية العامة لا يوجد عذاب إذ أن كل ما يصدق عليه شيء فهو من مصاديق الرحمة العامة لنفسه ولغيره أما مقابل الرحمة الثانية وهي الخاصة فيوجد عذاب يصيب الكافرين والمجرمين من جهة كفرهم وجرمهم في الدنيا والآخرة. قال سبحانه وتعالى :
«عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (1).
وفي هذه الآية بيان الخصوص العذاب وعموم الرحمة ونتيجة هذا التقابل أيضاً نحصل على الرحمة الخاصة التي تختص بالمؤمنين المتقين فالذين تنالهم هذه الرحمة الخاصة يجب أن يتمتعوا بصفات منها التقوى والإيمان باللّه وبرسوله وأهل البيت لحم وبآيات اللّه جميعها وإيتاء الزكاة وأداء الصلاة والصوم والعمل الصالح والطاعة وإلى آخره من الأفعال والعبادات المذكورة في محلها والذين يجتنبون المعاصي بجميع صورها فلهذا فإن للرحمة موجبات ذكرتها من خلال الكلام وأثبتها بالآيات والروايات التالية :
قال سبحانه وتعالى :
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (2).
وقال جلت قدرته :
«وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (3).
ص: 406
وأيضاً قال تعالى :
«وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (1).
وفي آية أخرى قال تعالى :
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ» (2).
وعلى هذا إن أسباب الرحمة الإلهية الخاصة متعددة منها طاعة اللّه ورسوله والأئمة الأطهار (صلوات اللّه عليهم) وأداء الفرائض والواجبات والتقوى رجاءاً للرحمة لأن الإنسان لا يدري بما يحصل بالآخرة وثانياً ليكن الغرض من هذه الأعمال هو طلب ما عند اللّه من الرحمة والثواب
وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«تعرّضوا لرحمة اللّه بما أمركم به من طاعته» (3).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«فرحم اللّه امراً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته» (4).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«رحم اللّه رجلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فرده وكان عوناً بالحق على صاحبه» (5).
ومن خلال ما تقدم من الرحمة الإلهية العامة والخاصة فإن في صفة (الرحمن والرحيم) التي تطلق على اللّه تعالى كما في قوله تعالى :
(بسم اللّه الرحمن الرحيم) وفي قوله تعالى :
ص: 407
«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» (1) الكثير من المعاني العميقة.
فالرحمن الرحيم من الرحمة وهي وصف انفعالي وتأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فالرحمن صيغة مبالغة تدل على الكثرة والرحيم صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء ولذلك :
الرحمن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرحمة العامة وقد استعمل في قوله تعالى :
«الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» (2).
والرحيم تناسب الرحمة الخاصة التي تختص بالمؤمن والمتقي فهو يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما في قوله تعالى : «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» (3).
وتتجلى بشكل عظيم تلك الرحمة التي يحصل عليها العبد في يوم الحساب إذ يقف أمام البارىء عزّ وجل وتعرض عليه سيئاته وحسناته فالعبد الصالح المؤمن والذي يتمتع بالرحمة الإلهية الخاصة يصوره الإمام علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في موقفه يوم الحساب في هذه الرواية :
«إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يدي اللّه تعالى فيكون هو الذي يلي حسابه فيعرض عليه عمله فينظر في صحيفته فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه وترعش فرائصه وتفزع نفسه ثم يرى حسناته فتقر عينه وتسر نفسه ويفرح ثم ينظر إلى ما أعطاه اللّه تعالى من الثواب فيشتد فرحه ثم يقول اللّه تعالى للملائكة :
ص: 408
«احملوا الصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها قال :
فيقرأونها فيقولون :
وعزتك إنك لتعلم إنا لم نعمل منها شيئاً فيقول :
صدقتم ولكنكم نويتموها فكتبناها لكم ثم يثابون عليها» (1).
وكل هذا جزاء ما عملوا من الطاعات التي وعدهم اللّه بها ولكن رحمة اللّه الدعامة القوية في يوم الحساب لأنه سبحانه يزيدهم من فضله بأشياء لم يعدهم بها ولم يخطر ببال أحد لسعة إحسانه وقدرته تعالى حتى تصل إلى درجة تنال رحمته حتى من كان جزاءه النار فعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
إنّ آخر عبد يؤمر به إلى النار يلتفت فيقول اللّه عز وجل :
أعجلوه : فإذا أتي به قال له : يا عبدي لم التفت ؟
فيقول : يا رب ما كان ظني بك هذا، فيقول اللّه جل جلاله :
عبدي وما كان ظنك ؟ فيقول : يا رب كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتك. فيقول اللّه تعالى :
ملائكتي، وعزتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني ما ظنّ بي هذا ساعة من حياته خيراً قط، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ما روّعته بالنار أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة..» (2).
وبعد هذه المقدمة نقول : إن في وصية الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعداً من اللّه تعالى لعباده بأن يدخلهم الجنة وفي بيوت أعدّها لهم قد لا نصل إلى بيان ما في هذه البيوت من سعادة وهناء لذا فإن الرحمة التي قلنا عنها بأنها مائة قسم واحد منه يختص بالبشر فيما بينهم فكلما كان
ص: 409
الإنسان رحيماً مع الآخرين نال رحمة اللّه الواسعة واللّه جعل الرأفة والرحمة في قلوب المؤمنين ليرأف بعضهم بالبعض الآخر ويعيشوا على التراحم والتعاطف والمسالمة وكما جاء في قوله تعالى :
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ....» (1).
إذ إن اللّه سبحانه وتعالى يصف أصحاب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والمخلصين منهم كعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخيه جعفر بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحمزة عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وسلمان وأبو ذر وعمار بن ياسر (رضي اللّه عنهم أجمعين) بأنهم أشداء على الكفار أي يتبعون القسوة ضد الكفار. وضد القسوة الرحمة ولكنهم رحماء فيما بينهم.
قال سبحانه وتعالى :
«...وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً...» (2).
فجعل اللّه تعالى في قلوب أصحاب الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومن اتبعه الرأفة والرحمة وشكلوا نواة أول دولة إسلامية إذ كانوا «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ..» (3).
أي إن المؤمنين المسلمين رحماء فيما بينهم وغلاظ شداد على الكافرين وهذا هو ما يجب أن يتعامل به المسلمون داخل بلادهم الواحدة بالرحمة والإلفة والتودد وأن يكونوا على الكافرين والمتآمرين المستعمرين في الخارج غلاظ وشداد بالحزم والمنعة وذلك للمحافظة على استقلالية الدولة الإسلامية ومنعتها وأن تكون عزيزة ومرهوبة الجانب ولأن التراحم يعطيها :
1 - دعم الشعب الكامل لها
ص: 410
2- استمرارها في الحكم بفعل صدقها
٣- قبولها عند اللّه وذلك لأن اللّه عون للمؤمن كلما كان المؤمن في عون أخيه.
قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«تقربوا إلى اللّه تعالى بمواساة إخوانكم» (1).
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا.. فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين» (2).
وقال (عليه الصلاة والسلام) :
«الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء» (3).
وقال رجل للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
أحب أن يرحمني ربي. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إرحم نفسك. وارحم خلق اللّه يرحمك اللّه» (4).
ولربما تبادر إلى الأذهان الآن هذا السؤال :
من الذي يرحم؟
من خلال الحديث الشريف الذي ابتدأنا بحثنا هذا فإن رسول اللّه أوضح لنا أربع فئات فمن يستحق الرحمة.
ص: 411
منها على ضوء العلاقات الخارجية للإنسان وهذا يتجسد مع الأيتام والضعفاء أما على المستوى الداخلي فعلاقته بالوالدين ومملوكه إذ إن الإنسان على ارتباط دائمي مع والديه ومملوكه فيتبين أن هناك :
١ - رحمة خارجية (ظاهرية).
2 - ورحمة داخلية (باطنية).
استوعبها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه الشريف ولا بد من تبيان نوع العلاقة مع كل فئة ذكرها الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهي :
أولاً : الأيتام : وذلك بإيوائهم ومتابعة أحوالهم.
ثانياً : الضعفاء من الناس والضعيف أعم من الضعف البدني والمادي فهؤلاء لشدّ ما يحتاجون إلى الرحمة والمساعدة.
ثالثاً : الوالدان : وذلك بالإشفاق عليهم ومواصلتهم وإطاعتهم.
رابعاً : الرفق بالمملوك لأنه لا يملك من أمره شيئاً فلا تكن عليه قاسياً.
هذا ما جاء في الحديث الشريف ولكن هناك فئات أخرى أوضحتها الروايات تستحق الرحمة منها.
عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
ارحموا عزيزاً ذلّ. وغنياً افتقر، وعالماً ضاع في زمن جهال» (1).
والرحمة لهؤلاء لعدم استغناء المجتمع المتمدن عنهم إذ أن من كان عزيزاً في قومه أو غنياً أو عالماً لم يصل إلى هذه المرتبة إلا بجهد وعمل وإنه من العوامل المساعدة على نشأة المجتمع وترابطه وتقدمه.
إن حياة الإنسان بل الكون جميعه متوقف على رحمة اللّه تعالى إذ إن
ص: 412
الإنسان يحتاج إلى الهواء والماء. والطاقة لإدامة الحركة والتطور وكذلك باقي الكائنات الحية وغير الحية تحتاج إليهنّ كلّ حسب نوعها وكذلك حاجة الكائنات بعضها إلى بعض إذ أن الذكر والأنثى يحتاج بعضهما الآخر لزيادة التناسل والاستقرار وهكذا حاجة الإنسان إلى النبات والحيوان وحاجة النبات إلى الشمس وحاجة الحيوان إلى الطبيعة. وهكذا العوالم الأخرى وكل ذلك من خلق اللّه تعالى فلولا وجود الهواء والماء وما شابه ذلك من عوامل استمرار الحياة لأصبحنا في العدم وإن الإنسان والكائنات الأخرى تعيش في ظل رحمة اللّه وذلك لعدم استقلالها بنفسها عن الآخرين وعمّا خلقه اللّه من عوامل بيئية مساعدة وإذا أردنا أن نستدرّ رحمة اللّه وإدامتها لئلا نتحول إلى العدم وفقدان العوامل المساعدة يجب علينا أن نتراحم ونتعاطف فيما بيننا ونضمر الرحمة إلى جميع الناس بدون استثناء إذ أن اللّه تعالى لم يستن من رحمته في خلق الأشياء حتى الكافرين بل إن رحمته وسعت كل شيء وتقدم الكلام في رحمته العامة. وهكذا كان الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يظهر العداوة لأي شخص من الكافرين بل شمل برحمته الجميع وبذلك استطاع أن يركز دعائم الدين الإسلامي الحنيف وخير مثال على رحمته العظيمة الواسعة :
إذ أنه لما كذب المشركون رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وآذوه وقاطعوه وقتلوا أصحابه وعذبوهم وشردوهم وفعلوا ما فعلو به (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) طوال السنين الصعاب حينذاك نزل عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جبرائيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) من عند اللّه تعالى قائلاً :
«إن اللّه تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم».
فناداه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ملك الجبال وسلم عليه وقال :
«مرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين».
فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
ص: 413
«بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده ولا يشرك به شيئاً» (1).
بل إن رحمته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) امتدت حتى للحيوانات فكان كثيراً ما يوصي بها وقد جاء عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة».
وقال أيضاً :
«إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء».
والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أسوة حسنة لنا للاقتداء به والتأسي في التراحم والتعاطف.
وأخيراً قال الإمام أمير المؤمنين عنف في الرحمة كلاماً بليغاً جداً :
«أبلغ ما تستدرّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة» (2).
وعنه أيضاً قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«عجبت لمن يرجو رحمة اللّه من فوقه كيف لا يرحم من دونه» (3).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من لم يرحم الناس منعه اللّه رحمته» (4).
ص: 414
ص: 415
ص: 416
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا على الإسلام عريان.. ولباسه الحياء وزينته الوفاء ومروعته العمل الصالح وعماده الورع.. ولكل شيء أساس وأساس الإسلام محبتنا أهل البيت...» (1).
في هذا الموضوع مواقع كثيرة للبحث والدراسة ولكننا سنكتفي بالحديث عن الحب...
ولماذا صارت محبة أهل البيت أساس الإسلام دون غيرها من الأصول والفروع...
وقبل ذلك نسأل ما هو الحب ؟
الحب...عبارة عن الميل إلى المحبوب والانشداد نحوه.
ويسبق الحب معرفة المحبوب سواء حصلت هذه المعرفة بالحواس أو بالقلب، وفرق بين الأمرين، إذ كلما كانت المعرفة بالمحبوب أقوى
ص: 417
والانشداد أكثر كان حبه أقوى وأشد ومن الواضح أن المعرفة الباطنية أقوى وأشد من المعرفة الظاهرية الحسية ولذا فإن الحب الحاصل في الباطن أقوى وأشد من غيره...
ذكر بعض أهل المعقول أنواعاً عديدة للحب لعلها تتجاوز العشرة إلا أننا سنشير إلى بعض الأقسام حسبما يقتضيه المقام.
الأول : حب الإنسان لنفسه بمعنى أن كل إنسان في هذا الوجود يحب وجوده ويريد له البقاء والكمال وهو أشد أقسام الحب وأقواها وذلك لأن المحبة للشيء تكون بمقدار الملائمة للنفس من جهة وبمقدار المعرفة للمحبوب من جهة أخرى.
وواضح أن لا شيء أشد ملائمة لأحد من نفسه كما لا تعرف نفس الإنسان شيئاً بمقدار ما تعرفه عن نفسها.
ولهذا قال تعالى : «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (1).
إذ عبر ببصيرة ولم يعبر بمبصر لأن البصيرة أشد وأقوى معرفة من البصر لأنها من حالات المعنى الباطن...
ومن هنا أيضاً جعلت معرفة النفس مفتاحاً لمعرفة الرب سبحانه وتعالى كما قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
«من عرف نفسه فقد عرف ربه» (2).
فالإنسان محب لنفسه ومعنى حبه لنفسه هو أنهُ يحب دوام وجوده ويكره هلاك نفسه وعدمها فالبقاء ودوام الوجود محبوب والعدم ممقوت ومن طريق
ص: 418
حب الإنسان الشديد لنفسه تمكن إبليس من خداع آدم وحواء إذ قال لهما قوله تعالى : «قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى» (1)
فأغراهم بالخلود.. والبقاء في الحياة..
فإن كل إنسان يبغض الموت ليس لأنه يخاف ما يلاقيه بعد الموت فقط.. أو لما يصيبه من آلام ومصاعب في سكراته فقط بل لأن الإنسان يظن أنه بالموت سوف يفقد ما حصل عليه في الدنيا ولهذا فأنه يكره الموت حتى أخبر بأنه يموت بلا عناء ولا تعب أو أنه لا عقاب عليه..
ومن الواضح أنه ليس دوام الوجود وحده محبوباً لدى الإنسان فقط بل كمال الوجود محبوب لديه أيضاً وذلك لأن فاقد الكمال ناقص والنقص عدم.. إذا النواقص أعدام كما يعبر أهل الحكمة....
فالوجود إذن محبوب في أصل الذات وبقائه وفي صفات كماله والعدم ممقوت فيها جميعاً.. وفي هذا كلام طويل واستدلالات عقلية عميقة لا مجال لذكرها هنا...
الثاني : حب الإنسان لغيره لا لموضوعية في حب الغير بل لأجل أن الإنسان يلتذ من الغير لذّة جسدية أو نفسية كحب الرجل لزوجته وحب الزوجة لزوجها إذ كل واحد يحب الآخر لما يترتب عليه من لذّة في الجسم وفي الروح في تكوين الأسرة وإنجاب الأولاد ونحو ذلك..
وكذلك حب الإنسان للمأكولات الشهية والملبوسات الأنيقة والحقيقة الجامعة لهذا الحب هو اللذّة...
وهذا النوع من الحب هو أخس مراتب الحب وأضعفها لأنها تتقوم باللذّة وهي سريعة الحصول سريعة الزوال والفناء أيضاً..
الثالث : حب الإنسان للغير لأجل نفعه وإحسانه فإن الإنسان عبد الإحسان وقد جبل اللّه تعالى النفوس البشرية على حب من أحسن إليها
ص: 419
وبغض من أساء لها...
ولذا فإن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول «اللّهم لا تجعل لفاجر عليّ يداً فيحبه قلبي»(1).
والحقيقة الجامعة لهذا الحب هو النفع والإحسان الذي يصيب الإنسان المحب من المحبوب. وهذا الحب قابل للزيادة والنقصان وذلك لأنه يتقوم بالنفع والإحسان فكلما كان الإحسان أكثر وأكبر كان الحب كذلك وكلما كان أقل كان الحب أيضاً كذلك...
الرابع : أن يحب الإنسان الشيء لذاته.. وليس لأجل ما يحصل عليه من لذّة من وراءه أو نفع أو إحسان ونحو ذلك...
وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق به وذلك كحب الإنسان للجمال والحسن والكمال.
فإن كل جمال محبوب عند مدركه وذلك لذات الجمال ليس إلا إذ أن إدراك الجمال هو عين اللذّة واللذّة محبوبة لذاتها لا لغيرها....
وفي الروايات أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )
كانت تعجبه الخضرة والماء الجاري والطباع الصافية السليمة.
حتى إن الإنسان لتنفرج عنه الهموم بمجرد النظر إلى الطبيعة الغناء الجميلة من دون أن يقصد من وراء النظر تحصيل شيء آخر وراء اللذّة...
ومن هنا أيضاً نرى أن الطباع السليمة مجبولة على حب الأنبياء والأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، مع أنهم لم يشاهدوهم حتى إن الرجل قد تجاوز حبه لإمامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) حد العشق فيحمله ذلك على أن ينفق جميع أمواله في نصرة
ص: 420
مبادئه والذب عنها ويخاطر حتى بروحه في رد من يطعن بإمامه مع أنه لم يشاهد قط صورته ولم يسمع كلامه بالمباشرة فما حمله على الحب هو انشداده لصفاته الباطنة من الورع والتقوى والتوكل والرضا وغزارة العلم والإحاطة لمدارك الدين ونشره للخيرات في العالم..
وغيرها من الفضائل والكمالات...فإن الكمال والفضيلة محبوبان لذاتهما لا لغيرهما.
الخامس : حب كل سبب وعلة لمسببه ومعلوله وبالعكس أيضاً.
فإن المعلول لما كان رشحاً من العلة فالعلة تحبه لأنه فرعها وأعطته ومضات من كمالاتها وسماتها...
والمعلول يحب علته أيضاً لأنها أصله وأساسه التي لولاها لكان في طي الفقدان والعدم .. ولهذا فإن كلا منهما يحب الآخر.. هذا بشكل عام وإن كان التعبير بالعلة بالنسبة للباري عز وجل تعبير مسامحي لتوقيفية الأسماء الإلهية على المبنى المتصوّر في علم الكلام لدى علمائنا الأعلام إلا أننا نذكره من باب اصطلاح أهل الحكمة...
وعلى أي حال...فإن السبب إن كان علة حقيقية موجدة أي تكون سبباً مستقلاً في وجود المعلول فإن محبتها تكون أقوى وأشد مما إذا كانت العلة معدة وليست علة حقيقية...
ولهذا فإن أقوى أقسام الحب يكون الحب اللّه عز وجل بالنسبة إلى عباده وبعد ذلك أيضاً لا محبة أقوى من محبة العباد لخالقهم وبارئهم سبحانه إذا توفرت مقدمة الحب وهي المعرفة فإن العارفين أشد حبا اللّه تعالى من غيرهم لأنهم عرفوا ربهم وأحبوه من حيث كونه موجداً مخرجاً لهم من العدم الصرف إلى الوجود ومعطياً لهم ما احتاجوا إليه في النشأتين.
ص: 421
وفي هذا جاء قول سيد الشهداء تك في دعاء عرفة....
(وأنت الذي أزلت الأغبار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك..)(1).
وهنا كلام عميق ومفصل نتركه لمظانه...
سنشير إلى بعض ما جاء في المناجاة الإنجيلية المنسوبة إلى سيد الساجدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حب اللّه سبحانه وتعالى وغيرها من المناجاة وعزتك لقد أحببتك محبة استقرت في قلبي حلاوتها وأنست نفسي ببشارتها ومحال في عدل أقضيتك أن تسد أسباب رحمتك عن معتقدي محبتك»(2).
وفي مناجاته الأخرى :
«إلهي فاجعلنا من الذين توشحت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم وأخذت الرعة محبتك بجوامع قلوبهم».
وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون وبابك على الدوام يطرقون وإياك في الليل والنهار يعبدون وهم من هيبتك مشفقون الذين صفيت لهم المشارب وبلغتهم الرغائب وأنجحت لهم المطالب وقضيت لهم من وصلك المارب وملأت لهم ضمائرهم من حبك ورويتهم صافي شرابك فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا..
ومنك على أقصى مقاصدهم حصلوا...
إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محيتك فرام منك بدلاً ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً...
إلهي فاجعلني ممن اصطفيته لقربك وولايتك وأخلصته لودك ومحبتك وشوقته إلى لقائك ورضيته بقضائك ومنحته بالنظر إلى وجهك...وحبوته
ص: 422
برضاك وأعذته من هجرك...
أسألك بحبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصل إلى قربك وأن تجعلك أحب إلي ممن سواك (1).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
حب اللّه إذا أضاء على سر عبد أخلاه عن كل شاغل وكل ذكر سوى اللّه والمحب أخلص الناس سراً للّه وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً وأزكاهم عملاً وأصفاهم ذكراً وأعبدهم نفساً تتباهى الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته وب_ه يعمر اللّه بلاده وبكرامته يكرم اللّه عباده ويعطيهم إذا سألوه بحقه ويدفع عنهم البلايا برحمته ولو علم الخلق ما محله عند اللّه ومنزلته لديه ما تقربوا إلى اللّه إلا بتراب قدميه (2)...
وروي .. أن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)...سأل ربه أن يريه بعض أهل محبته فقال له : انت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفساً فيهم شبان وكهول ومشايخ وإذا أتيتهم فاقرأهم مني السلام.. وقل لهم..
يقول ربكم...ألا تسألوني حاجة فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي...أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم فأتاهم داود فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة اللّه وملكوته فلما نظروا إلى داود نهضوا ليتفرقوا عنه.. الان فقال لهم داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)...أنا رسول اللّه إليكم جئتكم لا بلغكم رسالة ربكم فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وأقوا أبصارهم إلى الأرض.
فقال داود..
ربكم يقرؤكم السلام.. ويقول لكم :
ألا تسألوني حاجة الا تنادوني فأسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائي
ص: 423
وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في ك__ل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة.
ولما قال داود...ذلك جرت الدموع على خدودهم وسبح اللّه كل واحد منهم ومجده وناجاه بكلمات تدل على احتراق قلوبهم من الحب والشوق (1)..
من كل ما تقدم نفهم أن الإسلام لم يهمل جانباً من جوانب الحياة إلا مد إليه يد التكليف والتهذيب والتربية...
والحب والبغض عاطفتان أو غريزتان من غرائز الإنسان لو لم تشملهما يد التربية والتهذيب سلكا غير مسلك الصواب وفسدا وأفسدا كما في سائر الصفات الإنسانية...
ومن الواضح أن من لا يدري أين يوجه عطفه وحبه ربما وجهه إلى ما لا يستحق أو إلى ما يقوده إلى الانحدار والخطيئة فترى بعضهم يوجه حبه إلى ملك عضوض أو إلى مال حرام ونحو ذلك وفي ذلك فساد دنياه وآخرته وكذلك من لا يعرف أين يوجه غضبه فتراه أحياناً يبغض من يربيه ويهذبه وبهذا تلف لدنياه وآخرته، أيضاً..
..الإسلام يؤمن الجانبين معاً جانب العاطفة والحب.. والكراهة والبغض وجانب المحبوب والمكروه حتى ينمو الحب والكره حسب مقتضى الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية لا ينحرفان إلى هنا وهناك وليس هذا فحسب بل الدين هو الحب والحب هو الدين ولذا على الإنسان أن يحتاط في حبه وبغضه لكي لا يصرفهما إلى غير موضعهما الصحيح..
روي عن أبي جعفر مالك في حديث قال :
ص: 424
یا زیاد ويحك وهل الدين إلا الحب ؟ ألا ترى إلى قول اللّه : «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» (1).
أو لا ترى قول اللّه لمحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» وقال «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ».
فقال (الدين هو الحب والحب هو الدين) (2).
وعن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
عن الحب والبغض أمن الإيمان هو ؟
فقال : وهل الإيمان إلا الحب والبغض ؟
ثم تلا هذه الآية «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» (3)،(4).
ومن الواضح أن أعلى درجات الحب يجب أن يوجهها الإنسان...إلى ثلاثة هم :
1 - اللّه سبحانه وتعالى.
٢ - الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
٣- الأئمة الطاهرون (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ومن بعدهم سائر حبه لأموره الأخرى.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
ص: 425
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما» (1).
والإنسان بطبعه إذا أحب شخصاً عمل على هواه وإذا كره شخصاً جانب مماثلته في قول أو عمل فهل هناك أفضل من التخلق بأخلاق اللّه تعالى ومماثلة رسوله والأئمة في خُلق أو عمل ؟
وهم الذين كلامهم نور وأمرهم رشد ومسيرتهم التقوى...
فحبهم يورث تهذيب النفس وتحسين العمل وبالعكس أيضاً فإن أعداءهم يتصفون بكل رذيلة ويعملون كل منكر فتولي اللّه ورسوله والأئمة داع لكل خير...
وبهذا يتض لماذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
«لكل شيء أساس وأساس الإسلام محبتنا أهل البيت».
لأن الإسلام جاء نوراً للبشر وه_داي_ة وه_ذه تتحقق بمماثلة أهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وقد أمر الإسلام بحب اللّه وحب من ت اللّه وحب من أمر اللّه بحبه إرشاداً إلى هذه الحقيقة.. ففي القرآن الكريم. وصف المؤمنين...
«يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (2).
وفي آية أخرى «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا» (3).
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
«أحبوا اللّه لما يغدوكم به من نعمة وأحبوني لحب اللّه» (4).
وفي دعاء له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
ص: 426
«اللّهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب من يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد» (1).
روي أنه جاء أعرابي إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
فقال : يا رسول اللّه متى الساعة ؟
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): فما أعددت لها.
قال : ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب اللّه ورسوله.
فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): المرء مع من أحب. (2)
ومن الواضح أن المراد من المرء مع من أحب ليس دائماً حتى ل_و خالف محبوبه في الطريقة إذ المخالف في الطريقة لا يسمى محباً وإن زعم ذلك فإن الحب يعد كاذباً إذا لم يقارنه العمل..
ص: 427
ص: 428
ص: 429
ص: 430
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي الا أخبركم بأشبهكم بي خلقاً، قال: بلى يا رسول اللّه، قال: أحسنكم خلقاً، وأعظمكم حلماً، وأبركم بقرابته وأشدّكم من نفسه إنصافاً» (1)
الموجودات في هذه الحياة من حيوان ونبات وجماد وغيرها، لها قوى
وملكات وأفعال بها تتحدد هويتها وتتميز عمن سواها، وأحياناً وأحياناً يوجد اشتراك في بعض القوى والملكات والأفعال بين الموجودات فالإنسان مثلا ؛ له بعض الصفات يشترك فيها مع سائر الموجودات، كما له صفات أخرى يتميز بها عن سائر الكائنات، فالجسمية مثلا من الصفات المشتركة بين الإنسان وغيره، فالإنسان في بادىء وجوده جسم مادي وكل موجود ممکن آخر غير الإنسان أيضاً له جسم مادي ويشغل حيزاً من الفراغ وهكذا الحركة والحاجة إلى الغذاء والتزاوج ونحوها فإنها من الصفات المشتركة بين الموجودات، لأنّ كل موجود ممكن فهو مركب من مادة وصورة في العالم الخارجي كما
ص: 431
ركب من جنس وفصل في عالم الذهن. كما يقول الحكماء.
ولهذا فإن جميع الموجودات الممكنة تشترك في أنها مكونة من مادة وصورة، ومن الواضح أنّ الجزء المادي الذي قد نعبر عنه بالجسم ل_ه مقومات لكي يبقى ويحفظ في هذا الوجود منها التغذية والحركة والتزاوج ونحوها لهذا فإنّ جميع الموجودات أيضاً تشترك في أنها تتغذى وتتحرك وتنمو وتتزاوج وهكذا...وهذه المطالب من مهمات العلم الطبيعي فهو الكفيل ببحثها وتفصيل جزئياتها.
ولكن بالإضافة إلى هذه الصفات المشتركة بين الإنسان وسائر الموجودات، هناك صفات أخرى يمتاز بها عن غيره كالمعرفة والوعي وخزن التجارب ومعرفة الماضي والتفكير للمستقبل وله قيم أخلاقية ورغبات معنوية في حين أننا نرى الحيوان مثلاً في مجال معرفته يكون ضمن حدود خاصة وهي أنه :
1 - مادي لا يتعدى حدود الشرب والأكل والنوم واللعب والتمتع بالجنس.
2 - شخصي وفردي متعلق بنفسه وإلى حد أكثر بزوجه وفراخه.
٣- محدودة بمنطقة معينة أي متعلق بمحيط حياته.
٤ - لا يخزن التجارب فهو يعيش بزمان الحال دون الماضي والمستقبل وإن كانت هناك بعض الطيور والدواب تهييء لها بيتاً وسكناً ليقيها الشتاء القارس أو تحمل الحبوب لهكذا أوقات ولكنها لا تتعدى حدود غريزتها ولا تعتبر في عملها أنها اشتركت مع الإنسان في مجال الوعي والمعرفة.
لذا فإن أفعال الإنسان وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته وفضائله فهي العقل والفكر والأمور الإرادية التي تتعلق بها قوة الفكر والوعي والتمييز فالإنسان :
أولاً : يمتلك عقلاً فعالاً يمكن أن يفكر ويخزن التجارب ويميز بينها
ص: 432
وينتخب الأصلح ومنها عرف الإنسان ربه وأنّه مخلوق لهدف وغاية وهي الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة. أما سائر الكائنات فلا تحظى بهذه النعمة إلا بشعاع بسيط منها كما يرى بعض الحكماء.
وثانياً : يمتلك الإرادة والاختيار ومن هنا قسم علماء الأخلاق، الأشياء التي تقع في طريق إرادة الإنسان واختياره ومدى تأثيره على مستقبله ومصيره إلى خيرات وشرور فإذا توجّه الإنسان إلى الغرض المقصود من خلقته أو وجوده وحصل عليه إما بنفسه أو باقتداءه بالخيرين فيسمى خيراً أو سعيداً، وأما من لم يتوجه إلى الغرض وعاقه شيء عن بلوغه أو اقتدى بشرير فيسمى شريراً أو شقيّاً.
فإذن الخيرات تحصل للإنسان بإرداته وسعيه نحو الفضائل ومن أجل الخير خلق الإنسان.
والشرور هي التي تعوقه عن فعل الخيرات ومحاسن الأخلاق وذلك أيضاً بإرادته وسعيه نحو الرذائل.
إنّ من سمات النفس الإنسانية أنها تحمل القابلية على الاتصاف بالخُلق بطرفيه الإيجابي والسلبي فإذا مالت وعملت بالخلق الإيجابي مثل حسن الخلق والمعاشرة والحلم وصلة الرحم صارت خيرة، وأما إذا مالت وعملت بالخلق السلبي مثل الشر والرذيلة وسوء الخلق والغضب والبخل والحسد صارت شريرة.
ولكي يتوضح لك الأمر أبين لك معنى الخُلق لغة واصطلاحاً، وما هو فرقه عن الخلق.
أما لغة : قال الراغب في المفردات :
«الخلق والخلق : في الأصل واحد، لكن خص الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة
ص: 433
بالبصيرة» (1).
وقال العلامة المجلسي (رَحمهُ اللّه) في كتابه البحار :
«الخُلق بالضم : يطلق على الملكات والصفات الراسخة في النفس حسنة كانت أم قبيحة، وهي في مقابلة الأعمال ويطلق حسن الخلق على ما يوجب حسن المعاشرة، ومخالطة الناس بالجميل» (2).
أمّا اصطلاحاً : فإن الخلق منه :
1 - ما هو طبيعي من أصل المزاج، كالغضب والجبن والضحك المفرط أو الغم والحزن.
٢ - وما هو مستفاد من التدريب والعادة والموعظة وربما كان مبدؤه الفكر ثم يستمر عليه حتى يصير ملكة راسخة وخلقاً.
ولهذا اختلف القدماء في الخلق فقال بعضهم : من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه. وقال آخرون إنا لا نقول إنه غير طبيعي وذلك انا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعاً أو بطيئاً وهذا الرأي الثاني أقرب إلى الواقع باعتبار أن الأول يبطل قوة التمييز والعقل والإرادة عند الإنسان.
أما بالنسبة للخير والشر فجماعة قالوا إنّ الناس يخلقون أخياراً بالطبع يصيرون أشراراً بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات. وجماعة آخرون ظنّوا أنّ الناس خلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم ثم لأجل ذلك صاروا أشراراً بالطبع ومن ثم يصيرون أخياراً بالتأديب والتعليم.
أما رأي جالينوس فإنه رأى أن الناس فيهم من هو خير بالطبع وفيهم من هو شرير بالطبع وفيهم من هو متوسط بين هذين.
أما رأي أرسطوطاليس فقد بيّنه في كتابه (الأخلاق) وملخصه :
ص: 434
إنّ الشرير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير ولكن ليس على الإطلاق لأنه يرى أن تكرار المواعظ والتأديب لا بد أن يؤثر في الناس، فمنهم من يقبل التأديب ويتحرك إلى الفضيلة ومنهم من يقبله ببطء.
قال بعض الحكماء وأيده بعض المتكلمين أيضاً إن الوجود خير. فالموجود (1) هو خير أيضاً ولكن بعض الموجود خير محض وبعضه الآخر خيره أكثر من شره. وقد قسمنا الخلق إلى ما هو بالطبع، وما هو مستفاد بالتدريب والموعظة. فيكون الموجود ومنه الإنسان بالطبع هو خير وبالتدريب والاستفادة من الموعظة ينتقل إلى مقام أفضل باعتبار أن الخيرات متعددة منها ما هو شريف وممدوح ونافع ومنها ما له الاستعداد والتهيؤ لأن يكون خيراً.
أما الأشرار الذين نراهم اليوم وقبله وبعده فهم يمتلكون الجهة الأولى من الطبع، أما الجهة الثانية ؛ فباعتبارهم ساروا واقتدوا بالأشرار وتبعوا سبيلهم، فقد فقدوا طباع الخير، ومما يؤيد كلامنا هذا أن الإنسان محتاج بالطبع فهو يحتاج إلى غيره، وهذا الغير عامل مهم في الحياة والذي ينفرد عن الناس ويلازم المغارات أو الصوامع أو السياحة في الصحاري والقفار كثيراً ما لا يحصل له شيء من الفضائل الإنسانية بعنوان سمات أو ملك_ات وبالنتيجة هو لا خير ولا شرير، كما يقول علماء الأخلاق ويصير بمنزلة الجمادات لذا نهى الإسلام عن الرهبانية والسياحة كما جاء في الحديث الشريف :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«ليس في أمتي رهبانية ولا سياحة» (2).
ص: 435
لذا نحن توصلنا هنا إلى أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يحتاج إلى قدوة : إما للخير أو للشر، حسب الجهة الثانية من تفسير الخلق. لأن الطبع الإنساني لا يمكن أن نتحكم به هنا إلا بعد ممارسات عديدة وتدريبات يمكن السيطرة على الطباع السيئة وتوجيهه الوجهة الصحيحة.
والخلاصة، إن الإنسان تميز عن سائر الموجودات بأن له فعلاً خاصاً به لا يشاركه فيه غيره من الموجودات وهو ما صدر عن قوته الفكرية وتمييزه للأشياء، فكل من كان تمييزه أصح واختياره أفضل، كان أكمل في إنسانيته وخُلقه أتم إذا طابقه بالعمل والالتزام.
والذي يريد أن يصل إلى هدفه وكماله في الحياة الدنيا ويحصل على السعادة الأخروية فلا بد أن يقتدي ويتأسى بالنبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكما جاء في قوله تبارك وتعالى :
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» (1) وأن يقتدي بالأئمة المطهرين الأئمة الهدى ويستضيء بنور علمهم ويتمسك بهم فلولاهم لما وجدنا ولا رزقنا ولا ثبتت هذه الحياة الدنيا.
وفي الحديث الذي ابتدأنا به مجلسنا أراد الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من إخباره الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأن هناك أناساً يمكن أن يصلوا إلى مرتبة عالية من الخلق بواسطة صفات الخير وهذه السمات يحصلها الإنسان بالاكتساب والتدريب والموعظة ولذا فهو يحتاج فيها إلى قدوة تمتلك هذه الصفات كالنبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة المطهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ).
أما أخلاق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )فهي لدنيّة غير مكتسبة أي إنها من عند اللّه تعالى لذا قال :
ص: 436
«أدبني ربي فأحسن تأديبي»(1).
ومن هنا يجب الاقتداء برسول اللّه الاقتداء برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لنصل إلى هذا المقام من الأخلاق العالية وصفات الخير، والشباهة التي يريدها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه هي شباهة الإنسان بنبيه شباهة خلقية وعملية وهي في أمور عديدة منها :
١ - حسن الخلق.
٢ – الحلم.
3 - صلة الرحم أو البر بالقرابة.
٤ – الإنصاف.
...ونشير هنا بشكل موجز إلى هذه الملكات والصفات الحميدة التي ذكرها الرسول الأعظم بلال في حديثه الشريف :
حسن الخلق معناه أن تحسن المعاملة مع الخلق، ومن أراد أن يكون خلقه حسناً ويمتلك هذه الصفة والسمة فعليه بالاتعاظ والتدريب لاكتساب هذه الصفة من خلال الاقتداء بسيرة النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة المطهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهنا نبين جملة من أخلاقه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لغرض الاقتداء به واتباع سيرته ومنها أنه كان : «كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من اللّه تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق فكان يقول في دعائه : اللّهم حسن خلقي وخلقي ويقول : اللّهم جنبني منكرات الأخلاق. فاستجاب اللّه تعالى دعاءه وأنزل عليه القرآن وأدبه فكان خلقه القرآن» (2).
ومن هنا جاء قول الإمام أمير المؤمنين بلد في خلق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
ص: 437
إن اللّه سبحانه وتعالى أدب نبيه بيت بقوله : «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (1) فلما علم أنه قد تأدب قال له : «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2) فلما استحكم له من رسوله ما أحبّ قال : «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (3)،(4).
ثم بين رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للخَلقِ، أنّ اللّه تعالى يحب مكارم الأخلاق ويبغض مساوئها وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (5) ثم رغب الخلق في ذلك أشد ترغيب، ولعلنا إذا أردنا الإسهاب في تعداد مكارم أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يطول بنا المقام ونكتفي بذكر بعض الروايات ومنها ما جاء عن بحر السقاء قال :
«قال لي أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا بحر حسن الخلق يسرُّ ثم قال : ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة ؟ قلت: بلى قال : بينما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم فأخذت بطرف ثوبه فقام لها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) شيئاً - حتى فعلت ذلك ثلاث مرات - فقام لها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هدبة من ثوبه، ثم رجعت.
فقال لها الناس : حبست رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً ولا هو يقول لك شيئاً ما كانت حاجتك إليه ؟ قالت : إنّ لنا مريضاً فأرسلني أهلي لأخذ هدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(6) والظاهر من الرواية أنّ الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يحترم المرأة
ص: 438
ويقوم لها كما يحترم الرجل ولا يفرق بين الكبير والصغير والفقير والغني ومن أخلاقه العظيمة التواضع وعدم التكبر على أصحابه أو على امرأة جاءت لتتبرك بطرف ثوبه لشفاء مريض لها وغيره من الأمور الدالة على تواضعه وحسن معاملته مع الناس، وهذا هو من المعاني الجوهرية لحسن الخلق.
ومن تعاليم الرسول الأعظم بلد في هذا المجال أنه قال : «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» (1).
وفي رواية: «جاء رجل رسول اللّه لا من بين يديه فقال : يا رسول اللّه ما الدين ؟
فقال : حسن الخلق، ثم أتاه عن يمينه.
فقال : ما الدين ؟
فقال : حسن الخلق. ثم أتاه من قبل شماله.
فقال : ما الدين ؟
فقال : حسن الخلق. ثم أتاه من ورائه.
فقال : ما الدين ؟
فالتفت إليه وقال : أما تفقه الدين ؟
هو أن لا تغضب.
وقيل : يا رسول اللّه ما الشوم؟ قال : سوء الخلق.
وقال رجل لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أوصني.
فقال : اتق اللّه حيث كنت.
قال : زدني. قال : اتبع السيئة الحسنة تمحها. قال : زدني قال : خالط الناس بحسن الخلق.
ص: 439
«وسئل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أي الأعمال أفضل ؟
قال : حسن الخلق...» (1).
ومن صفات رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الحلم. فما هو الحلم ؟
قال الراغب في المفردات: «الحلم ضبط النفس عن هيجان الغضب» (2).
وقيل الحلم : الأنساءة والتثبت في الأمور، وهو يحصل من الاعتدال في القوة الغضبية ويمنع النفس من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية
ومن آثاره عدم جزع النفس عند الأمور الهائلة الأمور الهائلة، وعدم طيشها في المؤاخذة، وعدم صدور حركات غير منتظمة منها، وعدم إظهار المزية على الغير وعدم التهاون في حفظ ما يجب حفظه شرعاً وعقلاً.
وقيل الحليم يعني العاقل وآثار الحلم كبيرة على الإنسان منها مثلاً قبول بعض العبادات عند اللّه تعالى وكمالها يتوقف على الحلم، لأن السفيه يبادر بأمور قبيحة من الفحش والبذاء والضرب والإيذاء بل وربما الجراحة والقتل وكل ذلك يفسد العبادة وكما جاء في الحديث الشريف عن أحد الصحابة قال سمعت الإمام الرضا الحد يقول : لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً وإن الرجل كان إذا تعبد في بني إسرائيل لم يعد عابداً حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين» (3).
ولذلك فالصمت يعتبر من لوازم الحلم، وكما حقت الروايات على الصمت حالة الغضب لأنه يوسع صدر الإنسان ويعينه على التحلم. وكان في بني إسرائيل صوم الصمت ولكن شريعة الإسلام نسخته أما كمال الصمت
ص: 440
فغير منسوخ لذا استشهد الإمام الرضا هنا بصوم الصمت لمن أراد أن يكون عابداً ملتزماً. والمراد من الصوم هنا هو الصوم بالمعنى اللغوي أي الإمساك وليس المعنى الاصطلاحي الشرعي له كما هو واضح.
وفي رواية : «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يتمشى مع أصحابه فجاء أحد المشركين إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وألقى رداءه على رقبة الرسول وأخذ يسحب به حتى تغير لون النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من شدة العصر. فخاف الرجل المشرك وأراد أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يبطشوا بالرجل ولكن النبي لم يسمح لهم وقال للرجل :
إن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عارياً كسوناك، وإن كنت فقيراً أغنيناك، فتعجب الرجل من هذا الخلق ومن حلم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال الرجل للنبي : مدّ يدك حتى أبايعك وحسن إسلامه» (1).
وفي رواية أخرى :
«في إحدى المعارك أراد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يستريح بعد عناء القتال فذهب إلى ظل شجرة ونام تحتها بعيداً عن أصحابه فنظره أحد المشركين وقال في نفسه : الآن أذهب وأقتله فلما وقف عند رأس النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : يا محمد من يخلصك مني ؟ قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اللّه تعالى.
فخاف الرجل ووقع السيف من يده فأخذه النبي أمام الرجل فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : وأنت من يخلصك مني؟
فقال الرجل : حلمك. فتركه النبي وأسلم على يده» (2).
ومن لوازم الحلم : كظم الغيظ.
ص: 441
روي إنّ جارية للإمام علي بن الحسين سعى جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجّه فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إن اللّه يقول «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ» (1).
فقال لها : كظمت غيظي. قالت : «وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ» قال : عفا اللّه عنك، قالت : «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» قال : فاذهبي فأنت حرة لوجه اللّه» (2) .
ومن آثار الحلم أيضاً : إنه يدفع الخصومة بل يتحول الخصم محباً للحليم. وبهذا يكفي للحليم نصراً في الخصومات فضلا عن محبوبيت_ه ومكانته التي يحيكها في قلوب الناس.
ولذا حث الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) على ذلك بل إنهم ذهبوا إلى أكثر من ذلك وحثوا من لم يكن حليماً بالتحلم، والتحلم يعني أن يظهر الحلم تكلفاً ويجاهد نفسه في سبيل ذلك حتى يصير سبيل ذلك حتى يصير ملكة عنده لأن التحلم طريق إلى الحلم كما قال الشاعر : ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما.
وكما جاء في حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال :
«إن لم تكن حليماً فتحلّم فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم» (3).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«كفى بالحلم ناصراً، قال : إذا لم تكن حليماً فتحلّم» (4).
فالحلم من أبرز صفات رسول اللّه وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام) فلمن يريد التشبه بهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) عليه أن يتحلم في أموره...
ص: 442
ومن الأخلاق الفاضلة التي دعى إليها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه الشريف (البرّ بالقرابة) فما هو البر؟
قال الطبرسي (رَحمهُ اللّه) في تفسير مجمع البيان :
«البرّ أصله من السعة ومنه البَرُّ خلاف البحر والفرق بين البر والخير أن البر هو النفع الواصل إلى الغير ابتداء مع القصد على ذلك والخير يكون خيراً وإن وقع عن سهو. وضد البر : العقوق، وضد الخير : الشر أي لن تدركوا برّ اللّه لأهل الطاعة» (1).
والبرّ بالقرابة هنا أعم من البر بالوالدين بالنفقة أو الإحسان إذ إن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أراد من البر هو صلة الرحم (الأرحام) على نحو الإحسان أو النفقة أو الكلمة الطيبة والتعاطف والتراحم والتزاور لما فيه من قوة للعائلة ومن ثم قوة للمجتمع وقد أمر الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بهذه الخصلة العظيمة إذ خاطبه اللّه تعالى بقوله : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (2).
وقد جاء في التفاسير عن البراء بن عازب أنه قال :
«لما نزلت هذه الآية جمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس فأمر علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتنعيم برجل شاة فأدمها ثم قال : إدنوا بسم اللّه فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا بسم بوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرجل. فسكت (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يومئذ ولم يتكلم ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من اللّه عزّ وجلّ والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا.
ص: 443
فإنّ اللّه تعالى أراد بهذا الأمر أن تقوى شوكة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في سبيل الدعوة فأمر بالتوجه إلى قرابته وعشيرته فعلى هذا إن العشيرة هي أساس المجتمع وقوته التي دعا إليها اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار (عليهم أفضل الصلاة والسلام)» (1).
ومن الشواهد أيضاً على ذلك بعد أن وقع العباس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع الأسرى في معركة بدر فداه الرسول لا بماله وأطلق سراحه كتعبير عن البر بالقرابة
إذن البر بالقرابة من الأمور الفاضلة في الإسلام لأجل هدف بعيد المدى يتم من خلاله ترابط الأسرة ومن ثم صلاح المجتمع.
فإنّ صلاح المجتمع الكبير من أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليم_ه الإصلاحية وصلة الرحم من الأمور التي يقوم بها صلب المجتمع الإنساني ومهما كان الإنسان يتجه إلى نفسه الفردية لكن سعادته الشخصية مبنية على صلاح وقوة الاجتماع الذي يعيش فيه، ولذلك فإنّ من النادر أن نرى إنساناً مؤمناً أو مفلحاً في وسط مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كل جانب.
قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (2).
كيف يتكون المجتمع الكبير ؟
إن من عوامل تكون المجتمع هو العائلة تتكون من الأب والأم والأخ والأخت والعمة والخالة...وهكذا.
وإن أول ما تكونت العائلة من زوج وزوجة قال سبحانه وتعالى :
ص: 444
«وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا» (1) فقد خلق اللّه تعالى آدم وحواء ثم ولدا هابيل و قابيل، وخلق اللّه لهما زوجتين جديدتين، فلما تزوجا بهما، صار أولادهما أبناء عمومة وتكونت القبيلة والعشيرة ومن مجموعهما تكون المجتمع الكبير.
إذن هناك أصل واحد بين الناس وارتباط بين أفراد المجتمع وصلاحه يتوقف على التزاور والارتباط والإحسان والبر، والإسلام يدعو إلى الإحسان والبر بالوالدين وبالقرابة وباليتامى وبسائر أفراد المجتمع، لذا تراه وضع الزكاة في الأموال والخمس وكذلك الصدقة ليكون مجتمعاً مكتفياً بنفسه مالياً، ومرتبطاً ارتباطاً متيناً من دون تدخل الآخرين فيه، ومن هنا أوجب الإسلام على الناس صلة الرحم.. ولبيان دوره وأهميته نسأل بعض الأسئلة مع الإجابة عليها.
ما هو الرحم ؟
أما لغةٌ : «قال الراغب : الرحم : رحم المرأة ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة يقال رحِم ورحُم» (2).
أما اصطلاحاً فإنّ الرحم هو الذي جمعك وإياه رحم واحدة قريبة مثل الإخوة والأخوات، أو متوسطة مثل الأعمام والأخوال.
أو بعيدة : كسائر من يمت الإنسان إليهم بصلة ومنها العشيرة والدليل على أن القرابة المتباعدة رحماً هو قوله تعالى :
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» (3).
ص: 445
فعن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إنها نزلت في بني أمية» كما جاء في بعض التفاسير، ونحن نتحدث عن القرابة المتباعدة باعتبارها شاملة للقريبة والمتوسطة بالإضافة إلى العشيرة والمجتمع ككل باعتباره خارج بالأصل من رحم واحدة وهي حواء فلذا توجّب العيش بسلام مع جميع الناس والبرّ بهم والعشرة بالمعروف والخير.
الأرحام لا بد وأن يتقاربوا في الجوار، أو في الدار أو في الكسب أو في المدينة أو ما إليها لأنهم اشتقوا من فرع واحد وإن حد الصلة التي يخرج بها عن القطيعة يختلف باختلاف العادات وبعد المنازل وقربها وكل ذلك راجع إلى العرف نفسه.
بماذا تكون الصلة بين الأرحام ؟
والجواب قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «بلّوا أرحامكم ولو بالسلام» (1). وفيه تنبيه على أنّ السلام صلة ولا ريب أنّ أن مع فقر بعض ا فقر بعض الأرحام تجب صلتهم بالمال للأقرب لهم، ويستحب لباقي الأقارب وتتأكد في الوارث، وأعظم الصلة ما كان بالنفس ثم بدفع الضرر عنها، ثم بجلب النفع إليها، ثم بصلة من تجب نفقته، وإن لم يكن رحماً للواصل كزوجة الأب وابنها وأدناها السلام بنفسه والدعاء بظهر الغيب والثناء في المحضر
وهل صلة الرحم واجبة أم مستحبة ؟
إن صلة الرحم تنقسم إلى :
ص: 446
١ - واجبة : وهي ما تخرج به عن القطيعة لأن قطيعة الرحم معصية بل هي من الكبائر.
2 - المستحب : ما زاد على ذلك.
لذا سارع الإسلام إلى التوصية الكافية بالأرحام بصورة عامة من ناحيتين :
إيجابية : فيلزم أن يتواصلوا، ويتباروا، ويتراحموا، ويتفقد بعضهم بعضاً.
وسلبية : فيحرم القطيعة بشتى أشكالها، ويوجب غسل القلوب عن ضغائن ربما تستشري بينهم فلا تدع ولا تذر.
لماذا صلة الرحم والبر بالقرابة ؟
من الأمور التي يستفيد منها الإنسان عند تمتعه بهذه الصفة في أخلاقه والتي حث عليها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هي:
أولاً : تزيد في الأعمار :
«قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إن المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاث سنين فيمدّها اللّه إلى ثلاث وثلاثين سنة، وإنّ المرء ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثين سنة، فيقصرها اللّه إلى ثلاث سنين أو أدنى..» (1).
ثانياً : تزيد في الأرزاق :
قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال...» (2).
ص: 447
ثالثاً : تنمي الأخلاق الفاضلة :
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «صلة الأرحام تحسن الخلق وتسمح الكف وتطيب النفس...» (1).
رابعاً : تزيد في قوة المجتمع :
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وأكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول» (2).
أما الإنصاف فقد تقدم بعض الكلام عنه فيما سبق في المحاضرة الخامسة عشرة ولا يسع المجال لبحث المزيد.
يتضح أن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أحسن الناس خلقاً وأعظمهم حلماً وأبرهم بقرابته وأشد الناس إنصافاً من نفسه.. لأن أخلاقه لدن اللّه تعالى، والأئمة المطهرين أشبه الناس خلقاً وخُلقاً برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) باعتبار الشباهة في الخلق من حيث النسب وفي الخُلق فهم تلاميذ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأودع فيهم صفات الخير والأخلاق الرفيعة.
وأما سائر الناس فيمكن أن يصلوا إلى هذه المرتبة العالية من الأخلاق وذلك بالتدريب واكتساب الصفات الحسنة والموعظة والاقتداء بسيرة الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) وبذلك يصل الإنسان إلى مرتبة عالية من الخُلق نظراً وتطبيقاً فيقترب لأن يكون أشبه الناس خُلقاً برسول اللّه وهذه الشباهة شباهة عملية في السيرة والعمل الناجح واكتساب الخيرات.
ص: 448
ص: 449
ص: 450
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
يا علي : أحب الأعمال إلى اللّه ثلاث خصال : «من أتى اللّه بما افترض اللّه عليه فهو من أعبد الناس، ومن ورع عن محارم اللّه فهو من أورع الناس، ومن قنع بما رزقه اللّه فهو أغنى الناس» (1).
مما لا ريب فيه أن هذا التوجيه من الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) خطاب للناس كافة من خلاله.. بأن هناك أعمالاً محببة إلى اللّه ويجب العمل بها وتطبيقها وأن هناك أعمالاً محرمة يجب الانتهاء عنها وهجرها لأنها تنخر في القواعد الأساسية لبناء المجتمع القويم.
كما يحدد هذه المجالات للمؤمنين في كل زمان ومكان من أجل ترسيخ هذه القواعد الأساسية في قلوب المؤمنين الذين استجابوا للّه ولرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأنهم بحاجة إلى بناء كيانهم على قاعدة العقيدة وفي حاجة لإنشاء التصور الكامل والعميق لهم عن الأعمال التي أوجبها اللّه سبحانه وتعالى على
ص: 451
الناس (المؤمنين) وحببها إليهم. ولتوجيههم إلى الأعمال التي كرهها اللّه لهم للابتعاد عنها وعدم ممارستها والتقرب إليها...
والأعمال التي شرعها اللّه سبحانه وتعالى على درجات فمنها :
١ – الواجبات.
٢ – المحرمات.
٣ – المندوبات.
٤ – المكروهات.
وفي الأحكام الإلهية هناك دائرتان :
1 - دائرة الفرض.
2 - دائرة الفضل.
وتشمل الدائرة الأولى : (الواجبات، والمحرمات).
والواجبات هي كل ما أمر اللّه كل ما أمر اللّه به من الأعمال التي فرضها اللّه سبحانه وتعالى على الناس.
(كالصلاة، والصوم، والحج، والجهاد في سبيل اللّه الخ) وغيرها مما فرض اللّه تعالى علينا تزكية لنفوسنا وتثبيتاً لعبوديتنا اللّه وحده لا شريك له والواقع أنها من أحسن وأجمل الأعمال في حياة المؤمنين الذين لا توجه في حياتهم إلا إلى اللّه العزيز الحكيم الذي فطرنا على هديه وخلقنا فصورنا فأحسن صورنا قال عزّ من قائل :
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (1).
وواضح من سياق الآية الكريمة أن اللّه عز وجل قد خلق الإنسان على
ص: 452
أحسن هيئة وصوره أحسن صورة ولكن من هؤلاء الناس من يغره باللّه الغرور فيخرج عن طاعته وأوامره ونواهيه في هذه الحالة يرده اللّه إلى أسوء المقامات وأخسها في الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين...
فإذا علمنا أن شخصاً مثلاً كان له خادم أو مملوك وعصى أمره فإنه في هذه الحالة يستحق التأديب والتأنيب والعقاب فما ظنك بخالق العباد.. الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ألا يحق له أن يعاقب من عباده أولئك العاصين الخارجين عن طاعته وأوامره ونواهيه أو أولئك المنحرفين الذين استهوتهم الملذات والشهوات الزائلة وأخذوا يطلقون التسميات الفارغة على أن من يؤدي فرائض اللّه فهو رجعي وغير تقدمي...وغيرها من تسميات عصرنا الراهن.
نقول لهؤلاء إن أوامر اللّه هي من أرقى درجات التقدمية والتطور.. في كافة ميادين الحياة الحضارية.. فحينما يقف المصلي بين يدي اللّه عز وجل ويقول :
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أي :
لا أعبد أحداً دونك، وإني حرّ إلا لوجهك الكريم، لا أعبد غروري وأهواء نفسي ورغباتها الجامحة المريضة.
إن هذه من أرقى مضامين التقدمية والحضارية والسمات الأخلاقية الرفيعة.
إن الإنسان في خارج هذا النطاق الإلهي المتقدم، أي خارج نطاق أداء واجبات اللّه عز وجل في خسران مبين ومناع قليل ثم يرد إلى أشد العذاب.
لقد استثنت الآية الكريمة من بني الإنسان الذين آمنوا باللّه عز وجل وأدوا حقوقه وعرفوا حقه في طاعته والترفع عن طاعة الأصنام والطواغيت لأجل الدخول في ما أحبه اللّه وأوجبه على الإنسان من أعمال تنجيهم من عذاب الآخرة.
ص: 453
وهي الاجتناب والامتناع عن كل ما منع اللّه عمله ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نجاة للنفوس وامتثالاً لأوامر اللّه عز وجل ونواهيه ومعصية لأولياء الشياطين الذين يضلون الإنسان ويتبرؤون منه في الآخرة.
والمحرمات تذهب بكرامة الإنسان وشخصيته بل وتجعله كالبهيمة. وبذلك يغدو المجتمع بائساً شقياً تسوده الفوضى والاضطراب ويشيع فيه التسبب وتنخر فيه عوامل التخلف والانهيار في جميع مجالات الحياة...لأنه في حالات وجود المحرمات يتصرف الإنسان على هواه فيضر بنفسه وبالمجتمع أيضاً.
فمثلاً إن اللّه عز وجل حرم الزنا.
أولاً : حفظاً للنسب.
ثانياً : لتنظيم الحياة الإنسانية والأسرية على أسس منطقية لا يعتريها أي نوع من أنواع الفوضى الاجتماعية.
وإننا نرى ونسمع عبر أجهزة الأعلام أن في أوروبا آلاف من الأطفال والنساء المتسكعين الذين لا أسر لهم وقد ولدوا عن طرق غير شرعية عن طريق المعاشرة أو الاغتصاب وإن هؤلاء لا يتورعون عن أي فعل من الأفعال المنكرة نتيجة الحياة الفاسدة التي يعيشونها وبذلك تكثر مشاكل المجتمع كارتكاب الجرائم والسطو وجميع وجميع الأعمال التي تنخر كيان المجتمع وتوصله إلى هاوية السقوط والانهيار.
وكذلك الخمور التي جاء تحريمها في القرآن الكريم بقوله تعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
ص: 454
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (1).
[كما ذكرنا من أن مجانبة المحرمات إنما أمر اللّه تعالى بها لأن في مجانبتها مصالح كبيرة ترجع بالفائدة على الإنسان نفسه وعلى المجتمع ککل].
إن حرمة الخمر جاءت حصانة للمجتمع من المفاسد والأمراض لأن المخمور لا يفرق بين الزوجة والأم وبين أخته وزوجته أضف إلى ذلك الأمراض الفتاكة التي يسببها شرب الخمر في جسم الإنسان.
ولذلك فإن المجتمعات المتحللة تفتك بها هذه الممارسات والأعمال التي حرمها اللّه تعالى صحيح أنهم أي المتحللون في المجتمعات الشرقية والغربية قد تطوروا في مجالات الصناعة والعلوم.
ولكن لا زالت في مجتمعاتهم وفي كيانهم هذه الأعمال القبيحة التي سببت لهم الكثير من المشاكل...
فمرض الإيدز مثلاً الذي ينخر اليوم في المجتمع الأمريكي والمجتمعات الأوروبية من أسبابه الشذوذ الجنسي وإلى الآن يسمع العالم صرخة ذلك المصلح الذي قال أغلقوا لي نصف حانات الخمور أغلق لكم نصف المستشفيات والسجون.
إن الإسلام يعتبر الأصل الوحيد الذي يقوم عليه الوجوب والتحريم هو أمر اللّه ونهيه باعتباره هو مصدر السلطات الأول والأخير ولذلك فهو حبب إلينا أعمال الخير ونهانا عن أعمال السوء والشر التي تضرّ بنا وبمستقبل أجيالنا في الدنيا والآخرة...«وقانا اللّه شرها».
ص: 455
أما الدائرة الثانية : دائرة المندوبات والمكروهات وهي دائرة الفضل فالمندوبات : هي المستحبات من الأعمال التي فيها ثواب وتركها لا يوجب العقاب : إنما يوجب رفعة الدرجة أو نقصانها كما هو معلوم أن الأعمال درجات فأداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات هي من الدرجة الأولى وإن تركها أو التغافل عنها يوجب غضب اللّه عز وجل وسخطه وعقابه.
أما المستحبات والمكروهات فهي من أعمال الدرجة الثانية إن صح التعبير ولكن يجب أن لا تؤثر على أداء الواجبات كالعمل بالواجب أو الامتناع عن المحرم.
فمثلاً : شخص يذهب إلى الزيارة ويترك الحج أو يصلي صلاة الليل ويترك الصلاة الواجبة (صلاة الصبح).
إنما المهم هنا الاشتغال والعمل بالواجبات التي فرض اللّه سبحانه وتعالى علينا أدائها، وترك ما حرم علينا من الأعمال لننال حسن الجزاء والثواب.
وبعد هذه المقدمة وكما ذكرنا في بداية البحث حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): حيث ذكر الرسول الكريم أن من أحب الأعمال إلى اللّه تبارك وتعالى ثلاثة :
1 - من أتى اللّه بما افترض عليه فهو من أعبد الناس.
وسنعرض بقية الحديث تباعاً إن شاء اللّه..
قال اللّه تعالى في محكم كتابه الكريم :
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1).
ص: 456
إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس وأعطاهم العقول والمواهب وأرسل إليهم الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ليهديهم سبل الرشاد والعمل بأوامره وتجنب نواهيه وأمرهم بعبادته وطاعته أي إنه خلقهم لا ليتقاتلوا ويسفكوا الدماء ولا ليتباغضوا ولا ليتحاسدوا فيما بينهم إنما خلقهم لعبادته والالتزام بأوامره ونواهيه التي هي شفاء كل داء وسقم في النفوس وفي الأجساد والرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يخاطب في هذا الحديث الشريف المؤمنين من الناس.
حيث يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من أتى اللّه بما افترض عليه).
أي إن من أدى فرائض اللّه وعمل بها لم ينقصها أو يزل عنها فهو من أعبد الناس.. والعبودية للّه والعبودية للّه هي أرقى درجات التحرر كما ذكرناه في مقدمة الحديث.
هي الطاعة والخضوع اللّه عزّ وجل وامتثال الإنسان لأمره ونهيه وهي من أشرف وأنبل الصفات والمزايا كما نوهت عنها الآيات الكريمة
قال اللّه تعالى :
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا» (1).
وقال عز من قائل :
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (2).
ظاهر الآيتين جاءَ من باب الترغيب والترهيب حيث إن اللّه عز وجل يحث الناس على الطاعة والعبادة من خلال ترغيبهم ووعدهم بحسن الجزاء
ص: 457
والثواب، أو يتوعدهم بسوء العقاب والعذاب الأليم ومن أصدق من اللّه قولاً:
قال الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية اللّه إلى عز طاعة اللّه عز وجل» (1).
والخروج من ذل المعصية إلى عز الطاعة، والعبودية الخالصة للّه تعالى يلزمه توفيق إلهي.
والعبادة هي التذلل والخضوع المطلق اللّه عز وجل ولها آثار عظيمة وخصائص كبرى في حياة بني البشر. حيث جعلها اللّه تبارك وتعالى غاية كبرى في خلق الإنسان إن اللّه تعالى غني عن البشر لا تنقصه طاعتهم ولا تضره معصيتهم ولكن اللّه تبارك وتعالى فرض عبادته عليهم لتتكامل بها نفوسهم ومجتمعاتهم وليسعدوا في الدنيا والآخرة.
فيجب على الإنسان المؤمن أن لا ينسى عبادة ربه فينساه ويجعل نفسه عرضة لغضب اللّه وسخطه.
فالعبادة استجلاء لقلب المؤمن من كل الشبهات ونوازع النفس الأمارة بالسوء وهي الاختبار الأول الذي فرضه اللّه عز وجل لامتحان مدى إيمانه باللّه عز وجل وعبوديته له...بعيداً عن عبادة الشهوات وهوى النفس وعبادة الشياطين والسلاطين من دون اللّه عز وجل..
إن منهج الإنسان المؤمن ونظام حياته الأساسي أن يطيع اللّه عز وجل ويتقيه حق تقاته ويعبده حق عبادته التي فرضها عليه وأمره بها ليصل إلى أرقى درجات التحرر والانعتاق والسعادة الأبدية التي هي من نعم الفوز برضى اللّه وإيتاء فرائضه «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (2).
ص: 458
إنه سبحانه جل ثناؤه وجلت قدرته ولا يمكن الفرار من حكومته ما خلقنا لهوا ولا عبثاً تعالى عن ذلك علواً كبيراً خلق بني آدم وكرمهم على سائر المخلوقات.
فلا ينبغي للإنسان أن يكون كالبهائم يمارس حياته كما تمارسها البهائم همه بلوغ الشهوة وإشباع البطن.. لأن الإنسان خلق لأهداف أسمى وأكبر من ذلك، خلق لعبادة ربه وعدم الخروج عن طاعته لتستقيم الحياة على سطح هذا الكوكب.
ولينجو الإنسان من ظلمات الجهل والعبودية والتخلف واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان واستعباده وتسخيره وفق أهوائه ومصالحه.. والخروج عن طاعة المستكبرين وعدم الاستكبار في طاعة اللّه عز وجل.
قال تعالى :
«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» (1).
إن الاستكبار عن طاعة اللّه تعالى يوجب أيضاً سخط اللّه وعقابه وعذابه الشديد. ويضرب لنا اللّه مثلا عن إبليس حينما أمره اللّه تعالى بالسجود لآدم كما في الآية الكريمة.
جاء في بعض التفاسير أن اللّه حينما أمر إبليس بالسجود لآدم، وأن السجود كان اللّه وما ينبغي السجود لغيره إنما كان آدم قبلة السجود كما أن إبليس استكبر عن طاعة اللّه ولم يستجب لأمره فاستحق غضب اللّه وعقابه وعذابه، حيث قال له أخرج منها فإنك رجيم..
إن إبليس حسب ما تذكر بعض الروايات عبد ربه سبعين ألف سنة فاستحق هذه الدرجة حيث رفعه اللّه عزّ وجلّ مع الملائكة وعصى ربه مرة
ص: 459
واحدة فأنزله اللّه إلى هذه الدرجة. فما بالك بالذي يعصي ربه يومياً مرات ومرات.
نعوذ باللّه من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون..
ومن الأمور التي فرضها اللّه عزّ وجلّ الصبر على عبادته.
قال تعالى : «رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» (1).
حيث أن القرآن الكريم حث الناس على الصبر على عبادته تبارك وتعالى وطاعته كما حث عليها الرسول الكريم وأهل بيته الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) :
«اصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عن معصيته فإنما الدنيا ساعة فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً» (2).
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونه فيقال لهم من أنتم فيقولون نحن أهل الصبر فيقال لهم على ما صبرتم فيقولون كنا نصبر على طاعة اللّه ونصبر عن معاصي اللّه فيقول اللّه تعالى صدقوا أدخلوهم الجنة وهو قوله تعالى :
«إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (3).
2 - (ومن ورع عن محارم اللّه فهو من أورع الناس).
ص: 460
الورع من الأخلاق الرفيعة التي يجب أن يتخلق بها المؤمن فيكف عن محارم اللّه وبزجر النفس عن الهوى، وإن من أورع الناس هم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فهم مستودع سره ومبلغو رسالاته والعروة الوثقى التي من تمسك بها نجى ومن لم يتمسك بها غرق وهوى قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
(عليكم بالورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة لمن ائتمنكم فلو أن قاتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأتيته إليه) (1).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
[إن أحق الناس بالورع آل محمد بن وشيعتهم لكي يقتدي الناس بهم فإنهم القدوة لمن اقتدى فاتقوا اللّه وأطيعوه فإنه لا ينال ما عند اللّه إلا بالتقوى والورع والاجتهاد فإن اللّه تعالى يقول : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (2)].
وقال من (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أما واللّه إنكم على دين اللّه ودين ملائكته فأعينونا على ذلك بالورع..»(3).
وقال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
(لن تنالوا ولايتنا إلا بالورع..)(4).
فما أجملنا وما أحسن خلقنا حين نتخلق بأخلاقهم ونتأدب بآدابهم إنهم الأسوة الحسنة لنا. فنواليهم ونقتدي ونهتدي بنور هدايتهم بالتورع والكف عن محارم اللّه وإطاعة أوامره ونواهيه.
يجب على الإنسان المؤمن المتوجه إلى اللّه عزّ وجلّ اجتناب المحارم والأخلاق الرذيلة التي تؤدي إلى الهاوية في الدارين فيكبح جماح النفس اللجوج ويكبح جماح الشهوات العارمة التي تريد الانطلاق والإشباع وبأي
ص: 461
وسيلة أو طريق، فإن الشخص في المجتمع المؤمن إذا كان كابحاً لنزوات النفس ورغباتها وتخلق بالأخلاق الإسلامية الرفيعة فإنه في هذه الحالة يكسب حب الناس فيأتمنونه على أموالهم وأعراضهم وبالجملة القاطعة إنه يكسب عز الدارين الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم الذي ليس بعده فوز آخر.
عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه عزّ وجلّ :
«وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ..» قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من علم أن اللّه عز وجل يراه ويسمع ما يقوله ويفعله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى....» (1).
وقال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاث :
عين سهرت في سبيل اللّه...وعين فاضت من خشية اللّه وعين..غضت عن محارم اللّه» (2).
وخلاصة كل ما تقدم أن الورع هو من الخلق الرفيع وتعالي النفس وبعدها عن مواطن الرذيلة ولا يظفر به إلا من تعالى بسمو الإيمان والحياء من اللّه في الكف عن محارمه.
لننال الخير الذي وعدنا اللّه به. وهو أرحم الراحمين...
٣- (ومن قنع بما رزقه اللّه فهو أغنى الناس).
إن اللّه سبحانه وتعالى هو الرازق فلا يملك أحد من الناس أن يرزق نفسه أو غيره شيئاً لا من كثير ولا من قليل، وإن اللّه هو صاحب السلطان
ص: 462
الأعلى في هذا الكون الكبير وبما أنه هو خالق كل شيء ومالك كل شيء وهو الرازق يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له.
وبما أنه وحده جل جلاله صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر. وهو وحده سبحانه وتعالى المتفرد بالملك والسلطان، فإن على الإنسان المؤمن أن يقنع بما رزقه اللّه وإن القناعة هي غنى النفس لا تشبعه كل أموال الدنيا ولو اجتمعت له فإنه يطلب المزيد لأن نفسه فقيرة من القناعة ويبقى في هم دائم ليس له شغل شاغل سوى الجمع ولو على حساب حقوق الآخرين.
إن من منّ اللّه عليه بقناعة النفس وغناها إنما يعيش حياة طيبة سعيدة بعيدة عن الهموم والمشاحنات.
جاء في تفسير قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً» قال نعطيه القناعة (1).
وجاء في تفسير قوله تعالى : حكاية عن سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) «وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» قال القناعة في بعض الوجوه لأنه كان يجلس مع المساكين ويقول مسكين مع المساكين» (2).
عن جابر بن عبد اللّه قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
(القناعة كنز لا يفنى) (3).
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
(الناس أموات إلا من أحياه اللّه تعالى بالقناعة) (4).
ص: 463
والقناعة هي كنز المؤمن الذي لا يفنى ولا ينتهي وإنه حي ما دام قانعاً برزق ربه...
والقناعة ملك أسكنه اللّه تعالى قلب عبده المؤمن.
والرضا والقناعة هي رأس الزهد والرضى بالقليل وعدم التأسف على ما فات والنظر لما في يد الغير.
جاء في تفسير قوله تعالى : «لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا» قال القناعة لأن القناعة هي رضى النفس بما حضر من الرزق وإن كان قليلا.. (1).
وهناك الكثير من الناس من لهث خلف الدنيا وذاق الأمرين من التعب والعناء ولم يحصل من ذلك كله إلا ما قسم اللّه له من الرزق.
كما أن عدم القناعة بالرزق تذه القناعة بالرزق تذهب بالشكر والإيمان.
والقناعة هي تثبيت لقلب المؤمن من الغرور لأن بعض الناس والعياذ باللّه قد يغتر حينما يبسط اللّه له الرزق وما أكثر هؤلاء هذه الأيام.
كان هناك شخص قد أنعم اللّه عليه فبسط له الرزق وكان أخوه محتاجاً وله عائلة كبيرة، فذهب إلى أخيه وقال له أرجو أن تقرضني مبلغاً لأني الآن محتاج للإنفاق على عائلتي.
فأجابه : إنه من العيب والعار على الرجل أن يقول ليس في جيبي ألف دينار، وكأنه بشطارته وحيلته قد رزق نفسه وهو يعيب على أخيه أن لا يملك شيئاً، فكانت عاقبته أن أصيب بمرض خبيث ولم تغن عنه أمواله شيئاً.
نفهم من هذا إذن أن هناك مصالح لبسط الرزق لا نعلمها، اللّه تعالى يعلمها وهو الذي قدر لكل شيء قدراً...
ص: 464
لأن بعض الناس كثرة الرزق والمال تكون نقمة عليه بل وتخرجه عن طاعة اللّه ومرضاته أحياناً.
روي عن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنه كان يقول :
(يا موسى إرض بكسرة من شعير تسد بها جوعتك وبخرقة تواري بها عورتك واصبر على المصائب وإذا رأيت الدنيا مقبلة عليك فقل إنا للّه وإنا إليه راجعون، عقوبة عجلت في الدنيا. وإذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل مرحباً بشعار الصالحين
يا موسى لا تعجبن بما أوتي فرعون وما اتسع به فإنما هي زهرة الحياة الدنيا) (1).
روي عن عيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) :
كان يقول : خادمي يداي وفراشي الأرض ووسادتي الحجر ودفئي في الشتاء مشارق الأرض وسراجي القمر وأدامي الجوع وشعاري الخوف ولباسي الصوف وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض أبيت وليس معي وأصبح وليس لي شيء وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني) (2).
والحياة الدنيا وزينتها وزخارفها لإلى الزوال إن عاجلاً أو آجلاً.وسيوفي اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب.
وكما أن القناعة تدخل الإنسان في مرضاة اللّه وتقربه منه بل وتوجب الشكر في الرزق القليل مع القانع برزق ربه المطمئن إليه وبما قدر له من الرزق...
بقدر ما تدفع الإنسان الفقير من القناعة إلى عدم الشكر وجحد النعمة والسخط على اللّه وعدم الرضا بقسمه..
ص: 465
قال تعالى :
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» (1).
إذن فالقناعة بالقليل هي الشكر اللّه تعالى وعدم الشكر للّه تعالى وعدم القناعة هي الكفر بعينه.
ولذا قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن من قنع بما رزقه اللّه فهو من أغنى الناس).
وإن هذا من أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ.
وروي أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
اجتاز قصاباً وعنده لحم سمين فقال يا أمير المؤمنين هذا اللحم سمين إشترِ منه، فقال : ليس الثمن حاضراً.
فقال له : أنا أصبر يا أمير المؤمنين.
فقال له : (أنا أصبر عن اللحم وإن اللّه عزّ وجلّ وضع خمسة في خمسة العز في الطاعة، والذل في المعصية، والحكمة في خلو البطن والهيبة في صلاة الليل، والغنى في القناعة..).
(وفي الزبور : القانع غني ولو جاع وع_ري ومن قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه..)(2).
وجاء في قوله تعالى :
«فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ» (3).
ص: 466
قال : فكها من الحرص والطمع ومن قنع فقد اختار العز على الذل والراحة على التعب وفقنا اللّه في أن يجعلنا من العاملين بأحب الأعمال إليه عبيداً طائعين بما افترض علينا.. وورعين عن محارمه بما حرم علينا.. وقائعين بما رزقنا من خزائنه التي لا تنضب وهو خير الرازقين.
ص: 467
ص: 468
ص: 469
ص: 470
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: من لم ينتفع بدينه ولا دنياه فلا خير في مجالسته ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة» (1).
من خلال هذا الحديث الشريف المبارك ينبه الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على موضوع اجتماعي مهم وهو مسألة الفضل بين الناس وتبادل المنفعة بينهم لأمور الدين والدنيا وما توجبه الأخلاق الإسلامية الفاضلة من حسن الرعاية للإخوة في الدين فالرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان المثل الأعلى لنا في هذه الأخلاق الفاضلة حيث نورنا اللّه جل وعلا بنور صفاته الكريمة لتكون لنا المثل الأعلى والأسوة الحسنة.
قال سبحانه وتعالى يصف الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2).
ص: 471
وقال تعالى :
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...» (1).
والرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حينما يرشدنا إلى مواضع الصواب والانتفاع وحسن المعاشرة بين الناس وإبداء موجبات الاخوة والصحبة يعيش أفراد المجتمع الإسلامي متحابين متماسكين في السراء والضراء وفي كل الظروف والأحوال.
وبعد فإن هذه الصورة التي يرسمها لنا الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هي صورة من الحياة الاجتماعية وحسن العشرة لهذا الرجل العظيم الذي كان ينهض بإنشاء أمة وإقامة دولة على غير مثال معروف أمةً تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية على أحسن وج_ه وعلى أعلى درجات التآلف والمودة لتنشيء الأرض مجتمعاً ربانياً في صورة واقعية يتأسى بها الناس وهي صورة أيضاً من حياة إنسان كريم جليل عظيم يمارس إنسانيته في نفس الوقت الذي كان يمارس فيه نبوته ليكون قدوة لغيره وهو الأسوة الحسنة لنا كما أرشدنا إليها القرآن الكريم.
«و لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...».
هذه الإرشادات القيمة والتوجيهات المباركة العظيمة من لدن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما جاءت إلا لتهذبنا وتربينا على الأخلاق الإسلامية الرفيعة ولترتفع بنا إلى أعلى مراتب الإيمان والكمال الخلقي يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2).
وكذلك فعل أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) حتى صاروا نسخاً حيةً منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهكذا فعل من فقه الإسلام وتكيف بنور الإيمان وكانت سيرة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وحياته الواقعية بكل ما فيها من تجارب الإنسان المستنير بنور الحق
ص: 472
والإيمان.. المثل الأعلى لهم.
كانت هذه الصفوة هي النموذج العملي لحسن السيرة والأخلاق السامية المتعالية التي يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الحسنة.
يقول الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يصف أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«كان أجود الناس كفاً نأجرأ الناس صدراً وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمةً وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة أهابه ومن خالطه أحبه لم أر مثله قبله ولا بعده» (1).
بعد هذه النافذة الصغيرة على سيرة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا بد لنا من معرفة أسرار الحديث الشريف وهو يحمل لنا بين طياته ما يوجب على المسلم من منفعة أخيه المسلم بأمور دينه ودنياه وم_ا ي_وجب على المسلم أداءه لأخيه المسلم من حسن الرعاية والمداراة والإكرام.
الحديث يشير إلى موضوع الترابط في المجتمع وحسن أداء الواجبات الاجتماعية بين أفراده.
فما هو الترابط بين أفراد المجتمع ؟
إن الإنسان اجتماعي بالطبع لا يمكنه الاستغناء عن الناس كما لا يستطيع اعتزال الناس والتخلف عن مسايرتهم.. وإن الإنسان إذا انعزل عنهم ففي هذه الحالة يحس بالغربة والاستيحاش ويشعر أنه اعتراه الخذلان والوهن إزاء مصاعب الحياة والأقدار.
كما يعجز في حالة انفراده وعزلته عن تحقيق ما يصبو إليه من أهداف وأماني حيث لا يتمكن من تحقيق أمانيه وما يصبو إليه إلا بالتآلف وتبادل المصالح والمنافع...
ص: 473
فالإنسان بحد ذاته يجب أن يكون عضواً صالحاً نافعاً في المجتمع يؤثر ويتأثر يفيد ويستفيد.. بل هو عنصر مهم في المجتمع ولبنة في بنائه تربطه بالمجتمع أواصر وصلات مختلفة، كالعقيدة والقرابة، والصداقة والثقافة والمهنة.. وغيرها من الأواصر والعلاقات الاجتماعية الأخرى.
والشريعة الإسلامية التي هي أعظم دستور إصلاحي على وجه الأرض جاءت بنظام أخلاقي هادف وبناء ينظم حياة المجتمع والفرد أكمل وأفضل تنظيم على أسس متينة ومترابطة تحفظ لكل فرد الحقوق بها يحقق لكافة المسلمين السعادة والرخاء.
فالمجتمع تربطه ببعض المنافع المشتركة والمتبادلة بين أفراده التي لا يسعه الغنى عنها والتي بها يكون المجتمع سعيداً ويعيش بوئام وخير وبخلافها يغدو المجتمع بائساً شقياً...
ومن أجل ذلك يجب على الإنسان المسلم أن يستلهم تلك التعاليم الإسلامية المباركة.. التي تبني المجتمع وتضع كل فرد مسلم فيه أمام مسؤولياته لكي يعرف ما له وما عليه من الواجبات والحقوق ليكون مثلاً أعلى في حسن السيرة والسلوك.
ورعاية حقوق المجتمع التي فرض اللّه ورسوله عليه أدائها لهم كتبادل المنافع وحسن أداء موجبات إدامة الترابط والصلة المتواصلة وأكرامهم وفق هدي اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
والرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول في حديثه الشريف :
«من لم ينتفع بدينه ولا دنياه فلا خير في مجالسته، ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة».
يتضمن الحديث شقين : الشق الأول الذي نبدا به يتضمن مسألة
ص: 474
المنفعة بين الناس وهذه المنفعة على نوعين المنفعة الدينية والمنفعة الدنيوية.
ذكر العلماء الاجتماعيون بأن المنفعة هي رائد الإنسان في كل أعماله.
١ - المستوى الأدنى هو الذي يرتبط بالمنفعة المؤقتة.
٢ - المستوى الأعلى هو الذي يرتبط بالمنفعة الدائمية وهي التي تتعلق بأمور الدين.
ومن المنفعة حسن المعاشرة وتبادل المصالح المشتركة وحسن الرعاية والمداراة.
وهذه رغبت فيها الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة لما لها من وقع مهم وعظيم في تماسك المجتمع ووصوله إلى أرقى درجات الأخلاق العالية الرفيعة. المواصلة نهج أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم) والتخلق بأخلاقهم.
فالرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول :
«أدبني ربي فأحسن تأديبي»(1).
وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أبناؤه وهم الامتداد الطبيعي له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علمونا في سيرتهم المباركة الكريمة حسن المعاشرة وحسن الصحبة مع الآخرين.
عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : لما احتضر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جمع بنيه حسناً وحسيناً وابن الحنفية والأصاغر.
فوصاهم وكان في آخر وصيته : يا بني عاشروا الناس عشرةً إن غبتم حنوا إليكم وإن فقدتم بكوا عليكم.. يا بني إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة وتتناجى بها وكذلك هي في البغض فإذا أحببتم الرجل من
ص: 475
غير خير سبق منه إليكم فارجوه وإذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه» (1).
نفهم من وصية الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأبناءه أن حسن المعاشرة مع الناس هي أساس الإحسان وهي مزرعة الإحسان في أهله فأنت إذا زرعت هذا الإحسان في أهله فإنك تنتظر منه قطوف أثماره ونتاجه.. ونتاج حسن المعاشرة يولد المحبة والطاعة في قلوب الناس وصولاً إلى الأهداف السامية التي من أجلها حث الإسلام على وجوب تبادل المنافع بين الناس والمواصلة والتراحم بعيداً عن التهاجر والتنافر التي هي من السمات الوضيعة التي تهدم المجتمع وتنخر بنيانه من القواعد.
ومن بين المنافع التي يجب على المسلم الإتيان بها لأخيه المسلم عند حاجته وفاقته (الرعاية المادية).
فقد يقع أخوك في أزمة مادية خانقة ويعاني منها المرارة والحرمان ويصبح بحاجة ماسة إلى الرعاية والإسعاف فمن حقه على إخوته المسلمين النبلاء أن يسارعوا لإسعافه في أزمته وتخفيفها عنه بما يجودون عليه من البذل والسخاء وذلك من ألزم حقوق العشرة والمداراة وأجمل السمات النبيلة وأجلها لأنها إنما تنبع عن أخلاق عالية وخصال إسلامية حميدة.
وقد مدح اللّه تبارك وتعالى قوماً تحلوا بحسن المواساة والإيثار بقوله : «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (2).
«وقال الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) لرجل من خاصته :
يا عاصم كيف أنتم في التواصل والتواسي.
قلت : على أفضل ما كان عليه أحد.
ص: 476
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): أيأتي أحدكم إلى دكان أخيه أو منزله عند الضائقة فيستخرج منه كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه.
قلت : لا قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فلستم على ما أحب بالتواصل» (1).
«وعن أبي إسماعيل قال : قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
جعلت فداك إن الشيعة عندنا كثير..
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): فهل يعطف الغني على الفقير ؟ وهل يتجاوز المحسن على المسيء ؟ ويتواسون ؟. فقلت : لا.
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ليس هؤلاء شيعة. الشيعة من يفعل هذا» (2).
ولا يفوتنا هنا أن نذكر ما هو التشيع.
جاء في اللغة المشايعة : تعني المتابعة ومواصلة العمل.
والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول لأمير المؤمنين في إحدى الوصايا :
«يا علي : أنت وشيعتك الفائزون».
ومن هنا إن الشيعي هو الذي يقرن نفسه بأمير المؤمنين الف والتخلق بأخلاقه ويقتفي أثره وأما غير ذلك فهذا ليس بشيعي وإنما هو محب.
كذلك وإن التشيع ليس أصلاً كما يفهمه البعض أو نسباً.
بل التشيع هو العمل الصالح ومتابعته والاستمرار عليه بما يجعل عمل الشيعي المثل الأعلى بالنسبة للآخرين. وهو الحركة المستمرة في الإيثار والعمل الصالح المتواصل...
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو أحد شيعته :
ص: 477
يا نوف : خُلقنا من طينة وخلق شيعتنا من طينتنا فإذا كان يوم القيامةألحقوا بنا قال نوف قلت : صف لي شيعتك يا أمير المؤمنين.
فيكي الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لذكر شيعته ثم قال :
یا نوف شيعتي واللّه الحلماء العلماء باللّه وبدينه العاملون بطاعته وأمره المهتدون،بحبه أنضاء عبادة أحلاس زهادة صفر الوجوه من التهجد عمش العيون من البكاء، ذبل الشفاه من الذكر، خمص البطون من الطوى. تعرف الربانية في وجوههم والرهبانية في سمتهم مصابيح كل ظلمة ورياحين كل قبيلة.. إلى آخر الحديث» (1)
وقال أبو تمام في إحدى قصائده :
أولى البرية حقاً أن تراعيه***عند السرور الذي أساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا***من كان يألفهم في المنزل الخشن
قال الواقدي : كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا كنفس واحدة فنالتني ضائقة شديدة وحضر العيد فقالت امرأتي أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة وأما صبياننا فقد قطعوا قلبي رحمةً لهم لأنهم يرون أولاد الجيران وقد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثة فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم ! فكتبت إلى صديقي (الهاشمي) أسأله التوسعة عليّ، فوجه إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم فما استقر قراري حتى كتب إلى الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي فوجهت إليه الكيس بحاله وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحياً من امرأتي فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه فبينما أنا
ص: 478
كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته فقال لي أصدقني عما فعلته فيما وجهت إليك ؟
فعرفته الخبر على وجهه. فقال : إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك. وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إليّ بكيس فتواسينا الألف أثلاثاً.. ثم نمي الخبر إلى المأمون فدعاني فشرحت له الخبر فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكل واحد ألفا دينار وللمرأة ألف دينار..» (1).
وهناك حالة أخرى للرعاية هي (الرعاية الأدبية). فقد تنتاب أخاك الشدائد وضروب المحن مما تسبب إرهاقه وعدم استقرار حياته وفي هذه الحالة يغدو بحاجة ماسة إلى المساندة لتفريج همه وكربه..
فإنه حق على أخوته أن يناصروه ويؤازروه في الذب والدفاع عنه جاهاً ولساناً لإنقاذه من شدته وأزمته وظرفه الصعب.
هذا مقياس الحب والمنفعة المتبادلة بين الإخوة المسلمين وهي من العلامات الفارقة بيننا وبين المجتمعات الأخرى التي لا يجمعها نظام اجتماعي بناء كنظامنا الإسلامي الذي ضمن للمسلمين دينهم ودنياهم من خلال تبادل المنافع والمشاركة في السراء والضراء للتغلب على المصاعب والشدائد.
قال الشريف الرضي :
يعرفك الإخوان كل بنفسه***وخير أخ من عرفتك الشدائد
كما أن على المرء أن لا يبحث عن أخطاء إخوانه فإن الإنسان ليس معصوماً وهو عرضة للخطأ، فإذا بدت منه هفوة في قول أو فعل ككلمة جارحة مثلاً أو خلف وعد أو تخلف عن مواساة.
ص: 479
فعلى المرء إذا كان واثقاً من إخلاص أخيه وحبه أن يتغاضى عن اساءتهم ويصفح عن زلاتهم.
في وصية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابنه الحسن بمداراة الإخوة والتسامح معهم والحفاظ عليهم يقول :
«احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة وعند صدوده على اللطف والمقاربة وعند جحوده على البذل وعند تباعده على الدنو وعند شدته على اللين وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبداً وكأنه ذو نعمة عليك، وأياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير في غير موضعه أو تفعله بغير أهله ولا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أم قبيحة.
وتجرع الغيظ فإني لم أرَ جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة، ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ومن ظن لك خيراً فصدق ظنه ولا تضيعن حق أخيك أتكالاً على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه» (1).
فلذلك شددت الشريعة الإسلامية على حسن مداراة الناس والصفح والتسامح معهم..
وقال تعالى :
«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (2).
ص: 480
وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» (1).
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«أعقل الناس أشدهم مداراة للناس» (2).
أما في قول الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الحديث الذي ذكرناه في أول البحث «من لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة».
فعن عيسى بن أبي منصور قال : كنت عند أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنا وابن يعفور وعبد اللّه بن طلحة فقال ابتداءً منه : يا بن أبي يعفور : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ست خصال من كن فيه كان بين يدي اللّه عز وجل وعن يمين اللّه فقال ابن أبي يعفور : وما هُن جعلت فداك. قال : يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعز أهله ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعز أهله ويناصحه الولاية فبكى ابن أبي يعفور. وقال : وكيف يناصحه الولاية ؟
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يابن أبي يعفور إذا كان منه بتلك المنزلة، بثه همه ففرح لفرحه إن هو فرح وحزن لحزنه إن هو حزن وإن كان عنده ما يفرج عنه فرج عنه وإلا دعا له قال : ثم قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
ثلاث لكم وثلاث لنا، أن تعرفوا فضلنا وأن تنظر واعقبنا وأن تنتظروا عاقبتنا فمن كان هكذا كان بين يدي اللّه عزّ وجلّ فيستضيء بنورهم من هو أسفل منهم وأما الذين عن يمين اللّه فلو أنهم يراهم من دونهم لم يهنئهم العيش مما يرون من فضلهم.
ص: 481
فقال ابن أبي يعفور : وما لهم لا يرون وهم عن يمين اللّه ؟
فقال : يا بن أبي يعفور إنهم محجوبون بنور اللّه تبارك وتعالى أما بلغك الحديث إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يقول إن اللّه كان يقول إن اللّه خلقاً عن يمين العرش بين يدي اللّه وعن يمين وجوههم أبيض من الثلج وأضوء من الشمس الضاحية يسأل السائل ما هؤلاء فيقال هؤلاء الذين تحابوا في اللّه» (1).
كما أن من الأمور التي رغبت فيها الشريعة الإسلامية وفرضتها الأخلاق الإسلامية العالية والرفيعة والتي أرشدنا إليها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وشدد على رعايتها وهي مسألة الإيجاب لحقوق المعاشرة في الإسلام ومعنى الوجوب ما ثبت ولزم وقيل وجب الضيف أي (قام بحق ضيافته وإكرامه) وقيل أيضاً وجب لفلان حقه أي (راعاه).
وهي ما يجب من أداء حقوق العشرة أي إكرامه إذا حلّ ضيفاً عليك مثلاً ومواساته في الأفراح والأحزان وإبداء حق الجوار وغيرها من الأمور الأخرى.
وعلى هذا فإن حديث الرسول الأكرم جاء في باب المقابلة بالمثل، فالذي يرعى لك حقاً أو حرمة كان لزاماً عليك أن توجب له بأداء ذلك.
فالذي يعودك في المرض مثلاً أو الذي يواسيك في الأفراح والأحزان ويكرمك أو يؤدي حقوق الجوار.. كان واجباً عليك أن تقابله بالمثل.. بل وتكرمه أكثر من ذلك.
ومن لم يوجب لك هذه الحقوق والواجبات الأخلاقية والإنسانية والتي هي من صفات المسلم الذي يراعي موجبات الأخوة وحسن السيرة والعشرة.. من لم يوجب لك هذا فلا توجب له أي لا يلزم عليك بنحو
ص: 482
الوحوب. وذاك لأن الحياة الإنسانية وديمومتها متقومة بعاملين :
١ - الحقوق.
٢ – الواجبات.
فإن كل إنسان يعيش بين أقرانه عليه واجبات تجاههم يجب عليه أدائها وله حقوق يجب عليهم هم أيضاً أن يوفّروها له.
فكما إن الإنسان إذا اقترن بزوجته وعاش معها في بيت الاسرة الدافىء تترتب له حقوق يجب على الزوجة أن تهيئها لزوجها، كذلك على الزوج هناك واجبات يجب على الزوج أداؤها للزوجة وهكذا بالعكس.
وأيضاً الموظف في الدائرة والمعلم في المدرسة وغير ذلك كثير.. فإن حفظ الحياة الاجتماعية وديمومتها متقومة بالجميع في أداء الواجبات والتنعم بالحقوق..
يقول علماء الاجتماع ان بين الحقوق والواجبات يجب أن يكون تواز وتقابل.. فمتى يستحق الإنسان التنعم بحقوقه بالشكل الكامل ؟
إذا أدّى الواجبات التي كان يجب عليه أداؤها فمن قصر في أداء الواجب فإن حقوقه أيضاً ستضعف من تلك الجهة ولذا يقول بعض الفقهاء بأن الزوجة لها حقوق على الزوج منها النفقة مثلاً.
فإنه يجب على الزوج أن يعطي النفقة لزوجته ولكن متى تستحق الزوجة هذه النفقة ؟
يقول الفقهاء إذا قامت بواجباتها الزوجية خير قيام والتي هي:
١ – التمكين.
٢ - الخروج من الدار بإذنه.
فإذا لم تقم الزوجة بأداء واجباتها فإنها ستفقد حقها في النفقة وهكذا
ص: 483
أيضاً القضية من جهة الزوج. فإنه إذا لم يقم بواجباته سقطت حق__وق_ه _ على تفصيل مذكور في الكتب الفقهية - وهكذا بالنسبة للعامل والموظف وسائر الشرائح الاجتماعية الأخرى..
هذا كان من جانب الأحكام الإلهية الشرعية وكذلك الأمر في جانب الأخلاق والآداب والعلاقات الاجتماعية فإن الإسلام جعل قوانين للعلاقات الاجتماعية بين الناس. إذا التزم بها الإنسان استحق في الطرف المقابل أن يعامل بالمثل وإلا يفقد هذا الاستحقاف..
فمثلاً الإنسان يجب عليه أن يحترم الناس ويتواضع لهم لأنهم إما إخوة له في الدين أو نظراء له في الخلق.
كما قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(1).
فإذا أدى الإنسان هذا الاحترام للناس استحق منهم هو الاحترام أيضاً.. فإذا أخل بالأدب ولم يحترم أقرانه فإنه في المقابل لا يستحق الاحترام منهم أيضاً كما قال الشاعر :
ومن هاب الرجال تهيبوه***ومن وهن الرجال فلن يهابا
وهكذا في جانب الأخذ والعطاء وسائر الأمور الاجتماعية ومن هنا أشار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى هذه الحقيقة حقيقة الأخذ والعطاء والحقوق والواجبات.
(ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة).
ص: 484
ص: 485
ص: 486
بسم اللّه الرّحمن الرحيم
قالَ الرَّسُول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: أربعة لا ترد لهم دعوة.. إمام عادل ووالد لولده.. والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب.. والمظلوم..» (1).
من الأمور البديهية عند الإنسان أنه في حالة الضيق والشدة يلجأ وبصورة فطرية إلى تلك القوة الهائلة الجبارة المديرة لهذا الكون الشاسع الواسع الذي لا يمكن حصره بزمان ولا مكان من مخلوقات هائلة عجيبة في السماوات والأرض وما بينهما من كواكب سيارة إلى مجرات وشهب وكتل وهاجة إلى مخلوقات حية وكلها تعيش وتسبح وتستمد القوة الاستمرارية من ذلك المدير المسيطر الذي ليس لقدرته حدود وليس كمثله شيء لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار يعلم ما بأنفسنا ولا نعلم ما في نفسه، وهو مصدر كل شيء، وهو القاهر فوق عباده..
حديثنا حول الدعاء :
وبما أن الدعاء له ارتباط وثيق بمسألة وجود خالق مدبر لهذا الكون ولهذه المخلوقات يحييهم ويميتهم ويرزقهم ويتقبل الدعاء وهو مصدر كل خير اقتضى الأمر البحث عن أصل وجوده سبحانه، فكيف نستدل على وجوده ؟
ص: 487
قال اللّه سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم :
«وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (1).
منذ أن وجد الإنسان على سطح هذا الكوكب وهو تدور في خلده أسألة كثيرة.. من الذي أوجد الكون ؟ هل هو كائن من الأزل ؟ هل له بداية وهل له نهاية؟ هل هناك قوة غيبية تدبر أمره ؟
هذه الأسئلة وغيرها تمر على الإنسان عبر الأجيال والعصور، وبما أن الإنسان محتاج في حياته إلى مثل تلك القوة الغيبية ليستعين بها على جميع أمور حياته، في الشدة والرخاء.
فمنهم من عبد الشمس والقمر، ومنهم من عبد اللّه تعالى وآمن به ومنهم من عبد النار، ومنهم من عبد الأصنام : ظناً منهم بأن فيها ما يستعين به على مدلهمات حياته في طلب الخير والرخاء.
فإذن الإنسان بطبيعته الفطرية مؤمن بالغيب ومؤمن بأن هناك قوة غيبية تدبر هذا الكون، وتديره وفق هذا النظام الدقيق العجيب.
ومن هنا فإن اللّه تبارك وتعالى لم يترك الإنسان يتخبط هذا التخبط العشوائي فبعث للناس الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتب والحكمة وعززهم بالآيات.. لكي يستدل الإنسان فيها على وجود خالق مسيطر لهذا الكون وأنه بدأ في وقت معين وأنه سينتهي إلى وقت معين أيضاً، وأن اللّه عز وجل لراد الإنسان إلى ثواب وعقاب كل حسب ما يستحق من ذلك : فمنهم من آمن.. ومنهم من آمن ثم انحرف ومنهم من جحد بآيات ربه.
ص: 488
والقصص كثيرة في القرآن الكريم والتي تتحدث عن هؤلاء الجاحدين والمنكرين لحقيقة وجود اللّه تبارك وتعالى، وكيف أن اللّه أمدهم بالقوة والمال ثم أخذهم بطغيانهم وأنزلهم إلى سوء العذاب المهين في الدنيا والآخرة.
ولا زال هذا الجحود اللّه حتى عصرنا الحاضر ولعله سيبقى ما بقي الإنسان جاهلاً.
وللرد على هؤلاء المنحرفين والجاحدين نقول :
إن اللّه تبارك وتعالى موجود في الفطرة.. ونذكر هنا قصة الفيلسوف الفرنسي الملحد فكتور هيجو : الذي عاش (٨٦) عاماً يدرس تلامذته الإلحاد وفي ذات يوم كان يحاضر في طلبته في باريس حيث هبت عاصفة شديدة كادت أن تهدم المباني وتقلع الأشجار فلما أحس بالفزع والخطر صرخ (يا رب خلصنا) فاحتج عليه طلبته حيث قالوا له : منذ عشرات السنين وأنت تدرسنا الإلحاد فكيف تدعو بهذه الدعوة؟ مما جعله لا يدري كيف يجيبهم.
فإذن اللّه سبحانه وتعالى موجود في فطرة الإنسان.. وإنما هؤلاء الجاحدون ينكرون هذه الحقيقة كونها تتعارض مع مصالحهم ورغباتهم وأهوائهم الشخصية.. «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» (1).
يقول وولتر أوسكار عالم الكيمياء الحيوية :
١ - يرجع إنكار وجود اللّه في بعض الأحيان إلى ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية أو الدول من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد ومحاربة الإيمان باللّه بسبب تعارض هذه العقيدة مع مصالح هذه الجماعات أو مبادئها.
2 - وحتى عندما تتحرر عقول الناس من الخوف فليس من السهل أن
ص: 489
تتحرر من التعصب والأهواء.. ففي جميع المنظمات الدينية المسيحية تبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في إله على صورة إنسان
تعالى الذي ليس كمثله شيء.. وسبحان الذي دل عليه خلقه. قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم :
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (1).
إذن الإنسان نفسه وما فيه من المعجزات يدل على وجود اللّه تعالى. وتبارك اللّه أحسن الخالقين.
ومهما يكن من أمر أصحاب الاعتقادات الفاسدة وأصحاب الأفكار الذين دخلت إلى نفوسهم الشبهات والشكوك لإيهام الناس وإخراجهم من الطريق القويم والحقيقة التي تؤمن بها الروح والفطرة (وهو اللّه عز وجل) ادعوا أنهم وصلوا أو سيصلون إلى أسرار بديع خلق اللّه بواسطة المعامل والمختبرات.. وكل يوم يأتون بنظرية ثم يعودون فيعدلون عنها وقد أكد أحد علماء الأحياء السوفيت في أحد مؤتمرات علوم البحار أن جميع المحاولات العلمية والمختبرية لتكوين جزيء بروتيني واحد مما يتكون منه جسم الإنسان قد باءت بالفشل.
ومن هذه النظريات نظرية داروين التي أحدثت تلك الضجة العالمية في الأوساط الدينية والعلمية :
والتي تقول إن أصل الإنسان قرد وبمرور الزمن تحول القرد إلى إنسان محاولة منه لإنكار وجود اللّه تبارك وتعالى، ثم ما لبث أن اعترف بوجود اللّه في أحد كتبه حيث يقول :
«يستحيل على العقل الرشيد أن تمر به خلجة الشك من في أن يقول إن هذا الكون ناتج عن طريق الصدفة بل لا بد وأن يكون له خالق وهو اللّه عز وجل».
ص: 490
قال تعالى في كتابه الكريم :
«الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1).
جاء في بعض التفاسير.. الإيمان باللّه سبحانه هو إيمان بالغيب فذات اللّه سبحانه غيب بالقياس إلى البشر فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب يجدون آثار فعله ولا يدركون ذاته، ولا كيفيات أفعاله والإيمان بالآخرة كذلك هو إيمان بالغيب فالساعة بالقياس إلى البشر غيب وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن تصديقاً لخبر اللّه سبحانه وتعالى.
فإن اللّه سبحانه وتعالى حينما يقول الرسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي...» (2).
أي إن عبادي الذين آمنوا في الغيب فقل لهم :
«فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..» (3).
أي إني أستجيب دعوتهم كما هو واضح من ظاهر الآية الكريمة :
«فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (4).
ص: 491
إن اللّه سبحانه وتعالى قد حدّد في هذه الآية الكريمة شروطاً لإجابة الدعاء ومن هذه الشروط :
1 - الاستجابة للّه والإيمان به عز وجل.
٢ - الاستجابة له عز وجل بالطاعة والإذعان والتصديق بما أنزل إليهم فإذن ليس كل من يدعو يستجاب له دعاءه.
فالدعاء هنا مرتبط بأسباب مهمة على ما أوجبته الحكمة الإلهية فمن أسباب إجابة الدعاء أن يكون السؤال فيه صلاح للداعي في دينه ولا يكون فيه مفسدة له ولغيره.
وشرط ذلك أن يكون بلسانه وينويه بقلبه فاللّه تعالى يجيبه إذا اقتضت المصلحة إجابته أو يؤخره إذا اقتضت المصلحة التأخير.
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«ما من مسلم دعى اللّه بدعوة ليسر عوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث خصال :
إما أن يعجل دعوته. وإما أن يؤخذ له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه سوء مثله» (1).
فإذن وكما قلنا إن هناك مصالح وأحكام تقتضيها الحكمة الربانية في إجابة الدعاء.
عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«إن العبد ليدعو اللّه وهو يحبه فيقول يا جبرائيل لا تقض لعبدي هذا حاجته وأخرها فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته.
ص: 492
وإن العبد ليدعو اللّه وهو يبغضه فيقول يا جبرائيل إقض لعبدي هذا حاجته بإخلاصه وعجلها فإني أكره أن أسمع صوته» (1).
إذن فإن من موجبات الدعاء وإجابته. هو الإيمان والابتعاد عما يغضب اللّه تعالى وأن يتوجه الإنسان بقلب وعقل سليمين وإن اللّه سبحانه وتعالى قد ضمن له الإجابة حسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة الإلهية.
روي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«ربما أخرت عن العبد إجابة الدعاء ليكون أعظم لأجر السائل وأجزل لإعطاء الأمل...» (2).
وأما أسباب عدم إجابة الدعاء فهو الابتعاد عن طاعة اللّه تبارك وتعالى والعمل بالمحرمات التي نهى عنها اللّه سبحانه وتعالى.
قيل لإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو اللّه سبحانه وتعالى فلا يستجيب لنا.
فقال : لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنت_ه وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه وأكلتم نعمة اللّه فلم تؤدوا شكرها وعرفتم الجنة فلم تطلبوها وعرفتم النار فلم تهربوا منها وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدوا ل_ه ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس» (3).
ولذلك فإن إجابة الدعاء تعتمد علينا نحن أنفسنا في إبداء حقوق اللّه تبارك وتعالى والعمل بأوامره والامتناع عن نواهيه لأنه تبارك وتعالى لا يريد بنا إلا الخير والهداية والاصلاح ولأن الدعاء من العبادات فقد حث تبارك وتعالى في كتابه الكريم على الدعاء وتحبيبه كما حث الرسول الكريم والأئمة الأطهار على ذلك .
ص: 493
عن زرارة.. عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال
إن اللّه عز وجل قال : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. قال : هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء
قلت : إن إبراهيم لأواه حليم. قال : الأواه هو الدعاء» (1).
وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«أدعُ ولا تقل قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة إن اللّه عز وجل يقول : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال : ادعوني استجب لكم» (2).
كما أن للدعاء أوقاتاً ترجى فيها الإجابة :
عن زيد الشحام قال : قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«اطلبوا الدعاء في أربع ساعات، عند هبوب الرياح وزوال الأفياء وأول. قطرة من دم القتيل المؤمن فإن أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء» (3).
وعن السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«افتحوا الدعاء عند أربع عند قراءة القرآن وعند الأذان وعند نزول الغيث وعند التقاء الصفين للشهادة» (4).
ولكن هناك كما قلنا شرط في التوجه إلى اللّه تعالى بالدعاء أن يكون بيقين وتوجه بقلب وعقل سليمين كما يجب على الإنسان الداعي أن لا ييأس من تأخير الإجابة
وإن العبد يدعو اللّه تعالى وهو عليه غضبان فيرده ثم يدعوه فيقول : أبي
ص: 494
عبدي أن يدعو غيري فقد استجبت له فلا تيأسوا من تأخير الإجابة. فإنه كان بين إجابة موسى وهارون في فرعون أربعين سنة في حين قال اللّه تبارك وتعالى «أجيبت دعوتكما».
وإن اللّه تبارك وتعالى ما توجه إليه العبد المكروب إلا فرج عنه همه ولا الخائف إلا آمنه ولا المريض إلا شفاه ولا المديون إلا قضى له دينه ولا المهموم أو المحزون إلا فرج عنه كربه فاللّه قريب من المحسنين.
روي أن تاجراً كان في زمن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يسافر من المدينة إلى الشام ولا يصحب القوافل توكلاً على اللّه تعالى فعرض له لص في طريقه فصاح ب_ه فوقف فقال له خذ المال ودعني فقال : لا غنى لي عن نفسك فقال التاجر : دعني أتوضأ وأصلي أربع ركعات فقال : افعل ما شئت، فتوضأ وصلى ثم رفع يديه إلى السماء وقال :
يا ودود.. يا ودود يا ودود.. يا ذا العرش المجيب يا مبدىء يا معيد.. يا ذا البطش الشديد.. يا فعال لما يريد.. أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك.. وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت يا مغيث أغثني يا مغيث صلّ على محمد وآل محمد وأغثني وإذا بفارس على فرس أشهب عليه ثياب خضر وبیده رمح فشد على اللص فطعنه طعنة فقتله ثم قال للتاجر : اعلم أني ملك من السماء الثالثة حين دعوت سمعنا أبواب السماء قد فتحت فنزل جبرائيل وأمرني بقتله واعلم يا عبد اللّه أنه ما دعا بدعائك هذا مكروب ولا محزون إلا فرج اللّه عنه وأغاثه فرجع التاجر إلى المدينة سالماً فأخبر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بذلك فقال : لقنك اللّه أسماءه الحسنى التي إذا دعي بها أجاب وإذا سُئل بها أعطى
ص: 495
وكما ينبغي للداعي أن يكون متطهراً مستقبل القبلة ومن آداب الدعاء المواضع الشريفة والأوقات الشريفة.
لأن هناك مواضع مقدسة يستجاب فيها الدعاء. كالبيت الشريف (الكعبة ومسجد) وقبر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومراقد أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) لأنهم حجج اللّه على خلقه وأنهم الواسطة التي تقربنا من اللّه عز وجل فبواسطتهم يستجيب اللّه لنا الدعاء ويضمن لنا الإجابة إنهم باب اللّه المؤتى منه ما قصدهم ذو كبد حراء إلا أثلجوها ولا كربة إلا فرجوها.. نسأل اللّه أن يرزقنا شفاعتهم يوم الفزع الأكبر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
وخير الدعاء ما كان في حالة الخشوع والتضرع والبكاء و...
وروي أن شاباً تعلق بأستار الكعبة باكياً وقال : إلهي ليس لك شريك فيؤتى ولا وزير فيرشى ولا حاجب فينادى إن أطعتك فلك الحمد والفضل وإن هاتفاً عصيتك فلك الحجة فبإثبات حجتك علي وقطع حجتي اغفر لي فسمع يقول :
«أنت معتق من النار...».
وإن خير الدعاء ما هيجته الأحزان وحركته الأشجان وشفيع المذنبين دموعهم...
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«عليكم بالبكاء من خشية اللّه يبني لكم بكل دمعة ألف بيت في الجنة وما من شيء أحب إلى اللّه تعالى من قطرة دمع من خشية اللّه وقطرة دم في سبيل اللّه وإذا أراد اللّه بعبد خيراً نصب في قلبه نائحة من الحزن وإن اللّه يحب كل قلب حزين وخير الدعاء الخفي.. قال تعالى
ص: 496
«ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً» (1).
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
خير العبادة أخفاها، وخير الذكر الخفي وقال : دعاء السر يزيد على الجهر سبعين ضعفاً. وأثنى اللّه تعالى على زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله تعالى :
«إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا» (2).
وسمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أقواماً يجاهرون بالدعاء فقال : «لا ترفعوا أصواتكم فإن ربكم ليس أصم» (3).
وبعد كل ما تقدم ذكره نعود إلى صلب الموضوع وهو حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو الذي علمنا سبل النجاة وبه ترفع أعمالنا وعبادتنا ودعائنا وه_و يخبر بأن هناك أربعة لا ترد دعوتهم
(إمام عادل...ووالد لولده.. والرجل يدعو لأخيه.. والمظلوم).
العدل ضد الظلم وهو مناعة نفسية تردع صاحبها عن الظلم والطغيان..
وقد مجد الإسلام العدل وعنى به وركز عليه وشوق الناس إليه في القرآن والسنة..
قال تعالى في كتابه الكريم :
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» (4).
ص: 497
وقال عز وجل :
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (1).
وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وأطيب ريحاً من المسك» (2).
فطر اللّه تعالى النفوس السليمة على العدل وحب العدل وبغض الظلم حياة الامم ورمز فضائلها وقوام مجدها وسعادتها وهو الضمانة والعدل سر لأمنها ورخائها في الحياة. وما زالت الدول الكبرى وتلاشت الحضارات إلا بضياع العدل والاستهانة به وقد كان أهل البيت اهم المثل الأعلى في العدل.. وإنهم خير أئمة للعدل بين الرعية.. ائتمنهم اللّه على خلقه والعدل بين عباده وسيحاسب اللّه من دفعهم عن حقهم. حيث اجتمعت فيهم كل صفات العدل بين العباد وقد تحدثت الروايات الكثيرة عن عدلهم.
عن ابن عباس قال : أتيت أمير المؤمنين سات فوجدته يخصف نعلاً ثم ضمها إلى صاحبتها وقال لي : ما قيمة هذه النعل ؟
فقلت : ليس لها قيمة قال : عليَّ ذلك قلت : کسر درهم قال : واللّه لهما أحب إلي من أمركم هذا إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا» (3).
ويقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«واللّه لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً أو أجر في الأغلال مصفداً.. أحبُّ إلي من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفوله_ا ويطول في الثرى حلولها» (4).
ص: 498
والإمام العادل هو الذي يحكم بين الناس بالعدل وبما يرضي اللّه ورسوله وعباده.
وحيث كان الحكام ساسة الرعية وولاة أمر الأمة فهم أجدر الناس بالعدل وأولاهم بالتحلي به.
بعدلهم يستتب الأمن ويسود السلام وتسعد الرعية وبجورهم تنتكس تلك الفضائل وتغدو الأمة في قلق وحيرة وشقاء.
وهنا لا يصل الإمام إلى العدالة إلا بعد جهود كبيرة وكبح جماح النفس عن الشهوات والملذات وعدم تفضيل الأقارب والخاصة بالمحسوبية والمنسوبية على باقي الناس اقتداءً بفعل أمير المؤمنين في أيام خلافته جاء في صواعق ابن حجر. قال : أخرج ابن عساكر...
«إن عقيلاً سأل علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : إني محتاج وإني فقير فأعطني ق_ال : اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين المسلمين فاعطيك معهم فألح عليه، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لرجل خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل له دق هذه الأقفال وخذ ما في هذه الحوانيت قال : تريد أن تتخذني سارقاً. قال : وأنت تريد أن تتخذني سارقاً أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم.
قال : لأتين معاوية قال : أنت وذاك. فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف ثم قال : اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك ب_ه علي وما أوليتك فصعد فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أخبركم أني أردتُ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) على دينه فاختار دينه. وإني أردتُ معاوية على دينه فاختارني على دينه بهذه الضمائر الحية العادلة جعلهم اللّه للمتقين إماماً..»(1).
وكثير من الذين وصلوا إلى هذه المكانة انزلقوا في متاهات هضم حقوق الناس وعدم العدل بين الرعية وعدم المساواة بينهم.
ص: 499
كما يفعل اليوم بعض من يدعون أنهم أئمة عدل حيث يكيلون لأتباعهم ومقربيهم حقوق الآخرين تاركين ورائهم الكثيرين يعيشون حياة البؤس والحرمان.
وعلى أي حال فالإمام العادل لهو من ولاة اللّه على عباده. فيجب أن يكون عادلاً مساوياً بينهم ينصف المظلوم من الظالم ولو كان ذاقربى وأن يكون ورعاً مستقيماً لا تأخذه في اللّه لومة لائم.
فهنا تتحقق له إجابة الدعاء.. فإنه بفضل صفاته الطيبة الحميدة وعدله بين رعيته واستقامته وثباته استحق هذه الدرجة من اللّه عز وجل بقبول دعواه وعدم ردها.
حيث قال تعالى :
«أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» (1).
فإن الحاكم لو وفي بعهود اللّه ومواثيقه في الطاعة والعدل في الرعية فإنه سبحانه وتعالى يوفي بعهده له أيضاً إذ قال «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».
من الذين ذكر عنهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأن لا ترد لهم دعوة.. الوالد الصالح لا ترد دعوته وهنا خصوصيتان :
1 - خصوصية الوالد : وهي أن يكون صالحاً وأن يؤدي الحقوق التي فرضها اللّه عليه وهي أن يحسن اسم الولد، ويحسن أدبه ويعلمه القرآن الكريم ويؤدبه بالآداب والأخلاق الإسلامية والامتناع عن المحرمات والمكروهات...
2 - خصوصية الولد : أن يكون صالحاً متأدباً بالأخلاق الإسلامية الرفيعة وأن يأتي بما فرض اللّه عليه وأن يطيع والديه.. إلا في معصية اللّه
ص: 500
سبحانه وتعالى.. إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي هذه الحالة فإن اللّه عز وجل قد وعد وعلى لسان رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأن دعوة الوالد لا ترد وليس بينها وبين اللّه حجاب...
إن الترابط والتماسك الاجتماعي أمر أمر اللّه به سبحانه وتعالى وأمر به رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). والترابط الاجتماعي من الأمور المهمة في حياة البشر.. وإن اللّه وعد المؤمنين المتحابين المتماسكين بخير الجزاء والثواب.
قال أبو عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائره بالسه_ والحمى..»(1).
وإن اللّه تبارك وتعالى يبارك هذا التلاحم والترابط وعدم الفرقة بين الناس.. والاجتماع على المحبة.. لأن من أكبر آفات تدمير المجتمع هي الفرقة والتباغض وإن اللّه تعالى أراد للمسلمين أن يكونوا متحابين ومتماسكين حتى لا ينفذ إليهم أعداء الإسلام فيفرقوهم ويتمكنوا منهم قال تعالى في كتابه الكريم :
«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (2).
وإن المسلمين في حالة توادهم وتراحمهم لا يتمكن منهم العدو الذي يحب أن يراهم متفرقين متباعدين يهجر بعضهم بعضاً.. واللّه أحب لهم جمع الشمل بالتواد بينهم والتعاطف الذي فيه قوتهم ومنعتهم.. وقبول دعوتهم من قبل اللّه تعالى.
ص: 501
عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه تعالى :
«وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (1).
قال : «هو المؤمن الذي يدعو لأخيه بظهر الغيب فيقول له الملك آمين ويقول اللّه العزيز الجبار : ولك مثل ما سألت وقد أعطيت ما سألت بحبك إياه..» (2).
قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يُدر الرزق ويدفع المكروه» (3).
فما أسعد المسلمين إن هم تحابوا في اللّه واجتمع شملهم على الخير وإعلاء كلمة دينهم الذي ارتضاه لهم دين المحبة والوئام والسلام. ففيه عزهم وإعلاء كلمتهم وهيبتهم ورضا اللّه تعالى عنهم وقبول دعواتهم.
ورد في الحديث القدسي «وإذا ظلمت بمظلمة، فارض بانتصاري لك، فإنّ انتصاري لك خيرٌ من انتصارك لنفسك» (4).
ما هو الظلم : هو بخس الحق والاعتداء عليه.
والظلم من السجايا الراسخة في النفوس وقد عانت منه البشرية على مر التاريخ وذاقت منه ألوان الماسي والأهوال.
والظلم من شيم النفوس المتجبرة فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم ومن أجل هذا كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور وداعية الفساد والدمار للمجتمع...
ص: 502
وقد جاءت الآيات الكريمة الكثيرة والروايات في ذم الظلم والتحذير منه قال تعالى :
«إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (1).
وقال تعالى :
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (2).
وقال عز وجل :
_وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (3).
وقال تبارك وتعالى :
«إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (4).
والظلم أنواع :
١ - ظلم الإنسان لنفسه.
2- ظلم الإنسان لعائلته.
3 - ظلم الإنسان للمجتمع.
وإن الذي يهمنا في هذا البحث هو الظلم بشكله العام وإن من أبشع المظالم الاجتماعية هو الظلم للضعفاء الذين لا يستطيعون صد العدوان عن أنفسهم والدفاع عنها ولا يملكون إلا الشكوى والضراعة إلى العادل الرحيم.
عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«لما حضر علي بن الحسين الى الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال : يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي قال : يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك
ص: 503
ناصراً إلا اللّه تعالى» (1).
وإن من أبشع أنواع الظلم قاطبة هو ظلم الحكام والمتسلطين باستبدادهم وخنقهم حرية الشعوب وامتهان كرامتها وسلب أموالها وتسخيرها المصالحهم وأهوائهم الشخصية لأن سحق حريات الشعوب يعني سحق الشعوب في كافة مجالات الحياة..
عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن اللّه تبارك وتعالى أوصى إلى نبي من الأنبياء في محكمة جبار من الجبابرة أن اذهب لهذا الجبار وقل له إني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين فإني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً» (2).
إن اللّه سبحانه وتعالى وهو العدل الرحيم.
خلق الإنسان وأوصاه بالعدل والإحسان وعدم ظلم الناس وهضم حقوقهم والاستبداد والتسلط عليهم ظلماً وعدواناً فان اللّه هو غياث المستغيثين ومجير المظلومين من الظالمين ومهلك ملوكاً ومستخلف آخرين
وقد ضمن للمظلوم إجابة دعواه والانتقام له من الظالم ولو بعد حين.
ص: 504
ص: 505
ص: 506
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: أربعة من قواصم الظهر.. إمام يعصي اللّه ويطاع أمره.. وزوجة يحفظها زوجها وهي تخونه وفقر لا يجد صاحبه له مداوياً. وجار سوء في دار مقام» (1).
كل عمل يؤديه الإنسان فإن له أثراً.. ولكن مرة يكون للعمل أثر واحد ومرة آثار عديدة فالعمل الذي أثره واحد لا يؤثر على الآخرين بل تقع آثاره على مرتكب العمل نفسه مثل الصلاة والصوم والحج وما شابهها من العبادات وهناك بعض التصرفات والأعمال لا تؤثر على جانب واحد بل إنها ذات جوانب متعددة فبالإضافة إلى تأثيرها على مرتكبها ولكنها تؤثر جانب آخر على الآخرين أو على المجتمع الذي يعيش فيه هذا الإنسان وهذه الأعمال ومنها السيئة أشار إليها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في وصيته للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ووصفها بأنها من قواصم الظهر
والقصم في اللغة : الكسر فيقال قصم ظهره أي كسره أو حطمه أو أهلكه..
ص: 507
قال سبحانه وتعالى :
«وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ» (1).
أي حطمناها وأهلكنا أهلها جزاء لهم على ظلمهم.
ولهذا السبب حذر الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه الشريف عن أمور هي :
1 - من عصيان الحكام للأوامر الالهية.
2 - إطاعة الناس لهم على المعصية.
٣ - وخيانة الأزواج والأسر هذا بشكل خاص.
٤ - وعدم التواسي والتناصر بين أبناء المجتمع بشكل عام. فاعتبرها من قواصم الظهر أي من الأعمال التي تهلك وتحطم المجتمع والأمة الإسلامية.
لذا فإن الإسلام يدعو دائماً إلى ترك هذه الصفات الذميمة وينهى عنها ويحث على الفضائل ويحرض على تجميع الصفات الحسنة وفي الواقع أن المجتمع الذي تسوده الأخلاق الفاضلة فهو الذي يحصل على السعادة الدنيوية والأخروية والمجتمع الذي تسوده الأخلاق الذميمة والأعمال السيئة فهو في شقاء وتحطم كيف ذلك ؟ للإجابة على ذلك لا بد من الإشارة إلى مقدمة وهي
ما معنى الخُلُق ؟
الخلق لغةً معناه : السجيّة والطبع وما يجري عليه المرء من عادة لازمة.
ص: 508
أما اصطلاحاً فله عدة معاني هي :
١ - فإن الخلق يطلق على الملكات والصفات الراسخة في النفس، حسنة كانت أم قبيحة لأن الخُلُق من الخَلْق. أي الجبلة. وهي من صفات الباطن مقابل الأعمال الخارجية وحسن الخلق غالباً يوجب حسن المعاشرة ومخالطة الناس بالجميل وحسن الجوار وغير ذلك من الفضائل..
٢ - وهناك معنى آخر وهو إنما يحصل من الاعتدال بين الإفراط والتفريط في القوة الشهوية والقوة الغضبية.. ونقصد بها التوسط والموازنة في الأمور وتظهر حالة التوازن عند بعض الناس بالجميل والتودد والصلة والصدق واللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة والمراعاة والمساواة والرفق والحلم والصبر والاحتمال لهم والإشفاق عليهم. وهذا المعنى هو حالة نفسانية يتوقف حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانية بعضها ببعض وحصول حالة التوازن لدى الإنسان بحيث لا يتطرف في رفقه مثلاً حتى يعد ضعيفاً ولا يفرط في حزمه وشدته حتى يعد قاسياً بل المطلوب الاعتدال بينهما كما ورد في الحديث (حزم في لين).. وهذه الحالة كذلك نجد ضدها عند بعض الناس فترى أحدهم مثلاً يتطرف في شجاعته حتى بعد مغامراً متهوراً وآخر يتطرف في خوفه حتى يعد جباناً وكذلك الجود والكرم فإن البعض من الناس يجود ويجود حتى يعد مسرفاً أو مبذراً وآخر يتشدد في منعه وإمساكه حتى يعد بخيلاً.. وهكذا فإن الخلق الحسن الذي يعد من الفضائل وكمالات الإنسان هو التوازن والاعتدال في المواقف والتصرفات..
٣- والمعنى الثالث هو حسن الصورة الباطنة التي تنعكس على الصورة الناطقة والظاهرة والصورة الباطنة تكون مكتسبة ولذلك حث الإسلام على اكتساب الصفات الحسنة والخيرة حتى تظهر إلى الخارج بشكل حسن وممدوح.
٤ - وهو طريق الجمع بين المعاني الثلاثة للخلق إذ إن الثواب والعقاب أكثر ما يتعلقان بالصورة الباطنة التي تعكس الصفات في الخارج والملكات
ص: 509
الراسخة من الصفات الحسنة الأخلاقية ملكات يحتويها الباطن وتظهر بالخارج من خلال مخالطة الناس واشتباك الأخلاق الظاهرية مع النفسانية...وبعبارة أدق فإن طريق الجمع أخذ من المعنى الأول الملكات النفسانية ومن الثاني اشتباك هذه الأخلاق بين الناس بمختلف الصفات الأخلاقية ومن المعنى الثالث رسوخها في الباطن....ومثال ذلك العدالة حسب الاصطلاح الأخلاقي (1).
فإنها من الملكات الراسخة في النفس بحسب الحقيقة ولها أثرها في الخارج أما معناها فهو أحلى من كل شيء وأعذب من كل عذب وهي مقابل الظلم الذي يقصم الظهر والإسلام لا يرضى بالظلم مهما صغر.. قال الراغب في المفردات..
«العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة» (2).
والعدل ضربان :
أولاً : عدل مطلق : ويقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخاً ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الإحسان إلى من أحسن إليك أو كف الأذى عمن كفّ أذاه عنك..
ثانياً : عدل شرعي : وهذا العدل يختص بالفقه والشرع ويمكن أن يكون في زمن من الأزمنة منسوخاً كالقصاص وأروش الجنايات وكلامنا لا يختص في هذا النوع بل يختص بالعدل المطلق والذي لم ينسخ في زمان من الأزمنة وعلى نحو ظهورها في الخارج مثل الإحسان أو الاجتناب عن الإفراط
ص: 510
والتفريط أي الموازنة بين الأمور بأن يعطي كلا من السهم ما ينبغي أن يعطيه فيتساوى في أن كلا منها واقع في موضعه الذي يستحقه.. ولذا انقسم العدل بحسب موضوعه إلى أقسام :
١ - العدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق.
2 - والعدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته ويتحرز عما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس.
٣ _ والعدل في الناس أو بينهم أن يوضع كلٌّ موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف، فيثاب المحسن بإحسانه. ويعاقب المسيء على إساءته، وينتصف للمظلوم من الظالم ولا وجود للاستثناء في إقامة القانون أو التجزئة..
ومن هنا يظهر أن العدل يساوق المحسن ويلازمه. ونعني بالحسن الذي من طبعه أن تميل إليه النفس وتنجذب نحوه وإقرار الشيء في موضعه الذي ينبغي له لا يختلف فيه اثنان، وعلى هذا فإن النفس لو اكتسبت الملكة الفاضلة فستظهر إلى الخارج آثار العدالة بصورتها المتوازنة والتي أشرنا إليها وهذا ما أردناه بطريق الجمع بين النظريات الثلاث ..
لا بد من الإشارة إلى أن مرادنا من العدل المطلق هو العدل الفردي والعدل الاجتماعي فالفردي بالنسبة إلى الإنسان نفسه والاجتماعي بالنسبة إلى نفسه وغيره، ولذلك قلنا مطلقاً وإن كان العدل الاجتماعي هو في أصله مطلقاً باعتباره جامعاً لمجموع الأفراد أي مجموع العدل الفردي
وبذلك اتضح معنى حسن الخلق اصطلاحاً وتطبيقاً فلا بد من الإشارة إلى القدوة الحسنة في هذا المجال إذ يخاطب اللّه تعالى نبيه الكريم محمداً حين بقوله تعالى :
«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (1) .
ص: 511
أي إنك يا محمد على خلق عظيم وقد قيل في هذه الآية أقوال عديدة نقلها الطبرسي (رحمة اللّه عليه) في تفسير مجمع البيان.. «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» :
الأول : أي على دين عظيم وهو دين الإسلام..
الثاني : إنك متخلق بأخلاق الإسلام وعلى طبع كريم وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب وإنما سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة في_ فأما ما طبع عليه من الآداب فإنه الخيم. فالخلق هو الطبع المكتسب والخيم هو الطبع الغريزي.
الثالث : الصبر على الحق وسعة البذل وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق والمداراة وتحمل المكاره في الدعاء إلى اللّه سبحانه والتجاوز والعفو وبذل الجهد في نصرة المؤمنين وترك الحسد والحرص ونحو ذلك..
الرابع: كان خلق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما تضمنه العشر الأول من سورة المؤمنين ومن مدحه اللّه سبحانه بأنه على خلق عظيم فليس وراء م_دح_ه مدح.
الخامس : عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق.
السادس: إنه امتثل تأديب اللّه سبحانه إياه بقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (1).
السابع : لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ويعضده ما روي عنه قال : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقال «أدبني ربي فأحسن تأديبي» (2).
ص: 512
ولو تتبعنا الأقوال السبعة التي نقلها الشيخ رحمة اللّه عليه في تفسيره وعرضناها على المعنى الرابع للإطلاق والذي كان بطريق الجمع بين المعاني الثلاثة لا نجد معنى الأقوال مغايراً للمعنى الذي بيناه في كلامنا المتقدم في معنى الأخلاق الحسنة وإذا لم يكن مطابقاً مع بعض المعاني فإنه يتضمنه أو يلتزمه.
وإن كانت جميع الأقوال ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك من الأخلاق التي كان يتمتع بها الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين وهذا كله ينعكس عن الباطن العظيم للرسول الأعظم ولذلك كان القدوة الحسنة لجميع الناس، وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) كذلك صورة مطابقة للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلا يوجد أي نقص في إطاعته واتباع أمره بل طاعته هي الكمال والنجاة والفلاح...أما لو اتبعنا غيرهم ممن كان يعصى اللّه فهنا تكون المشكلة وليست ذات جانب واحد وإنما من عدة جوانب إذ إنها تؤثر بشكل وآخر على النفس وعلى الآخرين فلذا عبر الرسول الأعظم لا بوصيته إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنها وعن خيانة المرأة لزوجها وعدم التواسي بين الناس والجار السيء...بأنها من قواصم الظهر..
ومن الضروري أن نأتي على هذه الأمور الأربعة بشيء من التفصيل...
الإمام هو القدوة البارزة في المجتمع ويعتبر المثل الأعلى لمجموعة من الناس والمراد بالإمام هنا غير المعصوم وذلك لأن الإمام المعصوم منزّه عن المعصية وأيضاً طاعته واجبة والدليل على عصمته وجوه منها :
أولاً : إن الإمام لو لم يكن معصوماً للزم التسلسل والتسلسل محال وباطل كما ذكر أهل المعقول وبيانه أن المقتضي لوجوب نصب الإمام هو
ص: 513
تجویز الخطأ على الرعية فلو كان هذا المقتضي ثابتاً في حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر يعدل سيرته ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي.
ثانياً : إن الإمام هو الذي يحفظ الشرع وإذا لم يكن معصوماً فإنه لا يمكن الوثوق بالأحكام الشرعية التي جاءت عن طريقه لاحتمال التلاعب فيها أما لو كان معصوماً فيمكن الوثوق بالأحكام الشرعية.
ثالثاً : إنه لو وقع الخطأ منه لو كان غير معصوم لوجب إنكاره وهذا يضاد كلام اللّه تعالى في الطاعة له لقوله تعالى : «وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (1)،(2).
وعلى هذا فإن المراد من الإمام في الحديث هو غير المعصوم وبالخصوص فهم علماء السوء ووعاظ السلاطين الذين يعصون اللّه في اتباعهم السلاطين والظلمة من الحكام فإنهم بانحرافهم عن جادة الحق سببوا انحراف الكثيرين من الناس الذين يعتبرونهم قدوة لهم. ومن أمثال هؤلاء الكثيرون ممن قد انحرفوا عن طريق الحق وطاعة اللّه تعالى ورسوله والأئمة المعصومين فقد وقعوا في معصية اللّه عز وجل عبر تاريخ المسلمين فقد كان انحرافهم هذا دماراً لكل شيء، حيث ترتب على عصيانهم تعطيل أحكام اللّه تعالى وانتشار الظلم والفساد والرذائل الخلقية وما إليها من المفاسد الاجتماعية وعلى هذا كانت هذه المشكلة ذات جانبين جانب انحراف النفس والجانب الآخر في انحراف الآخرين ممن يتبعوه كقدوة وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«احذروا على دينكم ثلاثة :.....ورجلاً آتاه اللّه عز وجل سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة اللّه، ومعصيته معصية اللّه، وكذب، لأنه لا طاعة
ص: 514
المخلوق في معصية الخالق، لا ينبغي للمخلوق أن يكون حبه المعصية اللّه، فلا طاعة في معصيته، ولا طاعة لمن عصى اللّه، إنما الطاعة للّه ولرسوله ولولاة الأمر، وإنما أمر اللّه عز وجل بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهر لا يأمر بمعصية، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون ومطهرون لا يأمرون بالمعصية» (1) .
لما أفضت الخلافة إلى هارون وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها فقالت : لا أصلح لك. إن أباك قد طاف بي.. فشغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف فسأله : أعندك في هذا شيء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت أمةٌ شيئاً ينبغي أن تصدق ؟ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة...قال ابن المبارك :
فلم أدر ممن أعجب، من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه. أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها !
قال : أهتك حرمة أبيك ! واقض شهوتك، وصيّره في رقبتي...
وأخرج أيضاً عن عبد اللّه بن يوسف قال : قال هارون لأبي يوسف :
إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة ؟ قال : نعم تهبها لبعض ولدك، ثم تتزوجها» (2).
وأمثال أبي يوسف القاضي في تاريخ المسلمين المعاصر الكثير والذين يعصون الخالق في طاعة المخلوق طلباً للجاه أو المال أو المنصب أو الدنيا و بعملهم هذا ساعدوا على تحطيم المجتمع الإسلامي وهلاكه وأيضاً جراء
ص: 515
اتباع الحكام الدكتاتوريين والسلاطين الظلمة الذين هم في طاعة أوامرهم معصية للّه تعالى.
من قواصم الظهر أو المهالك الاجتماعية خيانة الزوجة لبعلها إذ أنها أيضاً من المشاكل التي لها جانبان في التأثير على النفس وعلى الغير.
فما هي الخيانة ؟
الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة.. الأمانة.
فالإسلام يذم الخيانة ويبغضها بكل صورها الخارجية أما الأمانة فهي من الأخلاق الحسنة ومحبوبة لدى الجميع بالإضافة إلى ما للأمانة من الأجر والثواب والمنزلة عند اللّه تعالى والأمانة والخيانة ملكتان نفسيتان وتظهران إلى الخارج بصورة حفظ العهد أو عدمه والعدم من مصاديق خيانة الزوجة لزوجها وليس الخيانة تعني البغاء والزنا فقط بل إنها ممكن إطلاقها على مختلف الأعمال التي تقوم بها الزوجة دون علم زوجها أو خلافاً لما يريده منها أو اتباع الباطل ولذلك أطلقت هذه اللفظة على أزواج بعض الأنبياء بالعلم والأئمة المعصومين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة الإمام الحسن وامرأة الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإن الأنبياء والأئمة لا تبغي أزواجهم ولكن خيانتها كانت في الدین...قال سبحانه وتعالى :
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ
ص: 516
رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» (1).
قال ابن عباس : «كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به.
وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه فكان ذلك خيانتهما وما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما في الدين» (2).
وبالرغم من انهما كانتا زوجتين لنبيين من أنبياء اللّه عز وجل ولكنهما لم تحافظا على الأمانة ونقضتا عهد الزوجية فلم تنجوا من النار حتى وإن كانتا تحت عبدين صالحين من عباد اللّه تعالى ولذلك مصيرهما النار وكما جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأن خيانة الزوجة من قواصم الظهر أي الهلاك فإن قوم لوط وقوم نوح نالوا العذاب والهلاك من قبل اللّه تعالى في الدنيا قبل الآخرة ومقابل هاتين الامرأتين آسيا امرأة فرعون ومريم (عليهما السلام) وقد جعلهما اللّه تعالى آية للمؤمنين في الطاعة والأمانة والأخلاق الفاضلة وبالرغم من أن آسيا كانت تحت أكبر طاغية وظالم على مر العصور وهو فرعون ولكنها أسلمت وآمنت باللّه تعالى وبما جاء به موسى من من معاجز ولذلك كانت الزوجة المثالية هي التي تتحلى بالإيمان وحسن الخلق والمعاشرة مع زوجها بلطف وحفظه في ماله وعرضه وقد وصف الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المرأة المحافظة على زوجها والمرأة الخائنة بقوله :
«إن خير نسائكم الولود الودود، العفيفة العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها، الحصان على غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يريد منها ولم تبذل كتبذل الرجل» (3).
وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
ص: 517
«ألا أخبركم بشرار نسائكم، الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود، التي لا تورع من قبيح، المتبرجة إذا غاب بعلها، الحصان معه، إذا حضر لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، وإذا خلا بها زوجها تمنعت منه كما تمنع الصعبة من ركوبها، لا تقبل منه عذراً، ولا تغفر له ذنباً» (1).
ومن أشد الأمور التي أوصى بها الإسلام هي طاعة الزوجة لزوجها والإخلاص له والمحافظة على بيته، فالزوجة مسؤولة عن الحفاظ على الأسرة وعلى بنية الأسرة إذ أن الأسرة لها تأثير فعال في المجتمع والأمة ككل وذلك بالتمتع بالصفات الكريمة والأخلاق الحسنة وخصوصاً في عصرنا الحاضر الذي تعصف به التيارات والموجات الثقافية المنحرفة الغربية والتيارات الفاسدة لقطع علائق المودة وروابط الزوجية والترابط الأسري والذي أرسى قواعدها الدين الإسلامي الحنيف ومن هنا جاء قول الشاعر :
الأم مدرسة إذا أعددتها***أعددت شعبا طيب الأعراق
فالأم والزوجة هي أساس المجتمع في عكس صورته الفاضلة أو الرديئة ولذا وصف الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الحديث الشريف بأن خيانة المرأة سبب هلاك النفس وهلاك المجتمع أجمع.. وهي من قواصم الظهر...
فإن من قواصم الظهر المهلكة للناس (الفقر).. إذ أن الفقر له تأثير ذو جانبين لأنه يؤثر على النفس وعلى الغير أيضاً بانتشار الأمراض والجهل وفي بعض الأحيان ازدياد الجرائم وفي الحديث الشريف.
«كاد الفقر أن يكون كفراً» (2).
ومن الأسباب الرئيسية لعدم وجود المداوي للفقر وعلاج أزماته أم__ور ثلاثة :
ص: 518
الأول : التهاون في دفع الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة ونحو ذلك.
قال تعالى : «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (1).
فنرى بعض المسلمين في الوقت الحاضر قد ابتعدوا عن القرآن والسنة مما أوجب اختفاء هذه الجهة بين الناس حتى إننا نجد الكثرة لا يعلم بهذا الحق للمحرومين والفقراء والمساكين..
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«اللّه عز وجل فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة فقال اللّه عز وجل : «والذين وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» فالحق المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله ونفسه يجب له أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله» (2).
الثاني : عدم العمل والاكتساب : الإسلام يحث الإنسان على الاكتساب والاجتهاد في طلب الرزق الحلال ويريد من الفرد أن يكون شخصاً ذا نشاط في العمل وجادّاً في طلب الرزق ليدير شؤون نفسه ويداويها من الفقر ويساعد عائلته وبعد ذلك ينفق الفضل مما آتاه اللّه لذوي الحاجة والمسكنة فيكون له أثر اجتماعي واضح في المعنوية ولكننا نرى بعض فقراء المسلمين لا يريد الاكتساب وهو قادر عليه أو لا يجتهد في طلب الرزق ويدعي التمارض ويشعر بالكسل دائماً فيخسر المجتمع عدة أفراد يمكنهم العمل والانتاج في سبیل رفع المستوى المعيشي للمجتمع والقضاء على مشاكل المحتاجين والمحرومين.
وقد جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال :
«من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس وسعياً على أهله، وتعطفاً على
ص: 519
جاره لقي اللّه عز وجل يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر» (1).
الثالث : التوزيع غير العادل في الثروة إذ إنها تقدم إلى فئات خاصة من الناس تتصرف فيها بحسب أهوائها فتكون خاصة بهم ويحرم الآخرون منها في استغلال طاقاتهم أو بناء مشاريع صغيرة أو ما شابهها من الأعمال ومن الأمثلة على ذلك :
تقوم بعض البلدان بصرف أموال طائلة على مشاريع عسكرية بحتة أو حربية لا فائدة منها فتحرم بهذا العمل فئات عديدة من الناس للاستفادة من هذه الأموال في سبيل الرزق أو تحسين أوضاعها المعاشية أو الاقتصادية السليمة.
والشريعة الإسلامية خير علاج لمثل هذا الداء الذي لا يجد له الفقر مداوياً.
وكما أشرنا ذلك فإن الفرد والمجتمع والحكومات مسؤولة مسؤولية كاملة في تنفيذ القوانين الإسلامية. ولا يمكن توفير الدواء إلا في حالة :
1 - الخوف من اللّه تعالى.
2 - الإيمان باللّه تعالى.
٣ - اتباع النظام الإسلامي في المعاملات والانتفاع بالمباحات.
قال تعالى :
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا» (2)
جار سوء في دار مقام :
من قوامص الظهر أيضاً الجار السيء إذ أنه من المشاكل التي لا تطاق ولا يمكن تحملها فلذا حث الإسلام على حسن الجوار وأعطى للجار حقوقاً لتقوية الروابط بين أفراد المجتمع.
ص: 520
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن رسول اللّه كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه» (1) .
وحسن الجوار هو أن يتفقد الإنسان جيرانه بالخير والمعروف والعون والزيارة وقضاء الحوائج، وإن مجاورة الجار الصالح من أكبر النعم وهنا ذكر هذه القصة :
جاء في كتاب (المختصر في فضائل آل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )): كان هناك رجل يجاور الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهذا الرجل فقير وعنده عشر نسمات، وكان الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يساعده دائماً فعزم هذا الرجل على أن يبيع داره خجلاً وحياء من الإمام وذلك لكثرة ما كان يساعده.
وأعلن عن بيع داره وحضر شخص لشرائه فقال : بكم تريد أن تبيع الدار ؟ فقال الرجل : بأربعة آلاف دينار.. فنظر المشترلي إلى الدار وأعجبته فدفع إلى الرجل أربعة آلاف دينار، قال الرجل صاحب الدار : يا أخي هذه أربعة آلاف دينار قيمة الدار وأريد بعد قيمة الجوار، لأن الدار بجارها والإنسان يشتري الجار قبل الدار، أتعلم من سيكون جارك إذا أخذت الدار ؟.
قال المشتري. لا قال الرجل : الإمام جعفر بن محمد الصادق النض أتعلم ما خلقه ؟ قال : وما خلقه ؟ قال : إن سألته أعطاك وإن لم تسأله ابتدأك.. قال المشتري : واللّه لقد حببت إلي الدار، فكم تريد ثمن الجوار ؟ قال الرجل : ستة آلاف دينار.
قال المشتري : ظننتك تقوم مائة أو مائتين ولكن لا أشتري بهذا الثمن
ص: 521
قبلغ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذا الخبر. قال الإمام : رجل يعرف قيمة جواري إلى هذا الحد لا أحب أن يفارقني فأرسلوا إليه، وجاء صاحب الدار فقال له الإمام : أصحيح أنك أردت أن تبيع دارك بأربعة آلاف وجواري بستة آلاف ؟ فبكى الرجل وقال يا سيدي وأنا المغبون.
فأجلسه الإمام وقام فدخل الدار وأخرج له عشرة آلاف دينار وقال له : هذه عشرة آلاف دينار منها أربعة آلاف قيمة الدار وستة آلاف قيمة جواري والدار لك وإني لا أحب أن يفارقني من يعرف قدر جواري وأرجو أن تكون لك داراً بجواري في الجنة يوم القيامة» (1).
وقد ورد على لسان الأدباء ذكر الجوار وأهميته وقد نقل في وصية الشيخ الكفعمي : إلى أهله وإخوانه بأن يدفن في كربلاء ليجاور الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذلك بعدة أبيات من الشعر :
سألتكم باللّه أن تدفنوني***إذا مت في قبر بأرض عقير
فإني به جار الشهيد بكربلاء***سلیل رسول اللّه خير مجير
فإني به في حفرتي غير خائف***بلامرية من منكر ونكير
آمنت به في موقفي وقيامتي***إذ الناس خافوا من لظى وسعير
فإني رأيت العرب يحمي نزيلها***ويمنعه من أن ينال بضير
فكيف بسبط المصطفى أن يذود***من بجائره ثاو بغیر نصیر
وعار على حامي الحمى وهو في الحمى***إذا ضل فى البيدا عقال بعير (2)
وبعد هذا التفصيل في الأسباب الأربعة لقواصم الظهر وهلاك المجتمع علينا العمل على اجتنابها والابتعاد عنها وذلك في عدم إطاعة المخلوق في معصية الخالق تعالى.. وحفظ الزوجة لزوجها ورعاية بيتها وتربية أبناءها تربية صالحة ومساعدة الفقراء وتوفير الأعمال المناسبة لهم وأداء الزكاة
ص: 522
والخمس وعدم استغلال الثروة في المصالح الذاتية فقط وحجبها عن المحتاجين والمساكين وأخيراً حسن الجوار لزيادة المنفعة والخير والمعروف فكل هذه الأمور والأخلاق الحسنة من مقومات المجتمع ومن عوامل تقدمه ودفعه إلى الأمام وبالتالي اكتساب الأجر والثواب أيضاً..
ص: 523
ص: 524
ص: 525
ص: 526
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : ثلاث ثوابهن في الدنيا والآخرة، حج ينفي الفقر.. والصدقة تدفع البلية وصلة الرحم تزيد في العمر..» (1).
قبل أن نشرع في تفصيل الحديث الشريف لا بد لنا من الوقوف على مسألة الثواب الذي أعده اللّه عز وجل للناس.
الثواب : هو حسن الجزاء والأجر الذي وعد به اللّه تعالى عباده الصالحين المؤمنين في قبال أعمالهم الحسنة.
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
«مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (2).
ص: 527
والظاهر من الآية المباركة أنها بشرت الذين يعملون الصالحات بأن جزاء الحسنة بعشر أمثالها من الثواب وجزاء السيئة بمثلها من العقاب.
إن اللّه عز وجل لم يخلق هذا الخلق لهواً ولا عبثاً، تعالى عن ذلكعلواً كبيراً.. ما خلقه إلا بالحق ما خلقه إلا بالحق.. خلق الإنسان وجعله خليفته في الأرض وهداه إلى سبل الرشاد.
قال تعالى : «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (1).
وحبب له فعل الخيرات ووعده بالجزاء وحسن الثواب كما كره له فعل السيئات من خلال الوعيد بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة..
إذن فإن الأعمال الحسنة ما يثاب عليها الإنسان في الدنيا والآخرة.
والأعمال السيئة ما يعاقب عليها الإنسان في الدنيا والآخرة.
قال تعالى :
«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (2).
وقال تعالى :
«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (3).
إذن فما هو الثواب في الدنيا والآخرة.
ثواب الدنيا : هو التوفيق ونيل الخيرات ودفع البلاء والمحن والشدائد، لأن رحمة اللّه تبارك وتعالى وسعت الدنيا والآخرة.
ص: 528
قال سبحانه وتعالى :
«وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ»(1).
هذا الدعاء لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) سأله اللّه تبارك وتعالى أن يكتب لهم الحسنة في الدنيا وهي النعمة من اللّه عز وجل للإثابة على الأعمال الصالحة وأعمال الخير والبر.
جاء في مجمع البيان للشيخ الطبرسي (رَحمهُ اللّه) : «إنما سميت حسنة وإن كانت الحسنة اسم الطاعة اللّه لأمرين أحدهما أن النعمة تتقبلها النفس كما أن الطاعة يتقبلها العقل والآخر أنها ثمرة الطاعة والعمل الصالح اللّه تبارك وتعالى» (2).
(وفي الآخرة) معناها.. ربنا اكتب لنا في الآخرة حسنة كما في قوله تعالى :
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (3).
وقيل الحسنة في الدنيا الثناء الجميل وفي الآخرة الرفعة.
وقيل في الدنيا هي التوفيق للأعمال الصالحة وفي الآخرة المغفرة والجنة.
«وإنا هدنا إليك» أي رجعنا بتوبتنا إليك والهود : الرجوع كما جاء في مجمع البيان. (4)
ص: 529
فقال اللّه تبارك وتعالى مجيباً لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ):
«عذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ».. أي ممن عصاني واستحقه بعصيان_ه وإنما علقه بالمشيئة لجواز الغفران منه تبارك وتعالى.
«وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ».. قال الحسن وقتادة إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة.
وقال عطية العوفي وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون وذلك إن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة اللّه تعالى للمؤمن فيعيش فيها فإذا صار في الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة.
فإذن إن ثواب الدنيا للذين يعملون الصالحات أن يستنير بنورهم حتى الطالحين. أي كالمستضيء بنور غيره أو بسراج غيره فإذا ذهب صاحب السراج بسراجه انقطع عنه النور .
«فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» يقول اللّه تبارك وتعالى سأوجب رحمتي للذين يتقون الشرك والمعصية ويسارعون في الخيرات والحسنات، فأولئك لهم من حسن الثواب في الدنيا والآخرة جزاءً لأعمالهم وحسن أدائهم لحقوق اللّه تبارك وتعالى.
«وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ» الذين يخرجون زكاة أموالهم لأنها من أشق الفرائض وقيل معناها الذين يطيعون اللّه ورسوله.
«وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ»: الذين يؤمنون بحججنا وببيناتنا يصدقون.
وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جريح أنها لما نزلت (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال (إبليس) أنا من ذلك الشيء، فنزعها اللّه من إبليس بقوله «فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..» إلى آخر الآية فقال اليهود والنصارى نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها منهم وجعلها خالصة لهذه الأمة بقوله تعالى :
ص: 530
«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» (1).
فإذن نستخلص من ذلك أن اللّه كرمنا على بقية الأمم بنيل رحمة اللّه وثوابه في الدنيا والآخرة.
ومن أحسن من اللّه قيلا...؟ وهذا الرسول الكريم محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (2).
وهو يدعو المؤمنين بوصيته لخليفته ووصيه ووزيره أمير المؤمنين مات لنيل ثواب الدنيا والآخرة كما مر ذكره من خلال الحديث الشريف في مقدمة البحث...
لكن واأسفاه فإن بعض الناس تستعبدهم الأهواء والنوازع والشهوات النفسية وتطغى عليهم نوازع التمرد على النظم والقوانين الإلهية وتشريعها البناء الهادف إلى إسعادهم في الدنيا والآخرة ولكنهم تائهون في مجاهل العصيان الذي يعانون به أنواع العذاب والشقاء والقلق، ولو أنهم استجابوا لطاعة اللّه تبارك وتعالى وساروا على هدي كتابه وإرشاد رسوله الكريم والأئمة من ولده (عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم) لسعدوا وفازوا بنيل ثواب الدنيا والآخرة ولفازوا فوزاً عظيماً
قال تعالى :
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (3).
انظر كيف انتظم هذا الكون ملايين السنين واستتب نظامه أليس بخضوعه للّه عز وجل وسيره وفق نظامه وقوانينه ؟
ص: 531
انظر كيف يطبق الناس وصايا وتعليمات مخترعي الأجهزة أليس ليضمنوا سلامتها وصيانتها على أفضل وجه. ؟
وكذلك كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء ويعانون مشقة العلاج طلباً للشفاء والبراءة من الأمراض ؟
فلم لا نطيع أمر هذا المدير الحكيم الذي وهب كل شيء ثم هدى الذي وهب لنا الحياة لنعيشها في مرضاته وإسعاد أنفسنا والتآلف بيننا على محبة اللّه واتباع أمره وأوامر رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإرشاد الأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) لصيانة أنفسنا من كل داء وسوء.
إنه من المحال على الإنسان أن يحصل أو ينال ما يصبو إليه من سعادة وخير وسلام ورخاء إلا بطاعة اللّه الخالق الجبار وطاعة رسوله الأمين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الذي أرسله اللّه رحمةً للناس قال تعالى :
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1).
انظر أيها المؤمن كيف يشوق اللّه سبحانه وتعالى عباده إلى طاعته وتقواه ويحذرهم من مغبة التمرد والعصيان.. وهو الغني المطلق
قال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا» (2).
وقال تعالى :
«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا» (3).
ص: 532
وإن اللّه تعالى قد علق خير الدنيا والآخرة بالأعمال كقوله تعالى :
«إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (1).
وقال عز من قائل :
«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (2).
وقال تعالى :
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» (3).
وقال تعالى :
«الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (4).
فإذن لا منجاة لنا إلا باللّه واتباع هداه وهدى رسوله الكريم والذي أرشدنا من خلال أحاديثه الشريفة المباركة للوصول إلى ثواب الدنيا والآخرة، بل سعادة الدنيا والآخرة ومن أحاديثه ما ذكرناه في بداية البحث والذي سنتطرق إليه تباعاً إن شاء اللّه بعد توضيح وهو :
إن في أعمال الإنسان غاية فائدة.
فالغاية ما يقصده الإنسان في عمله وقبل الشروع به. وهي تتحقق للإنسان مع العلم والعقيدة والإرادة كما ذكر أهل المعقول.
ص: 533
أما الفائدة فهي تترتب على العمل قهراً وإن لم يقصدها الإنسان أو لم يردها فالفائدة تحصل كثمرة للعمل سواء أرادها الإنسان أم لا وقصدها أم لا مثلاً :
الإنسان عندما يتوضأ يقصد منه الطهارة للدخول في الصلاة، وهذه غايته ولكن عندما يتوضأ الإنسان فإن هناك فوائد تترتب عليه منها نظافة الوجه واليدين وسائر أعضاء الوضوء الأخرى، أو يبرد وجهه فيشعر الإنسان براحة وسكون في الصيف وهذه الفائدة تحصل نتيجة التوضي وإن لم يقصدها الإنسان.. وهكذا هذه الأمور الثلاثة التي وردت في الحديث على لسان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
فإن الحج ينفي الفقر.. إذ ان الحاج يقصد أولاً زيارة بيت اللّه الحرام كغاية من عمله هذا إلا أنه تترتب عليه فائدة أيضاً وهي أن الفقر يرتفع في الحج وكذلك من يتصدق.. فإن غايته مساعدة الفقير ومواساته ونيل ثواب اللّه من جراء عمله الحسن هذا إلا أنه تترتب عليه فائدة للمتصدق أيضاً وهي أن الصدقة تدفع عنه البلاء.. فسواء قصد الإنسان دفع البلية أم لا فهي تترتب على عمله هذا قهراً.
وكذا في صلة الرحم.. فإن من يصل رحمه ربما تكون غايته العطف والمساندة للأرحام أو حفظ ماء وجهه ووجه أسرته أو عشيرته إلا أن بعد هذه الغاية تحصل فائدة لمن يصل رحمه وهي أن عمره يزداد ويعيش أكثر من غيره.
إذن في أعمال الإنسان هناك غاية وهناك فائدة لنشرح الآن فقرات الحديث لنرى كيف وردت بهذا الشأن.
أولاً : الحج ينفي الفقر :
إن للأعمال العبادية فوائد كبيرة تعود على الإنسان في العاجل مثلما
ص: 534
تعود عليه بالفائدة بالأجل أي بعد الموت.. والحج هو أحد الأعمال والواجبات الإلهية التي اقتضت حكمة الباري عز وجل فرضها على المسلمين
عند الاستطاعة : حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
«.. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (1).
وللحج فوائد عديدة وكبيرة إضافة إلى أنه من الأعمال العبادية والتعبدية التي وعد اللّه عليها بالجزاء والثواب في الدار الآخرة.
فأما فائدته الأولى، في الدنيا فهو المكان الذي يقصده المسلمون من شتى أرجاء الأرض في كل عام ويتجهون فيه ويتداولون جميع القضايا التي تخص امور دينهم ودنياهم حيث يجتمع الناس من مختلف الأمم والأصقاع وعلى اختلاف ألوانهم ملبين نداء الرحمن جل وعلا ليشهدوا منافع لهم كما أكد ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية.
إذن فما هو السبب الذي كلف اللّه به المسلمين بالحج ؟
قال هشام بن الحكم : سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت :
ماهي العلة التي من أجلها كلف اللّه العباد بالحج والطواف في البيت ؟
فقال : إن اللّه خلق الخلق وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمال ولتعرف آثار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى ولو كان كل قوم إنما يتكلمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجبل والأرياح وعميت الأخبار ولم يقفوا على ذلك» (2).
ص: 535
فإذن للحج كما ذكرنا منافع كبيرة اجتماعية واقتصادية فما هو الجانب الاقتصادي في الحج ؟ فالرسول من يقول :
أولاً : الحج ينفي الفقر :
إن الحركة الاقتصادية والتجارية تزدهر وتتطور بالتنقل والبيع والشراء والحج له مظهر من مظاهر تحرك الاقتصاد والكبيرة في جانب التجارة والسفر الذي يستفيد منها الناس كافة كما مر ذكره في الحديث المتقدم.
إن المسلمين اليوم هم ربع سكان العالم فلو حاول كل واحد منهم الحج إلى بيت اللّه وزيارة قبر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).. لكانت البلاد الإسلامية كلها تعج في حركة تجارية مستمرة نتيجة تلاحق الوفود ومن مختلف البلدان وبالطبع فإنهم في طريقهم إلى بيت اللّه يمرون عبر بلدان عديدة فيدرون عليها الأموال السخية نتيجة حركة البيع والشراء وفي هذه الحالة تكون هناك حركة تجارية متواصلة...وتعود بالفائدة والربح على عامة المسلمين فيستفيد بذلك الناقل للذاهبين إلى الحج والبائع والمشتري والتاجر والعامل دون أن يستخدم الإسلام فيها شيئاً وفي هذه الحالة تستثمر أموال المسلمين في بلاد المسلمين ولمصلحة المسلمين فلا يكون هناك فقر وقامة...
هذه بعض منافع الدنيا من الحج الذي جعله اللّه كله منافع في الدنيا والآخرة قال تعالى في كتابه الكريم :
«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ» (1).
وقال تعالى :
«وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (2).
ص: 536
ومن منافع الحج كما في روايات كثيرة عن أهل البيت تعلم أن الحاج يعود خالياً من الذنوب كما ولدته أمه...
يروي فضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ وطلب الزيارة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان.. والاشتغال عن الأهل والولد وحظر النفس عن اللذّات شاخصاً في الحر والبرد ثابتاً على ذلك دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل» (1).
والذي خرج مما اقترف من الذنوب فأولئك قد ضمنوا سعادة الدنيا والآخرة وأن مأواهم الجنة التي وعد فيها المتقون الذين يؤدون ما فرض اللّه عليهم من الأعمال الصالحة فليسع المسلمون ما لهذه الفريضة من المنافع الكبرى في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية.
ثانياً : الصدقة تدفع البلية :
قال سبحانه وتعالى :
«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (2).
لقد أكدت الشريعة الإسلامية من خلال الكتاب والسنة النبوية الشريفة على إيتاء الصدقات ووعدت الذين يؤتونها بالثواب والجزاء في الدنيا والآخرة، فقد تعهد اللّه سبحانه وتعالى للذين يؤتون الصدقات ومن خلال
ص: 537
الآية المباركة آنفة الذكر أن المصدقين والمصدقات إنما يقرضون اللّه قرضاً حسناً ووعدهم اللّه بمضاعفة الأجر لهم في الدنيا والآخرة. فأما أجر الدنيا.. فإنها تدفع البلية كما جاء في حديث الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
وجاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«إن اللّه لا إله إلا هو ليدفع بالصدقة، الداء، والدبيلة، والحرق والغرق، والهرم، والجنون» (1).
وعن الامام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء» (2).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً :
«باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ومن تصدق بصدقة أول النهار دفع اللّه عنه شر ما ينزل من السماء في ذلك اليوم فإن تصدق أول الليل دفع اللّه شر ما ينزل من السماء في تلك الليلة» (3).
وإن المتصدقين لا يتفضلون على أحد في الصدقات ولا يتعاملون مع الناس من هذا الباب إنما يقرضون اللّه ويتعاملون معه مباشرة فأي محفز للصدقة أعمق من شعور المتصدق بأنه يقرض اللّه الغني الحميد وأن ما ينفقه سيخلفه اللّه أضعافاً مضاعفة كما يرد عنه البلاء ويمحو عنه السيئات وأن له بعد ذلك كله أجراً عظيماً في الآخرة..
ومقام المتصدقين مقام رفيع كما تصوره لنا الأحاديث الشريفة عن النبي وأهل بيته (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) فأي مقام أرفع من هذا المقام الذي تعهد به مالك الوجود الواحد الأحد الفرد الصمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه جل جلاله وتقدست أسماؤه
ص: 538
أما فائدة الصدقة في الآخرة...
بما أن الآخرة هي دار القرار والمقام فيجب أن يتزود لها الإنسان ويكثر من الأمتعة لسفره الطويل هذا.. فقد أكدت الآيات القرآنية المباركة أن الحياة هي الآخرة وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع. متاع قليل قال تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم :
«وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (1).
الحيوان : هي في الحياة.. وهي الاستمرار والخلود الدائم وإن اللّه سبحانه وتعالى قد حبب للناس فعل الخيرات والصالحات التي هي الوقاية من عذاب اللّه تعالى. الذي كتب على نفسه الرحمة في أحد هذه الخيرات التي رغبت فيها الشريعة الإسلامية المباركة لزيادة رصيد المؤمن بالتزود من الصالحات وإن من أعظم الأمور عند اللّه هي مداينات العباد وإيتاء الحقوق للمستحقين الذين فرض اللّه لهم الحقوق.
قال تعالى :
«فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (2).
فكما أن للصدقات فوائد في الدنيا فإن لها فوائد كبيرة وعظيمة في الآخرة قد عبر عنها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة للنبي م وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«أرض القيامة نار ما خلا ظل المؤمن فإن صدقته تظله» (3).
ص: 539
وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً قال :
«صدقة المؤمن تدفع عن صاحبها آفات الدنيا وفتنة القبر وعذاب الآخرة» (1).
وعلى هذا فقد أمرت الشريعة الإسلامية بإيتاء الصدقات. فقد جاء عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«اعط السائل ولو على ظهر فرس».
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً :
«لا تقطعوا على السائل مسألته فلولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم» (2).
كما أن الصدقات لا تقتصر على بذل النقود والإكساء والإطعام وغيرها فقط بل تشمل أموراً أخرى يستفيد منها عامة المسلمين جاء في كتاب الفضيلة الإسلامية.
«ليس الصدقة خاصة بنحو من المال بل تشمل بذل النقود والإسكان والإكساء والإطعام والقيام بالخدمات، كما انها ليست خاصة بتلك الأمور المذكورة بل إن بناء المدارس والملاجيء والرياض والمستشفيات والمساجد والأعقاب وحفر الآبار في الطرق ومد الجسور وإضاءة الشوارع والبيوت وما إليها وبناء المساكن للفقراء والعجزة وطبع الكتب ووقف المطابع والمكائن والسيارات ونحوها كلها من الصدقة المندوبة إذا كانت فيها مصلحة للمسلمين أو ما أشبه...» (3).
كما أن الإسلام قد وسع في معنى الصدقة بل جعل حتى الكلمة الطيبة
ص: 540
صدقة أيضاً كما جاء في الحديث الشريف عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«الكلمة الطيبة صدقة» (1).
كما أن تنحية الأذى عن طريق المسلمين اعتبره صدقة أيضاً. وإن أبواب الجنة مفتحة للمتصدقين الذين يتاجرون مع اللّه تجارة لن تبور وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات.
قال تعالى :
«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» (2).
وقال تعالى :
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (3).
وقال تعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ..»(4).
ثالثاً : صلة الرحم تزيد العمر :
أما صلة الرحم فقد تقدم بعض الكلام فيما سبق في المحاضرة الثانية، والثانية والعشرين.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
ص: 541
«يا بني واكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير ويدك التي بها تصول ولسانك الذي به تقول» (1).
إن الشريعة الإسلامية المباركة قد ألمت بكل ناحية من نواحي الحياة فلم تترك صغيرة ولا كبيرة تصب في صالح بناء المجتمع الإسلامي إلا وحثت عليها ورغبت فيها رغبت في بناء مجتمع إسلامي متماسك ومتعاون وصلب الأساس وقد أدبنا الإسلام فأحسن آدابنا وتربيتنا في اتباع الصالح من الأعمال التي ترضي اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
ومن تلك الأعمال الصالحة صلة الرحم بين الأقرباء التي هي طليعة المبادىء الخلقية التي دعت إليها الشريعة الإسلامية وأكدت على أدائها والأقرباء هم الأسرة والعشيرة التي ينتمي إليها الإنسان وهم ألصق الناس به نسباً.
وقد وصفهم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال:
«أيها الناس إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم وهم أعظم الناس حيطة من ورائه وألمهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به» (2).
وإن أفضل الأقرباء هم المتحابون المتعاطفون المتآزرون على تحقيق أهدافهم ومصالحهم. وكلما استشعر الأرحام وتبادلوا مشاعر التضامن والتعاطف كانوا أعز قدراً وأشد قوة على مواجهة الشدائد والأزمات.
فمن أجل ذلك أولت الشريعة الإسلامية هذه الأهمية البالغة لصلة الرحم ورعتها بالتوجيه والترغيب لمكانتها المهمة في المجتمع الإسلامي وأثرها في ازدهار حياته وإصلاحه.
وإن من الضروريات المقدسة في الإسلام هي صلة الأرحام فينبغي
ص: 542
مواصلتهم بالتودد إليهم والعطف عليهم وإسداء العون لهم ودفع الشرور والمكاره عنهم ومواساتهم في الأحزان والإشتراك معهم في الأفراح لأنها كما قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تزيد في عمر الإنسان.
عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم وإن كان منه على مسيرة سنة» (1).
وعن علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«من سره أن يمد اللّه في عمره وأن يبسط في رزقه فليصل رحمه فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول : يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني» (2).
قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«من ضمن لي واحدة ضمنت له أربعة : يصل رحمه : فيحبه اللّه تعالى ويوسع في رزقه.. ويزيد في عمره، ويدخله الجنة التي وعده» (3).
وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«وما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم حتى إن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيد اللّه في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة فيكون قاطعاً للرحم فينقصه اللّه تعالى ثلاثين سنة ويجعل أصله إلى ثلاث سنين» (4).
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً قال :
ص: 543
«إن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب فصلوا أرحامكم وبروا إخوانكم ولو بحسن السلام ورد الجواب» (1).
وقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسر الحساب وتنسىء في الأجل» (2).
هذا ما في الدنيا من الأثر أما ما في الآخرة.
إننا ما دام همنا هو مرضاة اللّه واتباع أمره وأننا على ثقة مطلقة لا جدال فيها بأن اللّه يرى أعمالنا وأننا إليه راجعون وأن أمامنا يوماً لا ريب فيه وأنه يوم يجعل الولدان شيباً وأن لنا وقفة أمام اللّه تبارك وتعالى.
فإن صلة الرحم هي من مهونات ذلك اليوم العصيب الذي يفر فيه الإنسان من أقرب المقربين إليه في هذه الدنيا فلا يشتغل إلا بهم نفسه و خلاصها من عذاب اللّه عز وجل كما ورد ذلك في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة آنفة الذكر وقد أكدت الآيات الكريمة على صلة الرحم والمداومة عليها وأنها أحد أكبر مهونات الحساب والعذاب.
وإنها من مزكيات الأعمال فكما أن الصدقة مزكية للأموال فإن صلة الرحم هي زكاة للأعمال وهي التخفيف من شر ذلك اليوم المهول العظيم الذي. أقسم اللّه تبارك وتعالى به حيث قال :
«لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» (3).
بل وإن الزكاة هي العصمة من الذنوب كما ورد في الأحاديث الشريفة عن أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم).
وإن صلة الرحم من الخصائص المهمة في حياة الإنسان التي لا تكون
ص: 544
إلا بالتضامن والتعاطف اللذين يشدان الأزر ويجعلانها جبهة متراصة لا تزعزعها أعاصير المشاكل والأحداث ولا يستطيع مكابدتها الأعداء والحساد.
وقد جسد أكثم بن صيفي هذا الواقع في حكمته الشهيرة.
حيث دعا أبناءه عند موته فطلب مجموعة من السهام فتقدم إلى كل واحد منهم وطلب أن يكسرها فلم يقدر على كسرها ثم فرقها وطلب منهم أن يكسروها فاستسهلوا كسرها فقال :
كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم .
ثم أنشد يقول :
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى***خطب ولا تتفرقوا أحادا
تأبى القداح إذا اجتمعت تكسراً***وإذا افترقن تكسرت أفرادا
عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
إن رجلا أتى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
فقال : يا رسول اللّه إن أهل بيتي أبوا إلا توثباً علي وقطيعة لي وشتيمة.. أفأرفضهم ؟
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
إذاً يرفضكم اللّه جميعاً : قال : كيف أصنع ؟.
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من اللّه عليهم ظهيراً» (1).
وقد أحسن أحد الشعراء حيث قال :
ص: 545
وإن الذي بيني وبين بني أبي***وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم***وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم***وإن هم هو وا عني هويت لهم رشدا
لهم جل ما لي إن تتابع لي غنى***وإن قل مالي ما أكلفهم رفدا
ص: 546
ص: 547
ص: 548
بسم اللّه الرحمنِ الرحيم
قَالَ الرَّسُول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي : أربع إلى جنبهن أربع من ملك استأثر ومن لم يستشر يندم، كما تدين تدان والفقر الموت الأكبر. فقيل له: الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال: الفقر من الدين» (1).
قبل أن نخوض في دلالة الحديث الشريف وبيانه لا بد من توضيح مقدمة.. الدين في اللغة : له معاني كثيرة ولكنها جاءت في القرآن الكريم ثلاثة منها :
1 - الطاعة والانقياد : قوله تعالى :
«مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» (2)
وقوله تعالى :
«قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي» (3)
ص: 549
٢ - بمعنى الجزاء : مثل قوله تعالى : «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (1).
وقوله تعالى : «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» (2).
٣ - بمعنى الشريعة والعبادة : مثل قوله تعالى :
«أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..» (3).
وقوله تعالى : «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...» (4).
أما معنى الدين الاصطلاحي : فهو السلوك الاجتماعي في الحياة الدنيا والعمل وفق قوانين الشريعة التي تتعرض لحال المعيشة والصلاح الاجتماعي والعلاقات والعبادات على قدر الاحتياج للوصول إلى الكمال والذي يستلزم الكمال الأخروي.
ولأجل بيان المعنى أكثر لا بد من توضيح عدة أمور منها :
هناك نظريتان تتعلقان بهذا الموضوع.
الأولى : إن الحاجة إلى الدين فطرية، فكل إنسان بفطرته يحتاج إلى الدين مثل احتياجه إلى الأكل والشرب ولو تتبعنا التاريخ بإمعان نجد الحاجة إلى الكمالات مختلفة من أمة إلى أمةٍ أخرى سوى حاجتين لم تختلف عند جميع الأمم وهي :
١ - الشهوة الغريزية : مثل التناكح والأكل والشرب
ص: 550
٢ - الحاجة الروحية : فترى الإنسان بفطرته كان يلازم المعبد أو الصومعة والمهم في ذلك أن هناك فطرة تدفعه إلى الاعتقاد بالدين والروح ولكن لعدم الالتفات أو الشبهات الحاصلة في الاعتقاد كان الناس يعبدون النار أو يعبدون الأصنام أو الطبيعة وما شابهها وكل هذا الاختلاف ليس بالفطرة كأصل كامن في النفس ولكنه بسبب الاعتقاد الخاطيء والشبهات الحاصلة لهم والتي تحيط الفطرة ببعض الأغشية بحيث تحرفها عن طريقها القويم.. أما الذين لم يكن اعتقادهم خاطئاً في الدين والتفتوا إلى فطرتهم السليمة هو مذهب الإمامية وذلك بفضل أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فإن الأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) لهم في كل شأن من شؤون الحياة توجيه ومن هذا التوجيه تم تصحيح الاعتقاد لأصحابهم ونقلوا ذلك الاعتقاد لأصحابهم ونقلوا ذلك من خلال أحاديثهم وقد أشار الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى حال الأئمة وصفاتهم في خطبة له :
«...جعلهم اللّه حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام» (1).
قال سبحانه وتعالى :
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (2).
والمراد بإقامة الوجه للدين : الإقبال عليه بالتوجه من غير غفلة على المعرفة وفي الآية أيضاً إشارة إلى أن هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه ل_ه ه_و الذي تهتف به الخلقة وتهدي إليه الفطرة الإلهية التي لا تبديل لها.. وذلك كما قلنا بأن الدين ليس إلا سنة الحياة والسبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته وإن غاية الإنسان وهدفه هو السعادة والكمال واللّه تعالى قد هدى كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته التي هي بغيته
ص: 551
بفطرته وجهز وجوده بما يناسب غايته من التجهيز وهذا طبعاً ليس من الجبر في الأفعال...
لذا قال سبحانه وتعالى :
«قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» (1).
فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه وتهتف له بما ينفعه وبما يضره ولأنه بملاحظة البنية الإنسانية المتكونة من روح وبدن أي متساوية في النوع فلا تختلف من هذه الجهة فما للإنسان من جهة أنه إنسان إلا سعادة واحدة وشقاء واحد فمن الضروري حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه إليها هادٍ ثابت وهي الفطرة.
وفي رواية عن زرارة قال : سألت أبا جعفر ا عن قول اللّه تعالى :
««حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» (2).. ما الحنيفية ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الناس عليها، فطر اللّه الخلق على معرفته»(3).
والحنيفية : هي دين الإسلام : لقول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«بعثت بالحنيفية السمحة...» (4).
الثانية : نظرية الطبيعيين : قالوا إن الدين حاجة كمالية للبشر أي إن الإنسان يمر بأدوار من النقص إلى الكمال.. وإن الدين مرحلة من مراحل التطور الإنساني وإن دوره قد انتهى وأخلى مكانه للعلم وعلى دعاة الدين أن يطووا برسالاتهم ويتركوا المجتمع يتطور كيفما تشاء الأقدار
ص: 552
وقد شجع هذا التطور كثيراً من علماء الاجتماع وعلماء النفس الغربيين وعلى رأسهم (فرويد) الذي قسم الحياة البشرية إلى ثلاث مراحل لا تزيد وهي :
1 - مرحلة الخرافة : (الهرج والمرج).
٢ - مرحلة التدين.
٣ - مرحلة العلم.
وتختلف هذه المراحل بين البشر إذ أن هناك أناساً يعيشون في المرحلة الأولى وآخرين في الثانية أو الثالثة وهكذا تصوروا بأن الدين جاء كمرحلة للقضاء على الخرافة وإنقاذ الناس من حالة الهرج والمرج.. فهو لا يعدو عن كونه رسالة تاريخية انتهى دورها وحلّ العلم محلها وهناك من الشباب المسلمين غير الواعي دينياً قد قلدوا الغرب في هذه النظرية الواضحة البطلان أمام النظرية الأولى القائلة بأن الدين حاجة فطرية وذلك لأنها حقيقة مشتركة بين جميع الأفراد...
إن للبشر إلهاً واحداً وهو الذي فطر السماوات والأرض فعليهم أن يعرفوه عن طريق الأنبياء ويعبدوه ويستعدوا ليوم الحساب. ولم تندب النبوة إلا إلى دين واحد وهو دين التوحيد كما دعا إليه النبي موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) من قبل ومن قبله إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن قبله نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ومن جاء قبلهما وبعدهما كأيوب، ويعقوب، ويوسف، وإدريس، وعيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وغيرهم وخاتم النبوة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )..
فالبشر ليسو إلا أمة واحدة لها ربِّ واحد هو اللّه عز اسمه ودين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه وحده، ولكن من أين هذا الاختلاف في الدين ؟
الناس هم الذين تقطعوا أمرهم بينهم وتشتتوا في أديانهم واختلقوا لهم آلهة دون اللّه وأدياناً غير دين اللّه فاختلف بذلك شأنهم وتباينت غايتهم وكمالاتهم في الدنيا والآخرة..
ص: 553
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
«إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (1).
والأمة تعني الجماعة التي يجمعها مقصد واحد والمراد به_ا الن_وع الإنساني وإن كان البعض قال بأن الأمة المراد بها الدين وأشار أيضاً إلى الدين الإسلامي لا غير. ولكن الناس جعلوا هذا الأمر الواحد وهو دين التوحيد المندوب من طريق النبوة إلى قطع متعددة وزعوها فيما بينهم وكل أخذ شيئاً وترك شيئاً كاليهود والوثنيين والنصارى والمجوس والصابئة وبعبارة أدق إن الاختلاف في الدين راجع إلى البغي دون الفطرة وقد تقدم الكلام بأن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها وإنما الاختلاف نشأ من العلماء بكتاب اللّه بغياً بينهم وظلماً وعتواً.
قال سبحانه وتعالى :
«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» (2).
فجميع الشرائع التي أنزلها اللّه تعالى على أنبيائه مشتركة من حيث المبدأ ومن حيث الهدف فهي في الأصل دين واحد يجب إقامته وعدم التفرق فيه.. نعم هناك بعض الاختلاف في الأحكام ولكن هذا تطوير وليس اختلافاً أيضاً إذ أن الأحكام السماوية المشترك فيها بين الأديان باقية ببقاء التكليف بمعنى أن العمل بها مستمر مثل أصل وجوب طاعة اللّه وأما الأحكام الجديدة
ص: 554
الناسخة للأحكام السابقة فهي أيضاً ليست من باب الاختلاف بل التطوير والتكامل فإن أحكام الشريعة الإسلامية هي المطلوب أخيراً الإلتزام بها من قبل جميع البشر نعم العمل بالشرائع السابقة على الإسلام كان صحيحاً ولكن بعد أن جاء الإسلام ونسخ الأحكام السابقة فإنه لا يجوز العمل بغيره لمن علم بذلك لأن تلك الأحكام قد انتهى أمرها بعد تحقق غرضها الأول الذي جعلت من أجل تكميل الإنسان وسوقه إلى الحق فأحكام الشرائع السابقة أحكام مؤقتة أما أحكام الإسلام فهي الدائمة المستمرة.
كما ورد في الحديث :
«حلال محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حرام إلى يوم القيامة»(1).
وقال تعالى :
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (2).
قال تعالى :
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (3).
وأما أسباب النسخ وبعث الأنبياء وإنزال للكتب تباعاً فهي أمور :
١ - إن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها وضرورة الكمال في البشر والقابلية الموجودة عنده على الكمال استدعت التطور للشرائع معه وتكاملها معه حسب أدواره.
ص: 555
2 - الإنسان بحسب طبيعته وفطرته سائر نحو الاختلاف كما يسير نحو الاجتماع وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف وكيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه، فرفع اللّه سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق وإصلاح الشأن وتوحيد اتجاههم في الهدف والأحكام الإسلامية.
لعل سؤالاً يدور في أذهان البعض يقول : ذكرتم أن كل شريعة لاحقة هي أكمل من سابقتها فهل يوجد نقص في الدين الإسلامي حتى نقول بأن هناك شريعة لاحقة تكمل هذا النقص أم إن الدين الإسلامي كامل وتام فهو غير منسوخ ؟.
الجواب : إن الدين الإسلامي هو خاتم الأديان السماوية يقضي بأن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو خاتم الأنبياء إذ لا نبي بعده ولا نسخ للدين الإسلامي وإن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المنزلة من عند اللّه تعالى ومن القرآن عرفنا أن هذه الشريعة ثابتة وباقية إلى اليوم الآخر لا مكان حصول الكمال الفردي والاجتماعي بها وهذا التشريع لم يعتبر مجرد الكمال المادي للإنسان بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني وبنى أساسه على الكمال الروحي والجسمي معاً وحتى لا يقال إن التبدل الإجتماعي وارتقاءه وصعوده مدارج الكمال يستوجب تبدل الشريعة للتفارق الشاسع بيننا وبين عصر نزول القرآن وعصر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكما جاء على لسان البعض من الماديين.
قال سبحانه وتعالى :
«.. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..» (1).
ص: 556
قال الطبرسي (رَحمهُ اللّه) في تفسيره مجمع البيان عن هذه الآية :
«ليس يريد يوماً بعينه بل معناه الآن يئس الكافرون من دينكم كما يقول القائل اليوم كبرت...يريد أن اللّه تعالى حوّل الخوف الذي كان يلحقهم من الكافرين اليوم إليهم ويئسوا من بطلان الإسلام وجاءكم ما كنتم توعدون به في قوله ليظهره على الدين كله والدين اسم لجميع ما تعبد اللّه به خلقه وأمرهم بالقيام به ومعنى يئسوا انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه وترجعوا منه إلى الشرك.. «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» قيل فيه أقوال : «.. ثالثها إن معناه اليوم كفيتكم الأعداء وأظهرتكم عليهم كما تقول الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنا نخافه عن الزجاج والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) علماً للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع قالا وهو آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة عن أبي سعيد الخدري إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما نزلت هذه الآية قال اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي وقال من كنت مولاه فعلي مولاه.. اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» (1).
والآية دليل قاطع على إكمال الدين وأن الإسلام في أمان من الكفار أي إنه مصون من الخطر القادم منهم وإن الدين الإسلامي لا يتسرب إليه شيء من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم وإن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي، ويومئذ يسلبهم اللّه نعمته ويغيرها إلى النقمة، ويذيقهم لباس الجوع والخوف وقد فعلوا ذلك وذاقوا ما وعدهم به سبحانه وتعالى.. ولذلك كان أحد أسباب الفقر هو ترك الدين ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق الآية فعليه أن يتأمل حال المسلمين اليوم إذ أنهم استبدوا في ظلمهم وطغيانهم وعملوا بخلاف
ص: 557
التعاليم الإسلامية والتي جاءت متكاملة من المبدأ إلى المعاد إذ أن الشريعة الإسلامية لم تترك شيئاً في هذه الحياة إلا وتدخلت فيه من ناحية الأفعال ومن ناحية الأخلاق وعلى أساس التوحيد والاعتقاد...
ولذا قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ما أبقت الحنيفية شيئاً حتى إن منها قص الشارب والأظفار والأخذ من الشارب والختان» (1).
يعني إن الشريعة الإسلامية تدخلت حتى في أبسط الأمور ومنها قص الشارب وهي أعمال مستحبة في الإسلام واللّه سبحانه وتعالى جعل الشريعة والدين وفق أسس تساعد في هداية الإنسان نحو السعادة البدنية والروحية في الدنيا وكذلك الآخرة.. وقد أشار إلى ذلك الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والذي بدأنا بحثنا هذا به ومن هذه الأسس الدينية الموصلة إلى السعادة أمور وهي :
١ - التواضع وعدم الاستئثار والتكبر عند القدرة والحصول على السلطة وهو أصل مهم وعظيم كما جاء في قوله تعالى : «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» (2).
2 - الشورى والاستشارة فإنها تقود الإنسان إلى الصواب والحق الدنيا والفوز برضا الخالق تعالى، قال الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم» (3).
٣ - قانون العمل والجزاء (كما تدين تدان) مما يجبر الإنسان على الاعتدال في خطواته لأن في كل عمل يقوم به يلقى جزاءه فإن كان خيراً فخير وإن كان شرا فشر...
ص: 558
٤ - الرضا والقناعة بما أنعم اللّه تعالى على الإنسان وإن كان قليلاً إذ إن الغنى في الروح والضمير والعقل وليس فقط في المال لذا فإن الموت الأكبر في فقدان الروح والضمير وليس فقدان المال...فإن الفقر ليس بذاته مذموماً ولكن عوارضه مذمومة فالإنسان الفقير لو التزم بالمبادىء الدينية فإنه لا يرتكب القبيح.
لقد جاء في الشريعة الإسلامية الشيء الكثير من الدعوة إلى إحالة الرأي واستقبال وجوه الآراء، وضم آراء ذوي الرأي بعضها إلى بعض وضرب بعضها ببعض. وإعمال الأناة والتروي في اصطفاء رأي أو أخذ في عمل والمشاركة في عقول الناس بمشاورتهم حتى كان نصيب المستبد هو الهلاك في الدنيا والآخرة قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«من استبد برأيه هلك» (1).
وإن مراد الرسول الأعظم بالملك بالنسبة لجميع مجالات الحياة إذ إن الملك يمكن أن يطلق على رئيس الدولة أو صاحب المال والثروة وعلى طالب العلم وهكذا في جميع شؤون الحياة الباقية، فرئيس الدولة لو استبد بقراراته وبتعاليمه فإنه سيحول حياة شعبه إلى جحيم والسبب في تحويله إلى جحيم لأنه لو استبد سيعمل على :
١ - سلب الحريات من الناس.
2 - ابتزاز الأموال بشتى الطرق كالضرائب والكمارك ونحوها وهكذا لو استبد العالم بعلمه ولم ينشره فعندها سيكثر الجهل والتراجع في ميادين الحياة العلمية والعملية.
٣ - نشر الظلم وزيادة السجون والقتل الجماعي بدون أي ذنب وسلب
ص: 559
الناس أبسط حقوقهم مما يساعد على نشر الظلام والتأخر والتشرد في بقاع العالم ولا شك بأن هذه الأمور الثلاثة تعود بالضرر الكبير على المجتمع وتؤدي إلى تمزيق وحدته وضعفه وانتشار الجهل والخرافات.
أما لو تواضع الإنسان ولم يتكبر أو يستبد فإن النتيجة من الطبيعي ستكون عكس ما بيناه في الأمور الثلاثة وهذا هو الأساس الأول من أسس الدين الهادفة إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وهكذا إذا عملت المشورة من أبسط الأشياء إلى أكبرها فعندها ستظهر الكفاءات وتتقدم عجلة الحياة إلى الأمام بسرعة...
فما هي المشورة ؟
المشورة : هي عبارة عن استطلاع الآراء ليظهر الرأي الأصوب وهو في باب الحكم واجب حيث قال سبحانه وتعالى :
«وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (1).
ولهذا لا يكفي الحاكم الإسلامي أن يطبق مبادىء الإسلام وقوانينه بدون قانون الشورى وذلك لأنه لم يطبق جميع القوانين الإسلامية وبالتالي سينفض من حوله الناس وربما يتذمرون منه حتى يسقطوه في الآخر.
تمتاز الحكومة الإسلامية بأنها تعتمد على مبدأ الشورى في إدارة البلاد ومعالجة مشكلاتها بعيداً عن الديكتاتورية والاستبداد والتفرد بالرأي وقد كان الإسلام أول من وضع مبدأ الشورى في مجال الحكم وفي عصر كان العالم كله يخضع للحكومات الديكتاتورية والملكيات المستبدة وقد سميت سورة
ص: 560
كاملة في القرآن باسم (سورة الشورى) تعظيماً لهذا المبدأ وإيذاناً بأهميته الاجتماعية.
وقد وصف القرآن الكريم علاجاً جيداً للمجتمع الإسلامي لحل مشاكله وذلك عن طريق التشاور وتبادل الرأي...لقوله تعالى :
«وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (1).
فإن على المجتمع الإسلامي وطبقاً لهذه الآية أن يعالج مشاكله بالشورى وتبادل الرأي وذلك فيما يتعلق بكيفية العيش وطريقة الحياة.. ويخطط بالتشاور لما يحتاج إليه من برامج لرفع مستوى الثقافة والتعليم، وتوسيع نطاق العمران والإنتاج الاقتصادي وكيفية التوزيع وتأسيس الجيش والحرس وتنظيم شؤون الدفاع وما سوى ذلك من برامج لمختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك لما في الشورى من نتائج طيبة لا تحصل إلا بها. وتبلغ أهمية الشورى في الأمور بحيث يأمر اللّه نبيه (المعصوم من السهو والخطأ) أن يتشاور مع أصحابه في بعض الأمور ويتخذ الطريق الصحيح والرأي الأصوب بعد تبادل الرأي والاستماع إلى جميع وجهات النظر حيث قال سبحانه وتعالى :
«وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (2).
قال الطبرسي (رَحمهُ اللّه) في تفسير مجمع البيان :
«...وفي هذه الآية دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ومن عجيب أمره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع
ص: 561
ثم كان إرشادهم إلى التواضع وذلك أنه كان أوسط الناس نسباً وأوفرهم حسباً وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم وهذه كلها من دواعي الترفع» (1).
فعمل الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالمشورة لأنها من أسس الدين الهادفة إلى السعادة وإلى الحق والصواب ولذا فإن تواضع الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومشاورته لأصحابه حجة على الخلق وسنة متبعة من قبل المسلمين لكونها كانت بأمر من اللّه تعالى.
ولقد ذكر المؤرخون نماذج عديدة من مشاورة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع أصحابه في مختلف الشؤون وكما ينقل في معركة بدر [ «حيث جمع أصحابه وقال : (أشيروا علي أيها الناس) فيظهر أصحابه آرائهم بحرية كبيرة ويختار النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما اقترحه الأنصار» ](2).
والتاريخ الإسلامي ينقل عن رسول اللّه من عدة مشاورات ننقل منها ما يلي وباختصار :
الأولى : في غزوة بدر وقبل أن يواجه العدو استشار الناس وأخبرهم بأمر قريش فقام أبو بكر وقال : «يا رسول اللّه إنها واللّه قريش وعزها واللّه ما ذلت منذ عزت..».
ثم قال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أشيروا عليّ أيها الناس» وإنما يريد رسول اللّه الأنصار وكان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار وذلك أنهم شرطوا له أن يمنعوا منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول اللّه : أشيروا علي.. فق__ام سعد بن معاذ وقال : أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول اللّه أردتنا ؟
الثانية : «في غزوة أحد وذلك عندما سمع رسول اللّه نزول قريش عند مشارف المدينة فشاور الرسول أصحابه في الخروج أو البقاء. فقال فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا، أقاموا بشر
ص: 562
مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رسول اللّه يكره الخروج فقال رجال من المسلمين : يا رسول اللّه أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون انا جبنا عنهم وضعفنا وقال عبد اللّه بن أبي : يا رسول اللّه...أقم بالمدينة لا تخرج إليهم.
فلم يزل الناس برسول اللّه الذين من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول اللّه بيته فلبس لأمته ثم خرج عليه وقد ندم الناس وقالوا : استكرهنا رسول اللّه. قالوا يا رسول اللّه : استكرهناك ولم يكن ذلك لنا. فقال رسول اللّه : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» (1).
الثالثة : «في غزوة الأحزاب (الخندق) لما وقف رسول اللّه على أن قريشاً قد وصلوا مع حلفائهم إلى مشارق المدينة أمر بحفر الخندق وأشار ب_ه سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده مع رسول اللّه وهو يومئذ حر» (2).
وهذه جملة من المشاورات التي اتبعها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في إدارة بلاد المسلمين عسكرياً أو اجتماعياً وإذا كان الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يتبع مبدأ الشورى مع عصمته وتأييده من عصمته وتأييده من قبل اللّه سبحانه وهو القدوة والأسوة لجميع المسلمين كما جاء في قوله سبحانه وتعالى :
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» (3).
فكيف بنا نحن ؟ !
وجاء في المشورة أيضاً على لسان الحكماء والعلماء مما يلي :
ص: 563
قال الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) الناس ثلاثة فرجل رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا رجل. فأما الرجل فذو الرأي والمشورة وأما الرجل الذي هو نصف رجل، فالذي له رأي ولا يشاور وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا يشاور» (1).
وقال أفلاطون :
«إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه بالاستشارة قد خرج عن عداوتك إلى موالاتك».
وقال ابن المعتز : المشورة راحة لك وتعب على غيرك.. ولما أراد نوح بن مريم قاضي مروان أن يزوج ابنته استشار جاراً له مجوسياً فقال : سبحان اللّه ! الناس يستفتونك وإنك تستفتيني. قال : لا بد أن تشير علي قال : إن رئيس الفرس كسرى كان يختار المال، ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال ورئيس العرب كان يختار الحسب ورئيسكم محمد كان يختار الدين فانظر لنفسك بمن تقتدي» (2).
ولذلك توجب على جميع المسلمين أن يعملوا بهذا المبدأ عملاً بالآيات القرآنية والسنة المطهرة والعقل وكذلك لإنقاذ بلاد الإسلام من الهلكة والندم كما جاء في قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ومن لم يستشر يندم».. ولا نريد ببلاد الإسلام ضياعاً أكثر فإن الاتجاه إلى العمل بالشورى هو المنقذ وهو الأمل والنجاة من الذم.. وقد جاء في الشورى أحاديث كثيرة نذكر منها
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من اللّه. فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإنه في ذلك العطب» (3) .
ص: 564
وقال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«الاستشارة عين الهداية» (1).
قانون العمل والجزاء من أسس الدين الهادفة إلى السعادة فإن كان العمل خيراً فجزاءه الخير وإن كان شراً فجزاءه الشر ولذلك أعقب الرسول الأعظم هذا الأساس بعد الاستبداد وعدم الاستشارة أي إنك إذا عملت بتواضع ولم تستبد فإنه عمل صالح وجزاءه الخير وإن لم تعمل به فجزاءه العذاب بأن يسلط عليك مستبداً آخر في الدنيا لأنه (كما تدين تدان).
قال سبحانه وتعالى :
«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (2).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«من كشف حجاب غيره تكشف عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل فيه ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها» (3).
وهكذا إذا لم تعمل بقانون الاستشارة والمشورة فإن اللّه تعالى سيسلط عليك من يتلاعب بمصيرك ولا يأخذ برأيك كما لم تأخذ برأيه من قبل ويحملك تبعات رأيه فتندم على ذلك وقد جاء في كتاب الإنجيل :
«ألا تدينوا وأنتم خطاء فيدان منكم بالعذاب ولا تحكموا بالجور فيحكم عليكم بالعذاب بالمكيال الذي تكيلون يكال لكم. وبالحكم الذي تحكمون يحكم عليكم» (4).
ص: 565
ولذا توجب على الإنسان العمل بالتواضع والمشورة والاعتدال في الآراء حتى لا يسلط اللّه تعالى عليه غيره ولا يتسلط هو نفسه الإنسان المستبد أو الذي لم يأخذ بالمشورة على إنسان آخر فنكون بذلك قد أقمنا الأساس الثالث من أسس الدين الهادفة إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
من الأسس الهادفة إلى السعادة في الدين الإسلامي الرضا والقناعة بما قسمه اللّه تعالى على عباده وهذا يعني أن الإسلام لا يذم الفقر إن كان من الدينار أو الدرهم إذن فلماذا قال الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : الفقر هو الموت الأكبر ؟ والجواب :
إن الموت الأكبر هو موت الروح والعقل والضمير..
أما الموت الأصغر، فهو موت البدن.
وهناك بعض الفقراء لا يملكون المال ولكنهم يمتلكون الضمير والعقل والروح فيكون صابراً وراضياً وقانعاً بما قسم اللّه تعالى له وهذا هو الفقر الممدوح. أما الفقر.. الموت الأكبر فهو موت الضمير والعقل والروح في حالة كون الفقير ناقماً وجازعاً ويكسل عن طلب الرزق ويتجه في بعض الأحيان إلى الأعمال الخسيسة مثل القتل والعصيان والفساد والأعمال المحرمة من بيع الأجساد والأعراض. فهو من مصداق الحديث الشريف :
«الفقر سواد الوجه في الدارين» (1).
وعن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال :
«يا معشر الفقراء أعطوا الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم فإن لم تفعلوا فلا ثواب لكم» (2).
ص: 566
ولذا فإن العوارض الذاتية للفقر إذا كانت سبباً للأعمال السيئة والطالحة فإنه الموت الأكبر وهو الفقر من الدين أما إذا كان الفقر سبباً للأعمال الصالحة فهو من أسس الدين الهادفة إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
ومن الواضح أن هذه الأمور الأربعة من أسس الدين الإسلامي في الحياة الاجتماعية فلو تحققت فإن الإنسان سيعيش سعيداً في الدنيا والآخرة وهي التواضع والشورى والعمل الصالح والغنى الروحي والعقلي.. أما لو تحقق ما يقابلها من أمور مضادة لها كالاستبداد وعدم المشورة والعمل السىء والفقر الروحي والعقلي فإن المجتمع سيفقد ركائز أساسية لإقامته وخسارة الآخرة أيضاً ومن الطبيعي أن تردّي حال بعض المسلمين اليوم هو لفقدانهم المبادىء الأربعة المذكورة والأساسية في تطبيق الدين الإسلامي وبالعودة الخالصة إلى جادة الحق والصواب في تطبيق المبادىء الأربعة من الشورى ولواحقها.. فإن المجتمع فإن المجتمع الإسلامي سيتنعم بالرفاهية والسعادة والفوز بالدارين.
ص: 567
ص: 568
ص: 569
ص: 570
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إليه إساءة، ورجلٌ لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك ورجل وصل قرابته فقطعوه» (1).
نقدم كلاماً كمقدمة للحديث المنقول نوضح فيه المعاني اللغوية والعلمية ومن ثم يسهل علينا فهم المراد من الحديث الشريف.
ذكر الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديثه كلمة العقوبة فما معنى هذه الكلمة لغوياً وعلمياً.
أما المعنى اللغوي فله آراء :
الرأي الأول : قال الراغب في المفردات، العقوبة والعقاب والمعاقبة تختص بالعذاب (2).
ص: 571
الرأي الثاني : لو عدنا إلى أصل المعنى فهي بمعنى (العقب) وهو مؤخر الرجل وعقيب الشيء وعاقبة الأمر ما يليه من ورائه أو آخره. أما (التعقيب) الإتيان بشيء عقيب شيء، (ومعاقبتك غيرك) أن تأتي بما يسوؤه عقيب إتيانه بما يسوؤك فهنا ينطبق هذا المعنى أيضاً على المجازاة والمكافأة بالعذاب فيلتقي هذا الرأي مع الأول بأنه يطلق على المجازاة بالعذاب من جرّاء ارتكاب المعصية والذنب.
أما المعنى العلمي فإن العقوبة على أقسام :
أولاً : عقوبة دنيوية.
ثانياً : عقوبة أخروية.
ثالثاً : عقوبة متوسطة.
أما العقوبات الدنيوية فهي مختصة بالذنوب الاجتماعية وإن كانت تشمل بعض الذنوب التي يرتبط عقابها بالآخرة مثل ترك الأوامر الإلهية ومنها ترك صلاة الصبح مثلاً فإن لها آثاراً وضعية في العقوبة الدنيوية والعقوبة الدنيوية تشمل :
أولاً : المصائب والبلايا النازلة على الإنسان ولكن تحتاج هذه البلايا إلى تمييز فإن بعض البلايا هي لامتحان البشر واختباره لتمييز الخبيث من الطيب. وبعض البلايا ليست من باب الاختبار فقط بل تعتبر نوعا من العقوبة النازلة من قبل الخالق سبحانه وتعالى في الدنيا على العاصين والمدنيين والفرق بينهما واضح، إذا كان المصاب صالحاً فإنه امتحان وإن كان طالحاً كان أخذاً. بالنقمة وعقاباً للأعمال. والصالح والطالح تابع للأعمال من طاعة أو معصية.
قال سبحانه وتعالى :
«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا
ص: 572
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» (1).
والكلام في الامتحان والابتلاء يطيل بنا المقام ويجرنا إلى موضوع آخر وقد أخذنا منه موضع الحاجة في موضوعنا الليلة لكن العذاب المنزل على من ارتكب العمل الطالح يعتبر عقوبة دنيوية باعتبار أن معنى العقوبة هو المجازاة بالعذاب
قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«للّه عقوبتان إحداهما من الرّوح والأخرى تسليط الناس بعض على بعض فما كان من قبل الروح فهو السقم والفقر.
وما كان من تسليط فهو النقمة، وذلك قوله عز وجل.
««وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» من الذنوب فما كان من ذنب الروح فعقوبته بذلك السقم والفقر، وما كان من تسليط فهو النقمة وكل ذلك عقوبة للمؤمن في الدنيا وعذاب له فيها، وأما الكافر فنقمة عليه في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة» (2).
فالامة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها اللّه ويال أمرها وآل ذلك إلى هلاكها وإبادتها. قال سبحانه وتعالى :
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ» (3)
فلذلك كانت الحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية فإذا كانت الطاعة للّه سبحانه تستتبع نزول الخيرات وانفتاح أبواب البركات أما الانحراف
ص: 573
عن الطاعة واتباع المعصية والتمادي في الغي والضلالة وفساد النيات وشفاعة الأعمال يوجب ظهور العقوبة الدنيوية منها :
1 - هلاك الأمم : وهذه العقوبة بسبب تفشي الظلم وعدم الأمن ونشوب الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى أعمال الإنسان الدنيوية.
2 - ظهور المصائب والحوادث الكونية العظيمة مثل السيول والزلازل والصاعقة والطوفان وغيرها وهذه العقوبة أسبابها عديدة منها، الزنا واللواط والسرقة ونقص المكيال وضياع الحقوق وقتل الأنبياء والأئمة تضم ومن هذه المصائب نذكر [ طوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد وغرق فرعون] فكلّ واحدة اختصت بقوم وكانت عقوبة على نوع معين من الأعمال الطالحة
والحد : هو قانون شرعي فرضه الخالق تعالى على العباد في الدنيا وفيه بعض الإزالة لعقوبة الآخرة فيعتبر الحد عقوبة ولكنه رحمة إلهية إلى العباد.
والدين الإسلامي فرض لكل ذنب صغير أو كبير من الخدش البسيط إلى القتل عقوبة مقابلة قال سبحانه وتعالى :
«وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (1).
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في هذه الآية للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«خير آية في كتاب اللّه هذه الآية يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب وما عفا اللّه عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده» (2).
وعلى هذا فإنّ الحدود من أفضل القوانين الإلهية الموضوعة للناس وفي
ص: 574
تطبيقها صلاح المجتمع الإسلامي الكبير أما حالة في عدم تطبيقها فالمجتمع سيعود إلى القوانين الوضعية الموضوعة من قبل البشر والنابعة من المصالح الذاتية أو الاستعمارية وإذا طبقنا قوانين البشر في المجتمع بدلاً من قوانين الإسلام ستكون النتيجة انحراف المجتمع وانتشار الفوضى والسبب في ذلك امور هي :
1 - لأن القانون الوضعي يطبق على المضطر وغير المضطر وعلى العالم وغير العالم فالإنسان إذا كان مضطراً وغير عالم بأمر من الأمور مع عدم تقصيره وينال العقوبة على ذلك فإنه من الظلم. والظلم مناخ خصب للانحراف لأن المظلوم لا بد وأن ينتقم وينشأ في نفسه العداء ضد الظالم فتتولد الفوضى والإباحية وغيرها من الانفجارات النفسية والعصبية بينما الإسلام رفع الاضطرار وما يترتب عليه من عقاب. نحوه ما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كلما اضطر إليه العبد فقد أحله اللّه له، وأباحه إياه» (1).
- السبب الآخر في انتشار الفوضى والانحراف من جراء تبديل العقوبة المفروضة إلى تعويض مالي كغرامة على مرتكب الجريمة من قتل أو غيرها مثلاً. وبذلك يستطيع الغني من دفع البدل المالي عن جريمته ولا يعاقب على جريمته أما الفقير فإنه يعاقب بالسجن أو القصاص على جريمته لعدم امتلاكه المال ودفع البدل فيتهيأ له جو نفسي للانتقام مما تنعكس آثاره السيئة على المجتمع.
٣- أصحاب النفوذ والمناصب العليا لا ينالهم القانون الوضعي وهذا واضح للعيان من خلال تمسك بعض الناس بالصنمية والانقياد الأعمى لهم أما الإنسان العادي فقد وضع القانون لأجله وعليه معاً.
أما القانون الإلهي والإسلامي في العقوبات فإنه ينفي هذه القوانين
ص: 575
الوضعية الثلاث المنقولة من بين عشرات القوانين الأخرى الباطلة فالإسلام قد رفع تسعة أشياء عن هذه الأمة : ما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه، والنسيان، والسهو، والطيرة، والحسد ما لم يظهر بيد أو لسان، والوسوسة في التفكر في الخلق، ويؤيد هذه الاستثناءات من القانون الشرعي الحديث الشريف في قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«وضع عن أمتي تسع خصال : الخطأ والنسيان، وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه، والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد» (1).
ولا يوجد في قانون الإسلام فرق بين الغني والفقير والسلطان وأبناء الشعب في تطبيق القانون إذ كل يجزى بعمله مهما كان موقعه إذ القضاء الإسلامي عادل لا يفرق بين أحد وآخر في الدنيا وكذلك في الآخرة والوقوف بين يدي الجبار العظيم الكل يحشرون سواء ويجزون بأعمالهم بلا فرق بين شخص وآخر ومن الواضح أن هذا القانون لا يدع مجالاً لانحراف المجتمع والإنسان لأنه حدي وصارم أمام الانحراف والإسلام لا يطبق قوانينه جزافاً بدون أن يلاحظ الشروط الموضوعية للجريمة أو للعقاب ولذا فإن لدى إجراء الحدود والتعزيرات تلاحظ مجموعة أمور حتى ينفذها الحاكم المسلم وأهم هذه الأمور أربعة من بين عشرات الشروط والملاحظات هي :
١ – الجريمة.
٢ - المجرم.
٣ - الاجتماع.
٤ - الصلاح.
فيلاحظ الشرع الإسلامي في الجريمة هل حجم الجريمة زنا محصن أو زنا غير محصن مثلا ؟ وهل المجرم بالغ أو غير بالغ ؟ فالبالغ يمكن عقابه
ص: 576
بالحد وغير البالغ يمكن تأديبه ؟ وأيضاً يلاحظ المجتمع لذلك هل هو صالح حتى يكون المنحرف خارقاً للصلاح العام ؟ لأن الإفساد بعد الصلاح منهياً عنه. لقوله تعالى :
«وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (1).
وإذا كان المجتمع غير صالح فإن المنحرف يعتبر خارقاً للقانون وليس للتشريع الإسلامي مثلاً وهذا يمكن تطبيقه في المجتمعات المتباينة في التشريع وقد قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«ساحر المسلمين يقتل. ولا يقتل ساحر الكفار. قيل يا رسول اللّه ؛ ولم ذلك ؟ قال : لأن الشرك والسحر مقرونان والذي فيه من الشرك أعظم من السحر» (2).
وبعد هذا كله يأتي دور الأهم والمهم في أن الصلاح في العقوبة أو تركها أو جزء منها فالعقوبة حسب الجريمة وبما يتلائم مع الإرادة الإلهية وصلاح المجتمع الإسلامي.
والمراد من هذه العقوبة هي هذه العقوبة هي مجازاة المشركين أو الكفار على قدر إيذائهم للمؤمنين قال سبحانه وتعالى :
«وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (3).
وعلى هذا فإن جهاد المسلمين ضد الكفار هو عقوبة دنيوية للكافرين
ص: 577
وإن ترك هذه العقوبة إلى العقوبة الأخروية أفضل كما جاء في سياق الآية إذ إن الصبر على إيذاء الكفار والتحمل في سبيل اللّه تعالى هو خير لقوله [«وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» أي صبرتم على مرّ ما عوقبتم به ولم تعاقبوا المشركين فإنه خير لكم بما أنكم صابرون لما فيه من إيثار رضى اللّه وثوابه فيما أصابكم من المحنة والمصيبة على رضى أنفسكم بالتشفي بالانتقام فيكون العمل خالصاً لوجهه الكريم ولما فيه من الصفح والعفو من أعمال الفتوة ولها آثارها الجميلة ] (1).
وفي الحديث المشهور : إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) غضب على وحشي قاتل حمزة غضباً شديداً وكان حمزة ركناً قوياً من أركان الإسلام كما كان علي وجعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ولكن بعد مدة جاء أحد الصحابة إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال : يا رسول اللّه هل تعفو عن وحشي إنه يريد الإسلام ؟ فقال رسول اللّه قد عفوت عنه. وبالفعل عفا رسول اللّه عن وحشي فأسلم وحسن إسلامه وكان بعد ذلك يقول : إني يجب أن أنصر الإسلام كما كنت أنصر الكفر على الإسلام.
والحادثة الأخرى بعد فتح مكة ودخولها من قبل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عفا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أهل مكة وقال كلمته المشهورة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (2) بالرغم من الإيذاء والعذاب الذي ناله الرسول وأهل بيته وأصحابه منهم.
لا شك في أن العقوبة الأخروية هي بعد الحساب فعند اللّه تعالى يكون الجزاء بالميزان لقوله تعالى :
«وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ»(3).
ص: 578
الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في هذا المجال كثيرة ولا يسع لنا ذكرها جميعها مع أنه قد اختلف في الميزان وصورته وما إلى ذلك من الأمور المتعلقة بالميزان والحساب إلى أقوال عديدة للخاصة والعامة والعرفاء والمتكلمين ولكننا نكتفي بنقل قول الشيخ المفيد (رَحمهُ اللّه) عن الميزان التصوره قبل الولوج في موضوع العقوبة الأخروية.
«قال الشيخ المفيد (رحمة اللّه عليه) : الموازين هي التعديل بين الأعمال والجزاء عليها ووضع كل جزاء في موضعه وإيصال كل ذي حق إلى حقه وليس الأمر في معنى ذلك على ما ذهب إليه أهل الحشو من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا لكل ميزان كفتان لوضع الأعمال فيها إذ الأعمال أعراض والإعراض لا يصح وزنها وإنما توصف بالثقل والخفة على وجه المجاز، والمراد بذلك أن ما ثقل منها هو ماكثر واستحق عليه عظيم الثواب وما خف منها ما قل قدره ولم يستحق عليه جزيل الثواب والخبر الوارد أن أمير المؤمنين والأئمة الأطهار من ذريته هم الموازين فالمراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها الحاكمون فيها بالواجب والعدل ويقال فلان عندي في ميزان فلان ویراد به نظیره ويقال كلام فلان عندي أوزن من كلام فلان والمراد به أن كلامه أعظم وأفضل قدراً والذي ذكره اللّه في الحساب والخوف منه إنما هو المواقفة على الأعمال لأن من وقف على أعماله لم يتخلص من تبعاتها ومن عفا اللّه عنه في ذلك فاز بالنجاة ومن ثقلت موازينه بكثرة استحقاقه الثواب فأولئك المفلحون ومن خفت موازينه بقلة الطاعات (1) فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون» (2).
فالأولى الإيمان بالميزان ورد العلم بحقيقتها إلى اللّه وأنبيائه والأئمة الأطهار (عليهم أفضل الصلاة والسلام) أما العقاب الأخروي فهو عقاب اللّه
ص: 579
تعالى للناس على أفعالهم القبيحة كالزنا واللواط وترك الطاعة وغيرها من الأعمال القبيحة ولا يعاقبهم على صنعه فيهم من أصل الخلقة مثل الطول والقصر والشباب والشيب ونحوهما من الأمور التي لا دخل للمخلوق فيها
ذكر علماء المعقول أن وجود قانون العقاب واجب في الحكمة من وجهين :
1 - عقلي : وتقديره أن قانون العقاب لطف واللطف واجب ومن خلال ذلك نستنتج أن قانون العقاب واجب. نعم في الإسلام. اللّه سبحانه وتعالى يجب عليه عقلا الوفاء بالوعد لأنه مقتضى الحكمة والكمال الإلهي أما لا يجب عليه عقلا الوفاء بالوعيد.
والفرق بين الوعد والوعيد هو :
إن الوعد على الثواب أما الوعيد فهو على العقاب والثواب في مقابل العمل واجب عقلاً الوفاء به لأنه مقتضى العدل أما الوعيد ليس بواجب الوفاء لأن اللّه سبحانه رحيم بالعباد فلعله يعد بالعقاب ولكنه رحمة بالعبد لا يعاقبه قال سبحانه وتعالى :
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ» (1).
وفي الحديث عن أبي عبد اللّه عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال :
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من وعده اللّه على عمل ثواباً فهو منجزه ل_ه ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار» (2).
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«أفيضوا في ذكر اللّه فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقين فإن
ص: 580
وعده أصدق الوعود (1).
2 - سمعي : في الأخبار المتواترة والمنقولة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعن الأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) في استحقاق العقاب :
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن اللّه وضع الثواب على طاعته، والعقاب على معصيته، ذيادة (2) لعباده عن نقمته وحياشة (3) لهم إلى جنته (4)
ولا بد أيضاً من الإشارة إلى أن هناك عقوبة متوسطة بين الدنيوية والأخروية وهي سؤال القبر وضغطته وعقابه وقد انعق_د عل_ى ع_ذاب القب_ر الاجماع فضلا عن الروايات ويسمى بعذاب البرزخ وهذا من ضروريات الدين ومنكره كافر على بعض الأقوال. قال الخواجه نصير الدين الطوسي (قدّس سِرُّه) في كتابه التجريد : وعذاب القبر واقع للإمكان وتواتر السمع بوقوعه».
وقد قال العلامة الحلي (رحمة اللّه عليه) في شرحه للكتاب :
«نقل عن ضرار أنه أنكر عذاب القبر والاجماع على خلافه وقد استدل المصنف (رحمة اللّه عليه)) بإمكانه عقلاً فإنه لا استبعاد في أن يعجل اللّه تعالى العقاب في دار التكليف على وجه لا يمتنع معه التكليف كما في قطع يد السارق في قوله سبحانه وتعالى :
«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(5).
ص: 581
.. وحكى تعالى في كتابه إهلاك الفرق الذين كفروا به وإذا كان واللّه تعالى قادر على كل ممكن وقد أخبر اللّه تعالى بوقوعه في قوله :
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (1) فذكر الرجوع بعد إحيائين وإنما يكون بإحياء ثالث. وقال تعالى : «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» (2) فذكر موتتين إحداهما في الدنيا والأخرى في القبر وذكر إحيائين أحدهما في الدنيا والآخر في القبر» (3).
ومما يؤكد هذا العقاب المتوسط بين الدنيا والآخرة هو قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (4).
وبعد أن بينا المعنى العام للعقوبة وأنواعها الثلاثة فإن ما جاء في حديث الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والذي بدأنا بحثنا هذا به فإنه يريد منها العقوبة الدنيوية والدليل على ذلك من وجهين :
الأول : إن العقوبة من اللّه تعالى وإن المتبادر من اللفظ أن السرعة في العقوبة نتيجة مقابلة الإحسان بالإساءة والبغي ونقض العهد وقطع الوصلة المراد به حالة الإنسان وإذا كان المراد بها القبر أو الآخرة فإنه مخالف للسرعة لاحتمال البقاء لمدة طويلة والأعمار بيد اللّه تعالى والدليل هو الأمثلة الواردة في الدنيا فإن للأعمال آثاراً وضعية إذا كانت إيجابية فأثرها الوضعي كذلك مثل
ص: 582
صلة الرحم تطيل العمر وإذا كانت سلبية فأثرها الوضعي سلبي أيضاً مثل النقض جزاءه الوضعي النقض أيضاً وهكذا لأن طبيعة البشر هكذا وقوانين الحياة هكذا فمن لا يستحم يستبرد ومن لا يشرب الدواء يموت.. الخ.
الثاني : أما الوجه الثاني فيحتاج إلى معرفة نوع المعصية وآثارها السيئة في هذه الأمور الأربعة :
1 - مقابلة الإحسان بالإساءة.
٢ - البغي.
٣- الغدر.
٤ - قطع الأرحام.
وقد جمعت هذه الخصال الأربعة في قوله تعالى :
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (1).
إن من الأمور التي تصلح حال المجتمع هو العدل والإحسان وصلة الرحم والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد واليمين.
وهذه الأحكام بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني وذلك لأن صلاح المجتمع العام من أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه وإن سعادة الإنسان مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه كما ذكر علماء الاجتماع وإن كان رغبات الإنسان فردية ومن الصعب أن يفلح الفرد في مجتمع الفساد والرذيلة فإنه يحاط بالشقاء من كل جانب والشقاء هو من أنواع العذاب فعلى هذا يكون الإنسان بمقابلة الإحسان بالإساءة وبغيه ونقضه للعهد وقطع رحمه قد خرّب مجتمعه ونفسه وأدّى به إلى الشقاء والعزلة والأنانية فنال عواقب تصرفاته شراً وعقوبة عاجلة.. قال سبحانه وتعالى :
ص: 583
«فَمَنْ يَعمَل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقَال ذرّةٍ َشرَّاً یَرَهُ» (1).
قال بعض المفسرين في معنى «يره» أي في الدنيا قبل الآخرة. ولذا اهتم الإسلام بإصلاح المجتمع اهتماماً بالغاً حتى إنه جعل الكثير من القوانين والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والصوم والحج اجتماعية بالإضافة إلى بعدها العبادي والتهذيبي فنراه يحث على الصلاة جامعة وفي المساجد للالتقاء والاجتماع وتبادل المنفعة ومساعدة المحتاج منهم وهكذا وأيضاً نرى ذلك في أداء الحج متسعاً بصورة شاملة لجميع المسلمين قاطبة ومن كل بلاد الإسلام غنيها وفقيرها وأسودها وأبيضها في أكبر محفل للالتقاء وأداء المناسك والتعارف والتعاون وكل ذلك ليستصلح الإنسان نفسه.. قال سبحانه وتعالى :
«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..» (2) والمنافع نوعان منافع دنيوية وهي التي تزدهر بها حياة الإنسان الاجتماعية ويصفوبها العيش وترفع بها الحوائج المتنوعة وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية والتعارف بينهم وتجمعهم كلمة واحدة وهي التوحيد والحق وإلههم واحد وهو اللّه عز وجل ووجهتهم واحدة.
أما المنافع الأخروية فهي في التقرب إلى اللّه تعالى بما يمثل العبودية في قول وفعل وعمل بالحج بمناسكه المتضمنة لأنواع العبادات وترك اللذائذ وشواغل العيش.
هذا من ناحية العمل بما جاء في الحديث الشريف ومنافعه الفردية والاجتماعية أما من الناحية الأخرى إذ لو أن الإنسان عمل بالإساءة والبغي
ص: 584
وقطع الرحم والغدر فالنتيجة ستكون كما يلي للفرد والمجتمع :
أولاً : لو ترك الإنسان العمل بالإحسان مثلاً وعمل بالإساءة فإن الإحسان معناه الخير وضده الشر وأيضاً إن الإحسان إلى الغير إيصال الخير أو النفع إلى الغير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه ويقابل الشر بأقل منه وأن يكون الخير إلى الغير متبرعاً به ابتداءً وعلى هذا فالإحسان هو الإصلاح لحال من أذلّته السكينة والفاقة واضطرته النوازل. ولذا فيه نشر الرحمة وإيجاد المحبة وجلب الأمن والسلامة وضد هذا كله الإساءة أي الشّر وهي التي تسلب المحبة والأمن من المجتمع فتحوله إلى التباعد والعداوات فينشأ من هنا السرعة في العقاب نتيجة النوازع والعداوات والشقاء والبغضاء والحروب وعدم الأمن.. ومن هنا ورد في تفسير قوله سبحانه وتعالى :
«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (1).
عن الطبرسي (رَحمهُ اللّه) في المجمع وننقل هنا القول الأول في القصاص لأنه عليه أكثر العلماء وهو أن معناه في إيجاب القصاص حياة لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سبباً للحياة (2).
وعليه فإن الحياة الناشئة من القصاص هي أن الذي يريد القتل إذا يعلم أن نتيجة عمله القصاص سوف يتجنب القتل هو الآخر فيحفظ حياة المجتمع.
ثانياً : أما صلة الرحم فإنه متفرع على الكلام في الإحسان إذ أن العائلة تشكل المجتمع الصغير ومجموع العوائل تكون المجتمع الكبير فمن قطع رحمه فقد أوقف نمو هذا المجتمع وبالتالي ضعف الارتباط يؤدي إلى السقوط وسيطرة الطامعين عليه نتيجة تفتت العائلة أو العشيرة أو المجتمع الكبير.
ص: 585
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخبار» (1).
وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسر الحساب وتنسىء في الأجل» (2).
ثالثاً : أما البغي فإن المراد به هو التعدي على الغير ظلماً وغالباً البغي يكون من الفحشاء والمنكر ووقوعها في المجتمع قد يوجب ظهور الحوادث الكونية التي أشرنا إليها في العقوبة الدنيوية فقد يؤدي إلى هلاك الأمة الباغية أو تفرقها وفي الأمم السابقة من العذاب النازل موعظة جيدة لمن يريد أن يبغي على الآخرين.
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«إن أعجل الشر عقوبة البغي» (3).
وعن الإمام أمير المؤمنين الي قال :
«من سل سيف البغي قتل به» (4).
رابعاً : أما العهد فهو حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال وسمّ الموثق الذي يلزم مراعاته عهداً أما الغدر فهو نقض العهد وعدم الالتزام به فإنه يولد في المجتمع الخدعة والخيانة في جميع المعاملات فتنعدم فتنعدم الثقة بين الناس وتنتشر الرذائل ومنها الربا وبخس الناس حقوقهم وكل هذه الأمور نهى اللّه عنها وأوعد عليها العذاب والعقاب سواء كان في الدنيا أو الآخرة والوفاء
ص: 586
بالعهد لازم على المسلم للمسلم والكافر سواء وقد جاء في كتاب للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للأشتر لما ولاه مصر :
«وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمةً فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض اللّه شيء، الناس أشدّ عليه اجتماعاً، مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمتك ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلنّ عدوك» (1).
وعن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«وجدنا في كتاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان أخذهم اللّه بالسنين والنقص وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط اللّه عليهم عدوهم..» (2).
وفي النهاية فإن قانون اللّه سبحانه وتعالى هو الجاري على هذا الكون بالرغم من أن الإنسان قد طغى واتبع قانون البشر فكل عمل يعمله الإنسان له جزاء.
«فإن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر» في الدنيا والآخرة، فإذا اتبع الإنسان القانون الإلهي فإنه زرع خيراً ويحصد في النتيجة خيراً أيضاً وإن اتبع قانون البشر فإنه يزرع شراً ويحصد في آخر الأمر شراً أيضاً. ولذا نرى حال بعض المسلمين اليوم يتجه دائماً إلى الأسوأ من المأساة والمشاكل والآلام وذلك نتيجة الإساءة للآخرين وقطع الأرحام والبغي ونقض العهود
ص: 587
والمواثيق فكان جزاء أعمالهم هذه التفرقة والحروب والمشاكل والفقر المدقع وتسلط الاستعمار الغربي والشرقي على ثرواتهم ومواردهم وأراضيهم وهذا مصداق حقيقي لقوله سبحانه وتعالى :
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (1).
أي من أعرض عن كتاب اللّه وسنة نبيه والأئمة الأطهار سال في أوامرهم وتعاليمهم وإرشاداتهم فإن مصيره سيكون سيئاً في الدنيا والآخرة لأن الحياة الحقيقية مادياً ومعنوياً في الإسلام والالتزام بأوامره ونواهيه قال سبحانه وتعالى :
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (2).
إذ ورد في تفسير هذه الآية (يحييكم) أربعة أقوال والذي يناسب المقام هو القول الرابع إذ جاء في معناها : «إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة ونعيم الأبد» (3).
فلو التزمنا بالأوامر الإلهية والتعليمات النبوية واستجبنا لها فإن فيها الفلاح الدائم في الدنيا والآخرة أي الحياة الدائمة وفيها التقدم والازدهار والخلاص من الاستعمار والرحمة الإلهية الواسعة للجميع.
ص: 588
ص: 589
ص: 590
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قَالَ الرَّسُول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)
«يا علي: سبعة من كن فيه فقد استكمل حقيقة الإيمان وأبواب الجنة مفتحة له من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته. و أدى زكاة ماله، وكف غضبه، وسجن لسانه، واستغفر لذنبه وأدى النصيحة لأهل بيت نبيّه» (1).
جاء الدين الإسلامي ليكون السنة الاجتماعية المنظمة التي يسير عليها الفرد المسلم في حياته وهذه السنة متعلقة بالعمل ومبنية على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون والإنسان الذي هو جزء من أجزاءه وكذلك الاعتقاد بالسبب الذي أوجد الكون والإنسان...
فالإيمان معناه : الإذعان والتصديق وهو على قسمين :
١ - أصل الإيمان : وهو التصديق في الاعتقادات الحقة مثل التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد في يوم القيامة.
ص: 591
٢ - كمال الإيمان : هو أعمال العباد من طاعات للتوصل إلى أصل الإيمان ومنها الأعمال السبعة التي ذكرها الرسول الأعظم سداد في حديثه الشريف الذي نبحثه.
وبما أن التصديق يختلف من فرد لآخر فلذلك ظهرت بعض المذاهب من جراء الاختلاف في الاعتقادات ومنها :
أولاً : الذين يثبتون لهذا الكون رباً ابتدأه وسيعود إليه وأن هناك حياة أخرى ولا قناء بالموت فإنه سيراقب أعماله الجارية في الحياة الدنيا ليكسب عوضاً عنها سعادة الحياة الباقية والتنعم في الدار الآخرة الخالدة.
ثانياً : وهناك من يعتقد بإله غير اللّه سبحانه وتعالى من آلهة عديدة تدبر الأمر بالرضا والسخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب إلى الآلهة وإرضائها للفوز بلذة الحياة والظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا إذ أنه في اعتقاده لا توجد حياة أخرى.
ثالثاً : ومن لا يهتم بأمر الربوبية أصلاً ولا يرى للإنسان حياة خالدة كالماديين ومن يحذو حذوهم يبني سنة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعه على أساس التمتع بالحياة الدنيا المحدودة بالموت.
والدين الإسلامي مرتبط بعلاقة وثيقة مع الاعتقاد الأول إذ أن الاعتقاد الحق في اللّه سبحانه ورسله واليوم الآخر وما جاءت به الرسل مرتبطة بالعمل الصالح لبلوغ الكمال فمن هنا يأتي معنى الإيمان وهو الالتزام بالأعمال الصالحة بعد المعرفة الحقة للاعتقاد أي بمعنى (العلم العملي) : وهي التي تتعلم ليعمل بها وأيضاً إن الإيمان باللّه إنما يؤثر أثره في الإنسان من الأعمال الصالحة والصفات الجميلة النفسانية كالخشية والخشوع والإخلاص والآداب والإعراض عن الوسوسة الشيطانية والدواعي الباطلة وعن اللغو.
ومثاله العرفي أن الإنسان إذا أراد بناء بيت كامل والبناء أكمل البيت من ناحية البناء فيمكن أن نطلق عليه في الأصل بيتاً ولكن هل أن هذا البيت
ص: 592
كامل إذا لم يكن فيه الديكور والأثاث المنزلي وحميع الوسائل المطلوبة للعيش ؟
ونفس هذا المثال يمكن تطبيقه على من عرف واعتقد باللّه ورسوله والأئمة والمعاد والعدل ولم يعمل ليصل إلى كماله بعد أن أثبت أصل الإيمان فهو لا يستطيع الوصول إلى حقيقة الإيمان ولا بد من العمل بالآداب الإلهية التي علمها اللّه تعالى لأنبيائه ورسله ومارسه الأنبياء مع أبناء قومهم ومنهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )والأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) على النظام في آدابهم المتبعة في الأعمال العبادية أو المعاملة مع الناس ولغرض البيان أكثر نبين عدة أمور كمقدمة للموضوع ومنها :
أولاً : معنى الأدب : الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء وآداب الملاقاة ونحوها...
ثانياً : لا يكون الأدب إلا في الأعمال الصالحة والمشروعة ولا يكون غير المشروعة مثل الأعمال الشنيعة والقبيحة أو الظلم والخيانة والكذب ولذا فإن الأعمال الصالحة والشرعية هي التي تصل بنا إلى كمال الإيمان.
ثالثاً : كثيرة من الآداب تختلف باختلاف الأقوام وربما كانت بعض الآداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كالتحية أو السلام المتعارف عند اللقاء فإنه في الإسلام بالتسليم السلام عليكم وعند قوم رفع القلانس وآخرين برفع اليد حيال الرأس أو آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس وهكذا نرى أموراً يستشنعها الإسلام ويذمها وآخرين يستحسنونها، وهذه الاختلافات لا تعني اختلاف معنى الأدب عند هؤلاء ولكنها نشأت في مرحلة المصداق وتشخيصه...
ولما كان الحسن من مقومات معنى الأدب على ما ذكرناه وكان مختلفاً
ص: 593
بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإنسانية فالآداب في كل مجتمع كالمرآة تحاكي خصوصيات الأخلاق العامة لذلك المجتمع...
رابعاً : هناك فرق واسع بين الآداب والأخلاق وذلك لأن الأخلاق ملكات راسخة في النفس تتلبس بها النفوس أما الآداب فهي هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسية وإن الأدب هو فرع من الأخلاق والغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخص أدبه في أعماله وترسم لنفسه خطاً لا يتعداه...
وبعد هذه المقدمات الأربع عن الأدب ننقل عدة شواهد لأدب الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام) في محاوراتهم مع اللّه سبحانه وتعالى ومع أقوامهم كشواهد حية لكلامنا المتقدم ولتتوضح الحقيقة أكثر :
قال سبحانه وتعالى :
«وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» (1).
ووجه الأدب في حمدهما وشكرهما ونسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى اللّه سبحانه وتعالى فلم يقولا مثل ما حكي عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله. قوله سبحانه وتعالى :
«وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
ص: 594
الْقُرُونِ..» (1).
وكما حكى اللّه تعالى عن قوم آخرين...قال سبحانه وتعالى:
«فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» (2).
ولا ضير في الحمد على تفضيل اللّه إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة وبيان الواقع وليس ذلك من التكبر على عباد اللّه حتى يلحق به ذم وقد ذكر اللّه تعالى عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل ومدحهم على علو طبعهم وسمو همتهم حيث قال :
«وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» (3).
فهم المثل الأعلى للإيمان والتقوى بفضل أعمالهم وحمدهم وشكرهم للنعمة الإلهية وهذا من أنواع الآداب بين العبد وخالقه سبحانه وتعالى :
ومن الشواهد على الآداب الرفيعة ما حكاه اللّه تعالى عن نبيه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد ألحق به في ذلك المؤمنين من أمته فقال سبحانه وتعالى :
«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (4).
وكذلك الآية التي بعدها. فكلامه تعالى يحكي إيمان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من أصول المعارف وفيما اشتمل عليه من
ص: 595
الأحكام الإلهية جميعاً ثم يلحق به سبيل المؤمنين من أمته ولا يشمل فقط المعاصرين له بل جميع المؤمنين من الأمة الإسلامية حاضرها ومستقبلها.
والآيتان تشتملان على المقايسة والموازنة بين أهل الكتاب وبين مؤمني هذه الأمة من حيث تلقيهم ما أنزل إليهم في كتاب اللّه ومن حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم فإنه ظاهر ما أثنى اللّه سبحانه على المؤمنين بعين ما وبخ أولئك عليه وذمهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة.
فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة اللّه فأبغضوا جبريل وأحبوا غيره وبين كتب اللّه المنزلة فكفروا بالقرآن وآمنوا بغيره وبين رسل اللّه فآمنوا بموسى أو به وبعيسى وكفروا بالنبي محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب اللّه وكفروا ببعض.
أما المؤمنون من هذه الأمة آمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا يفرقون بين أحد من رسله رسله. فهم قد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لربوبيته وتوحيده نتيجة المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب اللّه إليه من أحكامه إذ قالوا «سمعنا وأطعنا» لا كقول اليهود «سمعنا وعصينا» ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عباداً مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئاً ولا يمتنون عليه بإيمانهم وطاعتهم فقالوا اللّه «غفرانك ربنا» لا كما قالت اليهود سيغفر لنا وقوله تعالى : «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ» (1).
وهناك آيات كثيرة تشير إلى أدب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع اللّه تعالى كما جاء في قوله تعالى : «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (2).
وقوله تعالى : «وربي زِدْنِي عِلْمًا» (3).
ص: 596
وهذا الأدب البارع من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أوصى به أمته.
وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«أدبني ربي بمكارم الأخلاق» (1).
وأعظم الخلق أدباً مع اللّه الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأقل فالأقل وأكثر الخلق تأديباً مع اللّه تعالى نبينا محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لقوله سبحانه وتعالى :
«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(2).
وفي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن اللّه عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال :
«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ثم فوض إليه أمر الناس والأمة ليسوس عباده..» (3).
وقد حكى اللّه تعالى في كتابه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعليهم وغيرهم من الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) في حالات مختلفة في الشدة والرخاء والحرب والسلم والإعلان والإسرار والتبشير والإنذار وغير ذلك في المحاورات مع أقوامهم وبالأدب الإلهي الذي تعلموه من اللّه تعالى.. قال تعالى
«وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (4).
والمراودة عن النفس تذهب بكل عقل ولكن أدب يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع اللّه
ص: 597
تعالى لم يجعله ينسى ولم يشغله عن التقوى برعاية الأدب في ذكر ربه حتى إن أدبه في محضر اللّه سبحانه أنقذه من تلك الورطة العظيمة...
وأيضاً في محاورة جرت بين نوح وقومه. في قوله تعالى :
«قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» (1).
وهنا نفى نبي اللّه نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزه به، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الأدب بقوله «إِنْ شَاءَ» ثم بقوله «وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» أي ما أنتم بمعجزين اللّه سبحانه وهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب اللّه سبحانه حاور بها نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) قومه محاجاً لهم وهو أول نبي من الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد وانتهض على الوثنية.
وهناك أمثلة كثيرة تطيل بنا الحديث إذا أردنا ذكرها ولكن ينبغي أن نبين الآداب التي تمتع بها الأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ).
في قصة مشهورة :
مر الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) على شيخ يتوضأ في النهر ولا يحسن الوضوء، وقد جاءا أمام عيني هذا الشيخ يتوضئان والشيخ ملتفت لهما فأخذا يتنازعان بعدها حول صحة الوضوء وتحاكما عند الشيخ فقالا : أيها الشيخ كن حكماً بيننا، فليتوضأ كل واحد منا وتحكم لأينا يحسن الوضوء ؟
قال الشيخ بعد انتهائهما من عملهما : كلاكما تحسنان الوضوء ولكني تعلمت منكما الآن فجزاكما اللّه خيراً من ذرية مطهرة
هذا هو أدب الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) إذ أنهما بأدبهما الإلهي لم يجرحا شعور
ص: 598
هذا الشيخ بل إن بعض الناس لو أرشدته بطريقة غير مؤدبة لإرشاده إلى خطاه لا يلتفت إلى الخطأ بل ويصرّ عليه في بعض الأحيان
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أدّبه اللّه عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرّمين» (1).
ونستخلص من كل ما تقدم :
إن الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدب سبحانه به أنبياءه ورسله بالهم وهو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته وهو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادّها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقي والإسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذ عنه شيء من شؤونها يسير أو خطير، رقيق أو جليل.
فلذلك وسع الحياة أدباً ورسم في كل هيئة حسنة تحاكي غايته منهجاً للأدب وليس له غاية عامة إلا توحيد اللّه سبحانه وتعالى في مرحلتي الاعتقاد ومرحلة العمل جميعاً.
أي أن يعتقد الإنسان أن له إلهاً هو الذي منه بدأ كل شيء وإليه يعود كل شيء، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا. ثم يجري في الحياة ويعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شيء عنده اللّه الحق عز اسمه وبذلك تتكامل عنده حقيقة الإيمان والفوز في الجنة وكما عبر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الحديث الشريف الذي ابتدأنا به بحثنا.. إذ أن الأعمال التي ذكرها هي التي تصل بالإنسان إلى الأصل والكمال فلو أن الإنسان عرف اللّه وعلم به ولم يعمل للكمال بالأعمال الصالحة بأدب لا يمكن له الوصول إلى حقيقة الإيمان وإذا أردنا الوصول إلى هذه الحقيقة علينا أن نتأدب بما جاء في
ص: 599
قول الرسول الأعظم (صلوات اللّه وسلامه عليه) من تعليم كامل إذ قال سبعة من كن فيه استكمل حقيقة الإيمان وسنشير إلى البعض حسب الوقت المسموح وهي :
من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدى زكاة ماله وكف غضبه وسجن لسانه واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيت نبيه.
١ - أما إسباغ الوضوء : فهو الجودة في الوضوء والطهارة المائية المقدمة لفعل الصلاة الواجبة أو المندوبة، وعلّة الوضوء جاء في علل الشرائع عن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«فإن قال قائل : فلم أمر بالوضوء وبدأ به ؟
قيل : لأنه يكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه مطيعاً له فيما أمره، نقياً من الأدناس والنجاسة مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار» (1).
وعلى هذا فمن الآداب العملية عند التوجه إلى الوقوف بين يدي الخالق تعالى أن يسبغ العبد وضوءه فإنه من الأعمال التي تصل بالإنسان إلى حقيقة الإيمان.
قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟
فقلنا : بلى فدعا بقعب فيه شيء من ماء ثم وضعه بين يديه ثم حسر من ذراعيه ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال :
هكذا إذا كانت الكف طاهرة ثم غرف ملأها ماءاً فوضعها على جبينه ثم قال : «بسم اللّه» وسدله على أطراف لحيته ثم أمر يده على وجهه وظاهر
ص: 600
جبينه مرّة واحدة. ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه» (1).
ويستحب أيضاً تجديد الوضوء لغير حدث، قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «من جدد وضوءه لغير حدث جدّد اللّه توبته من غير استغفار» (2).
2 - أما الأدب الثاني بين العبد والخالق سبحانه وتعالى فهو ما يتعلق بالصلاة وهذا يتجسد في الخشوع في الصلاة كما قال تعالى :
«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ» (3).
والخشوع تأثر خاص من العبد نحو الخالق بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه بصفاء القلب ومن ثم ينسب إلى الجوارح.
وصفة الخشوع في الصلاة من الآداب التي كان يمارسها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) في صلاتهم وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى الخاشعين في صلاتهم بالمؤمنين وبالفلاح. ولازمه أن يتوجه الإنسان إلى ساحة عظمة اللّه عز وجل وكبريائه وأن يتأثر الإنسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلّة والهوان وينتزع قلبه عن كل ما يلهيه ويشغله عما يهمه ويواجهه فلو كان إيماناً صادقاً جعل همه حين التوجه إلى ربه هماً واحداً وشغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره.
وقد روي بأن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):
«إذا قام إلى الصلاة يربد وجهه خوفاً من اللّه» (4).
ص: 601
وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«كان عليّ إذا قام إلى الصلاة فقال : «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه» (1).
أما الصلاة المطلوبة فهي الحسنة والتي تصل بنا إلى حقيقة الإيمان فهي إذا كانت صفتها الخشوع قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا كميل ! ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق.. الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب نقي، وعمل عند اللّه مرضي، وخشوع سوي» (2).
٣ - أما الأدب الثالث فهو إخراج حق معلوم للّه سبحانه وتعالى أو للفقراء والمساكين مختلط بأمواله بدون نقص أو تردد فإن الإنسان عندما يريد إعطاء ما يملكه يصبح أمام موقفين هما :
١ - إما أن توسوس له نفسه له نفسه في عدم إخراج النصاب المفروض وتحاكيه بشكل خاص لتمنعه من أداء هذا الواجب وهذه الوسوسة من جند الشيطان.
٢ - أما الموقف الثاني فهو من النفس الإيمانية في تشويقه وتذكيره بما وعده اللّه سبحانه وتعالى من جنةٍ دائمة لا تنفد. بينما المال يمكن نفاده أو زواله فيعطي الزكاة ونفسه مطمئنة.
وهذا هو من الآداب الجميلة التي تقع على فعل الزكاة.
فما هي الزكاة ؟
الزكاة : إنها إحدى تشريعات الإسلام التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى لسد فراغ الفقر والمصالح العامة وتتعلق بتسعة أشياء وهي الغلات الأربع والأنعام الثلاثة والنقدان وتستحب في مال التجارة والخيل وغيرها ومنها مقادير معينة وأنصبة معلومة وأوقات محدودة ومصارف خاصة على تفصيل في كتب الفقه والرسائل العلمية للمراجع العظام، والآيات القرآنية والسنة المطهرة
ص: 602
تحث على أداء الزكاة...
قال سبحانه وتعالى :
«وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ» (1).
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :
«الزكاة قنطرة الإسلام فمن أداها جاز القنطرة ومن منعها احتبس دونها وهي تطفىء غضب الرب» (2).
أما علة الزكاة فهي كما جاء عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال :
«إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أنّ الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً ولاستغنى بما فرض اللّه، وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا، ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء» (3).
ولذلك ترى في وقتنا الحاضر زيادة الفقر والمجاعة في بعض البلدان الإسلامية من جراء عدم أداء الزكاة والحقوق الشرعية الموجودة في مال الأغنياء وهم يزدادون إنما بعملهم. معتقدين بأن حبس حقوق الفقراء زيادة لمالهم بل هو على العكس من ذلك.. إذ أن أداء زكاة المال هو الذي يؤدي إلى الزيادة في أموالهم وممتلكاتهم..
وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الزكاة تزيد في الرزق» (4).
عن الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«إن اللّه وضع الزكاة قوتاً للفقراء وتصريفاً لأموالكم» (5).
ص: 603
٤ - أما الأدب الرابع فهو كف النفس عن الغضب.. إذ أن الغضب مفتاح كل شر وهو من الأعمال القبيحة والشنيعة وكما قلنا في البداية إن الأدب لا يتوجه إلى هذه الأعمال بل يتوجه إلى الأعمال المرغوبة والصالحة مثل الحلم مقابل الغضب
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«لا أدب مع غضب» (1).
لذا ذم الإسلام الغضب وزجر الغاضب ونصحه بترك هذه الصفة الخبيثة التي تبعد الإنسان عن حقيقة الإيمان والفوز بالجنة وهذا الإبعاد عن الإيمان والجنة بسبب عواقب الغضب فإن الغضب قد يؤدي بالإنسان إلى قتل النفس المحترمة أو ارتكاب أسوء مفسدة لأنه ينتهي إلى كل شر، والغضب إذا فسح له المجال سيطر على جميع القوى فشلها حتى إنه لا يبقى معه سلطان للعقل فقد عبر عن ذلك الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله :
«من لم يملك غضبه لم يملك عقله» (2).
وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال :
«الغضب ممحقة لقلب الحكيم» (3).
فإن قلب الحكيم وعاء للحكمة أما إذا عرض له الغضب لم يبق مجال للحكمة أبداً لأنه يذهب بالعقل وإن الحكمة لا تتناسب مع المجنون.
أما دواء الغضب فهو كما قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا علي ! لا تغضب فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحلمه عنهم وإذا قيل لك : اتق اللّه فانبذ غضبك وراجع حلمك» (4).
ص: 604
وكل هذا الكلام في الغضب الذي يتعلق بالأمور الدنيوية والأمور التافهة والفانية...أما الغضب اللّه تعالى ولإعلاء كلمة الحق فهو من الفضائل إذا كان في حدوده الشرعية.
قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «كان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له» (1).
وأيضاً لمّا سيّر عثمان أبا ذرّ إلى الربذة شيّعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وعمار بن ياسر (رضیَ اللّهُ عنهُ) فلما كان عند الوداع قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) :
«يا أبا ذر ! إنك إنما غضبت اللّه عز وجل فارج ما غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فأرحلوك عن الفناء» (2).
5 - أما الأدب الخامس فهو : سجن اللسان...
واللسان هو في الواقع مصدر لكثير من الآفات....
وقد جمعها بعض العلماء في كتاب خاص.. وهي تتجاوز العشرات.. كالغيبة والتهمة والنميمة و..، وسجن اللسان عبارة عن منعه من قول المحرمات.. ومن فضول الكلام.
أما التكلم بالواجبات أو بالمندوبات.. فهو محبوب شرعاً ومطلوب عند اللّه تعالى.. وذلك مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل.. فلا يشمل الحديث الشريف مثل هذه الأمور.
٦ - وأما الأدب السادس فهو : الاستغفار للذنب..
والإنسان بطبعه معرض للذنب (إلا المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ))...
ص: 605
وعلاج الذنب هو الاستغفار..
والاستغفار بمعنى طلب المغفرة من اللّه سبحانه.. ولا يعني قول «أستغفر اللّه» فقط بل هو - أيضاً - موقف عملي يتمثل في الندم على ما مضى.. والتصميم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل.
وللاستغفار بركات كثيرة.. في الدنيا والآخرة
قال اللّه تعالى :
«ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا» (1).
٧ - والأدب السابع : هو النصيحة لأهل بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأصل النصح هو : الخلوص...ويختلف مفادها باختلاف الموارد فالنصيحة لكتاب اللّه تعالى هو التصديق به والعمل بما فيه.
والنصيحة لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو التصديق بنبوته ورسالته والانقياد لما أمر به ونهى عنه.
والنصيحة للأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أن يطيعهم، ويعمل بأوامرهم، وينزجر عن نواهيهم والنصيحة لعامة المسلمين : هو إرشادهم إلى مصالحهم.
وعلى كل، فمن الآداب : النصيحة لأهل بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )..وفي ذلك خير الدنيا والآخرة.
(فالراغبُ عَنكُم مَارِقٌ وَاللازم لكُم لاحق والمقَصِّرُ في حَقَّكُم زاهِقٌ والحقُ مَعَكُمْ وَفِيكُمْ وَمِنكُم وإليكُم وَأنتُم أهلُهُ وَمَعدِنُهُ) (2) فالتزامهم والسير على نهجهم سبب الخير الدنيا والآخرة معاً.
هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، واللّه الموفق نحو الصواب. والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين
ص: 606
1 - القرآن الكريم.
2 - الآداب والسنن - آية اللّه الشيرازي
٣- الإرشاد - الشيخ المفيد
٤ - إرشاد القلوب - الديلمي
5 - بحار الأنوار - العلامة المجلسي
٦ - تاريخ الخلفاء - السيوطي
7 - تاريخ العلماء - الحكيمي
8 - تحف العقول - ابن شعبة
9 - الترغيب والترهيب
10 - تصنيف غرر الحكم - الآمدي
11 - تفسير الكبير - فخر الرازي
12 - تفسير الصافي - فيض الكاشاني
13 - تفسير مجمع البيان - الطبرسي
١٤ - تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
١٥ - تفسير نور الثقلين - الحويزي
١٦ - تفسير العياشي - العياشي
17 - تنبيه الخواطر - ابن ورام.
ص: 607
18 - التوحيد - الشيخ الصدوق
19 - جامع السعادات - الشيخ النراقي
20 - جامع المقدمات
21 - حق اليقين - السيد عبد اللّه شبر
٢٢ - الخصال - الشيخ الصدوق
٢٣ - الدر المنثور _ السيوطي
٢٤ - الذنوب الكبيرة - السيد دستغيب.
٢٥ - رسالة الحقوق - الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
٢٦ - روضة الكافي - الشيخ الكليني
27 - سفينة البحار - المحدث القمي
28 - السياسة من واقع الإسلام - السيد صادق الشيرازي
٢٩ - السيرة النبوية - ابن هشام
30 - شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي.
٣١ - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد
٣٢ - نهج البلاغة - محمد عبده.
٣٣ _ الصحاح
٣٤ - الصحيفة السجادية - الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
٣٥ - الصواعق المحرقة - ابن حجر.
٣٦ - ضياء الصالحين - الجوهرجي
٣٧ - عدة الداعي - ابن فهد الحلي
38 - علل الشرايع - الشيخ الصدوق
39 - عيون أخبار الرضا - الشيخ الصدوق
٤٠ - عيون الأخبار - ابن قتيبة
٤١ - فروع الكافي - الشيخ الكليني
٤٢ - الفضيلة الإسلامية - آية اللّه الشيرازي
٤٣ - الفقه : الاجتماع - آية اللّه الشيرازي
٤٤ - قصص العرب - محمد أبو الفضل إبراهيم.
ص: 608
٤٥ - الكافي - الشيخ الكليني
٤٦ - الكامل في التاريخ - ابن الأثير
٤٧ - كشف الغمة - الأربلي
٤٨ - كلمة الرسول الأعظم - الشهيد السيد حسن الشيرازي
٤٩ - كنز العمال - الهندي
٥٠ - كيف تكسب الأصدقاء - السيد هادي المدرسي
٥١ - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق
٥٢ - مجالس ابن الشيخ
٥٣ - المستطرف _ الأبشيهي
٥٤ - مروج الذهب - المسعودي.
٥٥ - المحاسن - البرقي
٥٦ - المحاسن والأضداد - الجاحظ
٥٧ - المحجة
٥٨ - المحجة البيضاء - الفيض الكاشاني
٥٩ - مستدرك الوسائل - الحاج حسين النوري
٦٠ - مشكاة الأنوار - الطبرسي
٦١ - معاني الأخبار - الشيخ الصدوق
٦٢ - معجم
ألفاظ القرآن الكريم - فؤاد عبد الباقي
٦٣ - مكارم الأخلاق - الشيخ الطبرسي
٦٤ - مفاتيح الجنان - المحدث القمي
٦٥ - المناهج الحسينية - السيد جواد شبر
٦٦ - ناسخ التواريخ - سپهر
٦٧ - نهج البلاغة - صبحي الصالح
٦٨ - وهج الفصاحة - الأعلمي
٦٩ - هكذا الإسلام - آية اللّه الشيرازي
70 - الوافي - الفيض الكاشاني
71 - وسائل الشيعة - الحر العاملي
ص: 609
ص: 610
الإهداء...5
المقدمة...7
دور الكلمة...10
رسالة المنبر...12
أقسام الخطب العربية...14
أقسام الخطابة الإسلامية...16
المنابر الحسينية...17
ولادة الكتاب...20
1 - هنالك يفرح المؤمنون...21
أقسام اللذّة والألم...23
اللذّة الإنسانية واللذّة البهيمية...26
اللذّة العقلية...32
يفرح المؤمنون في ثلاثة مواضع...24
لقاء الإخوان...24
التهجد في آخر الليل...25
الإفطار في الصيام...39
ص: 611
البعد الجسمي...39
البعد النفسي...40
البعد الروحي...41
2 - سمات المجتمع القويم...43
بين المداراة والنفاق...47
عاقبة المداراة...48
مظاهر المدارة...50
سمات المتفوقين في الحياة...52
١ - إعط من حرمك...52
2 - صل من قطعك...56
حول الرحم...58
أفضل الفضائل...59
مراتب الصلة...61
قطيعة الرحم...61
٣ - إعف عمن ظلمك...64
صور ومشاهد...67
3- ميزان الربح والخسارة...71
معنى النفع وأقسامه أرقى مراتب النفع...74
مظاهر النفع المادي...81
بعض آداب الطعام...83
لا تزرع في الأرض السبخة...87
دليل من القرآن الكريم...88
إصنع المعروف...90
لماذا يضيع المعروف...94
ص: 612
٤ - طريق السعادة...97
مراتب الأعمال...99
الذكر ومعناه...101
أقسام الذكر...102
١ - الذكر التكويني...102
٢ - الذكر التدويني...106
٣ - الذكر العبادي...109
٤ - ذكر القلب...111
5 - ذكر الجوارح...113
ثمرات الذكر...113
الذكر الكثير...115
5 - تكامل الإنسان...117
سمات الإنسان الناجح...122
عقبات الناجحين...123
1 - الورع عن معاصي اللّه سبحانه...123
شواهد وأدلة...126
2 - خلق یداری به الناس...126
مكارم أخلاق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)...129
3 - حلم يرد به جهل الجاهل...130
الحلم قوة أم ضعف ؟...132
سمات رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...133
6 - الغضب مفتاح الشقاء...137
مراتب الفضائل...139
معاني الغضب...140
ص: 613
الغضب بين الإيجاب والسلب...142
بواعث الغضب...146
ما هو العلاج...147
أولاً : طريق الفكر...147
ثانياً : طريق العمل...150
ثالثاً : طريق الذكر...152
7 - بين الغنى والفقر...153
هل الإنسان غني أم محتاج...155
أولاً : الحاجة في أصل الوجود...156
من هو الواجب ومن هو الممكن...156
ثانياً : الحاجة في وصف الوجود...157
ثالثاً : الحاجة في كمال الروح...160
رابعاً : الحاجة في كمال الجسم وإدارة الحياة...162
التكامل الاجتماعي...164
سؤال وجواب...170
الراحة في القناعة...172
8- كمال المسلم...175
للإسلام وجهان...177
الوجه الظاهر...177
الوجه الباطن...181
مظاهر إسلام القلب...183
أولاً : الصدق...183
ثانياً : الشكر...184
ثالثاً : الحياء...189
رابعاً : حسن الخلق...189
ص: 614
9 - لكل يوم رزقه...192
بين الدنيا والآخرة...194
١ - الحاجة الأساسية...197
٢ - الحاجة الكمالية...199
معنى الرزق...199
كيف يكفل اللّه الرزق ؟...203
لماذا خلق الإنسان ؟...204
كيف تحصل على الرزق ؟...208
١٠ - النقد البناء...212
أخطاء الإنسان...214
من هو العاقل...216
فوائد النقد...216
شروط النقد البناء...218
النقد الخفي والمعلن...222
دوافع النقد...223
11 - مبادرات في طريق السعادة...226
التدرج في حياة الإنسان...228
استثمار مجالات العمر...230
النعم الإلهية...231
أسباب النعمة الأخروية...233
أولاً : شبابك قبل هرمك :...233
ثانياً : صحتك قبل سقمك :...235
ثالثاً : غناك قبل فقرك :...237
رابعاً : حياتك قبل موتك...238
ص: 615
12 - بيع خاسر...241
معنى الدنيا والآخرة متع الدنيا...245
أعمال الدنيا...250
الدنيا تجارة...252
ابن الزيات...255
الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والدنيا...256
كيف يمكن التخلص من حب الدنيا...259
١٣ - المسلمون بين الأمن والسلام :...263
الإيمان والإسلام...266
شعار المسلم وشعار المؤمن :...269
الأمن...270
أثر الإيمان في تقدم المجتمعية...272
السلام...273
فتح مكة...275
من هو المهاجر...278
١٤ - آفات السلوك...281
اختلاف الطبائع...287
أقسام الموجودات...288
اختلاف الخلق تكويناً...289
آفة الإيمان...292
آفة الكلام...295
هل يجوز الكذب أحياناً...296
ص: 616
١٥ - من حقائق الإيمان...299
معنى الإيمان...302
حقيقة الإيمان...305
مراتب الإيمان...307
العبادات بين الأداء والكمال...308
الطريق إلى حقيقة الإيمان...308
أولاً : الانفاق من الاقتار...309
ثانياً : انصاف الناس من نفسك...311
ثالثاً : بذل العلم للمتعلم...314
بذل العلم والعمل به...315
١٦ - الترابط الاجتماعي...319
الإيمان باللّه وبرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...322
بين التعاون والتنازع أقسام الترابط...323
مع علماء الاجتماع...325
عوامل رقي المجتمعات...328
كيفية إعادة المجتمع الكبير...330
النظم...331
التوعية...331
المسلم والسلام...332
الشعبية...332
الاكتفاء الذاتي...333
ما يحتاجه الإنسان...333
كيف نوحد المجتمع...334
فوائد الهدية...335
ص: 617
ضد الهدية...339
17 - خوف اللّه أم خوف الناس...339
معنى الخوف...341
الخوف غير العقلائي...342
الخوف العقلائي...344
الخوف والرجاء...349
علاج الخوف...351
مضار الخوف من غير اللّه...352
18 - أبواب البر...357
أعمال الإنسان...359
البر والأبرار...360
البر العام...363
مراتب البر...364
الخير عمل متعدى...365
بين الأبرار والأخيار...366
أعمال الإنسان المتعدية...367
١ - سخاء النفس...368
٢ - طيب الكلام...368
٣ - الصبر على الأذى...370
أقسام الصبر...371
قصة أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ)...373
١٩ _ الحب في اللّه...375
معرفة اللّه أعلى المعارف...377
اللذّات والإدراكات...378
ص: 618
أقسام اللذّة...379
للمعرفة طرفان...381
بين الحب والمعرفة...382
الحب في اللّه...383
اختلاف المعرفة...384
أسباب المحبة...385
أقسام الحب...386
الجمال...387
لمن نحب...388
الحب في اللّه والبغض في اللّه...389
20 - ارحم ترحم...397
معنى الرحمة...399
جهات الرحمة...400
الرحمة التشريعية...401
الرحمة التطبيقية...403
سعة رحمة اللّه...405
مقابلات الرحمة...405
الرحمن الرحيم...408
أرحم ترحم...409
الرحمة الظاهرية والباطنية...411
كيف نعيش في رحمة اللّه...412
٢١ - الحب أساس الإسلام...415
ما هو الحب...417
أنواع الحب...418
البصر والبصيرة...418
ص: 619
حب الجمال...420
لماذا نحب الأنبياء والأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) ؟...420
حب العلة والمعلول...421
الحب اللّه...421
حب الأولياء...422
تهذيب الحب...424
الحب الحقيقي...425
٢٢ - التشبه برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...429
صفات الموجودات...431
بین الخلق والخلق...433
أصل الوجود...435
الحاجة إلى القدوة...436
سمات أخلاق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...437
أحسنكم خُلقاً...437
أعظمكم حلماً...440
كظم الغيظ...441
أبركم بقرابته...443
قوة المجتمع...444
الرحم لغة وإصطلاحاً...445
أحكام صلة الرحم...446
ثمرات البر بالأقرباء...447
٢٣ - أحب الأعمال إلى اللّه...449
دائرتان للأحكام الشرعية...452
معنى المحرمات...454
حول المحرمات...454
ص: 620
المحرمات تفتك المجتمع...455
دائرة الفضل في الأحكام...456
من أعبد الناس...457
العبادة...458
الصبر على العبادة...460
من أورع الناس ؟...460
من أغنى الناس ؟...462
فوائد القناعة...464
٢٤ - خير الأصدقاء...469
المثل الأعلى...471
الترابط الاجتماعي...473
المنفعة الدنيوية والأخروية...474
الشيعي والتشيع...477
شاهد له دلاله...478
قانون الأخذ والعطاء...481
المقابلة بالمثل...482
حقوق المرأة وواجباتها...483
٢٥ - داع ومجيب...485
حول الدعاء...487
وجود الخالق...488
مع المنكرين...489
الإيمان بالغيب...491
شروط الإجابة...492
لماذا لا يستجاب الدعاء...493
قصة تاجر...495
ص: 621
آداب الدعاء...496
أربعة لا ترد لهم دعوة...497
أولاً : إمام عادل...497
ثانياً : دعوة الوالد لولده...500
ثالثاً : الرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب...501
رابعاً : دعوة المظلوم...502
٢٦ - من قواصم الظهر...505
معنى الخلق...508
أقسام العدل...510
الإمام الذي يعصي اللّه ويُطاع أمره...513
هارون العباسي مع القاضي أبي يوسف...515
زوجة يحفظها زوجها وهي تخونه...516
فقر لا يجد صاحبه له مداوياً...518
جار سوء في دار مقام...520
مجاورة الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)...521
27 - الأعمال بين الغايات والفوائد...525
حقيقة الثواب...527
الثواب بين الدنيا والآخرة...528
عبيد الهوى...531
قانون الهدف وقانون المصلحة...533
مصاديق الغاية والفائدة...534
الصدقة تدفع البلاء...537
الصدقة في الآخرة...539
صل رحمك...541
نموذج من التاريخ...545
ص: 622
28 - أسس الحياة السعيدة...547
ما هو الدين...549
الحاجة إلى الدين...550
مع الطيبين...552
الاختلاف في الدين...553
إكمال الدين وإتمام النعمة...556
من ملك استأثر...559
الشورى والمشورة...560
الشورى في الإسلام...560
كما تدين تدان...565
الفقر الموت الأكبر...566
29 - لكل عمل جزاء...569
العقوبة وأقسامها...571
العقوبة الدنيوية...572
من العقوبات الدنيوية هي الحدود...574
قانون العدل...575
عقاب المشركين في الدنيا...577
العقوبات الأخروية...578
قانون العقاب...580
العقوبة المتوسطة...581
لكل عمل جزاء...582
قوانين.. تقويم المجتمع...583
٣٠ - أبواب الجنة مفتحة...589
أقسام التصديق...591
مقدمات...593
ص: 623
الأخلاق والأداب...594
ثناء داود وسليمان (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)...594
آداب نبي الإسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...595
أدب الأنبياء مع قومهم...597
أدب الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)...598
وضوء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...600
المصادر...607
الفهرس...612
ص: 624